متى ننقذ كتابة تاريخ لبنان من أقلام صناعتها طائفية
لنكتبه بأقلام من صناعة وطنية؟
في 26/ 4/ 2010
لا يزال لبنان يعيش مرحلة «نظام المتصرفية». ذلك النظام الذي كان يعتمر الطربوش التركي، تحت حماية الأوصياء الذين جاؤوا من وراء البحار، ليتكلم كل وصي بلغة طائفة من الطوائف اللبنانية التي وكَّلته ليكون وصياً عليها، وفي المقابل ليستفيد من «مرقد عنزتها» في التسلل إلى المنطقة.
والنظام اللبناني الآن، بعد استقلال العام 1943، واتفاق الطائف العام 1989، واتفاق الدوحة العام 2008، لا يزال يعيش الأنموذج الأساس، أنموذج نظام المتصرفية العام 1861، مع تغيير شكلي في غطاء الرأس والبدن؛ بحيث وُلد كل اتفاق معمداً بدم اللبنانيين وأرواحهم. وكل اتفاق جاء بمجموعة من الأوصياء، يلتزم كل وصي شؤون طائفة من الطوائف اللبنانية. ونحن نخدع أنفسنا عندما نصدِّق ما توحيه إلينا نصوص أنظمة متصرفية الاستقلال والطائف والدوحة بأن لبنان في ظلها سيكون «مرقد العنزة الهانئ».
لكن، وإلى أن يتحرر اللبنانيون من حب عهود المتصرفيات وعشقهم لها، وحب الأوصياء كواصا ورستم ومظهر باشا وعشقهم لهم... سيأتي الزمان بما لا يمكن التكهن به من فتن وحروب أهلية إذا لم يظهر المخلص الموعود.
قرن ونصف القرن واللبنانيون يعيشون الصراع بين الانتماء لوطن أم الانتماء لطائفة، لأن معظمهم مُسيَّرون بحكم انتمائهم لهوية طائفية فهم يعيشون عصر ثقافة الطوائف، لكن لم يجدوا من يحفر للوصول إلى منبع ثقافي آخر، ثقافة الوطن الواحد الذي يحمي جميع طوائفه كبديل لحماية الأوصياء القادمين من وراء البحار. وإذا وُجد، فنحن لم نجد من يتميز بالصبر الطويل والباع الأطول ليقتنع بأنه لا تغييراً سياسياً ولا اجتماعياً من دون تغيير ثقافي.
حاز الغرب على التغيير عندما ابتكر صيغة الأحزاب السياسية، وسمع نداءات مفكريه، من الذين قوَّضوا ثقافة التعصب الديني، ونقلوا الغربيين إلى ثقافة العدالة والمساواة للجميع، وصبروا عشرات الأجيال، فقطفوا تغييراً حقيقياً، وكسبوا جولة النهضة والتقدم.
كدنا في لبنان نتنفس الصعداء في مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عندما ابتدأ اللبناني ينتقل من الانتساب إلى هوية طائفية محدودة، إلى الانتساب إلى هوية حزبية رحبة. من هوية طائفية محدودة البقعة الجغرافية والبقعة الثقافية إلى هوية حزبية أرحب من حدود جغرافية المناطق، وأوسع من محدودية الثقافة الطائفية. لكن لم تسنح الفرصة كثيراً لأحلامنا السعيدة أن تتحقق، إذ تبخرت الأحلام مع انتكاسة الفرصة، تلك الانتكاسة التي تعاون على إجهاضها عامل خارجي يعادي تلك التجربة خوفاً منها على مصالحه، وعامل ذاتي تتحمل مسؤوليته الأحزاب نفسها. وإذا كان من مصلحة العامل الخارجي أن يفعل ما فعل، فأين هي مصلحة الأحزاب في أن تفعل ما فعلته ولا تزال تفعله.
فهل يجوز لأبناء التجربة الحزبية، التي كانت واعدة حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أن يتصرفوا كما كان يتصرف الجاهلي عندما كان يأكل الصنم الذي يتعبده؟
هل يجوز لأبناء الأحزاب، التي كانت تشكل الأمل الموضوعي بالتغيير، أن يأكلوا آمالهم، عندما أضعفوها وجوفوها، واختلفوا على جنس الملائكة فيها؟
هل يجوز لأبناء الأحزاب أن يأكلوا تجربتهم الجبهوية التي انطلقت منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي؟ وهل تناسوا كم مثَّلت من إيجابيات ومكاسب على الرغم من أنها وقعت في الكثير من السلبيات؟
وهل يأمل أي حزب يعمل من أجل التغيير بقدرته على ذلك من دون إنجاز مهمتين، وهما: مهمة التغيير في بنية كل حزب لتتناغم مع رؤى العصر والمرحلة ومتغيراتهما وخصوصياتهما. ومهمة التغيير في قواعد التلاقي مع أنسبائه من الأحزاب الأخرى، والاعتراف بحقها في التمايز؟
يكفي كل الأحزاب والقوى والشخصيات أن تجتمع حول مهمة واحدة هو أنه لا تغيير في لبنان، كنظام مماثل لمتصرفية العام 1861، من دون الانتقال من ثقافة الطائفة إلى ثقافة الوطن. وبخاصة أنه ليس هناك من هو قادر على الحفر الثقافي غير شريحتهم بما تتميز به من وعي ورؤى وخطط وبرامج.
لا يجوز أن ييأس رواد التغيير من موجة التطييف الكبرى التي اجتاحت لبنان من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، فهناك شريحة لا يُستهان بها من الشباب الواعد الذين ينتظرون من يحمل الجرس ليسيروا خطوات إلى أمام خلاصاً من كل ما أحبط آمالهم وطموحاتهم، وليس هناك من يحبطهم أكثر من نظام المتصرفية بطوائفه وأمراء الطوائف فيه، ومن نظام الأوصياء على طوائفه وأمراء طوائفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق