في 5/ 12/ 2011
وجَّه موقع (الحوار المتمدن) عدداً من الأسئلة عن دور الأحزاب والحركات اليسارية بالحراك الشعبي العربي، وكانت هذه أجوبتي:
أخي الأستاذ فواز فرحان المحترم
تحية طيبة
أبدأ بالمشاركة في ملف دور أحزاب وقوى وشخصيات (حركة التحرر العربي) من السؤال الأخير، إذ اعتبر موقع (الحوار المتمدن) واحداً من المواقع القليلة التي تسهم في بناء جسور الحوار بين أطراف تلك الحركة بعيداً عن التعصب للرأي، بحيث يكمل بعض أطرافها مهمة البعض الآخر، ويحاور بعضها البعض الآخر بهدوء وموضوعية، بحيث يلعب هذا الأنموذج من الحوار دوراً مهماً في إنتاج المواقف السليمة من شتى قضايا أمتنا العربية وما أكثرها وهي الأشد حاجة للموقف الموضوعي الصادق. وتتوفر مناخات الحوار السليم كلما انفتحت أبواب المنابر أمام الرأي الآخر. وهذا ما بدأ به موقعكم (الحوار المتمدن)، فتصدى لهذه المهمة بكفاءة وجدارة، وإن كانت هناك بعض الهنات فإنها لا تؤثر بالسياق العام لمنهج الموقع.
لذا أتوجه إليكم بأحر التهاني لبلوغ موقعكم عامه العاشر، وهو ما يزال ينتشر ويعم ويفتح صدره لكل الآراء. وبتعدد الآراء، ومن منطلق الحرص على بناء حركة عربية ثورية تحررية، يمكن لحركة التحر ر العربي أن تستفيد من المناخات الجديدة التي وفَّرها الحراك الشعبي العربي، الذي دقَّ الجرس الأول منذراً الأحزاب والقوى التقدمية ومنبهاً إلى أنه لو تخلَّفت عن دورها وتقوقعت، فإن الشعب سيتجاوزها ويقفز عن دورها لأنه ملَّ من الانتظار لما تعرض له وما يزال من قهر وتهميش وقمع وتجويع.
ومن هذه البداية سأتابع الإجابة على الأسئلة التسعة الموجهة إلينا، كواحد من الذين شرَّفهم موقعكم الكريم بتوجيهها إليه.
اسئلة الملف وأجوبة حسن خليل غريب:
بالإجابة تسلسلاً عن الأسئلة الواردة:
1-هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ و إلى أي مدى؟
من المفترض، نظرياً، أن تكون أحزاب وقوى حركة التحرر العربي صانعة للثورات وطبيبها. أي أفهم أن يكون الطبيب أول من يشخص المرض وأول من يصف العلاج. لأنه في ظل غياب التشخيص السليم للمرض وتحديد الدواء سيتوه المريض في بحر من الوصفات والعلاجات، فيقطف المشعوذون والسحرة وأصحاب الرقى ثمرة غفلة المريض فيبتزونه بطلاسمهم ورقياهم التي قد تفاقم المرض وتجعله يستشري أكثر.
وبالعودة إلى التجارب السابقة، نجد أن حركة التحرر العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي قد ملأت فراغاً كبيراً في عملية تغيير الواقع الفاسد عندما لعبت دوراً كبيراً، وملكت تأثيراً بالغاً في وسط المجتمع العربي، فكانت هي من يعمم ثقافة التغيير، ومن يحرك الشارع العربي. وفي المقابل كان الشارع العربي يمتلئ حيوية لافتة واستجابة سريعة لكل نداء ثوري توجهه الحركة الحزبية العربية كلما ألمَّ بأحد أقطار الأمة مصاب جلل. حينذاك، على الرغم من وجود هنات وثغرات وأخطاء قابلة للنقد والتغيير، كانت عملية التغيير تستند إلى ثنائية (الحزب – الشعب) في مواجهة عسف الأنظمة السياسية وفسادها وقمعها. فأحد طرفيْ الثنائية يتكامل مع الآخر، وبهذا التكامل كانت عملية التغيير أكثر موضوعية وثباتاً. ولأكثر من سبب حصل الانفصال بين طرفيْ الثنائية، لعلَّ أهمها عوامل خارجية وعوامل ذاتية.
-فالعوامل الخارجية كانت تتمثل بكل القوى المتضررة من وجود حركة حزبية منظمة واعية فعملت على إجهاضها أو تدجينها أو احتوائها أو إرهابها. وقد لعب هذا الدور تحالف من أهم أطرافه الاستعمار والصهيونية والأنظمة الرسمية التي تدور في فلكهما وتستجيب لإملاءاتهما.
-والعوامل الذاتية تعود إلى قصور ذاتي تتحمل مسؤوليته أطراف حركة التحرر العربي من دون استثناء. لكننا لا يجوز في رؤيتنا النقدية هذه إلاَّ أن نقوم بتحييد من هو قابع الآن في خنادق مقاومة الاحتلال الخارجي، فتلك المقاومة عصيِّة على احتواء الأنظمة الرسمية، كما هي غير هيَّابة من ترهيب القوى الخارجية، وغير مغفَّلة لتقع في أفخاخ ترغيبه.
نظرياً، بترتيب الأولويات الضرورية في تركيب آلية التغيير يحتل الربان (حركة التحرر العربي) دور من يوجه السفينة إلى الشاطئ الأمين، الربان الذي بغيابه عن قيادة السفينة قد تصطدم السفينة بأكثر من عائق، خاصة أنها تضل السبيل ولا تعرف أي عائق قد يغرقها.
منذ عقود غاب ربان سفينة التحرر العربي عن قيادة سفينته لأكثر من سبب ولم يبق منها إلاَّ قلة تحدَّت الواقع على الرغم من كل الصعاب، ولكنها ناقصة الخبرة والتجربة والدليل النظري، وهي مشتتة القوى لا تحيط بكل الوسائل التي تحاكي متغيرات المرحلة، والتي إن وُجد فهي ناقصة ومُنتقَصة. وإذا كنا لن نغمط حق كل من استمر في نضاله ولو على ضعف، وشارك في الحراك الشعبي الراهن ولو على استحياء، نرى من واجبنا أن نشكره لأنه ما يزال قابضاً على جمر الثورة في بيئة نظامية رسمية لا تعرف الرحمة، وفي بيئة معزولة عن جذورها القومية.
ولذلك، وفي غياب الربان، ظلت سفينة (الشعب) تكافح وتحس بالكثير من الألم والجوع، فتحركت وتململت وعملت من أجل الخلاص، فوقعت في شراك كثير من القراصنة الذين عملوا لتوجيه دفتها إلى مرافئ، ليس للشعب فيها مصلحة، للاستيلاء على حمولتها.
2-هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
عود إلى جوابنا أعلاه، نرى أن عاملا الاستبداد والقمع قد شكَّلا وجهاً أول في إضعاف حركات التغيير في الوطن العربي. ولأن معظم تلك الأنظمة كانت تشكل امتداداً لعقيدة الرأسمالية الغربية، نعتبر أن الداخل النظامي والخارج الرأسمالي كانا منذ بداية تأسيس الدولة العربية شريكين في القمع والاستبداد والفساد، لأنهما خادمان لبنية الشركات الكبرى وعقيدتها، تلك العقيدة التي تعطي الأولوية المطلقة لسرقة جهد الشعوب وثرواتها. فالعقيدة الرأسمالية المحمية بأساطيل الأطلسي وصواريخه هو الوجه الخلفي الذي يحمي معظم الأنظمة الرسمية العربية.
وإذا كان الوجه الأول لإضعاف حركة التحرر العربي قد تمَّ إنجازه بفعل ضغط تحالف النخب الاقتصادية المحلية، التي تحتل كراسي بعض الأنظمة الرسمية العربية، مع أنظمة الرأسمالية العالمية، المتمثلة بدول حلف الأطلسي، فإن الوجه الثاني يقبع في تجربة حركة التحرر العربي الداخلية. وبمراجعة سريعة، وعلى الرغم من أن الأمر يتطلب مراجعة نقدية شاملة وعميقة، يقوم بها كل حزب بمفرده، غابت الحركة النقدية الذاتية عن قاموس أطراف حركة التحرر العربي. وإذا كانت العملية النقدية داخل الحزب الواحد ضرورية، فإن الأهم الذي يليها يكمن في أن تشمل الحركة النقدية علاقات الأحزاب السلبية التي كانت سائدة فيما بينها والتي لعبت دوراً معيقاً وحالت دون تأسيس عمل جبهوي واسع. وضرورة العمل الجبهوي تنبع من الحاجة إلى تجميع كل قوى التغيير في كتلة واحدة لتمتلك القدرة الكافية للمواجهة ضد عدو يمتلك كل أسباب القوة السياسية والإمكانيات المادية. ففي المراحل السابقة وبينما كانت القوى المتضررة من وجود حركية حزبية فاعلة تتحد في تحالفات قوية، كانت الحركة الحزبية العربية تتخاصم وتتقاتل وتتنافس، وتنشغل في معارك جانبية وثانوية. ومن هنا يصح القول بأن ضعف حركة التحرر العربي كانت تشكل عاملاً أساسياً في زيادة فعالية القوى المناهضة للأهداف الشعبية. وهنا، وعلى الرغم من أن دور وتأثير تلك الأحزاب كان كبيراً في أواسط القرن الماضي إلاَّ أن الصراعات التي كانت سائدة فيما بينها كانت تفوق بقسوتها قسوة الأنظمة الرسمية. ولهذا أضعفت بنفسها مقاومتها مخطط إلغاء تأثيرها واجتثاث دورها.
وأما المطلوب في هذه المرحلة، وبدلاً من إعادة الندب على الأطلال، أن نتوجه بنداء خالص إليها كلها لتستفيد من تجربتها السابقة وتبادر إلى صياغة علاقة جبهوية سليمة فيما بينها على أسس ثابتة. وإذا حصل هذا التحول فنحن على ثقة تامة بأن حركة التحرر العربي ستكون الصخرة الصلبة التي تتكسر كل قرون المتآمرين عليها.
3-هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها وابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
من خلال متابعة دؤوبة للحراك الشعبي العربي، لم أجد ما يشير إلى أن حركة التحرر العربي قد استفادت حتى الآن من هذا الحراك، وهذه ثغرة كبيرة. وإذا كان بعض ما تبقى منها يحاول اللحاق بالركب الشعبي إلاَّ أنه لحاق ناقص يصب في دائرة الكسب الفئوي الموضعي الذي لن يستطيع دخول المنافسة مع التجمعات التقليدية الكبرى، وخاصة منها حركات الإسلام السياسي، والإرث الكبير الذي تركته الأنظمة التي سقطت، ويتمثل هذا الإرث بفلول لا يُستهان بها مما خلَّفته أحزاب الأنظمة. وإذا أضفنا إلىها ثغرة أخرى، وهي عدم استفادة حركة التحرر العربي مما قدَّمته، وما تزال تقدمه، حركة المقاومة العربية في العراق وفلسطين ولبنان، فإن الهوَّة التي تفصل حركة التحرر العربي عن جماهيرها تزداد وتتعمق أكثر.
ولكي لا نأتي بما يزرع اليأس بالنفوس، واليأس ينتفي تأثيره إذا ما نظرنا لما يمكن أن يجترحه الشعب من أعمال كنا ننظر إليها وكأنها من قبيل المعجزات. فما فات يمكن تعويضه بما أسمح لنفسي أن أسميه: (الشعب يريد تصحيح مسار الأحزاب العقيدية).
ولا يفوتنا هنا أن نُذكِّر بما حصل في ليبيا، نتيجة غياب الربان المنظم لحركة الشعب. فغيث ثورة ليبيا اليوم بأكملها أمطر على أرض الإمبراطورية الأطلسية. ولكن إذا استمر غياب حركة التحرر العربية فسوف تمطر ثورات شعبنا العربي الأخرى خيراً غزيراً تتلقفه قوى الثورة المضادة وفي المقدمة منها أنظمة الرأسمالية العالمية.
4-كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة؟
إن الثورة التي حصلت في كل من تونس ومصر، تلتقيان في أن كلاً منهما أسقطت نظاماً كان ملتحقاً بالتحالف الاستعماري -الصهيوني وينفذ أوامره وإملاءاته، وكان جزءاً كبيراً من فسادهما وقمعهما مسنوداً من الخارج، فأضعفت ثورتا تونس ومصر تأثير الخارج، وانتزعتا الحق بالتعبير السياسي الحر، ومنها إطلاق الحرية لتشكيل الأحزاب. هذه المتغيرات بلغت درجة كبرى من الأهمية التي إن استفادت منها الأحزاب التاريخية فسوف تساعدها على إعادة تأسيس دور فاعل في المراحل اللاحقة، خاصة في إحباط أهداف الثورة المضادة التي يقودها تحالف الرأسمال والصهيونية، ومن أهم تلك الأهداف إعادة إنتاج أنظمة مشابهة لتلك التي أُسقطت مع فارق الاعتراف بالمكتسبات التي تحصَّلت جراء العمل الثوري الذي أنجزه الشارعان التونسي والمصري.
باستثناء ما حصل في تونس ومصر، تأكد أن الحراك الشعبي في الأقطار الأخرى يتعرض إلى قرصنة أطلسية واضحة المعالم والأدوار والنتائج، ومن أكثرها خطورة إشعال حروب أهلية تشكل المقدمة الأساسية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، أي المشروع الذي سيرسم حدوداً داخل كل قطر عربي، وهي حدود جديدة شبيهة بما أسماها موقع القوى المسلحة الأميركية بـ(حدود الدم)، وهي حدود جديدة لدويلات طائفية وعرقية لن تكون إلاَّ مشروعاً دائماً لحروب داخلية متواصلة. وهي حروب يستنزف بها العرب دماء بعضهم البعض، بينما يسترخي الأطلسيون ليحموا آبار النفط، ويقومون بسرقتها.
لذا أسمح لنفسي بأن أعيد التذكير بما كتبت عنه سابقاً من تعريف لمصطلحات على حركة التحرر العربي أن توليها اهتماماً عندما تقوم بتحديد موقف مما يجري الآن. وهذه المصطلحات إيجازاً أعبر عنها بالتالي:
لحركة التغيير ثنائيتان: الأولى ثنائية (الشعب - النظام). والثانية ثنائية (الدولة – التدخل الخارجي).
-أما بالنسبة للأولى فنحن إلى جانب حركة الشعب من دون تحفظ، وبالضد من الأنظمة الفاسدة من دون تحفظ أيضاً، وهذا ما أعلناه بالنسبة لموقفنا مما حصل في تونس ومصر.
-وأما بالنسبة للثنائية الثانية فنحن إلى جانب الدولة من دون تحفظ، وضد التدخل الأجنبي من دون تحفظ أيضاً يصل إلى حدود التعاون حتى مع الأنظمة لاجتثاث وقطع يد التدخل الأجنبي وقطع كل يد تتعاون معه.
بناء على تعريفنا للمصطلح أعلاه، وبناء على وضوح التدخل الأجنبي في أكثر من دولة عربية، نعتبر أن ثنائية الصراع بين الشعب والنظام قد أصبحت بيئة مناسبة لتسلل الخارج عبرها وسُرقت الأهداف الشعبية لتصب في دائرة أهداف الخارج، وانحدر الحراك الشعبي من سقفه التغيير الداخلي، ليتحول إلى بيئة تهدد الدولة بالإسقاط وإنتاج أنظمة ملتحقة كلياً بالخارج. ومتى ما حصل ذلك تكون سفينة الشعب قد تاهت عن بوصلتها وصعد القراصنة إلى متنها ليتوجهوا بها إلى مرافئ الأطلسية ليُنتج احتلالاً مقنَّعاً بوجوه محلية وهذا ما تقوم بأدائه المعارضات الملتحقة بالخارج.
وهنا على قوى التغيير المنظمة، أحزاب وتيارات وشخصيات، أن تلعب دوراً وطنياً مغايراً لدورها في الحراك الشعبي الذي حصل في كل من مصر وتونس. فعليها أن تمنع قطع رأس الدولة في أقطار أخرى قبل أن تفكر بتجميله. فمن الغفلة بمكان أن نقوم بتصفيف شعر لرأس مقطوع أو مهدد بالقطع.
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي مع الإبقاء على تعددية المنابر يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
لقد أجبنا على جزء من السؤال، وهو تبيان ليس أهمية العمل الجبهوي فحسب، وإنما لحاجتنا الماسة إليه أيضاً، فبدونه تبقى مقاومتنا ضعيفة ومعرَّضة للانتكاسة دائماً.
وأما الشق الثاني من السؤال، والذي يتعلق بمفهومنا لمضمون العمل الجبهوي، فنرى من أهم تلك المضامين أنها هي تلك التي تزرع الاطمئنان في نفوس القوى والأحزاب التي ستنضوي تحت لوائه، وتحول دون استئثار الأحزاب القوية بالقرار.
أما كيف تُصاغ تلك المضامين؟
فأنا أعرف تماماً أن تلك العوامل لن يصنعها قرار، وإنما لكي تصبح فعَّالة يجب أن تتحول إلى حاجة ملحَّة عند الأحزاب يشعر المنتسبون إليها بأنهم سيحصلون لقاء تطبيقها على حماية وقوة لهم في كل نضالاتهم. فإذا لم تتعلم الأحزاب من تجاربها وتعمم ثقافة العمل الجبهوي لتصبح جزءاً أساسياً من ثقافة منتسبيها، يحترمون مبادءها كما يحترمون أنظمتهم الداخلية، فسيتحول الإطار الجبهوي إلى ميدان آخر للصراع. لذلك وبقناعتنا بالحاجة لتعدد الآراء وضرورتها من أجل إغناء الفكرة والموقف، نرى ما يراه السؤال، من أن حالة التشتت التي تعاني منها قوى التغيير على ساحة الوطن العربي لا يمكن معالجتها ومداواتها إلاَّ بعمل جبهوي يستند إلى مبدأ ورافعتين: فالمبدأ هو الاعتراف بحق الآخر بالرأي والتفكير والاعتقاد داخل المجتمع الواحد المتجانس والموحد المصير. وأما الرافعتين، فهما: عروبة الحركة وعلمانيتها. علماً أن لكل من الرافعتين خصائص لا يستوعب مناقشتها هذا اللقاء.
6-هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركاً أوسع بين الجماهير وآفاقاً أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية ؟
ما تزال جذور ثقافتنا متأثرة باطنياً بالغريزة الذكورية مما يجعل الذكر لا يتنازل للأنثى عن جزء من وظيفته من جهة، وربما لم تتأقلم تلك الثقافة مع ظاهرة خروج المرأة إلى خارج مهمتها التقليدية من جهة أخرى.
كما لا تزال النزعة السلطوية عند الرجل تسيطر على العقل الباطن فينا، الأمر الذي ينعكس سلباً حتى على أدائنا الحزبي المُعاش. وإذا استفحلت هذه النزعة فإنها لن تترك مكاناً لا لامرأة أو لشاب مكاناً في الدرجات القيادية العليا، بل أيضاً لن تترك مكاناً أو دوراً حتى للأكفياء من الذكور الكبار في السن.
ومن أهم الثغرات التي تؤدي إليها تلك النزعات أنها تجرف في طريقها حقوق العنصر الشاب من جهة، والعنصر الأنثوي من جهة أخرى. لذلك لا أحبذ القول الذي ابتدأ به السؤال: (هل تستطيع الأحزاب...)، بل القول: (هل يجوز أن تتجاهل الأحزاب...).
فإذا كانت الأحزاب حتى الآن تتجاهل دور عضوين أساسيين في الترتيب الاجتماعي، وهما المرأة والشاب، فإن شيئاً أساسياً يبدو ناقصاً في تفكيرها. وإذا لحظت أنظمتها الداخلية تلك الأهمية، ولكنها لم تعرها اهتماماً جدياً من حيث التطبيق، فعلى تلك الأحزاب أن تضع آلية ملزمة تستحدث فيها أدواراً لهما، وأن تعمل ضمن مراحل زمنية لها سقف واضح على تأهيل كل من تجد لديه الكفاءة من النساء والشباب ليتبوأ موقعه في العملية التنظيمية الداخلية، وهذا بدوره سيفرز تلقائياً العناصر النسائية والشبابية التي تستطيع مواجهة مهماتها في المجتمع، سواءٌ أكان على المستوى السياسي، أم كان على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
7-قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
أرجو أن يكون الجواب عن السؤال الأول، على إيجازه، كافياً.
8-هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر؟
من أهم المشاكل التي تعاني منها الحركة الحزبية الحديثة والمعاصرة هي إشكالية العلاقة بين الدين، بمعنى التسييس والتطييف؛ والقومية بمعنى سياسة الشؤون الدنيوية لمجتمع قومي واحد متعدد الانتماءات الدينية.
تعود أسباب هذه الإشكالية إلى غلبة تأثير الثقافة العربية الإسلامية الموروثة من عهود تمتد إلى قرون طويلة من التاريخ العربي الإسلامي، وتحديداً منذ انتصر النصوصيون الإسلاميون على تيار العقلانية في الفلسفة الإسلامية. هذا الانتصار كان ليس فقط من أسباب تجميد الحركة النهضوية في المجتمع العربي الإسلامي، بل ترافق أيضاً مع العصر الذي فقد فيه العرب سلطتهم السياسية وانتقلت لغيرهم من الشعوب التي تأسلمت، كالمماليك والعثمانيين. وكان قد سبق هذه النقلة ما عُرف بعصر الدويلات الطائفية التي تناحرت فيما بينها من جهة، وبعصر النزاع بين التيارات الفلسفية التي عملت على عقلنة الثقافة الإسلامية من جهة أخرى. وكانت النتيجة انتصار تيار النقل على تيار العقل.
وإذا أرَّخنا لنهاية هذا الصراع بتكفير ابن رشد وحرق كتبه، فإنه يكون قد مضى من عمر ثقافتنا الموروثة أكثر من تسعة قرون، ما تزال الثقافة الطائفية، كحد أدنى، تسم ثقافتنا المُعاشة حتى الآن. وقد انحدرت إلى ثقافة تكفيرية في حدها الأعلى، وهو ما نرى أنه يؤسس من جديد لسلسلة من الحروب الدموية، وهو العامل الذي تؤسس أيضاً عليه الإمبريالية العالمية مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتطلق عليه مشروع (حدود الدم). ومن المحزن والمؤسف معاً أن التيارات التكفيرية قد استجابت للتحالف مع أصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد وهماً منها أنها ستسقط ما تسميه أنظمة الكفر التي لا تطبق ما تسميه (شرع الله)، وهذا الهدف هو ما تنص عليه فتاوى فقههم بصراحة ووضوح.
هذا التقديم كان ضرورياً لمعرفة أن التيارات الإسلامية السياسية أقدر على استقطاب القطاع الأوسع من الجماهير والتأثير فيها، ولديها الإمكانات الكبيرة: الخطاب التحريضي، والموارد المالية. وهذا التأثير إما أن يكون إيجابياً أو أن يكون سلبياً. فهو إيجابي إذا كان يصب في دائرة مقاومة الهجمة الاستعمارية، أي أن يتم توظيف هذه الثقافة في معارك التحرر الوطني. وهو سلبي إذا كانت أبعاده تصب في دائرة تفتيت الدولة الحديثة للحصول على قطعة منها لتأسيس دويلة دينية تطبق فقه المذهب الذي سيحكم. أو الاستيلاء على النظام السياسي كله لبناء دولة دينية تطبق التشريع الإسلامي الذي لن يعدل بين شتى الفرق المذهبية داخل الدين الواحد، فكيف يكون أمر العدالة إذا كان يتعلق بغير من ليس بمسلم؟
ولهذا كله لن تستطيع القوى القومية العلمانية أن تنافس، أو أن تحد من تأثير تيارات الإسلام السياسي بسبب من سطحية خطابهم الذي يلامس عواطف الجماهير الواسعة أولاً. وحتى لو تمَّ تطبيق مبادئ الديموقراطية الحديثة لأنها قائمة على العددية بالأصوات ثانياً. وهنا أحسب أن جبهة واسعة من أحزاب وقوى حركة التحرر العربي لن تستطيع تجميع جزء من الأصوات التي يحصل عليها تيار سياسي إسلامي واحد. ولكن ما هو الحل؟
أما الحل على المدى الأبعد، الذي أحسب أنه سيحد من تأثير تيارات الإسلام السياسي، ورأيي مستند إلى تجربة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فهو تعميم الثقافة القومية العلمانية على الأسس التالية:
-أن لا تستسلم حركة التحرر العربي أمام نزعة الوصول إلى مقاعد الحكم التي ستقودها لاستجداء أصوات الناخبين بخطاب لا يجرؤ على نقد الثقافة السائدة. وبذلك ستضعف حجتها، وتتردد بإعلان قناعاتها ومبادئها.
-ليس من الضروري أن تضع حركة التحرر نفسها في موقع التصادم مع الثقافة السائدة، بل عليها أن تختار خطابها بعناية ودراية بحيث لا تزيف ثوابتها من جهة وأن تخرجها بالشكل الذي لا يستفز مشاعر الجماهير الواسعة من جهة أخرى.
9-ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر..... الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديداً وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
لا شك بأن تقنية المعلومات أحدثت أكبر ثورة بالاتصالات، ووفَّرت سرعة هائلة للتواصل بين البشر، وأخص منهم عنصر الشباب. وبرزت أهمية ذلك فيما يحصل الآن في الشارع العربي.
وكما أن سرعة التواصل كان لها إيجابية كبرى، كانت لها تأثيرات سلبية أيضاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ضحالة الثقافة التي يبثها الكثير من المواقع. فعدد كبير منها يديرها اختصاصيون لهم خبرة كافية بعلوم النفس والاجتماع. وعدد منها امتهن أسلوب التحريض العشوائي. كما أنه لا ننسى أن النسبة العظمى من الشباب يتلهون بما يُسمى (التشات) فيهدرون الوقت الثمين الذي يكون على حساب ملاحقتهم للمادة الثقافية والسياسية المركَّزة سواءٌ أكان منها التي تنشرها المواقع الرصينة أم على حساب المطالعة للمادة المطبوعة في الكتب والدوريات العلمية.
وإن ردم هوة الجانب السلبي يُعتبر من مهمة الأحزاب الملتزمة التي عليها أن تبتكر وسائل جديدة في تعميم الثقافة المعمَّقة.
10-بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
رجاءً راجع جوابنا في مقدمة الردود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق