محمد عمارة:
مفكر إسلامي يشد لحاف التيار القومي نحو كامل الإسلام.
تعريف بكتابه([1]) وحوار معه
I - التعريف بالكتاب.
II - عرض لمحتويات الكتاب
III - مناقشة وحوار مع أفكار الكاتب
التعريف بالكتـاب وحوار مع المؤلف
I – التعريف بالكتـاب:
يمهِّد الباحث لكتابه في "مقدمات تمهيدية" وافية يتناول فيها أسباب اهتمامه – كمفكر إسلامي – بفكر ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي – كمفكر قومي – ويتابع في مقدماته رسم خط بياني لتطور فكر عفلق ذي العلاقة بموقفه من الإسلام.
ويخصِّص الكاتب فقرات بحثه الباقية لكي يتكلَّم بالتفصيل عن الخط البياني الذي رسمه من خلال النصوص التي استلَّها من كتابات عفلق، وتتبَّعها عبر سنوات إنتاجه الفكري. فكانت عناوين الفقرات كما يلي:
الإيمان الديني والنزعة الروحية. التراث... والتقدم: ماذا يعنيان في المشروع البعثي؟ ماهية "الرسالة الخالدة"؟ والإسلام في الصراع: الغربي – العربي. ويُنهي عمارة كتابه بالسؤال التالي: أيهما أولاً: العروبة؟ .. أم الإسلام؟! ليخلص بنتيجة يوجز فيها رأيه تحت عنوان: "وبعــد".
II - عرض لمحتويـات الكتـاب
1-أسباب اهتمامـه بالبحث
يفسِّر د. محمد عمارة في مقدمات كتابه التمهيدية السبب الذي دفعه إلى كتابته بعد أن كان في الموقع والموقف البعيد عن الخوض في مثل هذا المشروع. لقد كان يحسب أن المشروعين القومي والإسلامي متباعدان، ولم يكن يشعر بحرارة المقارنة بينهما. لكن، على الرغم من ذلك، ما هو الدافع الذي أقنعه بتغيير رأيه؟
يوضح عمارة ذلك فيقول إن اهتمامه ابتدأ منذ أن سمع بأن عفلق قد اعتنق الإسلام، وهو ليس إنساناً عادياً، بل هو "واحد من أبرز مفكري وقادة التيار القومي العربي في العصر الحديث. وأستاذ تتلمذ وتتتلمذ عليه أجيال من المناضلين والمفكرين والمثقفين". فالقضية، إذاً، كما يحسب عمارة، أكبر من "اهتداء قائد ومفكر إلى دين الإسلام… وغدت تحولاً في المشروع القومي الذي صاغه، والذي تبنَّاه، ولا يزال، تيار فكري وسياسي مؤثِّر في واقعنا الفكري والسياسي.." (ص14).
أما الدافع الثاني فهو أن بعض مفكري التيار القومي العربي تبنَّى، في ندوة فكرية عُقِدت في العام 1989م تحت عنوان "الحوار القومي - الديني"، صيغة عفلق، التي صاغها في بداية حياته الفكرية السياسية، وهي "الصيغة التي تختزل الإسلام إلى مجرد "مقوم من مقومات القومية العربية". ورأى عمارة أن هذا البعض قد أغفل التطور الفكري الواضح والحاسم لفكر عفلق في هذا الموضوع، لذلك ردَّ عمارة على هذا الادعاء في الندوة ذاتها، قائلاً: "ليس الإسلام مجرد مقوم من مقومات القومية العربية، وإنما العكس هو الصحيح"؛ وقد تجاوز عفلق تلك الصياغة –يتابع عمارة- عندما تحدَّث "عن الإسلام باعتباره المقوم الرئيسي لقوميتنا، وباعتباره جوهر الأسس التي لا بد من قيام نهوضنا الحديث عليها.." (ص16).
أما الدافع الثالث فقد برز عندما طُلِب منه أن يقدِّم بحثاً عن "الإسلام في فكر ميشيل عفلق" في ندوة عن المذكور عُقِدَت في العام 1990م.
ويُبرِّر السبب الذي دفعه إلى الكتابة عن عفلق، على الرغم من أن كثيرين قد كتبوا عنه، بما يلي:
1- أغفلت الكتابات السابقة دلالة اعتناق عفلق الإٍسلام. وأغفلوا رسم الخط البياني لمكانة الإسلام في مشروعه الفكري وحياته النضالية. وسبب إغفالهم هذا الجانب -يحسب عمارة- أنه خوفاً من أن تشكل حَدَثاً "يزلزل من مشروعية "الخيار العلماني" للحزب..(ص19). ويقول عفلق عن هذا الإغفال: "لم يفعل الحزب شيئاً كثيراً لنشر هذه الأفكار [أي موقفه من الإسلام] وللدعاية لها ولتوضيحها ولتوسيعها". (ص114). وهذا ما حدا بعمارة، كما يقول: "هو الذي استفزَّني، فحفَّزني على أن أعكف على فكر الرجل ومسيرة نضاله، لأكشف عن حقيقة موقفه من الإسلام.. الإسلام الدين.. والثورة.. والحضارة.. والمشروع الفكري.. (ص21).
2- لقد كشف عمارة،كما يحسب، عند عفلق ما لم يستطع أن يكتشفه تلاميذه ومريدوه، أو خصومه. فهو ينقل عنه حديثاً له مع مجلة آفاق عربية في العام 1976م: «هو أنني شخصياً، في بداية تكوين الحزب، اكتشفت الإسلام. أقول اكتشفت، ولا أعني أنني لم أعرف الإسلام.. كثورة.. عقيدة.. » (ص22). ويحسب أن هذا الاكتشاف هو الذي ميَّز مشروعه الفكري من مشاريع "الليبرالية الغربية" أو "الماركسية الغربية"..(ص24).
2- منذ متى بدأت المرحلة التي تديَّن فيها عفلق بالإسلام؟
ومن هنا يطرح عمارة متسائلاً: هل كان "تدين" الرجل بالدين الإسلامي منذ فجر حياته الفكرية والسياسية؟
يقف عند هذه الفرضية استناداً إلى ما استخلصه من عبارات عفلق التالية: "الإسلام الثورة"، و"الإسلام الحضارة"، و"الإسلام التراث"، و"الإسلام كهوية للأمة"، و"كرسالة إنسانية خالدة". وتستوقف عمارة رؤية عفلق أن اكتشافه للإسلام واختياره له كان "للإسلام: الدين السماوي.. والوحي الإلهي.." (ص24).
ويستعين عمارة بما قاله عفلق في العام 1977م: "إن طريق البعث كان نتيجة اكتشاف الإسلام.. لقد كانت اللحظة التاريخية في حياة الثورة العربية المعاصرة هي سلامة الاختيار.. وقد كان الموقف من التراث القومي، أي من الإسلام.. معبِّراً عن أحد الاختيارات الكبرى لفكر البعث.. كان لا بد، حرصاً على المستقبل وسلامة الاتجاه، من الإشارة الصريحة إلى ذلك. والتتمة على الأجيال البعثية الصاعدة" (ص25).
وينقل عنه قوله، في العام 1943م، في ذكرى الرسول العربي: "لا يفهمنا إلا المؤمنون، المؤمنون بالله.. ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان، ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرِثْهُ إرثاً، ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا، لأنه مُلْكَنا وثمرة أتعابنا" (ص26).
ولكي يصل الباحث لليقين حول تساؤله، أي أهدافه من البحث، عمل على "تتبُّع الخط البياني لهذا الوضوح.. والتطور.. والنضج لمكانة الإسلام في هذا المشروع النهضوي، هو الإنجاز الأهم الذي نبتغيه من وراء الجهد المبذول في هذا الكتاب" (ص29). أي "بناء مكانة الإسلام في المشروع الحضاري البعثي، كما نشأ وتطور في فكر القائد المؤسس والفيلسوف المنظِّر ميشيل عفلق.." (ص30).
3- كيف رسم الباحث الخط البياني للمشروع الفكري عند عفلق؟
- إكتشف الإسلام في المراحل المبكرة من حياته الفكرية، ولكن بقي هذا الاكتشاف غامضاً في كتاباته. أما منذ منتصف السبعينات، أي مرحلة استقرار عفلق في العراق، فقد شهدت اهتمامه باستكمال هذا النقص. ويرسم عمارة الخط البياني التالي:
-قبل العام 1958، كان العمل والحركة يسبقان الحاجة إلى تكوين فلسفة (ص32).
-في العام 1958م: يكتشف أن جماهير الشعب العربي أغنى وأعمق من قادتها في نزعتها إلى القِيَم الأصيلة المطلقَة، والتي ليست،بحسب عمارة، سوى الدين. (ص32).
- في العام 1963م، يعترف عفلق "بعفوية الفكر البعثي"، ويعترف بأنه بحاجة إلى التوسع والتفصيل والصياغة العلمية.. (ص33).
- أما في المرحلة العراقية -يتابع الباحث- فقد تطورت ووضحت وبرزت أفكاره عن مرجعية الإسلام، بسبب:
أ- تصاعد المد الإسلامي بعد تراجع بريق المشروع القومي العربي.
ب- تراجع الأنموذج والخيار الاشتراكي العربي.. ودخول النظرية والتطبيق الماركسي مرحلة الأزمة.. (ص35).
ج- في المناخ السوري - اللبناني، تتعدد الطوائف والانقسامات الطائفية. وكانت الاتجاهات –في معظمها- تتبنى العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة. أما في المناخ العراقي، فالانقسامات الأساسية كانت تمايزاً في إطار الإسلام: فالعرب والأكراد: مسلمون سُنَّة.. والسُنَّة والشيعة: مسلمون عرب؛ فلن تُواجَه إسلامية المشروع الحضاري أو إبراز مرجعية الإسلام فيه بالرفض. ويُعزِّز عمارة استنتاجاته بأن البعث العراقي –بنظر الكثيرين- هو المعبِّر عن سُنَّة العراق. ويحسب أن هذا المناخ الفكري كان دافعاً لعفلق كي يعود للنظر من جديد في مكانة الإسلام في مشروعه الفكري (ص37).
د- دفع تصاعد المد الإسلامي، وتميُّز المناخ العراقي إسلامياً، بعفلق ليبدأ التفرغ للعمل الفكري بعد أن اعتزل، منذ المؤتمر القومي العاشر في العام 1970م، المسؤوليات السياسية والحركية. وكانت المنطلقات الإسلامية هي النقطة التي بدأ منها (ص38).
ويستنج عمارة أن ما أقدم عليه عفلق لم يكن "مزايدة إسلامية"، لأن تراثه الفكري الجديد كان على شكل محاضرات ألقاها في مدرسة الإعداد الحزبي، قبل الحرب العراقية - الإيرانية (ص40).
ويُنهي عمارة مقدماته بالسؤال: أي إسلام كان، عفلق، يعني عندما يكون حديثه عن مكانة الإسلام في المشروع القومي، ومشروعيته في المشروع الفكري؟ (ص42).
4- هل كان عفلق يتبنَّى ويستدعي كامل الإسلام؟ أم أبعاداً بعينها..؟
وبعد أن يطرح تساؤلاته، التي يعمل على التفتيش عن أجوبة لها من خلال بحثه، وفي سبيل المقاربة بين مشروع عفلق وبين المشروع الإسلامي كما يراه عمارة، يحدد عمارة الإسلام كما يفهمه هو بما يلي: "إن الإسلام وضع إلهي ووحي رباني.. ومن ثم، عرف "الدين-الوحي" طريقه إلى التأثير في الحضارة.. "فكان الإسلام في بنائه الشامل وآفاقه الفسيحة شاملاً للعقيدة.. والشريعة.. والحضارة.. أي منهاجاً كاملاً لكامل الحياة الدنيوية منها والأخروية.. وإطاراً جامعاً وحاكماً لكل شئون العمران، عمران النفس والمجتمع على حد سواء.." (ص42).
وكيف يفهم عمارة الإسلام؟ يقول:"إذا كان (الفهم البشري) له مدخل كبير في (علوم الشريعة)..فإن الشريعة هي الصيغة والمعيار لإسلامية علوم الحضارة في أمة الإسلام وتجربتها التاريخية"(ص44).
ومَنْ هُم الإسلاميون؟ يقول: هم كل "من يرى أن نهضة الإسلام لا تتحقق إلا بارتكاز النهضة على كل شُعَب الإسلام وأقسامه[العقيدة والشريعة والحضارة] دون استثناء.. فهم يستدعون للمشروع النهضوي كامل الإسلام: العقيدة.. والشريعة.. والحضارة.. يصوغون الإنسان وفاقاً لمعاييرها، ويحكمون المجتمعات بقِيَمها وقوانينها.. وهؤلاء هم "الإسلاميون" الملتزمون بكامل الإسلام منهاجاً شاملاً لكامل النهضة والحضارة الإسلامية.." (ص45).
5-أما عفلق فبـأي إسـلام يؤمـن؟
يحسب عمارة أن عفلق يتبنَّى "الإسلام: الحضارة" دون كفر منه بالعقيدة، أو جحد للشريعة.. ولكن بدعوى أن "العقيدة" تخص العابد وحده.. فهي شأن خاص.. بينما الحضارة هي إطار جامع لأبناء الأمة العربية جميعاً: مسلمين وغير مسلمين، متدينين وغير متدينين.. (ص45).
ولهذا سوف يجد القارئ في نصوص عفلق، التي تتحدث عن الإسلام ومكانته ومرجعيته في المشروع القومي، مشروع البعث العربي -كما يحسب الباحث- تحديداً واضحاً بأن المدعو من الإسلام ليكون غذاء للمشروع النهضوي، هو: الإسلام: الثورة.. الإسلام: التجربة المُعبِّرة عن عبقرية الأمة.. الإسلام: التراث الروحي المكوِّن لقومية الأمة.. الإسلام الحضاري المميِّز للأمة وقوميتها ونهضتها.. الإسلام: المتمثل في حركة الأمة العربية..(ص46).
وهكذا يتحدد الإسلام في مشروع عفلق بما يلي:
- يؤمن عفلق بالإسلام: الإلهي.. ذو الجوانب الغيبية.. لكنه لا يستدعيه مرجعاً في مشروعه الحضاري.
- أما الإسلام: الشريعة والقانون.. فلا يؤمن عفلق بضرورته إطاراً حاكماً للدولة القومية التي يدعو إليها.. وإنما يتبنَّى "علمانية الدولة" فيحررها من "قانون الإسلام".. على حين قد رفض "علمانية القومية" التي تحررها من "تراث الإسلام" (ص46).
ويؤمن بالإسلام: الدين السماوي –والغيب من عقائده- إلا أنه لا يتبنَّى هذا الجانب الغيبي، وإنما يراه ضرورياً، كشأن إيماني فردي، يحمي الإنسان من ضياع الإلحاد (ص47).
وينهي مقدماته عن التطور الذي أصاب مسيرة عفلق الفكرية، خاصة منذ السبعينات، قائلاً: "فإننا لا نرجم بالغيب، ولا نبالغ إذا قلنا إن منطق هذا "التطور" في رؤية الرجل لمكانة الإسلام ودوره في مشروعه الحضاري حاكم بأن الطريق أمام هذا "التطور" -لدى التيار القومي- ما يزال مفتوحاً.. فيه العديد من الخطوات.. (ص48). وهذا ما يشجِّع د. عمارة كي يدعو الواقفين من الإسلام عند "الإسلام: الحضارة" كي يتَّسِقوا مع أنفسهم و "منطقهم" إلى التقدم لتبنّي كل الإسلام.. (ص48).
6-الخط البياني لـ"لإيمان الديني.. والنزعة الروحية" عند عفلق
ومن بعد أن يُنهي عمارة مقدماته التمهيدية، والتي يلقي فيها ضوءاً واضحاً على كل ما يريد أن يصل إليه من بحثه، يمسك بأيدينا لكي يضع أمامنا نصوصاً لعفلق، إستلَّها الباحث من شتى مراحل حياته الفكرية، ليبرهن على أنه بقي مقتنعاً بأفكاره عن الدور المهم للإسلام في بناء القومية العربية في السابق، والتي ما زالت تأثيراته ماثلة حتى عصرنا الراهن. فهو لم يتراجع عما بدأ به، قط، وإنما حاول أن يُعمِّق تجربته الفكرية ويدعو مؤيدي التيار القومي –ويأتي على رأسهم البعثيون- للاهتمام بجدية بهذا الجانب.
فتحت عنوان (الإيمان الديني.. والنزعة الروحية) نرى عفلق، في مواجهة موجة الإلحاد-المادي التي هي ضد الإيمان بالله، وفي مواجهة المنهج المعرفي بإعادة الاقتصاد / المادة أساساً لكل شيء، يقف عفلق ليضع ثنائية الدين - الروح من دون أن يحسب أن المادة / الاقتصاد العامل الوحيد مع أنها / أنه أساس مهم جداً في بناء الأمم (ص53).
ويعيدنا عمارة، في بحثه، إلى معاودة التأكيد على رسم الخط البياني لمنهجه، ويحدد رؤية عفلق للدين قبل أن يباشر في رسم ذلك الخط:
- الدين –كما يفهمه عفلق- يجدد حياة الأمة، لكنه يميز الدين الذي يؤمن به عن "الدين الرائج" الذي يكرِّس الواقع البائس.
- الدعوة إلى الروحانية الواقعية، الجامعة بين المثالية والتفكير العلمي..
أما الخط البياني فهو كما يلي:
- يقول عفلق في العام 1946م: "يجب أن لا يُفْهَم من الدعوة إلى الروح أننا ندعو إلى المحافظة على الأوضاع الفاسدة".
- وفي العام 1950، يدعو إلى "الإيمان بالقِيَم الروحية الإنسانية، وبقيمة الروح العربية الأصيلة.."، ويدعو للتعرض للتدين الرائج "الذي فقد كل صلته بالروح والحوافز التي كانت مصدراً للدين بالماضي فآل إلى حالة من الجمود والمحافظة والجهل.." (ص56).
- وفي العام 1956م، يقول: "إن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان.. لا يمكن أن يزول"، و"الدين قادر على أن يعود إلى حقيقته إذا وُجِد أفرادٌ مؤمنين متجرِّدين يعيدون إلى الدين صفاءه الأول" 0ص56). ويرفض عفلق أن يُقابَل تشويه الدين من قِبَل رجل الدين بردَّة فعل تتجه نحو الإلحاد.. (ص58).
- أما في العام 1976م، فيقول: "تعتزُّ حركتنا بموقفها الإيجابي من الدين"، وحركتنا "قامت بشيئين في هذا المجال: أعطت الدين.. دوره المشروع في حياة البشر.. وأعطت الإسلام، الدين العربي، الدين الإنساني.. المكانة الأساسية في تكوين قوميتنا.. فالإسلام هو التراث الروحي، وهو المحرك لها، هو ملهمها، هو مرجعها الروحي، وهو الحركة الثورية المثلى في نظر البعث"(ص60). ويتابع عفلق قائلاً:"إننا إذا بحثنا عن شيء، في ماضي حزبنا يساعدنا على متابعة النضال.. لوجدنا في ماضي الحزب روحاً نضالية أكاد أصفها بأنها، في بعض الأحيان، كانت صوفية.. ونحن بحاجة إلى أن نتذكَّر هذه الروح.."(ص61).
واستطراداً، وفي سبيل أن يؤكِّد على قناعاته في دور الروح يقول عفلق إن الإنسان "فرد حرٌّ وُجِد لغاية سامية في هذه الحياة.. لا يكفيه ولا يغنيه أن يأكل ويشبع" (ص62).
فروحانية عفلق تهتم باستدعاء "مُثُل" الإسلام الحضاري أكثر من اهتمامها بالجانب الغيبي - الديني الخالص من الروحانيات (ص63).
ويصل عمارة، كما يحسب، إلى حقيقتين عن عفلق:
- الأولى: لا يتماثل تدين عفلق، وتدين مشروعه الفكري، ويتطابق مع نهج الدعاة والمصلحين الإسلاميين والمشروعات النهضوية الإسلامية (ص64).
- الثانية: إحساسه بالاختلاف، وربما التناقض، بين رؤيته لمكانة الإسلام، وبين مكانة الإسلام في واقع الممارسات الحزبية للحزب(ص65).
7-"التراث.. والتقدم: ماذا يعنيان في المشروع البعثي؟"
وتحت عنوان "التراث.. والتقدم: ماذا يعنيان في المشروع البعثي؟" يستعرض عمارة نظرة عفلق للتراث، وينقل عنه عدداً من النصوص: "إن تراثنا يعطينا أصالة لا يمكن لأي ثورة وأية نظرية فلسفية معاصرة أن تهبنا إياها. هذا الفهم للتراث هو الذي جعل الحزب يستمد منه قوة روحية وأخلاقية لا تستند إليها بقية الحركات" (ص73). ويتابع عفلق قائلاً: "فاستلهام التجربة الخالدة في حياة الأمة العربية إنما يعني استلهام الإبداع والدوافع والقِيَم الإنسانية العميقة.." (ص77).
كما ينقل عمارة من نصوص عفلق عن نظرة الحزب إلى الإسلام والتراث، يرى عفلق أن الإسلام "حي في هذا العصر.. لأنه خالد يعبِّر عن حقائق أساسية خالدة.. [لكن] هذا الاتصال لا يكون بالنقل الحرفي، ولا بالتقليد، وإنما نكتشف هذه الحقائق من جديد، من خلال ثقافة العصر، ومن خلال الثورة والنضال.." (ص80).
8- علاقـة العروبـة بالإسلام كما يراها عفلق:
ويرى عفلق أن ما يربط العروبة والإسلام هو الوحدة العضوية، التي وُلِدَت، كما يقول: "في جو من الحب للعروبة والقومية العربية وللإسلام كأثمن وأغلى ما في العروبة والقومية العربية.. لا يمكن الاتصال بتاريخنا المجيد عن طريق العقل الرجعي المتخلف، بل ببتر الانقطاع الذي أوجدته عصور الانحطاط لإعادة الاتصال بالتاريخ العربي الحي عن طريق الثورة والنضال" (ص82).
9- معنى الرسالة الخالدة، عند عفلق، مرتبط بمرجعية إسلامية:
وتحت عنوان (ما هي الرسالة الخالدة؟) يستلُّ عمارة عدداً من نصوص عفلق، ليركِّز على الجانب الروحي لرسالة البعث، والتي يربطها بمرجعية إسلامية، ومنها:
- يقول عفلق في العام 1946م: "لكل أمة، في مرحلة معينة من مراحل حياتها، محرك أساسي.. كان في وقت ظهور الإسلام هو الدين.. أما اليوم فإن المحرك الأساسي للعرب هو القومية.. وحدها.. والإيمان القومي وحده.." (ص89).
- وفي العام 1976م، يقول: "فقضيتنا، إذاً، صعبة إلى حد أنه لا ينجح فيها إلا المستوى الذي هو بين الأرض والسماء.. أو المستوى الذي تكون فيه الأرض والسماء ممتزجتين" (ص91).
فالبعث، كما يراه عفلق هو "تجديد للقِيَم الروحية والأخلاقية التي عرفتها أرض العروبة في عهدها الذهبي". الأمة في "رسالتها التاريخية العظيمة"، و"مستوى الرسالة الروحية"، و"إن نهضتنا العربية الحديثة، هي من ذلك النبع، من ينبوع الرسالة الأولى" (ص93).
وتحت عنوان (الإسلام في الصراع الغربي-العربي) ينقل عمارة بعض نصوص عفلق، ومنها:
- في العام 1943م، يقول: "إن أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الإسلام" (ص100)، لأن لدى العرب قابلية لخلق وتكوين حضارة قابلة للتجدد (ص101). لهذا، يقول عفلق: "ونحن نريد أن تستيقظ في المسيحيين العرب قوميتهم يقظتها التامة، فيروا في الإسلام ثقافة قومية لهم، يجب أن يتشبَّعوا بها ويحبُّوها" (ص109)؛ لأن "العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى" (ص111).
10- عمـارة يرى في موقف عفلق تطوراً مهماً في نظرته إلى الإسلام بعد مرحلـة السبعينات
وتحت عنوان (أيهما أولاً.. العروبة؟ .. أم الإسلام؟) يتابع عمارة رصد الخط البياني لتطور مشروع ميشيل عفلق الفكري حول القومية العربية والإسلام، فيرى ما يلي:
- كان عفلق يرى، قبل السبعينات، أن القومية محرك للأمة العربية، وأن الإسلام مجرد مُكَوِّن من مُكَوِّناتها.
- أما بعد السبعينات، فأصبح الإسلام في مشروع عفلق الحضاري، أكبر من مُكَوِّن.. أصبح أباها الذي وُلِدَت منه ولادة جديدة.
وينتهي الخط البياني، الذي رسمه الباحث، لتطور مفهوم الإسلام في المشروع الفكري لعفلق في الأعوام من 1986م حتى 1989م، ومنها ينقل عمارة نصوصاً لعفلق لكي يبني عليها نتائج بحثه. يقول عفلق في رسالة موجَّهة منه بمناسبة تأسيس الحزب:
"بدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام..
"إن العلاقة الحميمة بالإسلام هي من النوع التاريخي..
"لقد وُجدت العروبة قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا..
"لقد وُلِد الإسلام في أرض العروبة.. ولكنه أصبح هو أباها..
"إن الإسلام هو الذي حفظ العروبة ... في وقت التمزُّق..
"والإسلام هو الذي خرجت من صلبه.. فكرة القومية العربية..
"إن الإسلام هو العامل الصميمي المندمج في نسيج الأمة..
"والشيء الطبيعي هو أن يكون انفتاح التيار القومي على الإسلام موقفاً فيه الحرارة، والحنين، والغيرة.. والاعتراف بالفضل، وبما يشكِّله الإسلام من ضمانة مصيرية لقوميتنا ولمستقبلنا كأمة.. ومن هذا المنطلق، يستطيع التيار القومي أن يحاور التيار الديني حوار الحب والعقل.." (ص ص 194-195).
ويُنهي عمارة كتابه قائلاً: "هكذا انفتح المشروع القومي، الذي قدَّمه ميشيل عفلق، عن الإسلام.. والمسلمين.. والإسلاميين.. وبقي أن تبلغ هذه الرسالة كل فصائل التيار القومي العربي.. فينفتح هذا التيار على الإسلام.. والمسلمين.. والإسلاميين.. وأن يبادل الإسلاميون القوميين هذا الانفتاح!!.." (ص195).
III - مناقشة وحوار مع أفكار الكاتب
1-الاتفـاق على قواعـد للحـوار
تعال بنا يا عزيزي الباحث، انطلاقاً من كونك مفكراً إسلامياً منفتحاً على التيارات الفكرية الأخرى غير الإسلامية، نتفق على قواعد للحوار.
أنا أنطلق، كمحاور منتمٍ للتيار القومي، من أن أفكار ميشيل عفلق –مؤسس لأهم تيار حزبي فكري قومي عربي- هي مُلهِمَة وليست مُلْزِمَة. فهل تقبل أنت أن تكون القاعدة التي ينطلق منها حوارك الإسلامي كذلك؟!!!
إننا نرى أن لميشيل عفلق موقعين: الموقع الفكري، والموقع الحزبي والسياسي. ولذلك سوف نقوم –من جانبنا- بمهمة التركيز، من خلال هذا الرد، على موقع ميشيل عفلق الفكري، وليس الحزبي-السياسي؛ لأن الموقع الحزبي قد يُلزم الحزبيين، على الرغم من موقعهم غير المقتنع، في بعض الأحيان، بقرارات سياسية أو تنظيمية، فكيف بالأحرى إذا كانت ذات اتجاهات فكرية؟
ومن المفيد أن نلفت أنظار الدكتور عمارة، وأنظار غيره من الباحثين الذين قد يقومون بأبحاث حول فكر عفلق، أن يأخذوا بعين الاهتمام، في دراساتهم وأبحاثهم، هذا التصنيف الذي سُقْناه لشخصيتيه: المفكر ذو الرؤية الفكرية الخاصة، والحزبي-السياسي ذو الموقع العام.
عرف التاريخ أنماطاً عديدة من المفكرين، الذين أسسوا مدارس فكرية فاستقطبوا التلاميذ والمؤيدين، واستطاعوا أن يُغَيِّروا، بقدر أو بآخر، في مناهج المعرفة الإنسانية. لكن شخصياتهم وحياتهم الخاصة كانت على قَدْرٍ من الاستقلالية والانعزال عن كل التيارات السياسية والإيديولوجية، وإن كانوا قد أثَّروا في بناء الإيديولوجيات، إلا أنهم ظلوا على درجة من التمايز عن تلك التيارات.
أما ميشيل عفلق، حينما فضَّل أن يعتزل العمل السياسي والحزبي ليتفرَّغ لعمله الفكري، كان يدرك هذا الفصل بين موقعه الفكري الخاص وبين موقعه الحزبي-السياسي العام.
لكن هناك روابط محدَّدَة بين الموقعين؛ فهما ليسا متمايزين تماماً، بل إن بينهما روابط مُشتَرَكة ومتفاعلة.
إن لموقع المفكر في داخل حزبه وتنظيمه استقلالية فكرية خاصة، فكيف يتم ذلك؟
يستند الحزب أو التنظيم –مثل حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الذي أسهم ميشيل عفلق في تأسيسه- في حياته الداخلية إلى قواعد وأسس من النصوص التنظيمية (النظام الداخلي) التي تحدد علاقات الفرد بتنظيمه، ويأتي على رأسها تنظيم الآراء الخاصة –سواء كانت فكرية-سياسية أو غيرها- للفرد مع الرؤى الخاصة للمجموع. وتُنظِّم الحياة الداخلية لحزب البعث العربي الاشتراكي قواعد وأُسس تُعْرَف بالمركزية الديموقراطية، التي تعترف بحرية الفرد بالتفكير وتحترمها من جهة، وتعترف بسلطة الأكثرية في اتخاذ القرار وتُلزم الفرد باحترامها من جهة أخرى.
إستناداً إلى هذا ينتهي حق الحرية الفردية، في داخل الحزب، عندما تبتدئ حرية الأكثرية في اتخاذ القرار. قد تتعارض مجموعات الحريات الفردية مع مفهوم ديموقراطية الأكثرية. ولكن لضرورة تنظيم الجماعة كان لا بُدَّ –في أحيان كثيرة- من التضحية بالحرية الفردية لصالح الحريات العامة.
من هنا لم يكن بالضرورة أن تتم دراسة اتجاهات حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال دراسة فكر أحد أهم مؤسسيه أو من خلال دراسة رؤيته المعرفية الخاصة؛ أو أن نحدد اتجاهات الحزب الفكرية من خلال سياق رؤية فكرية لفرد / قائد متميِّز في داخل الحزب. لكن هذا لا ينفي مدى تأثير الأفراد المتميزين في حياة الحزب الداخلية والفكرية.
إننا سوف نركِّز في حوارنا هذا مع عمارة على الفصل بين الموقعين اللذين احتلَّهما عفلق في تاريخ حزب البعث؛ وهو ما أشار إليه الدكتور عمارة عندما استغرب واستهجن عندما لم يقف رفاقٌ لعفلق باهتمام زائد عندما أُعلِن انتماؤه للإسلام بناء على وصيته.
2- رؤيـة عفلق المعرفيـة - الفكريـة رؤيـة صوفيـة
استناداً إلى هذا فإني أرى موقعه ورؤيته في التفكير، كما يلي:
إلى أن يقوم أحد المهتمين بدراسة فكر ميشيل عفلق، بما له علاقة بتحديد رؤيته الفكرية بدقة وعلمية، فإنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثِّرة بالرؤية الصوفية. أَوَ لم يقل إن "المشكلة هي في الفرق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، لأن له حقيقة وله ظاهرا"؟([1]).
فما جاء من تعريفات حول التصوف يؤكد وجهة النظر تلك. وننقل بعض ما جاء حولها: "لا شك في أن التصوف –كعلم- حاول أن يحل محل الفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه، بل حاول أن يحل محل الفقه نفسه؛ وذلك باعتبار أن الفقه يختص بالعلم الظاهر، أما التصوف فهو يختص بالعلم الباطن دون إغفال للجانب الظاهر في الشريعة. وحاول الصوفية المسلمون أن يقوم علم التصوف على أسس علمية أخلاقية. فهو يقوم على دراسة النفس.. كما يمتاز التصوف أيضاً بنوع خاص من المعرفة لا نجدها في الأنواع الأخرى من الفكر الإنساني والإسلامي"([2]).
ولقد "ظهر التصوف كعلم أخروي يعطي المفهومات الفقهية الجامدة من تحليل وتحريم، روحاً جديدة، ويمزجها بالعاطفة الدينية المؤسَّسَة على أعمال القلب من مقامات وأحوال. وتنحصر هذه الأعمال في التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة والتوكل والمحبة والشوق والوجد.."([3]).
1- يقول عفلق، في إشارة منه لمنهجه الفكري "إننا إذا بحثنا عن شيء، في ماضي حزبنا يساعدنا على متابعة النضال.. لوجدنا في ماضي الحزب روحاً نضالية أكاد أصفها بأنها، في بعض الأحيان، كانت صوفية.. ونحن بحاجة إلى أن نتذكَّر هذه الروح.."([4]).
2- يقول عفلق عن العوامل التي تحدد الاتجاهات الفكرية بأنه "وراء كل رأي عوامل نفسية وعوامل خُلُقيَّة وعوامل مصلحية"([5]).
وفي سبيل دراسة منصفة وعلمية ورصينة لخلفيات إسلام عفلق –يرى جوزيف الياس- أنه على الباحث أن يدرس "ظروفه الذاتية، وبيئته الاجتماعية والسياسية، وأن [يدرس] تطوره الثقافي والفكري، عبر آثاره نصاً نصاً، وربما كلمة كلمة"([6]).
3- يقول عنه أحد عارفيه، سامي الجندي، بأنه خجول، إنطوائي إلى حد ما، مثالي.. لقد أنمى في ذاته الجانب الروحي، فغلَّبه على المادة، وغدا ذا نزعة روحية وإنسانية، وفي سلوكه "طيب الفنان وعصبيته"([7]). وإن عفـلق -يتابع الجندي- أجهض الفنان في ذاته كي يعيش في الحزب؛ فهو فنان قبل أن يكون عقائدياً، بل ربما كان الفنان والعقائدي الحالم([8]).
4- يقول أحد دارسيه إنه قد "أكثَرَ من التنظير، بل من أحلام العقيدة، حتى أرهق رفاقه وتلاميذه، بل وأَمَلَّهم أحياناً، وما مبعث هذا كله غير التفوق الروحي وغَلَبَة النزعة الفنية عليه". وما زال "الأستاذ [عفلق] يسمو بالعروبة، حتى حقق "التوحُّد" بينها وبين الإسلام، وربما غدت العروبة عنده "عروبة إسلامية"، وغدا الإسلام عنده "إسلام العرب"([9]).
5- وإننا إذا عدنا إلى نصوص عفلق، ذات العلاقة بأفكاره حول القومية والدين، نجد أنها مليئة بالمصطلحات والتعابير التي تؤكد انتماءه للمنهج الصوفي، وننقل بعضاً منها: إن القومية هي حب قبل كل شيء- القومية قَدَر مُحَبَّب- القومية إيمان قبل كل شيء- فالماضي الذي تحنُّ إليه الأمة، وتجد فيه ثروة لها وقوة، هو الزمن الذي تحققت فيه روحها- كان فقدان الوحدة الروحية هو الأساس الذي يجب أن ينصبَّ عليه التفكير- وارتفاعاً إلى مستوى جديد من التفكير والأخلاق والجو الروحي- فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، أي منذ مئات السنين يقرأون السيرة [سيرة النبي محمد] ويترنَّمون بها، ولكنهم لا يفهمونها لأن فهمها يقتضي درجة من غليان النفس القصوى- فهذه الروح العفوية.. هي التي تميِّز بين الصدق والكذب.. هي المقياس وكلمة السر- حتى الآن كان يُنظَر إلى حياة الرسول من الخارج، كصورة رائعة، فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل لنحياها.
إستناداً إلى تحديد المنهج المعرفي الذي يستند إليه عفلق في رسم مشروعه الفكري العربي-الإسلامي يمكننا أن نتابع حوارنا مع الدكتور عمارة. وعلى أساسه قد نخلص إلى نتائج أكثر وضوحاً تجاه القضايا الأساسية: الإسلام والعروبة. ولكنه قبل ذلك كان لا بد أمامنا من أن نحدد المنهج الفكري الذي يستند إليه عمارة في بحثه عن الخط البياني الذي سلكه في بحثه عن التطور الذي حصل في "إسلام عفلق وعروبته".
3- المنهـج الفكري للدكتـور عمـارة:
كيف يفهم عمارة الإسلام؟ يقول: "إذا كان (الفهم البشري) له مدخل كبير في (علوم الشريعة).. فإن الشريعة هي الصيغة والمعيار لإسلامية علوم الحضارة في أمة الإسلام وتجربتها التاريخية" ([10]).
ومَنْ هُم الإسلاميون؟ يقول: هم كل "من يرى أن نهضة الإسلام لا تتحقق إلا بارتكاز النهضة على كل شُعَب الإسلام وأقسامه [العقيدة والشريعة والحضارة] دون استثناء.. فهم يستدعون للمشروع النهضوي كامل الإسلام: العقيدة والشريعة والحضارة .. يصوغون الإنسان وفاقاً لمعاييرها، ويحكمون المجتمعات بقِيَمها وقوانينها.. وهؤلاء هم "الإسلاميون" الملتزمون بكامل الإسلام منهاجاً شاملاً لكامل النهضة والحضارة الإسلامية.."([11])، أي منهاجاً كاملاً لكامل الحياة الدنيوية منها والأخروية.. وإطاراً جامعاً وحاكماً لكل شؤون العمران، عمران النفس والمجتمع على حد سواء.." (ص42).
4-دعوة من عمارة للتيار القومي إلى تبنِّي الإسلام كاملاً:
يقول عمارة: "فإننا لا نرجم بالغيب، ولا نبالغ إذا قلنا إن منطق هذا "التطور" في رؤية الرجل لمكانة الإسلام ودوره في مشروعه الحضاري حاكم بأن الطريق أمام هذا "التطور" -لدى التيار القومي- ما يزال مفتوحاً.. فيه العديد من الخطوات.. (ص48). وهذا ما يشجِّع د. عمارة كي يدعو الواقفين من الإسلام عند "الإسلام: الحضارة" كي يتَّسِقوا مع أنفسهم و"منطقهم" إلى التقدم لتبنّي كل الإسلام.. (ص48).
وهو بذلك يكون قد حدَّد الحوار تحديداً دقيقاً، وسقَفَه بمظلة من إسمنت مُسلَّح. وعلى كل من يدعو إلى الإسلام، بطريقة أو بأخرى، أن يؤهِّل نفسه كي يستظل بهذه المظلة دون غيرها.
أما بالنسبة للتيار القومي الإسلامي –كما يسميه- والذي يمثِّله ميشيل عفلق بمشروعه الفكري، فقد أبقى عمارة أبوابه مفتوحة من جوانبها وسقوفها. باختصار أبقاها من دون حدود. أَوَلم ينهِ عمارة كتابه قائلاً: "هكذا انفتح المشروع القومي، الذي قدَّمه ميشيل عفلق، عن الإسلام.. والمسلمين.. والإسلاميين.. وبقي أن تبلغ الرسالة كل فصائل التيار القومي العربي.. فينفتح هذا التيار على الإسلام.. والمسلمين.. والإسلاميين.."([12]).
ويدعو عمارة الإسلاميين القوميين إلى مبادلة القوميين الإسلاميين أنفتاحهم([13]).
من المفيد أن تنفتح أبواب الحوار أمام تيارين رئيسين، بل نعدُّها من الحاجات الملحَّة، لأجل توحيد الرؤية الفكرية-السياسية للعرب، التي بدونها لن يتَّفقوا على مضمون نظام سياسي يخضعون له على قاعدة العدالة والمساواة بين المواطنين، على أساس مواطنيتهم وقوميتهم، وليس على أساس انتسابهم لدين معيَّن.
من بعد أن أوضحنا، من وجهة نظرنا، مناهج الطرفين المطلوب منهما أن يتحاورا. وأوضحنا الحدود التي يقف عليها كل منهما، أصبح من اللازم علينا أن نعيد قراءة نصوص عفلق، وهي النصوص نفسها التي قرأها الدكتور محمد عمارة، بطريقة مختلفة حتى لا يحصل التباس واختلاط بين الحدود حول المواضيع التي ستوضع على طاولة الحوار إذا ما استجاب المعنيون إلى دعوة عمارة واختاروا طريق الحوار سبيلاً للاتفاق.
ونحن بدورنا نضم صوتنا بإخلاص إلى جانب صوته لأنه لا بديل عن الحوار الهادئ والموضوعي والهادف، أولاً وأخيراً، إلى تأمين مصلحة هذه الأمة التي هي أمة للجميع شاؤوا أم أبوا. وعليهم جميعاً أن يفخروا بأنهم ينتمون إلى أمة عربية، وهم وليس غيرهم يعطون صورة مشرقة عنها، لأن الأمة ليست سوى أبناءها، وهي ليست بأرضها ولا سمائها، بل هي عبارة عن بشر يعملون ويفكرون ليؤسسوا حضارة مادية وروحية / فكرية لهم ولأبنائهم من بعدهم.
5-كيف نقرأ، "إسلام عفلق" و "قوميته" من خلال نصوصه؟
كما أصبح واضحاً في السابق، يمكن أن يمتلك كل شخص عامل في الحقل الفكري-السياسي شخصيتان: شخصية السياسي الذي يعمل من خلالها على الإطلالة العلنية، بما لهذه الشخصية من مقومات العمل في المجتمع، لأن الجانب السياسي هو جانب يشترك فيه الإنسان العامل في السياسة مع فريق عمل لا بد منه لإنجاح سياسة ما يؤمن بها الشخص، ويساعده على تنفيذه فريق عمل لا بد من أن يكون متجانساً معه في تفاصيل المشروع.
أما الشخصية الثانية فهي تمثل السمات الشخصية والثقافية الخاصة بكل شخص بمفرده، ويأتي في القلب من تلك السمات المنهج المعرفي الذي يميز الإنسان - الفرد عن غيره من البشر الآخرين، حتى الذين يعملون معه في حقل سياسي واحد ومتجانس.
في حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان عفلق من أبرز مؤسسيه، زملاء ورفاقٌ وقادة وحزبيون وأنصار ومؤيدون وتلاميذ ومحاورون.. وكلهم يؤمنون بالقومية العربية والوحدة العربية، ويؤمنون بأن الإسلام من أهم العوامل التي أثَّرت في تكوين أمة عربية واحدة في داخل شبه الجزيرة العربية وفي خارجها من خلال الفتوحات الإسلامية ومن خلال تعريب الشعوب التي لم تكن بالأصل عربية... ولكنهم لا يتجانسون حول تحديد كل العوامل الإسلامية التي أسهمت في تكوين وبناء القومية العربية، وهم لا يتفقون حول ما سيؤخذ به من عقائد الإسلام وشرائعه وكيف ومتى؟ وعلى الرغم من ذلك فهم يتوافقون على جوامع مشتركة كثيرة وأساسية؛ ويصل توافقهم إلى درجة كبيرة من الائتلاف والتنظيم والعمل والنضال على طريق واحد وفي سبيل أهداف مشتَرَكة، ويصل بهم حدود التعاون والاتفاق إلى وحدة نضالية تقتضي، أحياناً كثيرة، الموت والشهادة في سبيل تحقيقها في خندق واحد.
فاستناداً إلى هذه الحقائق سنتجاوز، في أثناء قراءتنا نصوص ميشيل عفلق، موقعه التنظيمي كأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي، وسنركِّز عليه كصاحب نهج معرفي يتميَّز به عن غيره من رفاق دربه طوال عقود طويلة من الزمن.
كنا قد أوضحنا نهج ميشيل عفلق المعرفي، وحسبنا أنه ينتمي إلى صف الذين انتهجوا طريق المعرفة الصوفية لشؤون الحياة، ويأتي على رأسها الدين الإسلامي.
نحن لا يضيق صدرنا أبداً إذا انطلق القومي العربي من الطريقة التي يريد لمعرفة قوميته العربية، ولكن على شرط أن تكون قومية إنسانية، ولكن يضيق صدرنا بمن ينكر قوميته، حتى ولو كانت طريقته مستندة إلى ما يدَّعيه البعض ذرائع إلهية.
6- قراءتـنا لـ"قوميـة عفلق"
فالقومية [عند عفلق] حب تارة، وقَدَرٌ محبَّب طوراً، وإيمان حيناً، وروح حيناً آخر. والصلة بها دوماً هي صلة العاشق أو المتصوف. وهكذا باتت "الأمة العربية أو القومية العربية فكرة خالدة، وقيمة مطلقة، وبكلمة واحدة هي روح.. ويمكن القول إن هذه القومية العربية قد ارتفعت إلى مستوى الروح العلوية"([14]).
وحول تعريفاته للقومية بأنها "حب قبل كل شيء". أو أنها "إيمان قبل كل شيء". أما هل يسبق تعريف القومية حبه لها، فهو يقول: "الحب أيها الشباب قبل كل شيء، الحب أولاً، والتعريف يأتي بعده.."([15]).
يقول د. جوزيف الياس إن عفلق يخاف على القومية من إسار المعرفة الذهنية والبحث الكلامي، لأنها تفقد "بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة"، ويعجب عفلق ممن يُعلِّقون "إيمانهم بالقومية على درجة التعريف"، مع أن الإيمان يجب أن يسبق كل معرفة وتعريف، ويكتفي الأستاذ بالصلة الروحية والانتماء العاطفي. لأن القومية التي ينادي بها هي "حب قبل كل شيء، وهي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته.. والقومية ككل حب تفعم القلب فرحاً، وتشيع الأمل في جوانب النفس.."([16]).
لكن إذا حسبنا، نحن، أن المعرفة تسبق الحب لا يضير نظرة عفلق شيئاً، فهناك قطاع من الناس يفهم القومية كما يفهمها عفلق، وآخرون يتعارضون معه. فإذا كانت النتائج واحدة، وهي حب القومية، سواء أتى حب القومية أولاً أو أتى ثانياً، فماذا يضير القومية والقوميين؟!
إستندت حساباتنا إلى أن المعرفة قد تسبق الحب انطلاقاً من المثال التالي: قد يضيع إنسان عن أسرته في سن الطفولة، وتربيه أسرة أخرى، فينشأ ويكبر ويجهل من هم أهله الحقيقيون، فهو إذاً لا تربطه مع هؤلاء الأهل أية رابطة حب كالتي يشعر بها المرء نحو أمه وأبيه، ولكنه عندما يتعرَّف عليهم يستعيد علاقة الحب الحقيقي معهم. فهل إذا سبقت المعرفةُ الحبَّ يُضير علاقة الولد شيئاً، الذي تعرَّف على أهله بعد انقطاع، مع والديه؟
إن الفرق بين من يرى أن يسبق حب القومية تعريفها، أو أن يسبق تعريف القومية حبها، هو الفارق في زاوية الرؤية. وهنا تظهر دائماً زاوية الرؤية عند عفلق متعلِّقة بالمنهج الصوفي، فالمتصوفون يؤمنون بأن المعرفة الحقيقية هي ما يقذفه الله في القلب، ويُبصِر المؤمنون الصوفيون –حينئذٍ- ما لا يبصره غيرهم من الذين يلجأون إلى المعرفة من زوايا أخرى. وهنا ننقل نصاً لعفلق يؤكد ما نقول عن أنه يرى من زاويته الخاصة بشكل جلي وواضح. فهو، بمناسبة تكريم وفد سوداني شقيق، يعلن أنه لا يتصوَّر قوميته العربية تصوراً واضحاً وقوياً إلا عندما يتصل بأبناء الأقطار العربية أو يشارك في العمل من أجل قضية قطر عربي. وفي مثل هذه الحالات، تتجسَّم في نفسه "هذه الصلة القومية العميقة التي تفوق الوصف"، ويمتلئ طريق العمل أمامه بالنور، وتبدو أهدافه واضحة جليَّة([17]).
وهناك مثال آخر يقول فيه عفلق: "ونحن نريد أن تستيقظ في المسيحيين العرب قوميتهم يقظتها التامة، فيروا في الإسلام ثقافة قومية لهم..يجب أن يتشبَّعوا بها ويحبُّوها"([18]).
فهل في دعوة عفلق ما يُطمئن المسيحيين؟ إنني أحسب أنه لن يستطيع أن يزرع هذا القول الاطمئنان في نفوسهم، لأنه لم يحدد التفاصيل التي على المسيحيين أن يحبوها في الإسلام، وإذا كانت ماهية هذا الإسلام واضحة عنده كصاحب تجربة معرفية صوفية ترتاح في حالة تأمل روحية فهي لن تكون واضحة أو مفهومة عند المسيحيين بشكل عام.
نردُّ على دعوة عفلق الموجهة للمسيحيين بأن يعدُّوا الإسلام أثمن ما في قوميتهم، وهو الذي ينظر للإسلام بعمق صوفي يرى فيه، من خلال هذا المنهج المعرفي، ما لا يراه فيه غيره، أنه إذا لم يرَ المسيحيون الإسلام بنظرة صوفية نتساءل: هل ننتظر من المسيحيين أن يستطيعوا رؤية الإسلام بمنظار صوفي حتى نعدهم عرباً؟
نحن، من وجهة نظرنا، لن ننتظر ذلك، لأننا لن نتوهَّم أن يصبح الناس ذوي منهج صوفي بالمعرفة لكي يعترفوا بقوميتهم العربية؛ وإنما هناك عوامل أخرى، إذا ما اقتنعوا بأهميتها وصلاحيتها لتطمينهم فإنهم سيخضعون في ظل نظام قومي لنظام عادل لا ينتقص من مواطنيتهم شيئاً. وما يؤيد استنتاجنا هو ما ألمح إليه عفلق، بشكل يدعو للاطمئنان، عندما قال: "العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى"([19]).
لكن عفلق يطوِّر موقفه من القومية، فيبتعد بها عن نهج المعرفة الصوفية القائمة على العاطفة، ويتقرَّب بها من الفكر العلمي، فهو يتساءل في أواسط الخمسينات: "هل ستبقى قوميتنا العربية بهذا الشكل العام المجرد، الذي يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر.. أم أن خطورة المعركة التي نخوضها تتطلَّب أن ننظِّم عملنا، ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي مكتمل الجوانب.."([20]).
يوجز د. جوزيف الياس تطور الفكر القومي عند عفلق، قائلاً: "بدأ الأستاذ عفلق كتابة النص القومي منذ 1940م، وقوميته هي، في مراحلها الأولى، قومية وجدانية عاطفية، ضعيفة الأركان إلى حد ما، فهي: حب قبل كل شيء، وهي قَدَرٌ محبَّب، وتذكُّر حي، والإيمان بها يسبق أي تعريف... وتُعدُّ المرحلة الثانية الأغنى والأخصب في كتابة النص القومي، والأنضج في تعريف القومية وتطور مفاهيمها.."([21]).
فهل انقلب عفلق على رؤيته المعرفية السابقة؟
في الوقت الذي ننتظر فيه أن تقوم أبحاث أكاديمية جدية لتجلي جوانبه بشكل أدق، سنحاول أن نجيب عليه، من جوانب معرفتنا بالأجواء السياسية والنضالية التي كانت تحيط بأمين عام لحزب سياسي فاعل في الدائرة العربية، والذي يستوقفنا هو أنه ليس مفكراً منعزلاً عن الحركة النضالية لحزبه، وعن حركة الصراع الدائم التي تواجهها أمته العربية مع شتى القوى الداخلية والخارجية. فهو يواجه تحديات متنوعة ومن مصادر مختلفة: من تنوع التركيبات الذاتية للمنخرطين إلى جانبه في الساحة النضالية والسياسية والفكرية، إلى تنوع علاقاته السياسية والفكرية مع قوى واتجاهات تختلف معه أو تتوافق جزئياً مع اتجاهاته واتجاهات الحزب الذي يقوده، إلى تنوع العلاقات الشعبية العربية من أقطار تتمايز عن بعضها في بعض تفصيلات طموحاتها واتجاهاتها السياسية القطرية على الرغم من انتمائها إلى قومية واحدة معه ومع حزبه.
في ظل أجواء محيطة به، لن يبقى ميشيل عفلق الرجل المفكر المنغلق على فكره، وحتى على رؤيته المعرفية، فهو بلا شك مضطرٌ لأن يتفاعل مع ذلك المحيط الواسع. فهو في الوقت الذي يقع على عاتقه واجب أن يعطي، عليه أن يتفاعل مع مختلف تلك الاتجاهات والتحديات المحيطة به وعليه أن يأخذ منها، فالمعرفة أخذٌ وعطاء تحكمهما علاقة جدلية متواصلة لن تنقطع. وهي وإن كانت لن تغيِّر كثيراً في منهجه المعرفي إلا أنها لن تمر إلا وتترك لمسات مؤثرة من هنا وهناك على محتوى أفكاره ومنهجه المعرفي.
فهل أسباب ما حصل من تطور في رؤية عفلق المعرفية حول موقفه من المسألة القومية، ستكون هي ذاتها فيما له علاقة حول موقفه من الدين بشكل عام، وعلى صعيد الإسلام بشكل خاص؟ فلنحاول أن نقرأ موقفه من الدين والإسلام من داخل دائرة المنهج المعرفي الذي اقتنعنا بأنه المنهج الذي يسير عليه عفلق في نظرته للقومية.
7- كيف نقرأ "إسلام عفلق" من خـلال نصوصـه؟
نشأت الحركة الصوفية أساساً من عجين الإسلام-الروح، كرد فعل على جمود قواعد الفقه، الذي ركَّز على كل ما له علاقة بالعبادات والشرائع الدنيوية. فأخذ الدين يظهر لبعض المسلمين الذين كانت قواهم العقلية متقدمة على مستوى عامة المسلمين وكأنه عبادات وقوانين جافة تعكس نفسها على الروح والعقل البشري فتأسره في داخل مجموعة جافة ورتيبة من العادات والواجبات والتقاليد التي تزرع الجفاف في الروح، فتمنعها من أن تجدد نفسها لترتفع عن جفاف الحياة الدنيا ومادتها الجامدة، وتمنع النفس من أن تحلِّق في السماء لتجد لذتها في التفكير والاكتشاف والاتصال بالروح العلوية، فتسمو بها ومعها إلى آفاق رحبة تملأها السعادة الفكرية والروحية، تلك الحياة التي لا تشعر العامة من الناس بلذة طعمها وحلاوته.
إننا نحسب، وإلى أن يثبت العكس، أن عفلق، في بواكير حياته ومن خلال ثقافته الفلسفية المتأثرة بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عندما كان يتابع دراساته الجامعية في فرنسا، منطلِقاً من سماته النفسية الخاصة في طفولته، فهو ربما قد عاش تجربة صوفية خاصة ذاق من خلالها طعم السعادة النفسية - الروحية. لقد اجتمعت لديه السمات النفسية الخاصة إلى حقل ثقافته: فتعاون الاستعداد النفسي مع محتوى ثقافته لكي يُثبِّتا عنده قاعدة خوض تجربة فريدة من نوعها، قلَّما تتيسر لآخرين، فلم تكن سوى التجربة الصوفية التي لاقت أعلى مستوى من النضج في الفلسفة الإسلامية. وإذا عرفنا أن التجربة الصوفية عند المتصوفين العرب كانت ذات علاقة وثيقة مع الدين الإسلامي، فهو كان ملهمها؛ وأن الإسلام وُلِد في الأرض العربية وأُنزل باللغة العربية وبلِّغ للعرب بواسطة رسول عربي، وكلها عناصر لها علاقة بالقومية العربية، التي كانت ملهمة لعفلق، لاستطعنا أن نعرف لماذا تميّز ما سماه عمارة ب"إسلام ميشيل عفلق".
كانت تجربة عفلق في معرفة الإسلام من خلال معاناته الصوفية هي التي شكَّلت الولادة الأولى لمنهجه المعرفي. فهو عرف تجربته الصوفية في الإسلام أولاً، وانعكس هذا المنهج على تجربته في الفكر القومي، ولهذا وجدنا أنه في تلك التجربة الأولى، وفي مرحلة صفائه الصوفي، قد جرَّد عفلق القومية من كل ما هو مادي حتى من أكثر حقوقها العلمية ليضعها في مصاف الروح والمعرفة الروحية.
فإذا كان الأمر على ما وصفناه، فقد يتساءل القارئ عن السبب الذي دفعنا لأن نبحث عن "قومية عفلق" في المرحلة الأولى من بحثنا. وإننا لا بد من أن نجيب: إذا كانت التجربة المعرفية الصوفية لعفلق قد ابتدأت من الإسلام، فإن عفلق –كمفكر قومي- وضع القومية العربية في المقام الأول، وعمل على وضع العوامل التي أسهمت في تكوينها، وتأتي على رأسها الدعوة الإسلامية، في المقام الثاني. وكي لا نستبق النتائج في هذا الجانب فسوف نقوم بتوضيحه في الفقرات اللاحقة من هذا البحث.
8-ممـيزات "إسـلام عفلق":
مرَّ الخط البياني، لتطور موقف عفلق من الإسلام –كما يرى عمارة- بمرحلتين: الأولى، وهي قبل العام 1976م، والثانية هي التي جاءت بعدها.
ففي الأولى كان إسلامه غامضاً، أما في الثانية فيرى، بفعل تصاعد المد الإسلامي وخصوصية الوضع العراقي، فقد اندفع للتفرغ الفكري في سبيل إنجاز مشروعه عن الإسلام.
نحن نؤيد عمارة في أن موقف عفلق من الإلحاد، الذي كان محتوى للماركسية ودليلاً نظرياً للأحزاب الشيوعية العربية، كان يشكِّل حافزاً أساسياً لإعطاء أهمية بارزة للدين في مشروعه الفكري. ولكننا نراه، نحن، يقف إلى جانب الدين من ضمن رؤية فلسفية-معرفية وليس فقط من دائرة ردة الفعل ضد تيار حزبي شيوعي-ماركسي كان من أهم الحركات الحزبية الجديدة التي تأسست على الساحة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية الإسلامية في الربع الأول من القرن العشرين.
وهذه بعض النصوص التي تدل على ما نقول: "إن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان"([22]). وإن الإنسان "فرد حرٌّ وُجِد لغاية سامية في هذه الحياة.. لا يكفيه ولا يغنيه أن يأكل ويشبع"([23]).
ولكن الدعوة إلى الروح، بمنهج معرفي صوفي، لم تكن تعني –عند عفلق- المحافظة على الأوضاع الفاسدة. وهذه الأوضاع هي حالات الجمود والمحافظة والجهل وتشويه رجال الدين للدين.. وهو وإن نظر بسلبية إلى رجال الدين لكنه يرفض أن يُقابل العربيُّ هذا التشويه بردة فعل تتَّجه نحو الإلحاد([24]).
فعفلق، إذاً، من هذا المنطلق كان يخوض صراعاً بين المادة والروح بأكثر منه صراع بين الإسلام والدعوات المادية الإلحادية. وعندما تكامل اقتناعه بالتفاعل المتبادل بين العروبة والإسلام-كما يرى- إختار الإسلام كمنهج روحي للمعرفة الصوفية، وكدعوة روحية كان لها فضل كبير ومهم في بناء القومية العربية. فكان اختياره، كما نرى، ليس مستنداً إلى مفاضلة بين دين سماوي ودين سماوي آخر، أو بين نظام سياسي علماني ونظام سياسي إسلامي، ولا على أساس أن هذا الاختيار الديني له علاقة بالنجاة من النار في الآخرة.
أما في المرحلة الثانية، والتي يستنج منها الدكتور عمارة أنها بتأثير من المد الأصولي الإسلامي، بما يستنج القارئ منه أن هذا المد قد أثار انتباه عفلق وكشف له عن إيجابيات لم يكن قد اكتشفها، بعد، في الإسلام.
وهنا، وقبل أن نسترسل في عرض وجهة نظرنا، لا بُدَّ من أن نتوقَّف عند ما يحسبه عمارة أن المد الأصولي كان عاملاً من عوامل تطوير مشروع عفلق الفكري القومي الإسلامي، على قاعدة أن هذا المد قد فتح عيون عفلق على حقائق عن الإسلام لم يكن يراها في السابق، فنقول: عندما يحدد عمارة أن هذا التصاعد كان ذا تأثير على عودة عفلق إلى التأكيد على أهمية الإسلام، فهذا يعني أن هناك قصوراً في الفكر القومي البعثي تجاه الإسلام، وجاء المد الإسلامي الجديد ليبرهن على أنه بديل جدِّي عن الفكر القومي. إننا نرى، من خلال ما يرمي إليه عمارة أنه يتسرَّع في أحكامه حول تقدُّم فكر ما أو تيار ما من دون الإلمام بالجوانب التي تحيط به وتدفع به إلى الواجهة أو تبعده عنها. فماذا يعني عمارة بتصاعد المد الإسلامي؟ هل هو ظاهرة إيجابية؟ وهل هو بديل إيجابي لكل ما كان معروفاً من أفكار سبقته؟ هل هذا التصاعد كان ظاهرة سلبية أم إيجابية؟ وهل المد الإسلامي، الذي يعنيه عمارة، هو مدٌّ واحد مُوَحَّدٌ؟ وهل أهداف كل تياراته مما يؤيدها عمارة، أم أنه يؤيد البعض ويرفض البعض الآخر؟ ونحن، بدورنا، نشك في أن عمارة يحسب أن هذا المد، بكل تياراته وأفكاره ومشاريعه الدينية والسياسية، يحوز على رِضاه وقناعاته.
وأما ماذا يقصد بتراجع البريق القومي العربي، كوجه آخر للمعادلة التي امتد فيه طرف الإشكالية وانكفأ الطرف الآخر؟ ونحن نقف عند التعبير (بريق) لأننا على يقين بأن عمارة لا يطلق أحكاماً سريعة، ولا يستخدم مصطلحات من دون مضمون، وهو الباحث المتعمِّق. فهل يعني أن المشروع القومي العربي كان "برقاً" عابراً يحصل نتيجة احتكاك غيمتين عابرتين في السماء، فما إن يخطف نور البرق الأبصار حتى نراه يختفي بسرعة مُذهِلة، فهل الفكر القومي هو غيمة عابرة ظهرت مرة واحدة ولن تعود لأن بريقها اختفى؟
كان على الدكتور عمارة أن يحدد موقفه الواضح والعلمي من أفكار هذا التيار، الذي لم يكن –كما هو الآن- واحداً مُوَحَّدَاً، أين تبدأ سلبياته وأين تنتهي؟ وهل لهذا التيار إيجابيات؟ وأين تبدأ هذه الإيجابيات وأين تنتهي؟ وإذا كان ما أشار إليه أنه المشروع القومي الذي يقف عند حدود علاقة الإسلام بالحضارة، أي الذي يؤمن بالإسلام: الحضارة، يشكل ردَّاً على أسئلتنا، فإننا نحسب أن هذا الرد ليس كافياً في معرض الرؤية العلمية والموضوعية. وإذا كان من المستحسن والأفضل، في سبيل رؤية علمية وموضوعية، أن يتطرَّق عمارة إلى الأسباب التي من أجلها وقف التيار القومي، أو أحد أجنحته، عند الإسلام: الحضارة، ووقف سلباً في وجه الإسلام: الشريعة، والعقيدة – الإسلام: الرسالة المقدَّسَة أو التراث المقدَّس.
ونتمنى، أيضاً، على الباحث أن يحدد لماذا تراجع الأنموذج والخيار الاشتراكي العربي. هل لعِلَّة نظرية فيه؟ أم لأسباب وعوامل لا نحسب أنها غائبة عن ذهن باحث عريق وذاكرته. ولكننا نرى أن عند عمارة علامات قصور في ابتعاده عن الاهتمام بأفكار وتفصيلات المشروع القومي العربي، أو عن متابعتها، بشكل علمي وموضوعي من خلال مصادرها الأساسية: في الفكر والتطبيق السياسي. وكان عليه أن يولي اهتماماً خاصاً لكل العوامل العامة والخاصة، الداخلية والخارجية، التي أعاقت وتعيق –ولا تخفف البريق- وتقف في وجه التيار القومي لتمنعه من تحقيق أفكاره ومشاريعه.
لكن الباحث، بدلاً من ذلك، يستند في أحكامه ونتائجه إلى ذكريات محدودة وبعيدة في الزمن تعود إلى الخمسينيات. فكانت مصادر معرفته، وهو الباحث الجدي والموضوعي، تعود إلى بعض العلاقات مع بعض البعثيين، أو من خلال بعض الممارسات الحزبية المحدودة التي كان شاهداً عليها.
وعلى الرغم من توضيحه للأسباب التي جعلته يرى أن المشروع القومي العربي الفكري - السياسي "متميز إلى حد المغايرة والعداء عن التيارات الرجعية والجمود.. إلا أنه، أيضاً، [وهو الأهم في موقفه] متميز.. إلى حد المغايرة والعداء عن التيار الإسلامي، الذي يتَّخذ من الإسلام منطَلَقاً للإحياء والتجديد والنهضة والتغيير.."([25]).
وهو، من جانب آخر، جعل من مشروع عفلق الفكري، من خلال تحديده لمراحل تطوره، (حرباء) تتلوَّن بتلون الطبيعة التي تعيش فيها. ولهذا حسب أن المشروع تأثر بالعلمانية في المناخ السوري-اللبناني الذي تتعدد فيه الانقسامات الطائفية والمذهبية. وأنه تأثر بالإسلام في المناخ العراقي لأن العراق –كما يحسب عمارة- مُعَبِّرٌ عن "سُـنَّة العراق". وهنا تغمرنا الدهشة حول اقتناع عمارة بدقة تلك العوامل التي يحسب أنها قادت عفلق لتطوير مشروعه الفكري، ونحن –بدورنا- نحسب أن عمارة قد ركَّبها بشكل يسمح له أن يبرِّر نتائج بحثه، فنتساءل ونشكر الله أن عفلق لم يسكن في مناطق البربر في المغرب العربي، أو أنه لم يسكن السعودية الوهابية وإلا لكانت تلاوين فكره قد تلوَّنت بصبغة (قومية بربرية) أو بمسحة مذهبية وهابية..!!!
نحن نرى أن عفلق قد وجد انفتاحات عند إسلاميي التيارات الإصلاحية، ومنهم الدكتور عمارة، وهذا ما يكون قد شجعه للتقدم خطوة إيجابية نحوهم، وليس على أساس أنه أصبح يرى في الإسلام، بعد انتشار المد الأصولي، ما لم يكن يراه في السابق. وهو وإن أكَّد على أهمية الإسلام، حينما عدَّه أباً للعروبة، لم يكن يعني غير أن الحوار بين تيارين أساسيين هو ضروري لحسم السجال الدائر في داخل الأمة للتفرُّغ لخوض المعركة مع الخارج، وهو الذي يقدِّم العروبة دائماً على كل شيء حينما يقول قبل وفاته بزمن قليل جداً:
"بدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام..
"لقد وُجدت العروبة قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا..
"لقد وُلِد الإسلام في أرض العروبة.. ولكنه أصبح هو أباها.."([26]).
"والشيء الطبيعي هو أن يكون انفتاح التيار القومي على الإسلام موقفاً فيه الحرارة، والحنين، والغيرة.. والاعتراف بالفضل، وبما يشكِّله الإسلام من ضمانة مصيرية لقوميتنا ولمستقبلنا كأمة.. ومن هذا المنطلق، يستطيع التيار القومي أن يحاور التيار الديني حوار الحب والعقل.."([27]).
إن في الدعوة التي وجَّهها عفلق إلى الإسلاميين للحوار على قاعدة الحب والعقل وجهان:
أن تكون طاولة الحوار مستندة إلى ثقة حب متبادَلَة بعيدة عن هواجس الريبة والخوف، لأن الدعوة إلى القومية العربية غير بعيدة عن دائرة احترام الدين، كخيار روحي، وعن الإسلام كأهم العوامل التي أسهمت في تكوين القومية العربية، كما هي عليه في الوقت الراهن. كما وأن يكون العقل، المستند إلى الثقة وليس إلى الريبة، حَكَماً يعود إليه المتحاورون كلما أعوزتهم مواضيع الحوار إلى مرجعية تجمع بينهما، على قاعدة المصلحة القومية العليا لشتى التيارات الفكرية والسياسية والدينية والقومية.
ولكن، هل فتح عفلق باب الحوار مع الإسلاميين من دون أن يستند إلى مسلَّمات في مشروعه؟
كانت القومية العربية، ولن تكون غير ذلك في مشروعه الفكري الخاص أو في مشروع الحزب الذي شارك في تأسيسه، في المقام الأول. ولأنه لم يكن يريد أن يتلوَّن في مواقفه أو لأن التلُّون بعيد كل البُعد عن مواقفه، ولأنه كان صادقاً في منهجه المعرفي، وقف حتى حدود التعصب ضد دعوات الإلحاد، كمظهر ثقافي تغريبي، وإلى جانب الإسلام كدعوة روحية توحيدية. وهذا لم يمنعه من انتقاد ما أفرزته الدعوة الإسلامية عندما تحوَّلت إلى طوائف ومذاهب نخرت في جسم الأمة العربية شقاقاً وتخريباً. وحسب أن الحل يتم من خلال العودة لصفاء المرحلة الأولى في الدعوة الإسلامية؛ ولكنه لم يحدد متى ابتدأت تلك المرحلة ومتى انتهت، وما هي العوامل التي أدَّت إلى انتهائها، أما نحن فنحسب أن مظاهر الفِرقة والتشتت قد ابتدأت بعد وفاة الرسول مباشرة، وأسست لافتراقات كبيرة وانشقاقات مذهبية، سواء اتخذت ذرائع سياسية أو قبَليَّة أو دينية، شرذمت الإسلام إلى مئات الفرق، وكانت كل منها تحسب أنها تمثل الإسلام الصحيح، وغيرها من الفرق والمذاهب قد انحرفت عنه. وكانت كل الفرق، وما زالت، تدعو إلى وحدة الإسلام ولكن على شروطها المذهبية. فليتفق الإسلاميون أولاً حول أي إسلام يريدون أن يحاوروا غيرهم قبل أن يدعوا الآخرين إلى ما دعا إليه عمارة، وهو العارف أكثر من غيره صعوبة هذه المسألة، فهو الباحث الضليع في شؤون تيارات الفكر الإسلامي ومدى افتراقاتهم العقائدية والسياسية. وهو في الوقت الذي يرى فيه نفسه مدافعاً عن الإسلام الصحيح، يراه الآخرون مؤسساً لاتجاه جديد ومذهب متميَّز. وإن كنا نحن نرتاح لمنطلقاته العقلية إلا أننا عندما نريد أن نجلس إلى طاولة الحوار معه فإننا لن نشعر بأنه يمثِّل كل الإسلام: التيارات والمذاهب. لأننا إذا توصلنا معه إلى نتائج محددة فقد يرفضها تيار إسلامي آخر أو تيارات إسلامية أخرى. وهكذا يبقى الحوار مستمراً مع مختلف التيارات الإسلامية من دون أن نحلم بأننا سنصل إلى نتائج تحقق وحدة الرؤية الفكرية-السياسية في سبيل التفرغ إلى معارك المصير مع أعداء الأمة.
ولكن أي إسلام هو الذي يريده عفلق أن يكون متَّصلاً بالعروبة؟
يقول عفلق، إن "أكبر كتاب عن الأبطال القدماء ليس تلك الصحائف الصفراء التي يحميها المؤرخون الشيوخ، بل هو وجود من يضارع أولئك الأبطال في البطولة ويتابع سيرتهم" ([28]).
وهل يُجمِّد عفلق التاريخ عند الحدود التي وصل إليها السلف؟ وهل يعني أن الماضي هو العامل الوحيد الذي على العرب أن يقفوا عنده؟ أم عليهم أن يختاروا من التاريخ الصفحة المشرقة، وينقدوا الصفحة المظلمة كي يتَّخذوا منها درساً لمصلحة حاضرهم؟ هنا يقول عفلق، ليس عن الدين فحسب بل عن كل ما له علاقة بهذا التاريخ من علم وفلسفة وحضارة مادية: " العبرة كل العبرة، في حاضر الشعب لا في ماضيه، لأن الحاضر إذا كان قوياً يسهل عليه الانتفاع بقوة الماضي"([29]).
فالدين، بشكل عام، هو الركن الأساسي في"نظرة الانسان إلى الكون"([30])، وللإسلام، كثقافة، موقعه في التاريخ الفكري والسياسي والنضالي للأمة العربية، وله تأثيراته الثقافية العميقة في المجتمع العربي، فالإسلام هو جزء من الماضي، وهو "حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، له مكانته الخاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها"([31]).
فالمسألة الدينية ليست عرضية في التاريخ العربي، بل هي من أبرز المسائل في المجتمع العربي الحديث، والديني ليس شيئاً ثانوياً مصطنعاً في حياة الأمم ([32])، فهو موجود في صميم القضية العربية وفي ضمير المواطن العربي([33]).
- يقول عفلق في العام 1946م: "لكل أمة، في مرحلة معينة من مراحل حياتها، محرك أساسي.. كان في وقت ظهور الإسلام هو الدين.. أما اليوم فإن المحرك الأساسي للعرب هو القومية.. وحدها.. والإيمان القومي وحده.." (ص89).
- وفي العام 1976م، يقول: "فقضيتنا، إذاً، صعبة إلى حد أنه لا ينجح فيها إلا المستوى الذي هو بين الأرض والسماء.. أو المستوى الذي تكون فيه الأرض والسماء ممتزجتين" (ص91).
فالبعث، كما يراه عفلق هو "تجديد للقِيَم الروحية والأخلاقية التي عرفتها أرض العروبة في عهدها الذهبي". الأمة في "رسالتها التاريخية العظيمة"، و"مستوى الرسالة الروحية"، و"إن نهضتنا العربية الحديثة، هي من ذلك النبع، من ينبوع الرسالة الأولى" (ص93).
فالعرب اليوم لا يريدون أن تكون قوميتهم عنصرية، بعد أن خبروا العنصرية وذاقوا ويلاتها، ولا يريدون أن تكون قوميتهم دينية، لأن للدين مجالاً آخر وليس رابطاً للأمة([34]).
كانت القومية تتمتَّع دائماً بالحد الأدنى من "المقومات الضرورية التي كونتها اللغة والدين والتراث، وهي الآن ترتفع فوق هذه المقومات جميعاً لتزداد حياة وإنسانية"([35]).
من المفيد أن نحاول معرفة ما لم يقله عفلق في الإسلام، والذي لم يرد في النصوص التي استند إليها الدكتور عمارة:
لميشيل عفلق، كما مرَّ معنا شخصيتان: شخصيته في منهجه الخاص في المعرفة، وشخصيته العامة من خلال موقعه السياسي والحزبي.
لقد عبَّر بشكل مباشر عما يريد أن يقوله عن الإسلام من خلال رؤيته إياه في أسلوب صوفي يرى إليه بما لا يراه غيره من أصحاب مناهج المعرفة الآخرين. ولم ينظر بتوسع إلى ما أتى بعد صفاء الدعوة الأولى من مذاهب وحالات من التفتيت التي أوصلت الإسلام إلى مئات من المذاهب والفِرَق المتناحرة طوال أكثر من ألف وأربعماية عام، ولا تزال.
ومن هنا علينا أن نرى ما لم يقله عفلق بشكل مباشر هو مما كان عليه أن يقوله. من أين أتت كل تلك المذاهب والفرق الإسلامية؟
هل هي شيء آخر غير الإسلام؟ وهل يحسب أنصار وأصحاب تلك الفرق / المذاهب أنهم خارجون عن خط الإسلام الصحيح؟ من هنا نتساءل: ما هو الإسلام الصحيح ومن هي الفِرق التي خرجت عن خطه؟ ومتى ابتدأت مرحلة صفاء الدعوة ومتى انتهت؟ وإذا كان طلب تحديد بداية ونهاية تلك المرحلة موجَّهاً إلى الحركات الإسلامية التقليدية أو المعاصرة، السلفية أو التقليدية، فهو موجَّهٌ، أيضاً، إلى ميشيل عفلق.
من خلال المحاولة للإجابة على هذا التساؤل تبدأ الإشكالية التي واجهت عفلق، والتي تواجه الدكتور عمارة، والتي تواجه كل الإسلاميين الذين يؤمنون بالإسلام الحضارة والعقيدة والشريعة. وهل يرى الدكتور عمارة إلى الصورة بغير هذا المنظار؟
يرد الجميع: أصوليون متزمتون، وأصوليون منفتحون، وقوميون إسلاميون.. بأن الإسلام الصحيح هو بالعودة إلى القرآن والسُّنَة!!!
ولكن هل قاموا بمراجعة نقدية جريئة وواضحة وواقعية؟
غاب عن بال الجميع أن الجميع، من المذهبيين: الذين اندثرت مذاهبهم، أو الذين ما زالت مذاهبهم حيَّةً تُرْزَق، يقولون إنهم يستندون –في عقائدهم- إلى القرآن والسنة؛ وإن تعاليم مذاهبهم لم تستند إلى غيرهما!!!
وكي لا ننخرط في جدال عقيم جديد قد يستمر ألفاً وأربعماية سنة أخرى، ونحن نحسب أنه سوف يستمر إلى أبد الدهر، علينا أن لا نهرب من رؤية النتائج خوفاً على قدسية النص، بل أن نواجه تلك التجربة الطويلة المرة، التي انخرطت فيها المذاهب والفرق الإسلامية، منذ وفاة الرسول مباشرة، في صراع دموي، دفعت فيه المذاهب الإسلامية الدم الغزير والعذاب المرير. فهل يوجد بين الإسلاميين من يحمل الراية أو يدق جرس الإنذار للكشف عن ذلك الواقع التاريخي المرير؟!!!([36]).
ما لم يقله عفلق بشكل مباشر، قاله من خلال مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، وإن العودة إليها في مصادرها تغني عن الجواب.
إن العودة إلى بعض القليل الذي قاله بشكل مباشر قد يفتح أمامنا بعض أبواب الحوار. قال، في سبيل تطمين المسيحيين الخائفين من العروبة، ما يلي: ""العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى"([37]).
لا يعني عفلق، هنا، أن الطائفة هي غير الدين، ولكن ضغط دين على دين لم يكن سوى وجهاً واحداً من وجوه الضغط الديني، وكان الوجه الآخر هو الضغط الذي تمارسه كل طائفة،من داخل الدين الواحد، على الطوائف/ المذاهب / الفِرَق الأخرى. ولقد مارس هذا الضغط، الذي كان يصل إلى حدود استئصال دموي في الأرواح والأرزاق والأعراض، كل المذاهب والفرق المسيحية والإسلامية. وهل عند الإسلاميين، أصوليين وقوميين، حل للإشكالية من هي الفرقة الإسلامية الناجية من النار؟!!! وكيف يمكن لهم أن يرشدوا المسلمين إلى مذهب إسلامي يستند إلى القرآن والسُّنَّة، فيوحِّد كل الفرق / المذاهب الإسلامية في فرقة واحدة من دون تناحر دنيوي وأخروي؟!!!
هل هناك من حل غير أن تعترف كل فرقة بخيارات الفرق الأخرى من دون تكفيرها والحكم عليها بالنار في الدنيا والآخرة؟
وهل هناك من حل غير أن يعترف كل دين بخيارات الدين الآخر من دون تكفيره والحكم عليه بالنار في الدنيا والآخرة؟
وحتى لا تعود الأديان، والمذاهب المتوالدة عنها، إلى النزاع من جديد حول أي نظام ديني – سياسي، أو طائفي - سياسي يُمكننا أن نرتضي قوانينه وشرائعه، بادِّعاء قدسيتها من دون غيرها، ليس أمامنا إلا أن نرتضي تلك الشرائع: الوضعية أو الدينية، التي يتَّفق عليها، والتي تحقق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين فتوحِّدهم، وتقيم دولة يرتضيها الجميع سقفاً لهم: مُوَحَّدَاً ومُوَحِّدَاً.
وهل هذا الحل غير الذي قاله ميشيل عفلق بشكل مباشر: "العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى"؟ وغير ما جاء في دستور الحزب المُقَر منذ العام 1947م: - وأن تتم محاربة سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية و الإقليمية/ القطرية ([38]).
من أين أتت تلك العصبيات؟
إذا كانت العصبيات القَبَلية والعرقية ذات أصول إجتماعية، والعصبيات الإقليمية والقطرية هي ذات أصول سياسية، فإن العصبيات المذهبية والطائفية هي ذات أصول دينية. وإذا كان ما نهتم بمعالجته، في هذا الحوار، هو العصبيات المذهبية والطائفية، فإننا نسأل كل الحريصين على الإسلام، ومنهم عفلق، هل يمكن أن نجد إسلاماً من غير مذاهب؟ فإذا استطاعوا، وهم لن يستطيعوا، فإننا ندعوهم لكي يهدونا إليه!!!
أما من جانبنا فإننا لم نجد في كل صفحات تاريخنا ما يدلنا على وجوده، ونحن نفتقده، أيضاً، حتى اليوم. هذا اليوم الذي ما زلنا نشهد فيه وقائع الفِرقَة والبعاد في كل زاوية من الزوايا وتكية من التكايا التي يتقوقع فيه الفقهاء والمشايخ يحقنون بها أنصارهم ومريديهم بنار المذهبية والطائفية([39]). وإذا كان ما نقوله غير صحيح، فليقم كل الحريصين على الإسلام ووحدته، بثياب مموَّهة لا تثير شكوك المتقوقعين في زوايا المذهبية، ويتجولون أينما وجدوا فيه زاوية يتحلَّق فيه البسطاء من الناس حول شيخ يلبس عمامة الإسلام، ويستمعوا، ويصححوا إذا استطاعوا للتصحيح سبيلاً. وليكونوا من الواثقين أننا سوف نكون من أوائل المؤيدين والقابلين بنتائجهم إذا ما أفلحوا بمهمتهم. ولن نكون بموقع المحاور بل بموقع المؤيد والباصم، كما يُقال، بالأصابع العشرة.
وهل الحل غير الذي نصَّ عليه دستور الحزب الموضوع منذ العام 1947م؟ وجاء فيه ما يلي: "الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنيين وانصهارهم في بوتقة واحدة..." ([40]).
9- كيـف ينظر حزب البعث للـدين؟
رأى البعث الإسلام من جوانب عدة: إضافة إلى أن الدين منهج من مناهج نظرة الإنسان إلى الكون، فإنه يشكل جزءا أساسياً من التراث التاريخي العربي، روحياً وسياسياً واجتماعياً، وفيه إضاءات نضالية مهمة يمكن للعرب أن ينيروا بها درب الكفاح في وجه الأطماع الخارجية. لكن جوهر الدين الذي يكتسبه من خلال دوره في تنمية الجوانب الروحية والخلقية عند الإنسان، شيء، واستخدامه كعامل للتجزئة شيء آخر.
فالإسلام ليس عقيدة جامدة سلفية يتم تردادها وحفظ أصولها، بل هو تراث له جوانبه المضيئة في زوايا التاريخ العربي، لا يمكن الاستفادة منها، إلاَّ بتمثل تجربته الثورية النضالية. فإذا كان البعث قد أدخل الدين إلى الحياة القومية، إلاَّ أنه لم يجعل من مهمته مهمة دينية ([41])، لأن "الرابطة القومية، هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية، التي تكفل الانسجام بين المواطنين، وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية" ([42]).
فمفهوم البعث للدين، بشكل عام، وللإسلام بشكل خاص، هو غير المفهوم السلفي له؛ ففي الإسلام كتراث، في مفهوم البعث، محطات مضيئة يجب أن تُقرأ من جديد، كما يقول عفلق، حيث أن "قراءة جديدة للإسلام كشفت لنا عن حقائق أساسية في روح شعبنا ونفسيته، وأضاءت لنا طريق العمل الثوري" ([43]).
ولكن ماذا نعني بالتراث وكيف ننظر إليه؟
على كل مشكك في نوايا التيارات القومية تجاه الإسلام أن يخرج من شكوكه، لأن كل التيارات القومية لن تقف أي موقف عدائي من الإسلام لأنه يمثِّل تراثاً مؤثِّراً في بنيان القومية العربية. وكان هذا التأثير واضحاً، بشكل خاص، بعد أن تجاوزت الفتوحات الإسلامية حدود شبه الجزيرة العربية –مسقط رأس الإسلام- إلى حدود جغرافية وفكرية واجتماعية جديدة كانت تنتسب إلى قوميات غير عربية، فتعرَّبت بفضل الإسلام.
لكن هل أصبح التراث، الذي أكسبنا إياه الإسلام، مُسلَّمات لا يمكن نقدها؟ وهل أصبحت كل جوانب التراث –الإيجابي منها والسلبي- قانوناً مقدَّساً لا يمكن نقده وتطويره؟ وهل هناك من قاعدة تقول: إما أن نأخذ التراث كله أو نرفضه كله؟
فكيف نفهم التراث؟ وما هي جوانبه، ومظاهره؟
- هل نعدُّ مئات المذاهب الإسلامية، وما أفرزته من إنتاج فكري وفقهي غزير، بعضها مقبول وبعضها مرفوض، خارج التراث؟
- هل نعدُّ محاربة الفقهاء المسلمين للفلاسفة والمتصوفين خارج التراث؟
- هل نعدُّ الظلم الاجتماعي، الذي مُورِس بحق الطبقات المسلمة الفقيرة والمسحوقة، بواسطة الخلفاء والسلاطين المسلمين، خارج التراث؟
- .. .. .. .. ..
- ………………
ما هو موقف الدكتور عمارة من نقد التراث؟ بلى لقد أجاز لنفسه النقد ففعل، ورفض ما وجده منافياً لروح الدين، وما يراه منافياً لروح العصر. والعودة إلى مؤلفاته هي خير دليل. ولكننا نرى المشكلة، ليس في قبوله أن ننقد التراث، بل في أن يمارس التيار القومي دوره في النقد، وكأننا بعمارة يرفض أن ينقد التراث الإسلامي غير باحث إسلامي، خوفاً من أن يمسَّ ما يعتقد عمارة أنه مقدَّسٌ لا يجوز مسَّه!!!
ورأى عفلق أن الدين هو الثورة الكبرى في تاريخ القومية العربية، وهو"جزء من تراثها ورسالتها، والأمة العربية أمة مؤمنة، دون أن يعني إيمانها إنشاء (الدولة الدينية)، وذروة الاتصال بين القومية والدين تتجلى في الصلة الحميمة بين الدولة والإسلام"([44]).
فالقومية العربية، على عكس السلفية الدينية الجامدة "تستوعب التراث القديم المتنوع...وتتفاعل مع الحضارة الإنسانية"([45]). والتفاعل الحضاري، أي بمعنى عدم الوقوف عند الماضي، يَعدُّه البعث نقطة انطلاق "نبدأ فيها حياة جديدة، نملأها بكل المثل الإنسانية التي توحي بها أو تدفع إليها تجربتنا المعاصرة"([46]).
فالتجربة المعاصرة، "يجب أن تبدأ، وأن تظهر فيها الأمة العربية على مستوى جديد غير المستوى السلبي الذي كانت عليه في الماضي... مرحلة جديدة تقف فيها أمتنا لتواجه مصيرها وجهاً لوجه"([47]). وهي بحد ذاتها، لا تتخلى عن التراث الإيجابي، مواكبة لروح العصر، "الذي نعيش فيه، عصر المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وفي جو الروح العربية الأصيلة"([48]). أما مواكبة روح العصر، فلأن التراث الإنساني، تراث متصاعد في تقدميته، وأما عدم تخلي الأمة عن تراثها، فلأنها "لا تستطيع أن تلبس ثياباً مستعارة"([49]).
أما عفلق، ومن خلال تأكيده على أهمية التراث، فقد أحسَّ أن في التاريخ صفحات مشرقة تصلح لأن تكون مقياساً للتعبئة وشحن النفوس وشحذ الهمم. وهي صفحات سطَّرها العرب المسلمون في أوائل الدعوة الإسلامية، وهي بناء قوة عسكرية مملوءة بالإيمان بالدين الجديد الذي حمل دعوته رسول عربي، وعلى الأرض العربية، وبشَّر به باللغة العربية.
فالمرحلة التي تعيشها الأمة العربية تحت هيمنة الاستعمار، وفي ظل التجزئة المفروضة، وتشتت الاتجاهات الفكرية والسياسية للعرب، تقتضي درجة قصوى من حرارة النضال، شبيهة بالموقف الذي كان عليه النبي العربي محمد (ص) عندما كان يرى عَرَبَ الجزيرة منقسمين إلى قبائل متناحرة، تتعدد اتجاهاتهم، كما تتعدد أصنامهم التي يعبدون؛ يتعرضون لاعتداءات متواصلة من الفرس والروم؛ فلم تكن غير حرارة النضال التي تميز بها محمد قادرة على توحيد العرب لمواجهة الأخطار القادمة من الخارج. فالإسلام من هذا المنظار تجربة حية، قرأها العرب والمسلمون منذ مئات السنين، وترنموا بها "لكنهم لا يفهمونها لأن فهمها يقتضي درجة من غليان النفس قصوى" ([50]).
10- كيف يرى البعث المسألـة القوميـة؟
فالمرجعية القومية الوحدوية، هي المرجعية الوحيدة التي يلتزم بها حزب البعث، ويلتزم بها عفلق. والترجمة العملية لهذه المرجعية تتم في إطار نظام سياسي وحدوي عربي، يجمع شمل العرب كلهم في دولة مستقلة واحدة، بعد تحرير الوطن العربي من الاستعمار، وتحرير المجتمع العربي من كل الفساد اللاحق بحياة العرب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية([51]). كما أن كل "نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية في أجزائها ومجموعها لا تصدر عن هذه المسلَّمة (وحدة الأمة العربية)، تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة"([52]). وإذا كان لا بد من النضال القطري، تحت ظروف التجزئة المفروضة على الأمة، فيجب "أن يقترن نضال كل قطر، في سبيل مشاكله الخاصة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، بفكر الوحدة والنضال من أجلها"([53]).
ومن أجل تحقيق الوحدة السياسية ثمَّة شروط استراتيجية:
- أن ينصبَّ التفكير أولاً على الوحدة الروحية، أي الهوية القومية، وهذا شرط أولي مهم في ظل الشرذمة الفكرية، التي لم تتوصل معها الاتجاهات الفكرية العربية إلى الاتفاق حول هذه الهوية/ المرجعية الوحدوية. فهناك الاتجاهات الأممية الشيوعية، والاتجاهات الأممية الإسلامية، والاتجاهات القطرية الوطنية. يأتي التأكيد على أولوية الوحدة الروحية "لأن الوحدة المفقودة هي الوحدة القومية وليست الوحدة السياسية، ولأن الوحدة السياسية نتيجة" ([54]). وتتم الوحدة من خلال العمل في سبيل:
-أن يستمرَّ النضال ضد الاستعمار الأجنبي حتى تحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً ([55]). وأن تتم محاربة سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية و الإقليمية/ القطرية ([56]).
11-كيف يرى البعث العلاقـة بين القوميـة والدين؟
بعد أن حدَّد البعث علاقة القومية بالدين/ العروبة بالإسلام، رافضاً أن تكون الجامعة الإسلامية، مرجعية وحدوية سياسية للأمة العربية، لأنه أحلَّ مكانها المرجعية الوحدوية القومية، وهدفها بناء نظام سياسي عربي، قام بخطوة أخرى، عندما أعطى للمسألة القومية محتواها الاجتماعي، وربط النضال الوحدوي، بالاشتراكية، كمبدأ اقتصادي - اجتماعي، يحقق المساواة بين جميع المواطنين ويمنع استغلال جهد الآخرين([57]).
بالإجمال، كان موقف البعث من الإسلام، متميزاً عن تيارين: أحدهما يقف على اليمين (تيار الجامعة الإسلامية)، الذي يفسِّر الكون بكل جوانبه على أساس منهج ديني- ماورائي، أما الآخر فيقف على اليسار (الأممية الشيوعية)، الذي يفسِّر الكون، بكل جوانبه، على أساس منهج مادي (المادية - الجدلية).
إن السلفيين الإسلاميين يريدون أن يقطعوا الإسلام عن إمكانية تواصله مع الحاضر والمستقبل، وهم يقفون رافضين لكل حالة تجديدية في الفكر.
أما الدعوة الشيوعية فقد جنحت باتجاه الإلحاد، برؤيتها المادية في تفسير الكون، ورفضت ليس الإسلام فحسب، وإنما الدين، أيضاً.
أما البعث، فقد دعا إلى تكامل زوايا التاريخ في داخل علاقة جدلية بين التراث والمعاصرة ، والى التمييز بين الماورائي في الدين، كرؤية فلسفية، وبين تطور التاريخ بصورة جدلية. فهو لما اعترف بدور للدين في المجتمع، فإنما ميَّزه عن النزعات الطائفية والمذهبية. وبدلاً من أن يكون الماضي والحاضر فيه متساويين، كما يحسب السلفيون، أراد البعث أن يتفاعل الماضي (التراث) والحاضر (المعاصرة) في الأمة، لكي "يكون تذكرها لماضيها ووعيها لحاضرها حافزاً مزدوجاً لها للنهوض" ([58]).
إن موقف البعث من الإسلام لا علاقة له بالتكتيك السياسي المرحلي، ولا بالعقائد السلفية الجامدة.
فالدين، بشكل عام، هو حاجة فلسفية لها علاقة بتفسير الكون، وما وراء الكون. وما الإسلام إلا دعوة دينية حاولت أن تلعب دورها في هذا الجانب.
والإسلام، من جانب آخر، جزء من التاريخ الذي تنتمي إليه الأمة العربية، ولا يمكن دراسة التاريخ العربي من دون أن نرى للإسلام بصمة في كل تفاصيله. ولما كان من غير الموضوعية العلمية أن تقوم الدراسات بإلغاء جزء من التاريخ، حتى لو كان مظلماً، تحت حجة أنه مظلم، فما هو الموقف، من الأجزاء الأساسية فيه، خاصة وأن فيها كثيراً من المحطات المضيئة؟
على هذا الأساس يمكن التمييز، دائماً، بين منهجين في دراسة الدين:
- النظرة السلفية - الدينية، التي تفسِّر الكون على أساس من الجمود المنهجي، وعلى قاعدة أن ما هو مرسوم في الماضي والحاضر هو من صنع إلهي لا يجوز مسه.
- النظرة العلمية التي تفسِّر التاريخ على قاعدة تطوره بشكل متصاعد.
فاستناداً إلى ذلك تمَّيز موقف البعث من الدين بما يلي:
- إن الدين هو حاجة روحية إنسانية، وهو حاجة فلسفية لتفسير الكون.
- وهو حالة ثقافية اجتماعية تاريخية، ضرورية للاستفادة منها في الحاضر والمستقبل.
أما بالنسبة للمساجلة بين الأحزاب الشيوعية العربية والفكر القومي، فقد استعارت هذه الأحزاب من الفكر الأوروبي، الماركسية تحديداً، نظريات جاهزة كانت وليدة الواقع الأوروبي، خاصة في مسألتي الدين والقومية؛ وتقيدت بتلك النظريات لكي تطبقها على الواقع العربي، ولهذا وقعت في منزلقات عديدة.
إن مسألتي الدين والقومية هما أشد ما يتميز به المجتمع العربي: فالأول هو جزء أساسي من التراث الحضاري للأمة، أما الثانية ففيها تكمن الحوافز الوحدوية كشرط ضروري ولازم لمقاومة الموجات الاستعمارية الخارجية.
IV - مناقشة النتائج التي توصَّل إليها عمارة
يستنتج عمارة أن عفلق، في تطور موقفه من الإسلام، وبالتالي إعلان إسلامه بعد وفاته، هو دليل واضح على أنه أخذ يقترب من الإيمان بكامل الإسلام: حضارة وشريعة وقانون. وحول هذا يقول: "فإننا لا نرجم بالغيب، ولا نبالغ إذا قلنا إن منطق هذا "التطور" في رؤية الرجل لمكانة الإسلام ودوره في مشروعه الحضاري حاكم بأن الطريق أمام هذا "التطور" -لدى التيار القومي- ما يزال مفتوحاً.. فيه العديد من الخطوات.. (ص48). وهذا ما يشجِّعه كي يدعو الواقفين من الإسلام عند "الإسلام: الحضارة" كي يتَّسِقوا مع أنفسهم و "منطقهم" إلى التقدم لتبنّي كل الإسلام.. (ص48).
نحن لا ننكر أن الطريق، أمام فكر ميشيل عفلق، مفتوحاً. ولكننا نؤمن صادقين بأن الطريق يجب أن لا يُقْفَل أمام أي فكر كان وإلا كُتِب عليه الزوال والاندثار أمام موجات التطور المعرفي-الفكري للإنسانية جمعاء.
وأما أن يكون الطريق مفتوحاً أمام فكر عفلق في سبيل "التقدم لتبنِّي كل الإسلام"، فيواجهنا عمارة الباحث المنفتح، بدعوة لم نكن نتوقعها وهي ليست سوى الدعوة إلى إقفال كل الطرق في وجه أي تطور. وكأنه يفتح الثغرات في سبيل التقدم إلى الإسلام ليقفل الباب من جديد. وكأن التقدم أصبح يمثل عنده الدخول في سجن آخر، حتى ولو حسبه سجناً مقدَّساً، فالسجن هو سجن سواء كان وضعياً أم كان إلهياً.
ولكن.. وفي الوقت الذي يدعو فيه عمارة عفلق إلى التقدم نحو كامل الإسلام، يبقى عمارة عاجزاً عن أن يجمع الإسلاميين أولاً حول الإسلام الصحيح المُوَحَّد والمُوَحِّد. فليقل لنا ما هي النتائج التي توصَّل إليها من خلال بحثه الثمين عن التيارات في الفكر الإسلامي هل استطاع أن يخرج بقواعد تُجمع حوله، على الأقل، من أهل السنة والجماعة ما يستطيع بهم أن يتابع دربه الطويل؟!!!
إنني أجزم أن عمارة، الباحث الإسلامي، لم يجد من يلتف حوله من أنصار التيارات الإسلامية أكثر مما التفَّ من حوله من أنصار التيارات القومية، ومؤيدي التيارات العلمانية. أَوَ ليس هذا بالشيء المثير؟!!! وأَوَ ليس في ذلك ما يشجعنا على أن ندعوه، مع كل العقلانيين والمتعقِّلين من الإسلاميين، إلى أن لا يُغلِقوا أبواب الحوار قبل أن يفتحوها، وبما لا يجعلنا نشعر أن أبوابهم جاهزة للإغلاق بعد أن تدخل الطريدة إلى القفص؟
المصادر والمراجع
1- د. محمد عمارة: التيار القومي الإسلامي: دار الشروق: القاهرة: 1997م: ط1.
2- د. جوزيف الياس: عفلق والبعث: دار النضال: بيروت: 1991: ط1.
3- د. محمد جلال شرف: دراسات في التصوف الإسلامي: دار النهضة العربية: بيروت: 1984م.
4- د. مصطفى دندشلي: حزب البعث العربي الاشتراكي (ج1): طبعة خاصة: 1979م: ط1.
5- د. الياس فرح: قراءة منهجية في كتاب في سبيل البعث: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1981: ط1.
6- حسن خ. غريب: الردة في الإسلام: دار الكنوز الأدبية: بيروت: 1999: ط1.
7- نضال البعث (ج 4): م . س: (المادة 15)- من دستور الحزب.
8- ميشيل عفلق: البعث والتراث: دار الحرية: بغداد: 1976.
9- ميشيل عفلق: في سبيل البعث: دار الطليعة: بيروت:1976: ط 19.
10- ميشيل عفلق: في سبيل البعث (الكتابات السياسية الكاملة) (ج5): دار الحرية للطباعة: بغداد:1986-1988ط1.
11- ميشيل عفلق: البعث والوحدة: المؤسسة العربية للدراسات و النشر: بيروت: 1975.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق