ثورة تموز في العراق هي الأم الفكرية للمقاومة الوطنية العراقية
كل وضع جديد يعجز عن بلوغ السقف الأعلى لوضع كان يسبقه فهو ليس بتغيير، حتى وإن تساوى معه بالسقف فهو ليس تغييراً أيضاً. بل مفهومنا للتغيير أن يتجاوز السقف الأعلى للتجارب الناجحة التي سبقته.
لن نقول إن ثورة الـ(17 – 30 من تموز 1968) كانت أماً للمقاومة العراقية فقط، بل نقول أيضاً إن المقاومة العراقية كانت من أهم إنتاجات تلك الثورة فهي تمثِّل حلقة التواصل المعرفي والثقافي معها. وإذا كانت إنتاجات الثورة ما قبل الاحتلال أنها أحدثت متغيرات جذرية في مفاهيم بنية الدولة العربية الحديثة، وأهدافها في محاربة الأمراض الداخلية والمؤامرات الخارجية، فإنما لأنها تأسَّست على بنية عقيدية وطنية وقومية في آنٍ معاً. فثورة تموز انقلبت على مسارات البنية التقليدية لتلك الدولة، لما سبقها من تجارب، وانتقلت بقفزات تُعدُّ ثورية على صعيد بناء الدولة المدنية ونهضوها على الصُعد الاجتماعية والسياسة والاقتصادية والعسكرية. وثورية (ثورة تموز)، على الرغم من أنها قامت على قواعد الانقلاب العسكري التي كانت سائدة آنذاك، فأنها بُنيت على عقائد ثابتة للدولة الحديثة، فلذلك تحولت من مسار الدولة التقليدية، التي تعني انتقال السلطة من أيدي نخبة إلى أيدي نخبة أخرى من دون تغيير في البناء المعرفي، إلى مسارات الدولة الثورية التي تعني تغييراً جذرياً في البنى المعرفية التي تتيح مثل هذا التغيير. وما لم يتم التوسع فيه أثناء البحث عن تجربة البعث في العراق هي تلك النقلة المعرفية والثقافية المعاصرة التي رسَّمت علاقة الدولة بالمواطن القائمة على قواعد الحكم لمصلحة الشعب، وعلاقة الدولة بمحيطها القومي العربي الذي يُعتبر تمهيداً علمياً لبناء الدولة العربية الواحدة.
ولأننا نعتقد أن المتغيرات على صعيد البنى المادية الثابتة لن تُحدث تغييراً جذرياً ثابتاً إلاَّ إذا سبقتها أو ترافقت معها ثورة ثقافية معرفية تردم الهوة ما بين اللاحق والسابق؛ وترسم خريطة طريق لمستقبلها بحيث تشكل البوصلة التي تحصِّن اتجاهاتها من الانحراف، وتصحِّح ما ينتابها من أخطاء، وتصوِّب النظر إلى أهداف تنطلق من حاجة الأمة للنهوض.
قامت ثورة تموز على مرجعية فكرية، ولا وجود لمؤسسات من دون تلك المرجعية. ولا معنى لتلك المرجعية من دون آليات تطبيقية تضع خطوات مرحلية تقود مسارات التغيير وتتحول بها من أحلام نظرية إلى واقع عملي ملموس. فالوجهان الفكري والتطبيقي يتكاملان، يتيح أحدهما للآخر فرصة التحقق؛ إذ مهما وقعت الآليات المرحلية في أخطاء تبقى المعايير النظرية حصانة لها تكشف وجودها كلما حصلت، وتعيد تصويب اتجاهاتها.
ولأنها ذات علاقة بالمجتمع الوطني، ليست الثوابت الفكرية جزيرة منعزلة عن مصالح هذا المجتمع، ولا يجوز أن تبقى كذلك، فالمجتمع سرعان ما يلتقط الالتواءات الحاصلة إما عن مسارات التطبيق أو الناتجة عن أخطاء التطبيق التي يتحمل مسؤوليتها البشر الذين يقودونها.
ومن أجل تقريب المرجعية الفكرية أكثر نحو تطبيق جيد. ومن أجل أن يكون اكتشاف الأخطاء سهلاً على المجتمع، يجب أن تترافق المرجعية الفكرية مع ثورة ثقافية تؤسس لها الدولة لتبني مجتمعاً مثقفاً يمتلك حاسة النقد الموضوعي، الذي بها يتم الكشف عن أخطاء الماضي من جهة، ووعي البديل الأفضل من جهة أخرى. وبهذا تشكِّل الحاسة النقدية العين المراقبة التي تصحح مسارات الحكومات التي تتولى شؤون الدولة والمجتمع.
لقد توفرت لثورة تموز في العراق مرجعية فكرية، قادها حزب البعث. فكانت قيادة الحزب للثورة قد وفَّرت لها الشرطين اللازمين: المرجعية الفكرية الوطنية والقومية، وآليات التنفيذ الواعية لأهدافها والمؤهلة لإحداث الثورة الثقافية.
يأخذ البعض على حكم ثورة تموز شموليته، أي تفرده بالحكم. ولكن من يخطئ هو الذي يعمل. ومن لا يعمل هو الوحيد الذي لا يخطئ. فأما الشمولية، أي بمعنى غياب التعددية، فهو أمر صحيح وإن كان يتحمل أسباب غيابها الحزب والمعارضة معاً. فأما الحزب، فلأنه كان يمر بظروف صعبة حينما استلم السلطة، كما أنه صحيح أنه وفَّر المرجعية الفكرية إلاَّ أنه كان لا يمتلك تجربة كافية من جهة ولم تكن البنية البشرية للمجتمع العراقي مؤهَّلَة ثقافياً بما فيه الكفاية من جهة أخرى. كما كانت بنية الأحزاب الأخرى البشرية التي تمتلك ثقافة الحد الأدنى مبنية على ثقافة التفرد ورفض الآخر. فكان تعصب الآخر لحزبه يصطدم بتعصب البعثي لحزبه أيضاً الأمر الذي أوصل التعددية إلى مآزق التنافس والاقتتال، فطالت فترة انتقال حزب البعث إلى ضفة اكتشاف أهمية تطبيق التعددية، ولما أخذ الاكتشاف طريقه للتنفيذ أغرق الخارج العراق بالكثير من المؤامرات التي أربكته وأعاقت عملية الانتقال السلمي نحو التعددية.
وإذا كانت التجربة لم تكتمل: بداية صحيحة للتعددية أخذت طريقها نحو التصحيح في برامج الحزب، منذ انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية من جهة، وجنوح المعارضة إلى الخروج من العراق ووقوع أكثرها بين مخالب المخابرات الأجنبية من جهة أخرى، جاء احتلال العراق ليقضي على أي أمل في التصحيح. لكن المنهج الاستراتيجي لانطلاقة المقاومة الوطنية العراقية جاء استئنافاً لتجربة مبتورة بدأت قبل الاحتلال، فلحظت استراتيجية المقاومة على أن العمل الجبهوي هو حاجة نظرية وعملية. وحوَّلت المقاومة منهجها النظري إلى واقع عملي أخذ طريقه للتطبيق عبر جبهة الجهاد والتحرير، فتوسّعت أطرها ولا تزال تشهد الكثير من التوسع حتى الآن، وما الجبهة الوطنية والقومية والإسلامية إلاَّ إحدى أهم تلك النتائج.
وفي مقالنا المحدود هذا لا يسعنا إلاَّ النظر بتفاؤل إلى مستقبل التعددية في النظام الوطني بعد التحرير القادم، محمولاً على أكتاف المناضلين العراقيين من كل الأطياف الدينية والحزبية والسياسية الذين تعمَّدت وحدتهم الجبهوية بالروح والدم والمعاناة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق