نحو قواعد فقهيـة متجدِّدة حول الناسخ والمنسوخ
(البحث منشور في كتاب «قضايا إسلامية بمنظار قومي معاصر».
I - تعريفات حول الناسخ والمنسوخ
الناسخ والمنسوخ هما عملية تغيير مترابطة، فالناسخ، بمعنى المغيِّر والمنسوخ بمعنى التغيير. فالمنسوخ هو مفعول لفعل قديم، وناسخه فاعل جديد متجدد.
ولا يمكن لعملية النسخ، بمعنى التجديد، أن تتحول إلى عملية ثابتة، أي أن يحصل التغيير في زمن ومكان محدد لا يمكن تصبح بعدهما عملية التغيير غير شرعية أو غير واقعية. بل عملية التغيير هي عملية جدلية مستمرة. وجدليتها لا يمكن أن تعني الثبات. حاولت الأديان، كل الأديان، أن تنتزع من عملية الجدل مزاياها التفاعلية، فأسرتها في دائرة معتقداتها. ولأنها حسبت أن عقائدها تعبِّر عن الحقيقة المطلقة حرَّمت التغيير في عقائدها بعد موت رُسُلها وأنبيائها.
ولأن قواعد الناسخ والمنسوخ أصبحت مصطلحاً إسلامياً وأصبح قاعدة تشريعية إسلامية، تحولت عملية التجديد، في خلال حياة الرسول، إلى عملية تجميد قسرية بعد وفاته. ولأننا نحسب أن قواعد النسخ والمنسوخ في الفقه الإسلامي هي مؤشر بالغ الدلالة والأهمية؛ ولأن الفقهاء المسلمين استخدموها كقيمة ثابتة تعني التجميد، ولأننا نحسب أنها قيمة عليا تعني الإغناء والتجديد، ولأننا نهدف من وراء بحث هذه الإشكالية إعادة الفقه الإسلامي إلى طريق الإغناء، سنعمل على تأصيل قواعد الناسخ والمنسوخ من منظار معاصر ناقد.
فكيف نرى تلك المسألة من خلال هذا المنظار؟
1-المعنى اللغوي: »نسخت الشمس الظل وانتسخته: أزالته. ونسخت الريح آثار الدار: غيَّرتها. ونَسْخُ الآية بالآية: إزالة مثلِ حكمها، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة«([1]).
2- «النسخ» أو «التغيير» في المصطلح الاجتماعي: التغير الاجتماعي «هو حدوث تحولات نوعية في العلاقات الاجتماعية ومضامينها المعرفية والفكروية» ([2]). فالنسخ أو التغيير هو تحويل الشيء من حال إلى حال. وإن واقع الحياة ليس جامداً بل يخضع لتغييرات مستمرة، وتتطلب التغييرات في جانب من جوانبها تغييراً في الرؤى المعرفية والثقافية والسلوكية عند الإنسان. فالتغيير الذي يصيب أحد جوانب الحياة، إذاً، يتطلب تغييراً في أسلوب مواجهته. ولا يمكن مواجهة عامل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، نال من التغيير شيئاً بالوسائل ذاتها التي كانت تصلح قبله.
3-النسخ في القرآن الكريم: في الحكم العام جاء في القرآن الكريم عدة من الآيات التي تجيز نسخ حكم قديم بحكم جديد، وإلى تلك الآيات استند الفقهاء المسلمون في تحديد مبادئ فقهية:
جاء في القرآن الكريم: ]مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[ (البقرة: من الآية106). ]وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[ (النحل:101).
إذا استخدمنا لفظ «الآية« بمعنى «الحكم»، نرى أنه من اللافت أن الآية الأولى لا تعني نسخ حكم بحكم، وإنما نسخ خط بخط، أو نسخ لفظ بلفظ. والدليل على هذا هو أن الله تعالى قال (نأت بخير منها)، وأردف قائلاً (أو مثلها). ونحن نعرف أنه عندما تأتي سلطة ما بحكم جديد (كمثل) الحكم القديم (ومثل الشيء هو ذاته) لا يكون قد غيَّر حكماً بحكم. وإذا أراد أن يكون التغيير للحكم بحكم آخر عليه أن يكتفي بالقول (نأت بخير منه). أما عندما يكمل الآية بعبارة (أو بمثله) فيقصد ساعتئذٍ أنه إذا ألغى / نسخ آية لا يريد أن يغيِّر حكماً بحكم بل يُبقي على الحكم ولكنه سوف يأتي بعبارة أخرى (خيراً من الأولى، أو بمثلها)، أي أنه يغيِّر العبارة دون أن يغيِّر الحكم. فلو قال إنه إذا ألغى حكماً فسوف يأتي بمثله، يعني أنه لم يطرأ أي تغيير على الحكم، وإنما التغيير يطول الخط فقط دون الحكم. فيكون معنى الآية الأولى أنه يغيِّر لفظاً بلفظ، أي خطاً بخط أفضل منه أو بمثله. أما معنى نسخ حكم بحكم فهو واضح تماماً في الآية الثانية.
ولأننا نهتم بمسألة نسخ الأحكام نرى أن تغييرها، أي نسخ حكم قديم بحكم جديد مسألة ثابتة في القرآن الكريم. وهناك أمثلة كثيرة تدل على ذلك.
4-النسخ في المصطلح الإسلامي:
هو»رفع الشارع حكماً شرعياً بدليل شرعي متأخر«. وأجمع المسلمون على جواز النسخ ووقوعه فعلاً([3]). ومن أهم شروط الناسخ والمنسوخ ما يلي:
-«أن يكون شرعياً غير عقلي» ([4]). وهو مشروط، فقط، في أثناء حياة الرسول، أما بعد مماته فلا يجوز تغيير الأحكام أو نسخها على الإطلاق. يقول أحد الفقهاء: «إن شريعة الإسلام عامة خالدة، هذا من القطعيات الضرورية»، و«إن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء، حتى ينسخها الله بذاته بشرع آخر، إذ لا يملك بشر سلطة فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه. ولا شرع لله بعد محمد(ص)» ([5]).
يرى الفقه التقليدي قواعد الناسخ والمنسوخ، على ثلاثة أنواع، وهي: ما نُسِخ خطه وحكمه. ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه. ومنه ما نُسِخ حكمه وبقي خطه. ويستدعي هذا التقسيم عدداً من الأسئلة / الإشكاليات:
-ما هي الغاية من نسخ حكم قديم بحكم جديد؟ ما هو الثابت: الحكم أم الخط؟ هل للخط فائدة من دون حكم؟ ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط أو الحكم؟ وهل لدى الله غرض من إغفال حكمة ما نسخ خطه وحكمه؟ لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمها؟
-ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟ وما فائدة بقاء الخط بغير الحكم؟ وهل الغاية هي الخط أم الحكم؟ فإذا كانت الغاية هي الخط، فلماذا نسخ الخط في بعض الأحكام؟ وإذا كانت الغاية هي الحكم فلماذا أبقى على خطوط أحكام كان قد نسخها؟
أسئلة كان لا بُدَّ من إثارتها، والسبب من وراء ذلك هو معرفة الغاية التي أراد الله أن يصل إليها من وراء تنزيله الشرائع السماوية. أأنزلها لغاية بذاتها، أم لغاية تنظيم حياة البشر؟ فإذا كانت الغاية هي الشريعة، فعلى الإنسان أن يقوم بخدمتها، أي أنه خُلق لكي يطبِّق الشريعة؛ ففي مثل هذه الحالة تكون الشريعة هي الثابت أما مصلحة البشر فهي المتغير. أما إذا كان الله قد أنزلها لتساعد الإنسان، والهدف من ورائها خدمته لكي تساعده على الاستفادة القصوى والمثلى من تسخير ما في السماء وما في الأرض، فيكون الثابت هو مصلحة البشر، أما الشريعة فتكون هي المتغير.
أما نحن فنرى أن الله قد خلق الشريعة لتصب في مصلحة البشر،تتغير بتغير الظروف، وهنا لن يبقى النص الديني ثابتاً، بل عليه أن يتغيَّر، ويكون متحركاً بالاتجاهات التي تؤمن مصلحة البشر على الوجه الأكمل.
5-هل لا يجوز النسخ إلاَّ بناءً للشرع؟
الشرع هو النقل عن الكتاب أو السنة. وقد جاء في الكتاب أن الله تعالى قد سخَّر للإنسان كل ما في الطبيعة: ]أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[ (لقمان: من الآية20). والمقصود من الآية أن الله قد فضَّل الإنسان عن كل ما عداه من مخلوقاته، ولهذا السبب سخَّر له ما في السماوات وما في الأرض. واستطراداً أعطى الله لمصلحة البشر أولوية مطلقة. وربط هذا التسخير فقط بعمل الإنسان من أجل تطبيق القيم العليا.
فالله ليس بحاجة للإنسان، وإنما جاءت أوامره له لتصب في مصلحته، لأن ]مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئا[ (آل عمران: من الآية144). و]مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ[ (الروم:44). ]وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ (العنكبوت:6). وتدل هذه الآيات على ان الله أراد مصلحة البشر أولاً وقبل أي شيء آخر.
II-في سبيل صياغة فقهية متجددة لقواعد الناسخ والمنسوخ:
في النقل: على الفقه الإسلامي أن يتجاوز صفة أن تكون أحكام الشريعة الإسلامية أحكاماً ثابتة (أي أن تحصر أحكام الشريعة الثابتة / المتناهية وقائع الحياة الدنيا اللامتناهية)، وهناك دلائل نقلية عديدة، من أهمها:
-في مرحلة الدعوة الإسلامية، التي استمرت لعشرين سنة فقط، تغيَّرت / نُسخت عشرات الأحكام. وهذا ثابت في النص (الكتاب والسنة) وفي الأحكام الفقهية عند شتى الفرق الإسلامية ومذاهبها. فماذا يعني هذا؟
1-معرفة الله ورسوله بتجدد شؤون الحياة دليل إثبات ضد تجميد النص:
إن الله ورسوله يعرفان أن الحياة متجددة والتجدد حالة مستمرة. فإذا كان التجدد يحصل في خلال عشرين سنة من حياة الدعوة الإسلامية، فهو قد حصل، أيضاً، في خلال ملايين السنين التي انقضت على البشرية قبل التبشير بالدعوة الإسلامية، وسوف يستمر حصوله بعد الدعوة الإسلامية بملايين السنين، هذا إذا لم يستمر إلى الأبد اللامتناهي.
2-الدعوة إلى الاجتهاد دليل إثبات آخر:
لقد أعطت الدعوة الإسلامية للاجتهاد مكانة مهمة وضرورية. قال الرسول: »من اجتهد فأصاب له أجران، ومن اجتهد فأخطأ له أجر واحد«. إن إعطاء الأجر للمخطئ جاء لكي يعطي أهمية قصوى للاجتهاد كمبدأ. وهنا أقرَّت السنة النبوية مبدأ التجديد بواسطة الاجتهاد. فالكتاب والسنة وضعا الحد على أية هفوة يقوم بها المسلم. ولكن السنة لم ترفع الحد عن المجتهد نتيجة خطئه فحسب، بل إنها أعطته أجراً واحداً، أيضاً.
هذا، إن دلَّ على شيء فإنما يدل بما لا يقبل الشك بأن التجدد في الحياة يقتضي من المجتهدين أن لا يتوانوا على الإطلاق عن القيام بمهماتهم، وعليهم أن لا يخافوا لومة لائم لأن الأجر مدفوع سلفاً. فلو كان النص ثابتاً لكان الحض على الاجتهاد لغو من الكلام.
أما أن يُقال بأن المجتهد ملزَم بالاستناد إلى النص، وعليه أن لا يتجاوزه، نرى أنه لو كان هذا الإلزام صحيحاً لما أجاز الرسول الاجتهاد في ظرف لم يكن النص فيه قد اكتمل؛ وبناءً عليه لا نرى علاقة، إذاً، بين الدعوة إلى الاجتهاد وبين النص الثابت المكتمل، هذا من جانب. ومن جانب آخر نرى أنه لو كان من الواجب أن يكون كل النص إلهياً لأصبح من المنطقي أن تكون دعوة الرسول إلى الاجتهاد مخالفة لله لأنه يدعو البشر للاشتراك في وضع تشريع هو من صلاحية الله ورسوله. ومجرد إجازته شرعية الاجتهاد كمن يعترف أن قدسية النص غير ضرورية لأن الاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ. فإذا أصاب الاجتهاد يصبح بمثابة نص مقدَّس، ولا بُدَّ من معرفة المرجعية التي تحكم على نتائجه للتأكد من إصابته أو خطئه، ولمن عليه واجب التمييز بين الصحيح والخطأ أن يكون معصوماً لكي يستطيع أن يحافظ على قدسية النص. ولأن الرسول يعلم بأن على الأحكام أن تكون متحركة أخضعها لاجتهادات البشر الذين عليهم أن يأخذوا عنصريْ الزمان والمكان بعين الاهتمام.
لقد أعطى الفقه الإسلامي قدسية لنص لم يُعطها الرسول له. لأن إجازة الاجتهاد في ظرف لم يكن قد اكتمل فيه النص، هو وضعه أمام مباضع فقهاء بشر يخطئون، فإذا أصابوا يصبح اجتهادهم نصاً مقدَّساً وهذا يتنافى مع وضعهم كبشر. أما الاحتمال الآخر، هو إجازة مرحلية النص، وهذا يتلاءم بشكل منطقي مع إجازة الاجتهاد للبشر، فهم لو أصابوا في وضع نص يتناسب مع الظرف الذي وضعوا نصهم فيه، فلا خوف من أن يتغيَّر النص إذا كانت المراحل التالية تفرض مثل ذلك التغيير. فاستناداً إلى ذلك نرى أن المخرج للنظر إلى النص بمنظار التغيير المتلائم مع الظروف هو ما يبرر إجازة الرسول للمسلمين بالاجتهاد.
وضع فقهاء المسلمين، على مرِّ العصور المنصرمة، قواعد للاجتهاد، وشروطاً يجب أن تتوفر بالذي يمارسه، ومن أهمها أنه على المجتهد أن تتوفر فيه شروط الدراسة في معاهد دينية، وغالباً ما تكون تلك المعاهد تحت إشراف المؤسسات الدينية، وبناء لبرامج محددة تحديداً دقيقاً. والمؤسسات الدينية تطغى عليها الإيديولوجيات المذهبية، السبب الذي تتباين من حوله مضامين الثقافة التي يتلقاها المنتسبون إلى تلك المعاهد الدينية والمؤسسات المذهبية؛ وهي حكماً تخضع لشروط الثقافة المذهبية واتجاهاتها. وفي رأينا أنها لن تكون موضوعية بل إنها تخضع الثقافة والمتثقفين إلى شروط محددة تحديداً جامداً ومنغلقاً. فتأتي الاجتهادات متحيِّزة ومنغلقة ومتمذهبة، فتكتسب قدسيات التعاليم المذهبية التي وضعها واضعوها لخدمة المذهب وليس لخدمة الحقيقة المجرَّدة.
أما توقيت الدعوة إلى الاجتهاد، الذي وضعه الرسول فلم يكن مسوَّراً بكل تلك الشروط التي وضعتها المؤسسات الدينية والمذهبية في عصور متأخرة جداً عن تاريخ الأمر بالاجتهاد؛ ودعوة الرسول لممارسته حصلت قبل اكتمال الدعوة، أي أنه أراد من دعوته أن يشارك البشر في إغنائها بآرائهم واجتهاداتهم، وهو اعتراف صريح بأهمية أن يشارك المسلمون في وضع أسسها التشريعية. ولهذا السبب نرى أنه من حق كل مسلم أن يقوم بعبء الاجتهاد لأن الدين هو دين الجميع، ويأتي دور المؤسسات الدينية في أن تنقد بموضوعية اجتهاد من يجتهد، وتصوِّب ما تستطيع أن تدافع عنه بالحجة والبرهان.
3-الشورى في الإسلام دليل إثبات آخر على مرحلية النص:
لقد أتى مبدأ الشورى في الإسلام أساسياً([6])، ليس كأسلوب تكتيكي، ولكن كأسلوب استراتيجي معرفي. والدليل على ذلك:
-إذا كان الله ورسوله يريدان من شرائع الإسلام أن تكون ثابتة، لا يطولها التغيير في أي زمان أو مكان -خاصة في أثناء حياة الرسول كما يدَّعي كثير من فقهاء المسلمين.
-وإذا كانت الأحكام الإلهية أو النبوية ثابتة بذريعة أن الله ورسوله لا يمكن أن يُخطئا، فلا معنى –عندئذٍ- لأن يدعو اللهُ رسولَه لكي يشاور أصحابه بالأمر، إذ يكفي عصمة الله عن الخطأ لكي تلغي أمره للنبي بالشورى. فلو كان الله، الذي لا يخطئ، يريد أن تكون شرائعه في الإسلام نهائية لما كان قد طلب من الرسول أن يشاور البشر، غير المعصومين، بالأمر.
4-طلب النبي، في نزاعه الأخير، كتابة كتاب جديد دليل إثبات على أن النص لم يكتمل:
يستند فقهاء المسلمين، للاستدلال على نهائية أحكام الشريعة الإسلامية وثباتها، إلى الآية ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [ (المائدة: من الآية3). ]وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ (الأنعام:38).
لا بُدَّ، قبل التحليل، من نشير إلى أن عدداً كبيراً من الفقهاء قد استند، في إغلاق أبواب الشريعة أمام التطور، إلى قوله تعالى ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[؛ واستنادهم حصل إلى جزء من الآية التي ورد ذكرها أعلاه. بينما نرى، نحن، أنهم اجتزأوا من الآية ما يجعلها تظهر وكأنها حكماً عاماً، بينما هي في الحقيقة -بعد أن نعيد الجزء إلى الآية كاملة- ليست حكماً عاماً مطلقاً، بل هي حكماً خاصاً؛ وهذا ما يدحض الادعاء الفقهي بأن الشريعة الإسلامية تصلح، في كل تفاصيلها، لكل زمان وكل مكان.
نزلت الآيتان المذكورتان قبل وفاة الرسول. لكنه بينما كان على فراش الموت قال لأصحابه: »هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده«([7]).
نرى، هنا،أنه لا بُدَّ من التساؤل: هل كان الكتاب والسنة ينقصهما شيء من الأحكام دفع الرسول إلى أن يجد رغبة لديه تدفعه لتوجيه المسلمين إلى مسألة أساسية لم يذكرها النص السابق تحصّنهم من الخطأ؟
مما لا شكَّ فيه أن هناك نقصاً في أحكام الكتاب والسنة، ولولا ذلك لما شعر الرسول بتلك الرغبة في كتابة شيء عنه. ولا شك بأن ذلك الشيء المفقود بالغ الأهمية، وأهميته في أن المسلمين إذا عرفوه فسوف لن يضلُّوا بعد معرفتهم له. والحقيقة التي تمنع الضلالة هي شيء أساسي. أفلا يكفي هذا لأن يكون دليلاً على أن شرائع القرآن والسنة كانت غير نهائية أو غير ثابتة؟
5-موافقات الصحابة ومعارضتهم للنبي دليل إثبات على تشريع دور البشر في صياغة أحكام الشريعة:
أين تصب موافقات بعض الصحابة ومعارضتهم للنبي؟ هل كان هناك مشاركون للرسول بتلقي الوحي الإلهي؟
يُروى عن موافقات عمر بن الخطاب ومعارضاته للرسول حول أكثر من مسألة، وفي بعض معارضاته وموافقاته كان النص الكتابي والسني يستجيب لها، ويعترف بصحتها، ويثبتها في متن النص.
وهذا دليل آخر على أن الله تعالى، والرسول أيضاً، كانا يستجيبان إلى رأي بشري غير معصوم عن الخطأ. وهنا، نحسب أن رأي عمر بن الخطاب كان رأياً وضعياً ولا علاقة له بالوحي. فهل هذا إلاَّ اعتراف صريح بشرعية الرأي الوضعي أو الحكم الوضعي؟
مسألة اعتراف النص القرآني بضرورة التجديد في الأحكام، مضامين مبدأ الشورى، ودلالات طلب الرسول وهو على فراش الموت لكتابة كتاب لم ينص عليه القرآن، وموافقات الصحابة ومعارضاتهم مع الرسول، تؤلِّف كلها برهاناً واضحاً على أن التجديد في الأحكام، حتى لو لم تكن عن طريق إلهي هي مسألة مبدئية وواقعية، على فقهاء المسلمين أن يولوها الأهمية القصوى للخروج من تجميد النص وتثبيته.
III-هل يمكن مقاربة النص الإسلامي مع العولمة بوجهها الإنساني؟
مصطلح العولمة كما نفهمه في بحثنا هذا يطول شقَّه الإنساني، أي بمعنى أن هناك قيماً إنسانية عامة لا يختلف تفسيرها من مجتمع إلى آخر، سواء كان المجتمع يستند إلى أهداف دينية أو وضعية. فنقصد بمصطلح العولمة، هنا، أن يكون مرادفاً لمصطلح الأنسنة بمعناها الشامل، أي بما تشتمل عليه من القوانين والقيم التي تصب، في حال تطبيقها، في مصلحة الإنسان أياً كان انتماؤه الديني أو العرقي.
وهنا، سنفرد بحثاً موجزاً عن الناسخ والمنسوخ، بهدف المساعدة على تأسيس قواعد فقهية متجددة حولهما. تهدف تلك القواعد إلى تقريب مفاهيم تشريعية عامة تتفِّق حولها شتى شعوب الأرض، بما يحفظ تعاونها وتعاضدها على طريق بناء فلسفة إنسانية تخدم علاقات تلك الشعوب وتديمها على أسس تشريعية إنسانية تزيل الغبن اللاحق بالمغبونين، وتزيل عوامل الغبن التي يمارسها الأقوياء على الضعفاء. كما وتساعد على صياغة أسس لثقافة عالمية إنسانية قائمة على العدل والمساواة، مع المحافظة على معتقدات الشعوب وخياراتها الفكرية والروحية التي تميِّز شعباً عن آخر.
سنتَّخذ، في بحثنا هذا، عدة من أحكام الشريعة الإسلامية. وسوف نضعها تحت اختبار النقد لنرى إذا كانت صالحة لكل زمان ومكان. وبمعنى آخر لنناقش إذا كان بالإمكان نسخها أم أن تجميدها هو الصحيح.
من تلك الأحكام سوف نختار للمناقشة الشرائع التالية:
أولاً: أحكام الحرب في الإسلام، أي ما له علاقة بأحكام الغنائم والأسرى والسبايا من النساء والأطفال والإماء أنموذجاً يساعدنا على المناقشة.
ثانيـاً: أحكام الردة عن الدين وحرية الاعتقاد الديني.
أولاً: أحكام الحرب في الإسلام
1 - أحكام الأسرى
]فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [ (محمد:4).
لن نعالج، هنا، أسباب الحروب بين المسلمين وغيرهم، لكننا سنعمل على توضيح النتائج التي تترتب عنها، إذا كان المسلمون هم المنتصرون في الحرب. ولأن الأسرى هم جزء من غنائم الحرب، نرى أن نطلَّ على تعريف غنائم الحرب في الشريعة الإسلامية.
تحدَّث معظم الفقهاء عن مشروعية الغنيمة من الكفار([8]). ومشروعيتها تعني أن الأرض وما عليها ملك لله، وإن الإنسان مستخلف في (ملك الله)، وإذا هو لم يوظف ما يمتلكه لعبادة الله وتقواه يُحرَّم عليه. وبما أن الكفار يستغلّون ممتلكاتهم في الكفر، فالمؤمن أولى بها من الكافر. فالغنيمة، إذاً، تؤخذ من الكفار انتقاماً منهم([9]). كما أن الغنائم تعتبر مكافأة من الله للمجاهد الذي يبذل مجهوداً في سبيل نشر الإسلام.
يعد المسلمون أن الغنائم حق إلهي أقره الله لهم. ويقسم الفقهاء المسلمون غنائم الحرب إلى أربعة أصناف: السلب والغنيمة والفيء والنفل([10]). وتشمل الأموال والأراضي والسبي والأسرى.
وبناء على تلك التشريعات أقرَّت الشرائع الإسلامية سبي النساء والأطفال، واستعبادهم. وعدَّت النساء المسبيات إماءً يتوزَّعهن المقاتلون. والأطفال يصبحون ملكاً لهم. أما الأسرى فحدُّهم القتل أو المنّ عليهم بالحرية أو فداؤهم لقاء أسرى المسلمين أو لقاء دفع بدل مادي.
أ-أحكام التشريـع الإسلامي حول أسرى الحروب([11]):
لم تشجع الشريعة الإسلامية على الاسترقاق ولكنها لم تُحرمّه. فالعبد في الإسلام كل من تحدَّر من عبد سابق، أو من وقع أسيراً في الحرب…والعبد إنسان وشيء في آن واحد، إذ يمكن بيعه وإهداؤه و توريثه الخ… ولا حق له بالملكية…ويحق له الزواج إذا وافق سيده على ذلك…([12]). وانتشرت في العهد العثماني عادة تربية الغلمان -منذ القرن14م=8هـ- وعلى الرغم من أنه تمَّ القضاء عليها، في بداية القرن 18م=10هـ، فإنهم كانوا يُعَدُّون من عبيد السلطان…([13]).
وحول أحكام أسرى الحرب في العقيدة الإسلامية، جاء في النص القرآني: ]فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا[ (محمد:4). وقد جاء في تفسير هذه الآية ما يلي:
-أما عند أبي حنيفة وأصحابه أحد أمرين: إما قتلهم، وإما استرقاقهم أيهما رأى الإمام. ويقولون في المِّن والفداء المذكورين في الآية نزل ذلك في يوم بدر ثم نُسِخ. وعن مجاهد: ليس اليوم مَنّ ولا فداء، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق. ويجوز أن يُراد بالمنِّ أن يُمَنَّ عليهم بترك القتل و يُستَرقُّوا، أو يُمنَّ عليهم فيُخلوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمَّة. وبالفداء أن يُفادى بأساراهم أسارى المشركين؛ فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة؛ والمشهور أنه لا يرى فداءَهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين. وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة: »وهو القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمَنّ«([14]).
*وجاء عند ابن كثير ما يلي: »الظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذٍ، ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل… ثم ادَّعى بعض العلماء أن هذه الآية المُخَيِّرة بين مفاداة الأسير والمَنِّ عليه منسوخة بقوله تعالى ]فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ[ (التوبة: من الآية5). وقال الآخرون -وهم الأكثرون- ليست بمنسوخة. ثم قال بعضهم: إنما الإمام مُخَيَّر بين المَنِّ على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل أن يقتله إن شاء…وزاد الشافعي فقال: الإمام مُخَيَّر بين قتله أو المنِّ عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً…«([15]).
*وجاء عند محمد جواد مغنية: »وعندئذ أحكِموا أسر من بقي منهم كيلا يفلت ويعيد الكرَّة عليكم؛ ومتى تمَّ ذلك كان الخيار للنبي أو نائبه في إطلاق الأسير بفداء، أو منّ من غير فداء حسبما تقتضيه المصلحة…«([16]).
أما جُلَّ ما فعله الإسلام بالنسبة لمسألة الرقيق -وهو غالباً ما كانت أعداده تتكاثر بسبب كثرة الغزوات والحروب الكثيرة- أن جعل عتق الرقبة كفَّارة عن الذنوب، ولم يرد نص واضح مُحكَم يدل على تحريمه. لكنه جعل تحرير العبد بمثابة تكفير عن الذنوب، لكنه لم يجعل عتق العبد شرطاً ملزماً، بل جعله إحدى البدائل التي وضعها النص كمخارج للتكفير عن تلك الذنوب([17]).
لا يستقيم الموقف إذا ادَّعى الفقهاء المسلمون أن موضوع الرقيق قد عفَّى عليه الزمن، من بعد أن أصبح لاغياً بحكم الأمر الواقع، لأن النصَّ وتأويلاته باقيان منهلان أساسيان أمام كل مسلم ليأخذ منهما ما يتناسب مع الظروف التي يعيشها، فهو حرّ أن يستعبد من أسرى الحرب من يشاء إذا شاء، ويفعل ذلك من دون أي حرج شرعي.
ب-أحكام التشريع الدولي حول أسرى الحروب:
-أعلنت الفقرة الأولى، من المادة 45 من اتفاقية جنيف الثالثة، حمايتها لأسرى الحرب. وحدَّدت المادة 75، من البروتوكول الملحق بالاتفاقية، ضمانات الحماية الأساسية، التي تؤكد على أن: »يُعامَل معاملة إنسانية، في كافة الأحوال، الأشخاص الذين في قبضة أحد أطراف النزاع «. وحذَّرت من: »ممارسة العنف إزاء حياة الأشخاص أو صحتهم أو سلامتهم البدنية أو العقلية، وبوجه خاص: القتل - التعذيب - التشويه - انتهاك الكرامة الشخصية«
ج-أحكام التشريع الإسلامي حول سبي الأطفال والنساء:
أعطت التشريعات الإسلامية الحق للمسلمين في سبي النساء والأطفال، كغنائم حرب. وسمحت للمسلم أن يمتلك ما شاء من الإماء. وله الحق في أن يتزوجهن من دون إعطائهن أية حقوق([18]).
عُمِلَ بنظام الاسترقاق منذ أيام الدعوة الإسلامية الأولى، ولم يُعدَّل حتى الآن. فكان كل من أُسِرَ في الغزوات يجوز استرقاقه… ولما كَثُرَت الفتوحات كَثُرَ الاسترقاق من الأمم المغلوبة؛ وكان المُستَرقًّون، رجالاً و نساءً وذراري، يُوزَّعون على المسلمين الفاتحين. ويقال إن ابن الزبير بن العوام كان له ألف عبد وألف أمة… وكان يُعَدُّ هذا الرقيق مملوكاً للسيد المُطاع، له الحق في بيعه وهبته؛ وإذا كان أَمَةً جاز للسيد أن يستمتع بها…ويصح أن يكون للرجل عدد كبير من العبيد، كما يصح أن يكون في بيته عدد من الإماء…([19]).
د-أحكام المواثيق الدولية حول المدنيين في الحروب:
ميَّزت المواثيق الدولية بين المقاتلين والمدنيين في الحروب. وأصدرت تشريعات عامة حول اوضاعهم. ودعت المادة الرابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من أنه »لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما«.
-ونصَّت المادة الثامنة (الفقرة1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية على ما يلي: »لا يجوز استرقاق أحد، ويُحَرَّم الاسترقاق والاتجار بالرقيق في كافة أشكالهما«. وجاء في الفقرة 2: »لا يجوز استعباد أحد«.
وهنا، نتساءل: أي من التشريعين الدولي أو الإسلامي هو الذي يتناسب مع روح العصر. وأيهما على الدولة الإسلامية أن تختار؟
2: غنائم الحرب في الإســلام
أ- الجزيــــة
]قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ (التوبة:29). وحدَّد الغزالي خمسة أركان لها([20])، وهي:
-نفس العقـد: »هو أن يقول نائب الإمام أقررتكم بشرط الجزية والاستسلام، ويذكر مقداره، فيقول الذمي قبلت… وعقد الجزية غير لازم من جانب الكفار، بل لهم الالتحاق بدارهم إذا شاؤوا «([21]).
-العاقـــد: هو الإمام. وكل من يعقد له، هو: »كل كتابي عاقل بالغ حرٌّ ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية«([22]).
-في مقدار ما يجب عليهم: ويرى أن واجباتهم خمسة:
-الجزيــة: يستوي فيها الغني والفقير. وللإمام أن يماكس بالزيادة ما شاء([23]).
-الضيافـة: للإمام أن يوظف عليهم ضيافة الطارقين من المسلمين بشرط أن يذكر عدد الضيوف ومقدار طعامه وأدمه وجنسه وقدر علفه ومنزله ومدة مقامه([24]).
-الإهانـة: أي »أن يطأطأ الذمي رأسه عند التسليم، فيأخذ المستوفي بلحيته… لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة بتضعيف الصدقة«([25]).
-»يجوز أخذ العشر من بضاعة تجار الحرب. ويجوز الزيادة. ويجوز النقصان إلى نصف العشر عن الميرة ترغيباً لهم في التكثير وكل ما يحتاج إليه المسلمون«([26]).
-الخراج: لا يسقط الخراج عنهم إلاَّ بالإسلام([27]).
ملاحظـات حول أحكـام الجزيــة.
-تنبني الكيفية التي تعامل بها الإسلام مع أهل الذمة على اعتبارات دينية]إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام[، وسياسية (الاعتراف بسلطة الإسلام السياسية)، واجتماعية (اعتبار أهل الذمة أقل قيمة من المسلمين والعرب)، واقتصادية (استفادة الأمة مما يدفعه أهل الذمة من جزية وخراج).
-إن أحكام أهل الذمة تعود في مجملها إلى ما عرف في التاريخ الإسلامي بالعهد العمري (عهد عمر بن الخطاب لنصارى الشام).
لا تخرج أبعاد هذه الطريقة في معاملة أهل الذمة عن ما يلي:
-الإحساس القوي، الذي صاحب الفاتحين الأوائل بتفوقهم الحضاري والثقافي، باعتبارهم مسلمين وعرباً (الجزية لا تُفرض على العرب باتفاق كثير من الفقهاء). وقد تدعَّم هذا الإحساس عندما واجه الفاتحون شعوباً عريقة في الحضارة معتزَّة بتراثها وماضيها.
-الهاجس الأمني: ذلك أن وجود غير المسلمين في صلب المجتمع الإسلامي مقبول إذا لم يهددوا مصالح الإسلام. لذلك يُطلب منهم التميز عن المسلمين لكي تسهل مراقبتهم([28]).
ب- الغنيمــة: تقسم الغنائم إلى أربعة أصناف أساسية:
-السلب: هو ما كان على المقتول الكافر من لباس وسلاح وفرس وأموال([29]).
-الغنيمة: كل ما يفتكُّ بقوة السيف، ويشمل الممتلكات والأشخاص([30]). وجاء حولها في النص القرآني: ]فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [ (الأنفال:69). ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السبيل[(الأنفال:41).
أما في الرواية فقد جاء في سيرة الرسول ما يدل على أن السُنَّة النبوية شرَّعت الغنيمة، أيضاً، بما فيها الأطفال والنساء. وهنا، سننقل إحدى الروايات التي تل على ذلك: بعد عودته من الطائف، قام الرسول بتوزيع غنائم حنين، ومعه من هوازن سبي كثير: ستة آلاف من الذراري والنساء؛ ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدّته.طلب منه وفد من هوازن، كان قد أسلم، أن يردَّ عليهم الأهل من دون الأموال، ففعل الرسول وكذلك بعض المسلمين ، فردّوا عليهم الأهل من دون الأموال .أما الذين امتنعوا عن التنازل عن حقّهم، فقال لهم الرسول: «أما من تمسّك منكم بحقِّه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض ( إبل) من أول سبي أصيبه«، فاستجاب الممتنعون لما قال الرسول فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم([31]).
-الفيء: هو كل ما وصل من المشركين، من سبي وأموال، عفواً من غير قتال، ويشمل بالأساس الأرض([32]). ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك[ (الأحزاب: من الآية50). ]مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُم [ (الحشر:7).
-النفل (جمع أنفال): هو ما يتمتع به بعض المجاهدين زيادة على نصيبهم من الغنيمة([33]). ]يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ[ (الأنفال:1).
وتُقسَم الغنائم إلى أربعة أقسام: الأموال والأراضي والسبي والأسرى.
ثانيـاً: حول أحكام الردة في الإسلام
ليست الردة عن الدين إشكالية إسلامية فحسب، وإنما هي إشكالية دينية عامة أيضاً: وثنية ويهودية ومسيحية. ولأن موضوعنا يتعلق بمبادئ الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية، نرى أنفسنا ملزمين بمناقشة موضوع الردة في الإسلام فقط. ومن خلال تركيزنا على محور البحث الأساسي لا بُدَّ من أن تطال نتائج البحث عن الردة في الإسلام موضوع الردة الدينية بشكل أشمل لأنها ذات علاقة بمسألة الحرية الإنسانية على شتى الصعد ومنها حرية الاعتقاد الديني.
لقد تناولنا هذا الموضوع بشكل واسع وموثَّق في كتابنا «الردة في الإسلام»([34]). ولهذا السبب سوف نركز بشكل مكثَّف على نتائج البحث.
في بداية الدعوة الإسلامية كانت تتركَّز وسائل الدعوة على الحوار بعيداً عن وسائل القهر والإكراه. وقد عبَّرت الآيات القرآنية المعروفة بالمكية عن تلك الحقيقة، ومن أهم تلك الآيات:
-]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي[ (البقرة: من الآية256).
-]ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (النحل: من الآية125). وهي مكيَّة.
-]وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر[ (الكهف: من الآية29). وهي مكيَّة([35]).
لم تكن كل الآيات التي تدعو إلى الحوار مكيَّة، وإنما بعض آيات الحوار أنزلت في المدينة- كما مرّ معنا في الآيات التي تدعو للحوار- وهذه حقيقة يمكننا الاستناد إليها في مناقشة إشكالية العلاقة بين الحوار والإكراه في النص القرآني .
إن آيات الحوار أُنْزِلت في المرحلة المكيَّة حسبما يجمع علماء المسلمين، فجاءت آيات القتال التي أنزلت في المدينة لتنسخ الآيات المكيَّة التي تدعو إلى الحوار. وحول هذه المسألة لا بدّ من الإشارة إلى أن آية (لا إكراه في الدين) -مثلاً- هي آية مدنية، وقد أنزلت بعد نزول الآيات التي تأذن / تأمر بالقتال. فلماذا، إذاً -حسب قواعد التفسير المتفق حولها- لا تكون هذه الآية قد نسخت الإذن بالقتال؟ أو ليس من الجائز الموضوعي أن يكون استخدام أسلوب القتال بالدعوة للإسلام هو المسألة المرحلية / الثانوية اقتضته ظروف المرحلة، بينما القاعدة الثابتة هي عدم الإكراه؟ وحول هذه الإشكالية سنقوم بمتابعتها من خلال النقل أولاً، والعقل ثانياً.
1-من خلال النقل:
لم يُؤذَن للرسول بالحرب قبل بيعة العقبة – يقول ابن هشام- ولم تُحلَّ له الدماء؛ إلى أن أنزلت قريش شتى صنوف الأذى به وبأصحابه([36]).
في السنة الأولى لهجرة الرسول إلى المدينة هرباً من اضطهاد قريش نزلت أول آية بالإذن بالقتال: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ // الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ[ (الحج: 39: ومن الآية40). وهي مدنية. أي إنه أَحلَّ لهم القتال لأنهم ظُلِموا. ونزلت آيات أُخَر، بالإذن بالقتال، في حالات حددها النص القرآني: للدفاع عن الإسلام وقتال الظالمين([37])، أو قتال أهل البغي([38])، وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية([39])، أو للدفاع عن النفس([40]).
-جاء في حديث للرسول: »أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى«([41]). ومعنى قوله »وحسابهم على الله« أي فيما يسترونه ويخفونه دون ما يُخِلُّون به في الظاهر من الأحكام الواجبة. وفيه من أظهر الإسلام وأسرَّ الكفر يُقبَل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر أهل العلم([42]).
أما محمد حسين فضل الله فيعتقد أن القرآن، في تحديد أسلوب الدعوة للإسلام، قد عبَّر عن أمرين لا ثالث لهما: إما القتال، وإما الإسلام، وذلك لقوله تعالى: ]قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون[ (الفتح: من الآية16) ([43]). ويستند إلى »حديث الإمام الصادق (ع): إن الله عزّ وجلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال،فالخـير في السيف وتحت السيف..«([44]).
إن الأمر، أو الإذن بالقتال، جاء مشروطاً، كما هو واضح من الآيات التي اتخذناها شواهد. ومن هذه الشروط ما يلي: الظلم الذي يلحق بالمسلمين، أو الدفاع عن الإسلام، أو قتال أهل البغي، أو للدفاع عن النفس، أو دفع الجزية.
وعلى قاعدة الأحكام الناسخة والمنسوخة، اتَّفق فقهاء الإسلام على أن آيات السيف، أي الآيات التي أذنت للرسول بالقتال، قد نسخت آيات الحوار. وبمثل هذه النتيجة، لا بُدَّ من أن نؤكد أن الدعوة إلى الإسلام نسخت أسلوب الحوار كلياً ولم يبق أمام المسلمين إلاَّ أن يطبقوا أسلوب العنف في دعوة الآخرين إلى الدخول في الإسلام، ولم يبقَ للحوار مكان. وهذه الرؤية تدفعنا إلى القول بأن دعوة الرسول إلى قتل من يرتد من المسلمين عن الإسلام أصبحت ثابتاً، والحوار متغيراً، وهذا ما يتعارض مع قواعد المنطق وقواعد القيم الإنسانية العليا؛ إذ لا يجوز أن يكون الحوار أو الحرية، كقيمة عليا، متغيراً، ويصبح القتال أو الإكراه قيمة عليا ثابتة.
2-من خلال العقل:
إن الآيات التي تدعو للحوار، كأسلوب للدعوة للإسلام، ليست مشروطة، وإنما هي مطلقة عامة، مثلها مثل القيم الأخلاقية المطلقة: كالعدل والمساواة والكرم والشجاعة والحوار بالتي هي أحسن، والامتناع عن الإكراه، أو منع استخدامه. فلا يجوز اشتراط العدل،كقيمة عليا،بأية شروط، كأن تقول: على الإنسان أن يكون عادلاً إلا إذا … أو: إنني سوف أُكرِهُكَ على قبول رأيي إذا لم تقتنع بالبراهين التي سأقدمها لك ...
من الموضوعية أن يكون استخدام القتال والقوة مشروطاً. كأن يكون هذا الاستخدام ضد من يعمل على منع تطبيق القيم الأخلاقية والاجتماعية المطلقة؛ أو لمنع الإكراه وليس لفرضه، حيث إن منع الإكراه هو من القيم المطلقة التي لها علاقة بمفهوم الحرية.
ولأنه، حسب قناعتنا، يُعَدُّ الإكراه منافياً لحرية الإنسان؛ والحرية حقيقة مطلقة؛ تأتي حرية الاعتقاد والرأي مشروطتان بعدم تشكيل خطر مادي أو معنوي على حرية الآخرين، وهي جزء أساسي من حرية الإنسان. ولأن القوة والقتال هما أسلوبان لحماية المثل العليا، فالأحرى بهما أن يتوجّها إلى حماية حرية المعتقد، كمثل أعلى؛ وليس استخدامهما لإكراه الآخرين على أن يعتنقوا ما ليس لديهم قناعة به. ولهذا قال الله تعالى: إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب .
إن بين الدعوة إلى منع الإكراه واستخدام القتال والقوة، كأسلوب للدعوة إلى الإسلام، مسافة تناقض، حاول معظم العلماء المسلمين، إن لم يكن كلّهم، أن يعالجوها بمنطق التوفيق والتبرير لترجيح استخدام القوة والإكراه أكثر منها إلى جانب استخدام الحوار، والسبب الكامن وراء الوقوع في التناقض هو أن الفقهاء المسلمين جمَّدوا أحكام الشريعة، عندما حسبوا أن النص جامد وثابت، فعملوا على اشتراع كل ما يدعم هذا الخطأ. وهم وإن اعترفوا بأهمية الحوار فكان اعترافهم ليس على قاعدة إعطاء فرصة التكافؤ بين رأيين، بل على أن حوارهم قائم على أساس أن المسألة التي هي موضوع للحوار هي مسألة مُسَلَّم بها، فلا يمكن النقاش فيها. فهم يعنون بالحوار -إذا آمنوا به- أنه فسحة من الزمن تُعطى للطرف الآخر، ليس لكي يقدم براهينه، وإنما أعطيت له لكي يتراجع، في أثنائها، عن قناعاته السابقة -حتى ولو كان مكرهاً- لصالح الاقتناع بالأسباب التي أقتنع بها المحاور الآخر، والتسليم بها وليس غير ذلك على الإطلاق([45]).
يتَّبع الفقهاء، لتأكيد قواعد فقهية جامدة، أسلوباً تبريرياً،يفترضون من خلاله، بل يؤكدون، أن قواعد الناسخ والمنسوخ قد جمَّدت نصَّ الأحكام، ولا يجيزون استخلاص أحكام متجددة تتوافق مع روح العصر ومتغيرات الأزمنة والأمكنة. وهم بمثل تلك الوسائل إنما يبتعدون عن حجج العقل ويحمِّلون إلزامهم بالنقل الكثير من النتائج المتعسفة.
لقد جمَّدوا حديث الرسول »من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه«، واعتقدوا أنه يعبِّر عن حقيقة مطلقة تصلح لكل زمان ومكان، وحسبوا أن وسائل العلاج مع المرتد عن الإسلام يجب أن لا تخرج عن سُنَّة استتابته لثلاثة أيام، يُقتل بعدها إذا لم يعلن توبته.
لم يأخذوا الظرف الذي أجبر الرسول بأن يأمر بقتل المرتد بعين الاهتمام. فالأمر بقتل المرتد كان مرحلياً، وكانت دوافعه أمنية وسياسية، ولكنها لم تكن على الإطلاق دوافع دينية عقائدية([46]).
لقد غابت عن أنظار الفقهاء المسلمين حقيقتان، وهما:
-الأولى: ظرفية ومكانية الأمر النبوي بقتل المرتد عن الإسلام. فالظرف كان سياسياً أمنياً لأن الدعوة الإسلامية كانت في بداية تأسيس كيانها السياسي والأمني. فكان الرسول حريص على منع المسلمين من الارتداد عن الإسلام الذي كان يعني إحداث ضعف عددي ومعنوي في صفوف المسلمين.
-الثانية: غياب الوضوح في رؤية أدنى قواعد المنطق في ما يتعلق بالتمييز بين الثابت والمتغير. وهم بمثل هذا الغياب حسبوا أن استخدام القوة هو الثابت، أما استخدام عدم الإكراه / الحرية في الاعتقاد هو المتغير. من هنا أجازوا للمتغير أن ينسخ الثابت.
فهل نستطيع أن نقارب بين النص الإسلامي في إلزام الإنسان أن يكون مسلماً بالفطرة، أي بالتقليد، أو أن يكون خاضعاً لواحد من مصيريْن: إما أن يُعلِن إسلامه أو يُقتَل، أي إما الإسلام أو السيف.
صدر عن هيئة الأمم المتحدة، المنظمة الدولية التي تعمل على عولمة القوانين والتشريعات، في ما له علاقة بحقوق الإنسان، إعلاناً عالمياً تقرُّ مادته الثامنة عشرة، أن: «لكل إنسان الحق في ممارسة الديانة التي يعتنقها. وهذا الحق يشمل حرية تغيير العقيدة وحرية نشرها وتدريسها وممارسة شعائرها». وعندما توافق عليه كل الدول أو أكثريتها، ومنها الدول العربية والإسلامية، فهل تستطيع أية دولة أن تسمح لفقهاء المسلمين أن يطبقوا قانون الردة على المسلمين؟ بمعنى أن يصدروا فتوى بقتل المرتد وأن ينفذّوها استناداً إلى شرائع الإسلام، تطبيقاً لحديث الرسول: »من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه«.
من المستحيل أن يُعطى الفقهاء المسلمون صلاحية إصدار مثل ذلك الحكم، أي أن حدَّ القتل بالمرتد قد نسخه الأمر الواقع. فقوانين الدول، حتى الإسلامية منها، لن تسمح بقتل المرتد لأنها بذلك تخرق التشريعات الدولية.
IV - مناقشـة حول إمكانيـة نسخ أحكام الحرب والردة في الإسلام([47])
أعطى النص الإسلامي أحكام الغنيمة مشروعية إلهية، فأسبغ المسلمون عليها صفة القدسية، وهذا يعني أنه لا يمكن لأحد أن ينسخها إلاَّ الله. وهناك، خاصة من الإسلاميين، من يريد أن يثبت أن المستحيل ممكناً عندما يحسبون أن الشرائع الإسلامية ليست عرضة لأي تغيير لأنها تمثِّل أحكاماً وشرائع إلهية؛ ويؤمنون أنها صالحة لكل زمان ومكان. يقول بعضهم: »إن شريعة الإسلام عامة خالدة، هذا من القطعيات الضرورية«، و»إن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء، حتى ينسخها الله بذاته بشرع آخر، إذ لا يملك بشر سلطة فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه. ولا شرع لله بعد محمد(ص) «([48]). وتتمثل شرائع الإسلام القطعية »في شؤون الزواج، والطلاق، والميراث، والحدود، والقصاص، ونحوها من نُظُم الإسلام، التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة«([49]).
بناءً عليه لا يمكن لفقهاء المسلمين أن ينسخوا أحكام معاقبة المرتد عن الإسلام وأحكام الغنيمة، أو بعضها، لأن نسخها –كما يحسبون- ليس بأمر منهم بل هو بأمر من الله. فتلك الأحكام هي أحكام إلهية قطعية. ولأن الإسلام كان خاتم الأديان السماوية، ولأن الله لن يُولِّي أحداً بعد وفاة الرسول، يصبح نسخ تلك الأحكام -حسب الفقه الإسلامي- مستحيلاً.
ولأننا نرى أن عدداً من أحكام الشريعة الإسلامية يتم نسخه بحكم الأمر الواقع، نرى أنه لا يجوز أن نترك شريعة نعتقد أنها من إنزال إلهي عرضة للنسخ الإرغامي. بل علينا أن نستفيد مما وضعه النص الإسلامي من فُسَحٍ نقلية وعقلية أمامنا لنستخدمها بحرية تضمن تطوير الشرائع الإسلامية بشكل يتلاءم مع تغيُّر الأزمنة والأمكنة.
إن ظروف المرحلة المعاصرة قد بدَّلت كثيراً من العلاقات السياسية والاجتماعية بين الدول. وأوجب التبديل في العلاقات تبديلاً في كثير من شرائع شتى المجتمعات، وأخذت بعض الشرائع طريقها نحو العولمة، مما أفسح في المجال للشرائع الدولية / العالمية أن تحلَّ مكان كثير من الشرائع الخاصة لتلك المجتمعات.
لقد أقرَّت الاتفاقيات الدولية، الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، والتي وافقت عليه معظم الدول الإسلامية نصوصاً تنسخ -ضمناً- أحكام الشريعة الإسلامية حول حرية الاعتقاد وأحكام غنائم الحرب. وجاء فيها:
-نصَّت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما يلي: »لكل إنسان الحق في ممارسة الديانة التي يعتنقها. وهذا الحق يشمل حرية تغيير العقيدة وحرية نشرها وتدريسها وممارسة شعائرها«.
-ونصَّت الفقرة 2 من المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية، على ما يلي: »لا يجوز إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يعطِّل [حرية الإنسان] في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها«.
-أعلنت الفقرة الأولى، من المادة 45 من اتفاقية جنيف الثالثة، حمايتها لأسرى الحرب. وحدَّدت المادة 75، من البروتوكول الملحق بالاتفاقية، ضمانات الحماية الأساسية، التي تؤكد على ما يلي: »يُعامَل معاملة إنسانية، في كافة الأحوال، الأشخاص الذين في قبضة أحد أطراف النزاع«. وحضَّرت اعتماد الأفعال التالية بحق الأسرى: »ممارسة العنف إزاء حياة الأشخاص أو صحتهم أو سلامتهم البدنية أو العقلية، وبوجه خاص: القتل - التعذيب - التشويه - انتهاك الكرامة الشخصية«.
-دعت المادة الرابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى أنه »لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما«.
وفي المقابل شرَّع الإسلام، كما فعلت غيره من الأديان السماوية، قتل المرتد عن دينه؛ وشرَّع الغنيمة، أي الاستيلاء على أموال العدو وممتلكاته، وسبي النساء والأطفال، وقتل الأسير أو العفو عنه أو قبول فدية لتحريره.
وإذا قمنا بمقارنة بين التشريعين: الدولي والإسلامي، فماذا نجد؟
أ-فرض الإسلام الجزية على أهل الكتاب.
ب-وشرَّع الإسلام قتل المرتد عن الإسلام. أما القانون الدولي فقد ضمن حماية حرية الاعتقاد، بما فيها حرية تغيير الدين.
ج-وشرَّع الإسلام سبي النساء والأطفال واسترقاقهم. أما التشريع الدولي فقد فرض حمايتهم ومنع استرقاقهم.
د-من خيارات معاملة أسير الحرب، في الإسلام، هو قتله. أما التشريع الدولي فقد حدّد شروطاً واضحة تُلزِم المتحاربين بحماية الأسير.
وبعد المقارنة نتساءل:
-أي التشريعين يواكب روح العصر من جهة، وأيهما يؤمن حماية الإنسان وحريته: أهو التشريع الإسلامي، أم التشريع الوضعي (كأنموذج التشريعات الدولية)؟
-هل تستطيع الدول الإسلامية الحاضرة، أو التي يمكن أن تنشأ في المستقبل، أن تقتل مرتداً عن الإسلام؟
-وهل تستطيع، في حالة قيام حرب بين دولة إسلامية ودولة مسيحية، أن تفرض الدولة الإسلامية الجزية على المسيحيين؟
-وهل تستطيع أن تحكم علناً بقتل أسير حرب؟ وهل تستطيع -في السر أو العلن- أن تسبي النساء والأطفال؟ وهل تستطيع مصادرة أملاك الخصم وأمواله كغنائم حرب؟
إن جوابنا هو: كلا لا تستطيع أية دولة تحكم حسب الشرائع الإسلامية، ولن تستطيع، أن تشرِّع أحكام قتل المرتد عن الإسلام، أو أن تشرِّع أحكام الجزية على أهل الكتاب، أو أن تشرِّع أحكام غنائم الحرب. فكيف يستطيع أولو الأمر من المسلمين أن يجدوا مخارج لمثل تلك الإشكالية، أي إمكانية المقاربة بين النص الإسلامي والتشريعات الدولية؟
لقد قضت القوانين والأعراف والعلاقات والتشريعات الدولية بالنسخ الواقعي لعدد من أحكام الشريعة التي اعتقد المسلمون أنها إلهية، وهم ملتزمون بها، ولن يستطيعوا حتى الدفاع عن مشروعيتها.
تلتزم الأنظمة، وكذلك الحركات الإسلامية، بالأحكام الإسلامية نظرياً، ولكنها مرغمة على نسخها عملياً؛ وقد عدَّ بعضهم أن مناقشتها أو الكلام عنها أصبح بلا جدوى بعد إلغائها، وفي هذا المعنى قال أحد الفقهاء المسلمين، حول مسألة أحكام الإماء في الإسلام: »إن الحديث عن الإماء وأحكامهن أصبح بلا جدوى بعد إلغاء الرق«([50]).
لقد نسخ الأمر الواقع لروح العصر وظروفه نصوصاً إسلامية. فهي قد أصبحت تساوي، كما جاء عند النيسابوري: ما نُسخ حكمه وبقي خطه. وهنا، نتساءل: ما هي أهمية أن يُنسَخ الحكم ويبقى الخط؟ وماذا يترتَّب على فقهاء المسلمين أن يفعلوه في حالات مشابهة، ونحن نرى أن روح العصور القادمة سوف تتغيَّر، وسوف تنسخ معها أحكاماً إسلامية أخرى؟
وإذا عدنا إلى قواعد الفقه الإسلامي، في الناسخ والمنسوخ، لوجدنا أن روح العصر، والعلاقات الدولية المعاصرة، تقتضي من الفقهاء أن يقرّوا بجواز نسخ أحكام ظلَّلوها بالقدسية الإلهية وكفَّروا من يجرؤ على نسخها. إن إعطائهم الجواز بنسخها يأتي كبديل منطقي وواقعي لعوامل الإرغام التي يخضعهم لها القانون الدولي. فالنسخ هو نسخ سواء تمَّ بالرضى أم تمَّ بفعل الأمر الواقع.
فإذا رضخ الفقهاء للأمر الواقع، وعدّوا أن أحكام حرية الاعتقاد والجزية والغنيمة، أصبحت بلا جدوى بعد أن ألغتها مواثيق العلاقات الدولية وشرائعها، أفلا نحسب أن في هذا الاعتراف نسخاً لعدد من أحكام شرائع الإسلام؟
بلى هو نسخ، سواء كان هذا النسخ إرادياً أو إرغامياً. وإذا جاز نسخ حكم واحد من الأحكام الإسلامية القطعية، يجوز نسخ كل حكم يثبت العصر ابتعاده عن تأمين مصالح الإنسان. فمن داخل هذه النتيجة نعود إلى إعطاء رأي حول تعريف الناسخ والمنسوخ، على الشكل التالي:
-لم يقتصر تطبيق أحكام الناسخ والمنسوخ على حياة الرسول فقط، بل هي قواعد دائمة وثابتة. وهي تعني إمكانية تغيير الشرائع أو تجديدها كلما اقتضت ظروف المجتمعات ذلك. سواء حصل النسخ والتغيير في حياة الرسول أم بعد مماته.
إذا اتفقنا على أن تنزيل عدد من آيات القرآن قد تبدَّلت / نُسِخت مع تبدل الظروف والأحداث فهذا شيء مهم، بل وفي غاية الأهمية. وهذا ما لا يجب أن يجعلنا مصرين على معرفة ما بقي من الأحكام ما نُسخ خطه، ولا على معرفة ما نسخ من الأحكام وبقي خطه. بل ما يعنينا هو أن لا يقتصر جوهر مسألة النسخ على ما نُسخ في السابق دون أن نلتفت إلى تبدل الظروف في عصرنا الراهن. وهذا له علاقة بموضوع حرية العقل.
V -في نتائج البحث:
لم تأت قواعد الناسخ والمنسوخ لتغيَّر حكماً بحكم، أو آية بآية أحسن منها([51])، في خلال حياة الرسول فحسب، بل إن ما جاء في القرآن هو تدليل على أنه لا يمكن للأحكام الزمنية أن تبقى ثابتة، بل إنها تتغير بتغير الظروف، أيضاً، في كل زمان ومكان. فعندما يريد الله أن يُنسي آيةً أو ينسخها، فهو يفعل ذلك لأنه يعلم أنها لم تعد تواكب روح العصر. وهذا دليل على أن أسلوب النسخ جاء لا لكي يضع أحكاماً ثابتة لأعمال هي من المتغيرات، بل ليدل على أن الشريعة ليست ثابتة بل وُضِعت لتحاكي ظروف البشر ومصالحهم، فإذا أصبح الحكم لا يلبي مصلحة البشر، في زمان ما أو مكان ما، فلا خوف من تعديله بأحسن منه.
***
([35])-]مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [(الروم:44). وهي مكيَّة .
-]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ (المائدة: من الآية105). وهي مدنية.
-]إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً[ (آل عمران: 177). وهي مدنية.
-]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[ (يونس:99). وهي مكيَّة.
-]فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ // لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ[ (الغاشية:21 و22). وهي مكيَّة.
-]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ[ (الأنعام:107).
-]فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [ (الشورى: من الآية48). وهي مكيَّة.
-]فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[ (آل عمران: من الآية20). وهي مكيَّة.
([39]) ]قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ (التوبة:29).وهي مدنية. وقد أنزلت في السنة الثامنة الهجرية، عندما كان الرسول يَعِدُّ لغزوة ضد الروم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق