-->
25/ 8/ 2008
لكي نطل على تأثيرات بعض عوامل التفتيت في المجتمع العربي، ومن أهمها الطائفية، لا بدَّ من أن نقرأ عوامل تكوين المجتمع اللبناني التاريخية وتكوين نظامه السياسي، ومنها نقف عند قراءته في صورته الحالية.
لبنان بلد تعددي، طائفياً وثقافياً وسياسياً، والخطأ في قراءتنا له أننا نحلل ما يجري على ساحته مستندين إلى مواقف ومتغيرات سياسية مرحلية، ولأن تلك المواقف والمتغيرات تتبدل وتتغير، لا بدَّ من أن الاستناد إليها سيصل بنا إلى نتائج تكون في أحيان كثيرة مضلِّلًة. أما القراءة الصحيحة فتنطلق من القانون الذي يتحكم بتلك المواقف ويسيِّرها.
في حياة لبنان السياسية تغيب أسماء وتحضر أخرى، تذوب ظواهر وتحل مكانها ظواهر أخرى، لكننا لا نرى شيئاً يتغير، فالأزمات تخلف أزمات، والمشاكل تخلف مشاكل. يتوهم القادم أنه أفضل من الراحل، فالقادم يلعق من دم اللبنانيين كما فعل سلفه، ويتوهم اللبنانيون بأن هناك متغيرات قد تُحدث انقلاباً في حياتهم، ولكن عبثاً ما يتوهمون، فيشاركون بلعق دمائهم ولكنهم لا يدرون أنهم يلحسون المبرد. أما السبب فهو أنهم لم يستطيعوا أن يشخصوا الداء، وإذا استطاعوا فإنهم أعجز من أن يصفوا العلاج الشافي.
لبنان، كما نراه نحن، ظاهرة محيرة، تارة يكون أفضل ساحة ديموقراطية عربية، وتارة أخرى يكون مثالاً لتعايش الأديان والطوائف، وتارة ثالثة يصبح أسوأ أنموذج لعلاقات الطوائف، ومثالاً منفراً للفتن الطائفية.
إنه أمر محير، يحتضن دعاة بناء نظام سياسي علماني، كما يحتضن دعاة بناء دولة دينية، أية دولة دينية. دولة مذهبية أية دولة مذهبية.
يحتضن عقيدة تدعو وتمارس الكفاح المسلح من أجل فلسطين ولبنان وأي قطر عربي محتل، كما يحتضن عقيدة إبعاد لبنان عن الصراع الدائر مع العدو الصهيوني سواءٌ أكان في لبنان أو فلسطين والعراق. يحتضن أنموذج البطولة والفداء من أجل تحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني، كما يحتضن عقيدة النأي بلبنان عن المقاومة المسلحة وتقليد أسلوب التفاوض والمساومة، وأحياناً عقيدة الاستسلام من دون شروط.
والأمر المحير الآخر، هو أن اللبناني مسموح له التغريد كيفما يشاء، وأينما يشاء، لكن من غير المسموح له أن يغرد خارج قفص الطوائف، وإذا فعلها فإنه يقف بعيداً عن أبناء طائفته لأنه كما يشيع المثل العامي (سيتعرى من ثيابه، فيصاب بالبرد)، والثياب هنا هي الطائفة.
اللبناني يستطيع أن يتمرد على كل شيء، لكنه لا يستطيع أن يتمرد على أمير الطائفة، فيصبح كالبعير الأجرب، ولن يحظى بالوصول إلى وظيفة أو مركز في الدولة لأن العبور إليها يمر من بوابات حراس الطائفية السياسية.
تلك ظاهرة لبنان، فيصاب بالحيرة كل من يرى تلك التناقضات، لأنه معجب بالتعددية فيه. لكن إذا كانت التعددية فيه عامل صحة، فإنها في الوقت ذاته عامل مرض.
لبنان تائه بين التقدمية والتخلف، تائه بين العصرنة والجمود. لبنان تائه بين التحريض الطائفي والدعوة إلى التعايش بين الطوائف، أي بمعنى أوضح، كن لبنانياً عصرياً ولكن عليك الاحتماء بطائفتك، كن متحرراً من القيود والاستزلام ولكن قيد أمير الطائفة والاستزلام له هو من معالم التقدمية فيك.
إنها إشكالية الالتباس بالولاء للوطن، إنها إشكالية أنك لن تكون لبنانياً صالحاً إذا لم تكن طائفياً صالحاً.
تلك مقدمة لا بدَّ من الدخول عبرها لفهم موقع لبنان من الصراع العربي – الصهيوني بشكل خاص، وموقع لبنان من العمل المقاوم بشكل عام.
شكلت قضية فلسطين محوراً أساسياً في الصراع الداخلي في لبنان، ولعلَّها كانت المدخل الرئيسي للحرب الأهلية بين مؤيد لها ومشارك، وبين رافض لها وناقم. وكانت البوابة الطائفية مدخلاً لاتخاذ موقف المع وموقف الضد، فالانتماء الأكثري للفلسطينيين إلى طائفة معينة كان يشكل الهاجس من الإخلال بالتركيبة الديموغرافية فيه، وفي تلك التركيبة تشعر الطائفة بالقوة أو الضعف. وتلك ثغرة تسللت منها قوى الخارج في العزف على وترها، وتفجير الشارع اللبناني على وقع قنابلها الموقوتة.
تحت ظلال هذا الواقع، كانت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية تشكل الشمعة المضيئة التي خرجت من ثيابها الطائفية لتحمي المقاومة الفلسطينية بثياب وطنية تحررية، وبثياب قومية تحريرية. وبمثل تلك العقيدة تم استهداف التحالف الفلسطيني اللبناني: حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وحركة الأحزاب الوطنية اللبنانية. وقد تحققت نتائج سلبية على غاية من الأهمية إذ تم استهداف الجاذب المركزي المشترك بينهما، وهما الجاذب الوطني اللبناني من جهة، والجاذب القومي العربي من جهة أخرى.
لقد تحققت تلك النتائج في فترة أقل من عشر سنوات، تم في خلالها خروجان إرغاميان لطرفي التحالف:
-الأول: إرغام منظمة التحرير الفلسطينية، بهيكليتها المقاومة، على الخروج من لبنان في العام 1982، بفعل العدوان الصهيوني الذي وصل إلى حدود بيروت، وهي كانت تشكل الرمز القومي المقاوم.
-والإرغام الثاني أخرج الحركة الوطنية اللبنانية من الحياة السياسية اللبنانية وأضعف وجودها الشعبي إلى ما دون الحد الأدنى، وهي التي كانت تشكل الرمز الوطني المقاوم.
وكان في هذا الإرغام إبعاد للحركتين معاً عن دائرة الفعل المقاوم. وبهما أُنزلت المقاومة من سقفها الوطني والقومي، واختزلت في عناوين أخرى أصبحت معروفة ومشهورة.
أيها السادة
من تلك النتائج نستطيع أن ندخل إلى قراءة متأنية لما يجري في لبنان منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بحيث دخل العمل المقاوم في عقيدة جديدة، ووسائل جديدة، وإمكانيات جديدة. كل ذلك لا يعني أن المقاومة انحدرت باتجاه الضعف والوهن، وإنما العكس كان الصحيح، والدليل هو حصول انتصار استراتيجي تمثل في إرغام العدو الصهيوني على الانسحاب من لبنان في العام 2000، وكان انتصاراً لافتاً وباهراً جعلنا نقرأ بوضوح عقيدة عسكرية جديدة ستكون المفتاح الجديد في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني أو أية قوة أخرى تسوِّل لها نفسها احتلال أي أرض عربية.
أيها السادة
قد يبدو ما نقول متناقضاً، ويدعو إلى الحيرة والاستغراب، ويمكننا أن نشير إلى بعض جوانب ما يظهر متناقضاً. إن بعض المتناقضات تنطلق من أسفنا على إحباط تجربة التحالف المقاوم الفلسطيني اللبناني من جهة، بينما البديل حقق انتصارات أكثر وأكبر وأعمق، والحال كذلك يُعتبر الأسف في غير محله. فالنتائج التي كان من المفترض أن يحققها التحالف قام بتحقيقها البديل، وهل لعاقل أن ينتظر أفضل من ذلك؟
أما نحن فسوف نغامر بالبرهان على أحقية أسفنا بالتالي:
لا شك بأن نتائج مقاومة الاحتلال أكثر من إيجابية بغض النظر عمن قام بإنجازها، سواءٌ أكان عملاً جبهوياً وطنياً علمانياً، أم كان عملاً أنجزته طائفة من الطوائف الدينية. إلاَّ أن إنجاز مهمات المرحلة التحريرية ليست نهاية المطاف في بناء الأوطان، بل هي مدخل أساسي وضروري وتمهيدي لمهمة ذلك البناء. ولهذا لا نستطيع الفصل بين المهمتين، حتى ولو كانت مرحلة التحرير قائمة على المقاومة المسلحة التي هي أعلى درجات البذل والتضحية، فمرحلة البناء الوطني إذا لم يتم إنجازها بشكل سليم ووطني فنكون كمن ينقل الوطن من هيمنة الاحتلال وقسوته وإرهابه إلى هيمنة قوى عاجزة عن بناء وطن لكل مواطن فيه حق العيش بالتساوي مع المواطن الآخر بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه ومذهبه واتجاهه السياسي.
إننا نعطي الأولوية لعامل المقاومة المسلحة إذا كان الوطن محتلاً على كل ما عداه من العوامل الأخرى، إلى الدرجة التي لا نعير فيها اهتماماً إلى الفروقات في الاتجاهات والإيديولوجيات، بحيث لا نربط تأييدنا للعمل المقاوم بشرط انتماء الفصيل المقاوم إلى هذا الاتجاه أم ذاك، لأن الخطورة الكبرى تكمن في أمثال هذا التمييز لأنها تغرق الفصائل المقاومة في صراعات جانبية لا شك بأنها ستكون على حساب وحدة الفصائل وكمية العمل ونوعيته يستفيد منها المحتل لتغذيتها وتعميقها.
فإذا كان هذا التمييز حاجة ضرورية في مرحلة الاحتلال، لأنه لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المقاومة المسلحة، إلاَّ أنه من الضروري أيضاً أن تكون القيادات السياسية للمقاومة مسؤولة عن إجراء حوار طويل النفس يحمل صفة الاستمرار بين تعدديات الفصائل ومشاريعها السياسية من أجل تقريب مسافات التباعد في الرؤى السياسية للتحضير لمرحلة ما بعد التحرير بين الفصائل المقاتلة من جهة وبينها وبين القوى السياسية الرافضة للاحتلال على طريقتها من جهة أخرى.
تلك إشكالية واجهتها المقاومة اللبنانية ولا تزال تواجهها، على مستويين اثنين:
-الأول بين الفصائل المقاتلة منذ أول مواجهة مع العدو الصهيوني في أوائل السبعينيات.
-والثاني بين الفصيل الذي استمر منفرداً منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وبين شتى التعدديات اللبنانية الأخرى التي يتشكل منها المجتمع اللبناني.
لقد سلَّمت الفصائل المقاتلة الأخرى أوراق المقاومة اللبنانية للمقاومة الإسلامية لأكثر من سبب سواءٌ أكان مشروعاً أم غير مشروع، خاصة وأن المقاومة الإسلامية استطاعت أن تحصل على تأييد ومشاركة واسعين، مادياً وعسكرياً ولوجستياً، شاركت فيه ثلاث حكومات. وفي هذا الوقت محضت الفصائل التي قدَّمت التضحيات السابقة لانطلاق المقاومة الإسلامية التأييد الواسع خاصة أن المقاومة الإسلامية قد أنجزت مهمتها بكفاءة واقتدار.
أما الشرائح اللبنانية الأخرى ومنها التي لا تمحض المقاومة أي تأييد لأكثر من سبب، تلك الشرائح التي شئنا أم أبينا، تمثل شريكاً في الوطن لا يمكن تجاهله أو لا يجوز تجاهله، فقد كانت تتصارع مع التيار المقاوم من أجل إرساء نظام سياسي يضمن لها مصالحها. ومن هنا بدأت إشكالية مرحلة ما بعد التحرير، تلك الإشكالية التي جمعت شتى التنوعات الطائفية كل أسلحتها من أجل المحافظة على مصالحها في لبنان ما بعد التحرير.
استناداً إلى ذلك، نستنتج أن المقاومة التي حررت لبنان من الاحتلال الصهيوني ما كانت لتواجه تلك الصعوبات في الوسط الطائفي اللبناني لو كانت تلك المقاومة ذات هوية وطنية، أي لو كانت مقاومة وطنية شارك فيها كل اللبنانيين من كل الانتماءات السياسية والطائفية كما كان حاصلاً قبل انطلاقة المقاومة الإسلامية بعد الاحتلال الصهيوني في العام 1982.
لم تشعر الفصائل الوطنية في لبنان، تلك التي أسست لمقاومة العدو، بأنها مغبونة عندما تم تحجيم دورها وإلغائه فيما بعد، لأنها كانت تعطي الأولوية للتحرير. ولكنها بعد التحرير، أي ما يشبه المرحلة الراهنة، تشعر بأن دورها سيكون مغيَّباً في مرحلة البناء الوطني خاصة في هوية النظام السياسي الذي يجري التأسيس له.
أما التنوعات الأخرى من الشرائح اللبنانية، حتى لو كانت تنتمي إلى تيار معرقلي المقاومة وغرس روح التقاعس، فإنها لم يكن لها دور في المقاومة، إلاَّ أن هذا الأمر لا يمكن أن يلغي دورها في تحديد هوية النظام السياسي الذي يجب الاتفاق عليه بعد مرحلة التحرير على الرغم من دورها السلبي السابق من استراتيجية المقاومة المسلحة.
وهنا لا بدَّ من التأشير إلى أن هذه المرحلة أخذت تخلط الأوراق من جديد بين الكتل السياسية:
-الأول أن المقاومة الإسلامية ومعارضيها ممن اصطفوا تحت راية بناء النظام الطائفي السياسي متفقون على استئناف مسار النظام الطائفي السياسي. فعادوا جميعاً، مقاومة وضد المقاومة، إلى الاتفاق على نظام طائفي سياسي لا تستطيع المقاومة الإسلامية أن تعيش خارجه أو تعمل ضده.
-الثاني أن المقاومة الإسلامية، ومؤيديها من التيارات الوطنية، سيكونان على طرفيْ نقيض عندما يتعلق الأمر في تحديد هوية النظام السياسي. وعن ذلك تؤيد المقاومة الإسلامية، في الحد الأدنى، نظاماً طائفياً سياسياً ترفضه مجموعة القوى والأحزاب الوطنية. أما في حدها الأعلى فتعمل من أجل تأسيس دولة دينية عالمية ترفضه الأحزاب القومية.
أما أيهما نؤيد؟
هنا نقول بأن معطيات وشروط بناء مقاومة تحريرية هي غير ها عندما يتعلق الأمر بمرحلة بناء وطني.
وكي تكون التجربة درساً للمستقبل، وإذا خُيِّرنا بين مقاومة ذات آفاق إيديولوجية طائفية وبين مقاومة ذات إيديولوجية وطنية جامعة لكان علينا اختيار الإيديولوجية الوطنية الجامعة. وأما إن لم يكن هناك إلاَّ خيار واحد في مقاومة الاحتلال، وليكن خياراً مذهبياً، فنحن منحازون إليه من دون مقدمات أو شروط.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي:
لكن هل كان أمام اللبنانيين خيار واحد؟ أم خيارات شتى؟
لا يعجزنا الجزم بأن المقاومين اللبنانيين كانوا أمام خيارات شتى، وعلى الرغم من ذلك وُضعوا أمام خيار واحد. ولهذا أسباب وعوامل أسهمت في ذلك. وتلك العوامل ذات أعماق عربية وإقليمية نرى أنه من اجل اكتمال الرؤية أمامنا لا بدَّ من البحث عن تشخيصها.
أما العوامل العربية فقد اختُصِرت بالدور السوري في لبنان.
والعوامل الإقليمية فقد اختُصِرَت بالدور الإيراني فيه بعد انتصار ثورة رجال الدين.
أولاً: العامل السوري:
وإن كان الدخول السوري إلى لبنان تمَّ بضوء أخضر أميركي، إلاَّ أن لسورية في لبنان مصالح، بعضها يرتبط بالأمن الوطني السوري كجزء من الأمن القومي العربي. وبعضها يرتبط بمسار التسوية في الصراع العربي – الصهيوني، بعد أن دخل النظام السياسي في سورية دائرة التسوية لحساباته الخاصة حسباناً منه أنه قد يستعيد الجولان عبرها.
ولتعقيدات الوضع السياسي في لبنان، لم تستقر تحالفات الوجود السوري عند حدود معينة بل واجه متغيرات متعددة، الأمر الذي كاد يهدد أمن قواته العسكرية، فلجأ إلى خلط الأوراق مستثمراً حاجة الشيعة لجدار استقواء في حرب داخلية اتخذت في أكثر جوانبها مسارات واتجاهات وأغراض طائفية. فانعقد التحالف بين سورية والمشروع السياسي الطائفي الشيعي الذي كان لا يزال يحبو خطواته الأولى باتجاه الشيعية السياسية بقيادة حركة أمل. وتعمَّقت أواصر هذا التحالف تدريجياً منذ العام 1979 تقريباً. إذ كادت قيادة الشيعة أن تكون محصورة بتلك الحركة. وتعمَّقت أكثر على الرغم من المتغيرات التي شقت الشيعة إلى تيارين رئيسين بعد تأسيس حزب الله كذراع شيعي موالٍ لإيران بعد الشاه.
ثانياً: العامل الإيراني:
بعد انتصار الثورة الإيرانية، خاصة أن أهدافها كانت ذات أبعاد أممية وأهداف بناء دولة إسلامية عالمية، كانت الساحة اللبنانية من الساحات الأساسية التي يمكن بناء قاعدة فيها مؤيدة لأهدافها، فأسست حزب الله. ولم تمر تلك المتغيرات على الساحة الشيعية في لبنان من دون صدامات أو ترقب متاعب تواجه التحالف السوري مع حركة أمل. إلاَّ أن تلك العُقد تم حلها برعاية سورية وإيرانية. وبمثل ذلك انعكس التحالف الإيراني – السوري على صيغة الانقسام الشيعي في لبنان فأعلن التحالف بين التيارين المذكورين على وقع ضبط العلاقات بينهما بتأثير سوري وإيراني.
ثالثاً: المقاومة الإسلامية إحدى نتائج التحالف السوري والإيراني:
كانت المقاومة الوطنية اللبنانية في أوج عطاءاتها بعد الاحتلال الصهيوني للبنان في العام 1982. وكانت المقاومة متعددة الفصائل والأطراف، انخرط في فصائلها كل التعدديات السياسية والدينية، وكانت تسير على خطى العمل لتوحيد جهودها، خاصة أن التجربة التي سبقت الاحتلال الصهيوني كانت واعدة، بتجربة ميدانية تأسست منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وبتجربة جبهوية ذات أعماق وطنية وقومية. وفي أثنائها انطلقت المقاومة الإسلامية بعد إعلان تأسيس حزب الله في العام 1985. وكانت فصيلاً آخر دخل على خط المواجهة من دون تميُّز، وقد ساعد على انتشارها سيطرة الشيعية السياسية على الأراضي اللبنانية التي انسحب الاحتلال الصهيوني منها بعد العام 1985، وبعد مخاض عسير من الاقتتال الشيعي – الشيعي أعقبته تفاهمات برعاية سورية إيرانية، بعد العام 1988، أخذ نجم المقاومة الإسلامية تحت علم حزب الله يتجه نحو الصعود خاصة أن الأحزاب اللبنانية الأخرى كان يتقلَّص عملها لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها قرار تلزيم المقاومة لحزب الله بضغط وتدبير من القوى العربية والإقليمية الفاعلة في لبنان.
رابعاً: الدروس المستخلصة للمستقبل:
لقد سجَّلت المقاومة الإسلامية في لبنان تجربة جديدة على المستوى الوطني اللبناني، والقومي العربي، والإقليمي الممانع للاحتلال، تضافرت في بنائها جهود رسمية وشعبية، تكامل فيها الشعبي مع الرسمي، الأمر الذي أثار الانتباه إلى إمكانية الجمع بينهما في حالة المواجهة مع الاحتلال، وفي تلك التجربة ما يمكن أن يغيِّر في العقيدة العسكرية التقليدية في الصراع العربي - الصهيوني.
1-على مستوى التكامل الوطني اللبناني:
لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث تنخرط الحكومة اللبنانية في منظومة عسكرية تواجه العدو الصهيوني في لبنان، وإن كان بشكل غير مباشر، قدَّمت للمقاومة تسهيلات لوجستية لم تحظ بها مقاومة على الإطلاق. إلاَّ أن تلك المساعدة لم تكن تعبِّر عن إرادة التعدديات الكثيرة وفي مقدمتها تلك التي لا تثق بقدرة لبنان العسكرية على المواجهة مع العدو الصهيوني. ولم تكن تلك المساعدة ممكنة لولا الوجود السوري في لبنان.
إن المقاومة قد حققت تلك النتائج الإيجابية، وأثبتت فعاليتها، ولم تعد معروضة للتجربة لأن التجربة نجحت في مرحلتين أساسيتين، حرب العصابات في العام 2000، وحرب المواجهة في العام 2006، لا سيما أن المرحلتين كانتا مثار إجماع شبه وطني شعبي، وسياسي إلى حد كبير. إن هذا الواقع يطرح مسألتين على بساط البحث، وهما:
-الأولى: إمكانية أن تتخذ أية حكومة في لبنان قرار دعم المقاومة الشعبية المسلَّحة من دون إجماع سياسي وطني. لأن قتال العدو مسلَّمة لا يجرؤ أي كان على إعلان معارضته لها.
-الثانية: إمكانية أن تتكامل قدرات نظامين عربيين رسميين متجاورين، في بناء استراتيجية دفاعية ضد العدوان الصهيوني.
إن هاتين المسألتين تعيدان إلى الذاكرة اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي وُقِّعت في الستينيات من القرن الماضي، وأفشلتها نتائج حرب حزيران في العام 1967. ونحن نعتقد أن فشلها كان مرتبطاً بجوانبها الفنية وليس بجوانبها المبدئية، أي باعتمادها على مستلزمات الحرب النظامية التي تنتصر فيها نوعية التكنولوجيا العسكرية المستخدمة فيها، بحيث عندما تهزم تكنولوجيا متطورة تكنولوجيا متخلفة تنعكس الهزيمة على الجندي، فيحصل الاحتلال من دون عناء. الأمر الذي يستلزم الدعوة لتطويرها على ضوء نتائج المقاومة الشعبية المسلحة التي يأتي دورها متزامناً أو متلازماً مع الحرب النظامية، بحيث عندما تنهزم التكنولوجيا لا تنعكس هزيمة على الجندي، وعندما تبقى معنويات الجندي نائية عن مصير الآلية تدوم المواجهة بين جندي يقاوم على أرض يعرفها تمام المعرفة ضد جندي محتل لأرض يجهلها.
فالأمر الأول الذي نستخلصه هو أن تستثمر أي حكومة في لبنان مبدئية إيمان اللبنانيين كلهم بواجب الدفاع عن لبنان، باستثناءات نادرة يرتبط أصحابها بالمشاريع الخارجية المعادية تحت ستائر شتى، لكي يتفق الأطراف على سياسة دفاعية يتكامل فيها الرسمي مع الشعبي. ويأتي في مقدمتها تشكيل شعبي مقاوم يخضع لتأهيل وطني دقيق بعيداً عن الانتماء الطائفي.
2-على مستوى التكامل القومي العربي:
أما الأمر الآخر، وهو التكامل القومي بين قطرين أو أكثر، فيُعدان لاستراتيجية دفاعية مشتركة، بحيث يُعتبر القطر منهما جبهة داعمة للآخر. ومن هذا المنظار، يمكن لتجربة المقاومة اللبنانية، خاصة في مرحلتها الأخيرة، أن تشكل حافزاً مضموناً من أجل تطوير العقيدة العسكرية التقليدية بالانتقال بها من مفاهيم الحروب النظامية التي لا يمكن لأي نظام عربي أن يصل بها إلى مستويات التوازن مع القوى المعادية إلى مستويات التوازن بالرعب معها، وعلى مستويين:
-في المواجهة مع العدو الصهيوني تُستخدم منظومات الصواريخ العابرة.
-في مواجهة نوايا الاحتلال تُستخدم فيها عوامل التضحية والفداء كعقيدة لحرب العصابات.
وإذا كان لا بدَّ من الحصول على الدعم الدولي، فهو وافر وخصب حتى بين أقطاب النظام الرأسمالي الغربي، لأن هؤلاء الأقطاب تحكم علاقاتهم العمل على التوازن في ضمان المصالح، والعرب يمكنهم أن يضمنوا مصالح من يضمن مصالحهم. والأمر سيكون أكثر ترغيباً إذا نظرنا لمثل هذه العلاقة مع دول العالم الأخرى التي كانت تشكل القطب الثاني في الحرب الباردة قبل تفكيك الاتحاد السوفياتي.
3-على مستوى التكامل الإقليمي:
إن الهجمة الاستعمارية، خاصة بطبعتها الأميركية الجديدة، تستهدف العالم كله، وفي القلب منه مربع إنتاج البترول، وتقع إيران في هذا القلب. هذه الحقيقة تستدعي أن يكون الوطن العربي على تنسيق تام مع الإقليم الجغرافي المجاور لحماية المصالح المشتركة التي توجبها الجيرة الحسنة.
وإذا كان الأمر واضحاً بالنسبة لقوى المقاومة العربية لأهداف الإمبريالية، وأكثرها وعياً المقاومة الوطنية العراقية، فإن التجربة دلَّت على أن إيران ليست واعية بما فيه الكفاية لتلك الأهداف، وحتى وعيها الجزئي لها دفعها من أجل ضمان مصالحها إلى أن تقف إلى جانب قوى العدوان بدلاً من الوقوف إلى جانب الجار العربي.
وحيث إن لإيران مواقف داعمة لفصيل من المقاومة اللبنانية لمواجهة العدو الصهيوني، كما أوضحنا في فقرات سابقة من دراستنا هذه، ومواقف مغايرة ومستهجنة ومعادية للمقاومة العراقية، وقعت أوساط عربية واسعة في دائرة التضليل جراء هذا الالتباس وراحت تؤيد الجانب الإيجابي من تقديمات النظام السياسي في إيران للمقاومة اللبنانية، وتغاضت عن المواقف السلبية التي وصلت إلى حدود الجريمة المنظمة التي تمارسها في العراق التي من أهمها العمل على ذبح المقاومة العراقية بطريقة لا تقل شراسة عما يفعله الاحتلال الأميركي أولاً، وعلى ذبح العراق بتقسيمه وتفتيته ونهبه واجتثاث عروبته ثانياً.
إن الاحتلال الأميركي ما كان ليحصل لولا الدعم الإيراني، وما كان له أن يستمر لولا هذا الدعم أيضاً.
والحال على هذا المنوال يدفعنا النظر إلى الصورة بشكل معكوس، أي أنه لو سلكت إيران طريق الحوار مع الجوار العربي لكان من الممكن أن تضمن مصالحها بشكل أكثر ثباتاً بدلاً من أن تلتف على الحقيقة لتقوم بضمانها عن طريق الولايات المتحدة الأميركية التي عندما تتمكن من الاستقرار في الوطن العربي، وبشكل خاص في العراق، فإنها لن تترك لأحد مصلحة هذا إذا لم تبتلع تلك المصالح كلها وهي أقدر على ذلك من كل القوى العالمية.
نتيجة كل ذلك، كيف يمكن للمقاومة أن تؤسس قاعدة ثابتة لها، نرى ما يلي:
-ترسيخ أسس وطنية تشكل الضامن لاستمرارها.
-ترسيخ أبعاد قومية تضمن سلامة عمقها الاستراتيجي العربي.
-ترسيخ قواعد إيديولوجية وطنية لبنانية، وقومية عربية، تحول دون تحويل مسارات وظائفها الإقليمية الضيقة لمصلحة مقاومة توازن بين مصالح الثلاثي: الوطني والقومي والإقليمي.
هناك تعليق واحد:
المعروف..... منذ حملة نابليون على مصر ..من اجل خلق دولة لليهود بفلسطين ، حتى يرموا بيهود اوروبا بالتيه مرة اخرة كما فعلت روما قديما .... بعد خيانة ظابط فرنسي مع الانكليز حيث الظابط يدين باليهودية ؟
بان الفرنسيين كانوا اصحاب الافكار والانكليز اصحاب التطبيقات لافكار الفرنسيين ؟ وبالفعل كان الفرنسيين سباقين بفكرة الفوضى الخلاقة.... او الهدامة بالاحرى ، فخلقوا نظام عجيب غريب بلبنان، كان الاداة للامريكان بتعميم الفوضى الخلاقة بالمنطقة أي تعميم النظام الطائفي ، على اساس الديمقرطية محاصصة كما حصص المواشي لاصحاب الماشية ... ومنذ استقلال لبنان مع نظام المحاصصة الطائفي الديموقرطي البرلماني الحر ، مع دستور كان للجمهورية الفرنسية الخامسة كواجهة .... ولكن على الارض،، المطبق هو العرف ... بتداول السلطة وهذا النظام له دورة عشرية للخلق الحروب وتجديد نفسه من نفسه الخلاقة ؟!....
والان عممت تجربة لبنان الناجحة على العرب لتدميرهم كليا ...بذلك يكون الفرنسيين هم اصحاب فكرة الفوضى الخلاقة للحروب والهدم بارض العرب ؟!
متابع
إرسال تعليق