في مواجهة المسيرات المليونية في لبنان
تبقى مسيرات الشباب الألوفية خطوة صحيحة نحو التغيير
لا تغيير حقيقي من دون تغيير ثقافي:
تعريف الشباب البيولوجي والشباب الثقافي:
نحن الشباب لنا الغد، ليست فلتة شاعر يهتم بالوزن والقافية أكثر مما يثبِّت حقيقة تستند إليها المجتمعات في التغيير نحو الأحسن، حيث إن الشباب هو رمز للتجدد والتجديد. وبما أن الشباب رمز التجدد في الحياة، وعلى عاتقه تقع مسؤولية استلام مهمة استمرار الإنتاج من السلف، والإنتاج لا يعني ما يقوم الساعد بعبئه فقط، بل ما يقوم العقل بأوده أيضاً، يعني ذلك أن للتجديد جناحان: الساعد المفتول والعقل النيِّر. فللشباب، بهذه المفاهيم، وجهان: الوجه البيولوجي والوجه الثقافي. فالوجه البيولوجي هو الجناح التنفيذي، والوجه الثقافي هو الجناح المخطط.
وهنا لا نعني بالشباب المرحلة البيولوجية التي تشكل مرحلة من عمر الإنسان الجسدية وتركيبه البيولولوجي فحسب، وإنما نعني المرحلة الثقافية الشابة أيضاً، أي المرحلة التي تواكب كل جديد في الإطار الثقافي، والتي تسابق الزمن بتطوير المعرفة وتعميقها وتجديدها حتى لا تتخلف فيه عن أحدث أنواعها وأشكالها. وهنا نعني بمرحلة الشباب حالة التكامل ما بين مرحلة الشباب البيولوجي والشباب الثقافي.
واستناداً إليه، كم نرى، من الناحية البيولوجية، كهولاً كادوا يسيرون بعجز على ثلاثة أرجل بينما هم يسيرون على رجلين ثقافيتين نشطتين تحاكي أرجل الشباب بالنشاط والحيوية. وكم نرى شباباً يفيضون حيوية بيولوجية لكنهم يسيرون على أربعة أرجل من عجز الشيخوخة الثقافية. فالصنف الأول نعدهم بين الشباب بينما الصنف الثاني نحسبهم من بين الذين بلغوا من العمر عتيّا. والأكمل بين هذا وذاك أن يجمع الإنسان بين حيوية بيولوجية وحيوية ثقافية تحمل بذور التجديد الدائم.
ولما كانت الثقافات متعددة تعدد المجتمعات وكثرتها، وتعدد الإيديولوجيات وتضاربها، نعني بالثقافة هنا، هي تلك التي تلبي حاجة المجتمعات الوطنية، وليست حاجة التجمعات العرقية أو الطائفية، لتطوير أسس حياتها في شتى المجالات على أن تحاكي عامل الزمن والعصر والدولة الحديثة.
فهناك، استناداً إلى المفهوم الذي نقيس به الثقافة، العديد من الثقافات التي ننسبها إلى عمر الشيخوخة، لأنها كانت من إنتاج عصور سابقة قد تعود مصادرها إلى مئات السنين، وحتى وإن كانت تلك الثقافات تلبي حاجة المجتمع في زمانها ومكانها السابقين، إلاَّ أن مقاييس الحكم عليها الآن بالشباب أو الشيخوخة هو مدى تجاوبها مع روح العصر، ومدى استجابتها لحاجات المجتمع الحديث والمعاصر. وإذا كان الجواب بالنفي، وهو غالباً سيكون كذلك، فحكمنا عليها أنها أصبحت من العمر عتيا ولا يمكن أن تنتسب إلى عصر الفتوة والشباب حتى ولو اعتنقها الآن ممن هم يُصنَّفون شباباً بالمقاييس البيولوجية.
وإنما الثقافة الشابة أيضاً، هي التي تحاكي روح العصر على المستوى الإنساني للبشرية جمعاء، والتي تكتسب سمات الحداثة بمعناها الواسع، أي هي التي تستجيب لحاجات المجتمعات الحديثة والمعاصرة. وعلى أن تتميز بسمات الثقافة الإنسانية التي تعمل على ردم الفجوة تدريجياً بين مفاهيم المجتمعات المختلفة.
ولذلك من حاز على ثقافة يعود عمرها إلى عمر الشيخوخة فهو هرم ولا صلة له بالشباب حتى ولو كان شاباً بالمفهوم البيولوجي. ومن حاز على ثقافة الحداثة والمعاصرة فهو شاب بالمعنى النفسي والاجتماعي حتى ولو كان من الشيوخ المعمِّرين بيولوجياً.
استناداً إلى تعريف مفهومنا للثقافة يمكننا تحديد مفهومنا لمن نعتبره شيخاً طاعناً في السن، أو لمن نعتبره شاباً في ريعان شبابه.
نحن الشباب لنا الغد، شعار حديث ومعاصر لأنه يعمل على إسقاط ثقافة أصبحت بالية بالمفهوم التغييري، والتغيير الثقافي يحتاج إلى أجيال ليكمل دورته ويتعمَّق في وعيها. وإن رفع الشباب السقف الأعلى للتغيير السياسي إلاَّ أن عليه أن يبقى ضمن حدود الواقع في الحصول على إنجازات مرحلية لتتلوها إنجازات أخرى. ولأن أساس المشكلة ثقافية، أي أن تغيير ثقافة الأمر الواقع إلى ثقافة الرجاء المنشود لا بُدَّ من أن تمر بتحولات محكومة بعامل الزمن، كان من العلمية أن تعي الفئات الشابة تلك الحقيقة، أي أن تتميَّز بعامل الصبر والوعي معاً. وعن ذلك، فقد زرع الوطنيون الأوائل شعارات لا تزال صالحة للنضال من أجلها، ووضعوا الكثير من المداميك التي على الشباب أن يبنوا عليها، كما أنه علىهم في هذه المرحلة أن يقوموا بتعميقها وتأسيس حركة مستمرة ليكمل من يأتي بعدهم من الشباب في المستقبل طريقهم.
وقياساً إلى تلك المعايير دعونا نلقي نظرة فاحصة على ما يدور على الساحة اللبنانية من حراك نعتبره حراكاً جديداً متميزاً بأنه حرَّك سطح المياه التي كانت راكدة إلى الأمس القريب. الأمس الذي بدت فيه آمال التغيير قد أخذت تضيق خاصة أن الواقع الطائفي والحقن الطائفي في لبنان بلغ مستويات خطيرة، كان اللبنانيون بسببه ينتظرون اندلاع الحريق في أية لحظة.
لم يكن الحراك السياسي الدولي والعربي في لبنان، الذي أوقف اندلاع الحريق في أكثر من مرة يعمل لإيجاد حل جذري للمسألة الطائفية في لبنان، وإنما كانت معظم أهدافه القصوى أن يُنجز ما سُمِّي بـ«إدارة الأزمة في لبنان»، أي ترسيخ مفهوم النظام الطائفي السياسي واعتباره «نظاماً نهائياً» لإدارة المجتمع اللبناني، خاصة أن هذا النظام يلبي مصالح النخب الطائفية اللبنانية من جهة، ويثبِّت أقدام سياسة «الاستقواء بالخارج» من جهة أخرى.
في ظل استمرار قواعد النظام الطائفي السياسي، كنظام يُحكم لبنان على أساسه، برضى من طائفيي لبنان، وضغط من الخارج المستفيد من استمراره، جاء نزول الشباب إلى الشارع ليشكل حراكاً واعداً سلك الخطوة الأولى على طريق ألف ميل التغيير لهذا النظام. ولأننا نعتبر أن أي حراك لا يملك، ولن يملك، عصاً سحرية تنتج له التغيير بسرعة قياسية، أي عن طريق مارد يخرج من خاتم سليمان ليلبي طلبات سيده في اللحظة التي يتلفظ بها، فإننا لا نزال نعتقد بأن للتغيير مراحل لا يستطيع أحد حرقها إلاَّ ويقع في محاذير الرومانسية.
وبناء عليه، نعتبر المسيرات التي يتم تنظيمها اليوم في لبنان، من أقصاه إلى أقصاه، ثورة شبابية بالفعل، لأنها ثورة ثقافية حديثة جاءت لتنقلب ضد ثقافة نظام أثبتت التجارب التاريخية فشلها، وهي بلا شك أصبحت من الثقافات الهرمة. كما تبرهن أهدافها في تغيير النظام الطائفي السياسي على حقيقة شباب هذه الثورة، خاصة أن هذا النظام أثبت عجزه عن التعبير عن حاجات المجتمع اللبناني المتعدد الانتماءات الطائفية.
كما أنه في الوقت ذاته تعطي هذه المسيرات إشارات واضحة إلى أن من ينخرطون في الشارع إنما يقومون أولاً بتجميع من يمتلكون ثقافة الشباب، ثقافة الوطن، ثقافة عصر الدولة المدنية الحديثة، من أجل تمهيد الطريق للتغيير بثورة ثقافية على الصعيد الأفقي في المجتمع اللبناني ثانياً. وإن أهمية هذه البدايات تستند إلى أنه لا يمكن للتغيير أن يولد طبيعياً وجذرياً من دون ثقافة تحدد له معالمه وزواياه وأعماقه، وبالتالي تساعده على معرفة من أين يبدأ وأين سينتهي؟
في هذه الدراسة سنقوم بمعالجة بعض الجوانب التي نحسب أنها تفيد حركة الشباب الواعدة، ومن أهمها الإشكاليات التالية:
أولاً: ثقافة الطوائف من الثقافات الهرمة.
ثانياً: واجب التمييز بين الثقافة الروحية والثقافة الطائفية
ثالثاً: ثقافة الطوائف والمال السياسي الطائفي بداية فعلية لتقسيم لبنان.
رابعاً: ثقافة الطوائف ومعالم التغيير المرحلي:
خامساً: ثقافة الدولة المدنية شبابية بامتياز
أولاً: ثقافة الطوائف من الثقافات الهرمة.
منذ أن عرف الإنسان مفاهيم الأديان السماوية، حملت تلك المفاهيم معها تناقضاتها الداخلية. ولذلك، من رحم تلك الأديان وُلدت الطوائف والمذاهب المتعددة التأويلات والاجتهادات، فتوزَّع المتمذهبون إلى فرق تتحارب وتتقاتل فيما بينها. وكان اقتتالها من النوع الشرس والأشد دموية من الحروب الأخرى. فالحروب بين المذاهب كانت الأشد دموية لأن كل مذهب يعتقد أنه ينفذ الأوامر الإلهية، أي بمعنى أنه يدافع عن حدود الله. ولأن كل مذهب، في داخل الدين الواحد، يعتبر أنه الفرقة الوحيدة الناجية من النار، فيعتقد أيضاً أن المذاهب الأخرى بمثابة المرتدة عن الدين، والحكم على المرتد هو القتل. ومن يقتل مرتداً سيحوز على رضى الله فيدخله الجنة لأنه وهب روحه من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، وقاتل الكافرين به. ولهذا تكون ثنائية (المؤمن والمرتد) موازية لثنائية (الكفر والإيمان)، بحيث يطلق كل طرف منها على نفسه بأنه المؤمن بينما الآخر هو الكافر. وبناء على تلك الثنائية تتحول الحروب بين المذاهب إلى حروب مقدسة لا هوادة فيها. وقد عرفت الأديان السماوية، من دون استثناء، الكثير من الصراعات الداخلية بين مذاهبها وطوائفها. كما أن الحروب بين الأديان المختلفة كانت تتخذ صفة الحروب المقدسة.
فعلى الصعيد المسيحي انقسم المسيحيون إلى مؤمنين وهراطقة وعلى أساسها نصب المذهب الأقوى محاكم التفتيش لتخليص المسيحية، كما يزعمون، من الهراطقة الذين ارتدوا عن تعاليم المسيحية الصحيحة. والهراطقة بمفهوم المذهب المسيحي الحاكم هم مسيحيون ينتسبون إلى مذهب آخر. (جاء في الكتاب المقدس (تثنية 13 : 6) «وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ أَوْ صَاحِبُكَ الذِي مِثْلُ نَفْسِكَ قَائِلاً: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلا آبَاؤُكَ 8 فَلا تَرْضَ مِنْهُ وَلا تَسْمَعْ لهُ وَلا تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَليْهِ وَلا تَرِقَّ لهُ وَلا تَسْتُرْهُ 9 بَل قَتْلاً تَقْتُلُهُ. يَدُكَ تَكُونُ عَليْهِ أَوَّلاً لِقَتْلِهِ ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيراً. 10 تَرْجُمُهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ»).
وكذلك على الصعيد الإسلامي انقسم المسلمون إلى مؤمنين بالإسلام ومرتدين عنه. وعمل المؤمنون على تخليص الإسلام، كما يزعمون، من المرتدين عن الإسلام الصحيح والرافضين له تطبيقاً للحديث النبوي من «ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه». وهنا لا يفوتنا أيضاً أن المنتسبين لمذهب إسلامي هم المؤمنون بنظر مذهبهم، أما المنتسبون إلى المذاهب الأخرى فهم المرتدون عن الإسلام. وبهذا المعنى يصبح المذهبي الآخر هو المرتد عن الإسلام. أما على صعيد النظرة للعلاقة بين الأديان فتسود ثنائية (المؤمن والكافر)، وهذه الثنائية تشكل مصدر حروب دينية على قاعدة أن الآخر هو الكافر.
أما في تقديرنا، فنعيد أسباب الحروب (الحروب المقدسة)، ولا تزال، تعود إلى إشكالية الخلط بين عاملين:
-ثقافة البعد الروحي، وهذا البعد هو أحد طرفيْ ثنائية الروح والجسد، كما أنه الطرف المعرفي الذي يُعرف بفلسفة الميتافيزيقيا (الماورائيات)، أي معرفة الإنسان لمصيره بعد الموت، والنظر بالفلسفة الماورائية يحتاج إلى ثقافة عالية المستوى بالتجريد. وهي بلا شك تتطلب مهارات عقلية لا يستطيع اكتسابها إلاَّ الراسخون بالعلم المجرد. والمعرفة بهذا البعد لها أعماق موضوعية، ويعترف أحد مذاهبها بالآخر. وأخيراً دخلت العلوم النفسية إلى هذا الحقل، بحيث تعتبر هذه العلوم أن الصحية النفسية للإنسان ضرورة بشرية كما أن الصحة الجسدية هي مقابلها الذي يوازيها بالأهمية. وهذا الأمر يثبت أن الإنسان بحاجة إلى تكامل الصحة الجسدية والصحة النفسية معاً لكي يكون إنساناً سوياً. وتأتي المسائل الماورائية أحد أهم العوامل التي يهتم بها كل إنسان على وجه الأرض، ومن تلك العوامل تأتي مسألة الروح ومصيرها بعد الموت التي عالجتها الظاهرة الدينية منذ وجود الإنسان على وجه الأرض، وتطورت مفاهيم هذه الظاهرة وارتقت من سذاجة الدين الوثني إلى سمو الدين السماوي. ومع كل ذلك حوَّلت الأديان السماوية أتباعها إلى مقلِّدين يتلقنون أصول خلاص أنفسهم بالنقل والتقليد، وفي هذا الإطار ربط المتدين شخصيته كلياً بإرادة رجل الدين الذي إما أن يحول تابعيه أو بعضهم إلى أدوات تقلِّد وقلما يُسمح لهم بالتجديد وإذا حصل ذلك فعلى أن يكون التجديد مأسوراً داخل دائرة ما يُسمى بـ«النص المقدس».
-وثقافة الطائفة وهي الثقافة المبنية على المحسوس، وجلها يعتمد على مجموعة من الطقوس والعبادات، أي مجموعة من المسلمات التي لا تقبل النقاش، وبها لا يرى من الآخر إلاَّ (الكافر والهرطوق) و(المؤمن والمرتد) و(المؤمن والكافر) و(المؤمن والزنديق). وهي ثقافة سطحية لا تحتاج من الإنسان العادي إلاَّ قدراً بسيطاً من المعلومات التي يتلقنها عن ظهر قلب. وممارسة بعض العبادات التي لا تحتاج أكثر من آلية يعتادها الإنسان بالتقليد والتكرار. وهي لا تتطلب من الإنسان إلاَّ ممارسة ما هو محسوس وقريب المنال من مستوياته العقلية. وبالإضافة إلى هذا أو ذاك، يتحول المتدين إلى تابع أمين لرجل الدين الذي بدوره قد يكون صاحب ثقافة سطحية لا تسمن ولا تغني، هذا إذا لم يتحول رجل الدين إلى آلة ينقل من الأعلى منه.
ثانياً: واجب التمييز بين الثقافة الروحية والثقافة الطائفية
منطلقاً من ثنائية (الحياة والموت)، ترافقت حياة الإنسان منذ بداية التاريخ البشري مع أسئلة على غاية من الأهمية، تستند إلى السعي وراء معرفة مصيره بعد الموت. إن هذا السؤال لم يشغل بال المواطن البسيط فحسب، بل شغل أدمغة كبار الفلاسفة والمفكرين أيضاً. وإذا كان البسطاء من الناس حصلوا على أجوبة مقنعة من بعض المتقدمين عليهم بثقافة الطوائف إلاَّ أن الإثنين معاً لم يميزا بين ما هو روحي وما هو مادي؛ فربطوا مصير الإنسان بعد الموت بمجموعة من الطقوس والعبادات والممارسات المحسوسة المرتبطة بكل ما هو مادي، وهذا على خلاف مما انتهجه الفلاسفة وكبار المفكرين من الذين أنتجوا ثقافة روحية على درجة عالية المستوى.
من هذا الأمر نستطيع أن نميز بين الثقافة الروحية المتميزة بسمو المعاني والأهداف ذات العلاقة بالقيم العليا، وبين الثقافة الطائفية المتدنية المستوى التي ليست أكثر من تبسيط ساذج توحي لقليل الثقافة أنه بها وحدها يمكنه أن يحفظ مكانه في الجنة من دون عناء كثير وتفكير عميق.
ولأن مصير الإنسان بعد الموت هو الهاجس، ولأنه سيلقى حسابه في تلك المرحلة عما جنت يداه، ولأن هذا الطريق بالإيمان أصبح خطاً أكثرياً للحياة الروحية لأكثر الأديان، وأكثر سكان الكرة الأرضية، ولأهمية هذا الجانب في حياة البشر، بحيث لا ينشغل به إلاَّ الأقلية القليلة ممن يُعتبرون من الماديين. لأجل كل ذلك راجت منذ الزمن البعيد أنه من الواجب أن تشكل طبقة من رجال الدين واسطة لن يتعرَّف الإنسان على طريق خلاص نفسه في الآخرة من دونهم. وبذلك كانت المؤسسات الدينية هي التي أخذت تنظم رجالاتها وتشرف عليهم وتقوم بتوجيههم حتى أمست المؤسسات الدينية في كل الأديان والمذاهب المتفرعة عنها كأنها تنوب عن الله تعالى ليس في توجيه أتباعها فحسب بل في زعمها أنه تقودهم إلى الخلاص في الآخرة أيضاً.
إن ارتباط مصير النفس في الآخرة بما يكسبه صاحبها من أعمال دنيوية صالحة أم طالحة، جعلت من رجل الدين يتحول من الإرشاد الروحي إلى الإرشاد الدنيوي. وهو بمثل هذا الانتقال برسالته أو مهنته أو وظيفته، حوَّل الإرشاد الروحي إلى إرشاد سياسي، وبهذا التحويل راح الإرشاد السياسي يتحول إلى إرشاد مقدس. ومع هذا التحول انتقلت الجماعات السياسية من ناشطة لتغيير الحياة السياسية إلى ناشطة لتمهيد الحياة الروحية وتأهيلها واكتسبت بمرور الزمن قدسية إلهية. ولهذا تراكمت أيضاً الثقافة الطائفية واكتسبت بعداً سياسياً يحمل أتباع الطوائف إلى الدفاع عنها وكأنها مقدسات لا تستوي حياة مكتسبيها من دون الدفاع عنها وكأنها دفاع عن المقدس الإلهي.
ولأن المقدسات الإلهية تكاثرت بتكاثر الطوائف فقد شكلت مشروعاً لاحتراب دائم بين المقدسات، أي بين الطوائف والمذاهب والأديان. ومن هنا اشتق اسم الطائفية السياسية، وكذلك النظام الطائفي السياسي، أي النظام الذي يقوم على تقاسم حصص السلطة بين أرباب الطوائف وأبنائها تحت ذريعة حفظ حقوق الطائفة وحماية أتباعها.
إن أكثر المجتمعات تعددية دينية ومذهبية هي التي عانت أكثر من غيرها من جراء تطبيق نظام حكم الطوائف، التي يسيرها قانون التوافق بين أطرافها، وهي بمثل هذا حوَّلت المجتمعات المتشاركة بأرض واحدة إلى نظام غريب في ذاته ويقع في منطقة ليست بالدولة الدينية كما أنها ليست بالدولة المدنية. وقد عرف الوطن العربي أول ظاهرة على هذا المثال هي تلك الظاهرة التي تأسست في لبنان منذ العام 1964 على أثر أقسى الحروب الطائفية وأكثرها وحشية هي تلك التي حصلت بين الموارنة والدروز في العام 1960. وهو النظام الذي عُرف بـ«نظام المتصرفية»، فكان هو النظام الذي شرَّع تدخل الدول الأجنبية في شؤون الإمبراطورية العثمانية. ولما سقطت تلك الإمبراطورية وحلَّ نظام الانتداب الفرنسي، كانت الظاهرة قد استفحلت وأصبحت عسيرة على الحل، وعلى الرغم من أن دولة الانتداب الفرنسي حاولت أن تحدث متغيرات تتقارب مع متغيرات الدولة الحديثة، و على الرغم من أن جبل لبنان الذي كان موطناً لنظام المتصرفية كبر حجمه ليصبح دولة لبنان الكبير بفعل إلحاق مناطق أخرى لدولة المتصرفية من كل الجهات، ظلَّ نظام التوافق السياسي بين الطوائف هو النظام المعمول به، فتقاسمت الطوائف في ظل الانتداب المواقع السياسية والإدارية الرئيسية. تم هذا على الرغم من أن فرنسا، الدولة المُنتَدَبة، قوَّت مواقع الحليف الطائفي الأكثر تطميناً لها بحماية مصالحها فكان الموارنة هم تلك الطائفة التي تميَّزت بمواقعها في هياكل الدولة اللبنانية السياسية والإدارية.
ولم يقتصر أمر هذه الوسيلة على العهد الفرنسي بل قويت شوكة السُّنة في مرحلة صعود الناصرية في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وتعزز وضع الشيعة في مرحلة الوجود السوري في لبنان منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي أيضاً. وكانت الطوائف الأخرى في لبنان في مواقع التهميش والغبن.
وأما في المرحلة الراهنة فلا يزال نجم الشيعة السياسية صاعداً لأكثر من عامل، وإذا كانت قيادتهم لمعركة تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الصهيوني لم تكن موقع خلاف حاد إذا لم يكن موقع تأييد واحترام، إلاَّ أن احتمال تأثيرهم السياسي في مستقبل لبنان ما لا ترتاح إليه الطوائف الأخرى إذا لم تكن المخاوف الحادة هي التي ترسم حدود العلاقات بين الشيعة السياسية والطوائف الأخرى، بحيث أنَّ ميل الأمور باتجاه تقوية مذهب على مذهب آخر هو إخلال بالتوافق الطائفي السائد في لبنان منذ قرن ونصف القرن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق