الجمعة، يناير 20، 2012

إخترنا لكم من أرشيفنا الخاص/ هوية الدولة والنظام السياسي الذي نريد

-->
هوية الدولة والنظام السياسي الذي نريد
يساعد على رسم حدود العلاقة بين القومي والديني
الإسلام الثورة العربية الأولى
 ولكن فقهه لا يصلح نظاماً للحكم
مدخل
تكاثر المحللون والمؤولون لتحديد أسس علاقة العروبة بالإسلام، فبعضهم ربطهما عضوياً وكأنهما ثابتان لا يمكن الفصل بينهما، والبعض فصلهما كأنه لا رباط بينهما ووضع الواحد منهما في مواجهة مع الآخر، وقائل أنهما يلتقيان في جوانب ويفترقان في جوانب أخرى
ولأن إشكالية العلاقة تثير جدلاً اختلفت فيه التيارات الفكرية والسياسية حول تعيين تلك الحدود، ولأن في تحديدها انعكاس على اختيار النظام السياسي الأفضل الذي على العرب أن يختاروه كنظام للحكم، كاد المنخرطون في جدل تلك الإشكالية يتحولون إلى فرق ومذاهب يتعصب كل منها لرأيه. راح البعض، ممن يجنحون للقول بوجود علاقة عضوية بين العروبة والإسلام، يستخدم مصطلحات «المؤمن» و«المرتد» و«الملحد»، بحق من ينكر وجود علاقة عضوية بينهما. كما راح البعض، ممن يجنحون إلى الفصل بينهما، يستخدم مصطلحات «التخلف» و«الرجعية»، بحق التيار الآخر. من جراء ذلك يسود في مجرى الحركة الفكرية الآن صراع نخشى أن يتحول المنخرطون فيه إلى فرق يتعصب كل منهم إلى مذهبه، وكأنه لا يكفينا الصراع الحاد بين الفرق الإسلامية ومذاهب الإسلام وطوائفه.
وكي لا يبقى الصراع الكلامي بوضع الإسلام في مواجهة العروبة أو العكس، وهذا ما يصب في مصلحة المتضررين منهما معاً، كان لا بدَّ من الدخول في حركة حوارية للبدء بعمل فكري يسهم في تحديد المسافات بين طرفيْ هذه القضية الحيوية. لذلك، نرى بداية أن تحديد المصطلحات أمر ضروري، سنعمل على تعريف ما هو المقصود من العلاقة العضوية بين الدين والدولة، وما هو تعريف المقصود من الفصل بينهما.

تعريف عامل العلاقة العضوية، وعامل الفصل:
يتكون الجسم البشري من أعضاء يلعب كل عضو دوراً في المحافظة على سلامة الجسم، لكن دور كل عضو يختلف عن دور العضو الآخر. ويمكننا التمييز بين دور العضو الذي بافتقاده يؤدي إلى الوفاة، وبالتالي إلى انحلال الجسم، ودور عضو آخر بافتقاده يؤدي إلى ضرر جزئي. فأهمية دور الأطراف أو أعضاء الحواس، لا يمكن مقارنته بأهمية دور القلب أو الشرايين مثلاً؛ فبتر أحد الأطراف أو استئصال أحد الحواس، يُصاب الجسم بخلل جزئي لا يؤدي لموته أو انحلاله؛ بينما بتر القلب أو استئصاله يؤدي إلى الوفاة وبالتالي إلى انحلال الجسم. وعلى أية حال، وباستثناء دور الأعضاء التي تسبب الوفاة، نرى أنه كلما تعطَّل دور عضو في الجسم يؤدي بالجسم إلى الضعف والإنهاك. واستناداً إلى ذلك، وإذا اعتبرنا أن الدولة ثابت في تنظيم حياة البشر، وأن كل وسائل تنظيمها متغيرات، ومنها الدين، فهل حضور الدين أو غيابه في تنظيم حياة البشر يؤدي إلى فناء هذه الحياة أو استمرارها؟ وبالتالي ما هي وظيفة الدين كوسيلة لتنظيم حياة مواطني تلك الدولة؟
إجابة على ذلك، واستناداً إلى الحقائق التي أثبتتها التجربة التاريخية، فقد استمرت حياة الأفراد والأسر والقبائل والممالك الصغيرة والإمبراطوريات الكبيرة، منذ فجر التاريخ، ليس من دون إجماع على اعتناق دين واحد فحسب، بل استمرت حياتهم بوجود أديان متعددة. وتعيش دول في المرحلة الراهنة يختلف فيها دين كل دولة عن دين الدولة الأخرى. كما تعيش دول متعددة تعتقد كل منها بدين واحد ولكنها لا تتجانس بنوعية نظام الحكم السياسي فحسب، وإنما تتقاتل وتتصارع أيضاً. وهناك دول تعتقد كل منها بدين غير دين الأخرى فتجد التجانس والتحالف بينها.
إن العامل الذي تجمع عليه كل المجتمعات البشرية هو أن الدولة حاجة وضرورة إذا غابت دبَّت الفوضى في حياة تلك المجتمعات. واستطراداً أصبحت الدولة ثابتاً لا تنتظم حياة البشر من دونها. ووجود دول تنتمي مجتمعاتها إلى أديان متعددة ومتناقضة، ويؤكد استمرار بقائها على الرغم من تعددية الأديان فيها أن الدين متغير، لا تتأثر حياة الدولة بحضوره أو غيابه. ولكن نتساءل هل وجود الدين وجود عبثي؟ وهل ليس للدين تأثير في حياة المجتمعات؟
إن للدين أثر كبير، ليس في بناء الأنظمة السياسية بسبب من تعددية المقدسات بتعدد الأديان، وإنما يسهم بدور كبير في بناء الأفراد والمجتمعات أخلاقياً. فإذا كان الإنسان الأكثر صلاحاً للعيش في مجتمع هو الإنسان السوي، فإن الدين يسهم بدور مهم في بناء هذا الإنسان. وإذا كانت الدولة لا تقوم إلاَّ بوجود مجتمعات مؤهلة ومزوَّدة بالقيم العليا فإن الدين هو من أم المصادر الذي يسهم بتعميمها.

أولاً: أي دولة نريد؟ وأي نظام سياسي؟
بعد تحديد تعريفنا للمفاهيم والمصطلحات، ولكي نعرف أسس العلاقة بين القومية والدين بين العروبة والإسلام نحسب بدورنا أنه يجب أن نعرف هوية الدولة التي نريد أن نعيش في ظلها، أي النظام السياسي الذي يوفر العدالة والمساواة لشتى أطياف المجتمع القومي. ومن تحديدنا للجواب عن هذا السؤال يمكننا تحديد تلك العلاقة بأقرب ما يمكن إلى الدقة.
بعد أن أفل عصر الدولة الدينية، أو الإمبراطورية الدينية، بسقوط إمبراطورية «بابا روما» المسيحية منذ قرون في أوروبا، وسقوط الإمبرطورية العثمانية «الإمبراطورية الإسلامية» منذ أقل من قرن، عمَّت مفاهيم الدولة القومية في شتى أرجاء العالم. فتوزعت قوميات أوروبا إلى دول لها استقلالها وتمتلك سيادتها الكاملة على مواطنيها وأرضها وثرواتها. وهذا ما حصل بعد انهيار الإمبرطورية العثمانية الإسلامية، بحيث بنت شتى القوميات دولها وأنظمتها القومية باستثناء أقطار العروبة التي لا تزال تعيش مرحلة التفتت والانقسام؛ وفي الوقت ذاته تمارس بعض التيارات الفكرية السياسية مقاومة كل أشكال مشاريع إبقاء الأمة مفتتة مشتتة، ولعلَّ أكثر تلك المشاريع خطورة هي التي تهدف للقضاء على كل شعور أو تفكير قومي عربي. يتشارك في تنفيذ هذا المشروع مجموعة من القوى والتيارات منها الاستعماري الصهيوني الخارجي، ولعلَّ أشدها خطورة تلك التيارات الداخلية التي تتغطى بثوب الإسلام، وتستخدم هذا الثوب من أجل التشكيك بحقيقة وجود «قومية عربية»، فتضع الإسلام في مواجهة العروبة على الرغم من أنه يمثل ثورة العروبة الأولى، فهو قد وُلد على أرضها، ونزل قرآنه بلسانها، وأُوحي لنبي من أبنائها، وبنى إمبراطورية واسعة بزنود عربية.
كانت العروبة منذ بداية تكوينها ثابتاً والدين كان متغيراً. فالأرض العربية، والبيئة العربية، كانت ولاَّدة للعديد من الأديان السماوية، وكان الدين الإسلامي واحداً منها على الرغم من أنه كان الأكثر تأثيراً في التكوين القومي العربي كما نعرفه اليوم. وطوال المراحل التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين، تغيَّرت الأديان وبقيت العروبة.

في تحديد مصطلحات أشكال الدولة:
مفهوم الدولة القومية مفهوم حديث تعود أصوله إلى الثورة الفكرية التي حصلت في أوروبا، التي كان من أهم نتائجها قيام الثورة الفرنسية. ومن أهم أسسها الفكرية السياسية اعتبار إرادة الشعب مرجعية أولى في اختيار شكل الدولة أولاً واختيار الحاكم على أسس ديموقراطية ثانياً. فتكون الدولة بهذا المعنى عقداً اجتماعياً يتم التوافق عليه بين الحاكم والمحكوم.
صِيغت السلطة التي تقوم على أسس العقد الاجتماعي رداً على مفاهيم الدولة التي كانت سائدة قبل القرن الثامن عشر. تلك المفاهيم التي كانت تستند بشكل غير مباشر إلى مفاهيم الإمبراطوريات المدنية والدينية، وجاءت رداً مباشراً على عجز الإمبراطورية الدينية التي كانت تمثلها سلطة الكنيسة في أوروبا وما كانت تفرزه من سلطة الملوك الخاضعين لوصايتها من الذين يستمدون شرعيتهم منها، فكانت الشعوب الأوروبية تنوء تحت عبء استغلالين: استغلال الكنيسة  واستغلال الملوك وأمرائهم وحاشيتهم.
لذا جاء مفهوم الدولة القومية لينتزع من الكنيسة سلطتها بالسيادة على مقدرات الشعوب الخاضعة لها وثرواتها. كما جاء أيضاً لينتزع ولاية الشعب على نفسه بعد أن كان تابعاً لاستبداد الأنظمة الملكية بأذرعه الإقطاعية. واستناداً إلى هذا العامل التاريخي والمتغيرات الفكرية تمت صياغة مفهوم للدولة الحديثة بإلغاء استبداد الكنيسة واستبداد الملكية.
لقاء تلك المتغيرات يستند مفهومنا للدولة القومية إلى وظيفتها المدنية، وخيارنا للدولة المدنية يستند إلى تطبيق العدالة والمساواة بين أبناء المجتمع المدني الواحد، وأبناء المجتمع المدني الواحد متعددو الانتماءات الدينية، ولأنهم كذلك فلن يجدوا غير نظام مدني يساوي بينهم ويتساوون أمامه بقيمتهم الإنسانية بمعزل عن الانتماء إلى دين أو مذهب أو عرق.
ولمعرفة أهمية النظام السياسي القومي وفوائده ومدى فعاليته يمكننا مقارنته بالنظام السياسي الديني ومدى تناقضه مع مصالح المجتمعات البشرية المتعددة الانتماءات.
فالنظام السياسي الديني، على المستوى النظري، يزعم أن سلطته مستمدة من الإرادة الإلهية، وهذا يعني أن سلطة رجل الدين في شتى الأديان السماوية لا راد لها، كما تزعم بعض التيارات الدينية، لأنها سلطة مفروضة من الله وحسب تعاليمه. وهذا يعني أيضاً تجريد المواطنين من حقهم بمساءلة الحاكم، فالراد عليه، كما يزعمون، يعتبر راداً على الله. وهذا منتشر في تعاليم كل الأديان، الوثنية منها والسماوية.
أما الجانب العملي الذي أثبتته الوقائع التاريخية فهو أن أي دولة دينية، وثنية أكانت أم سماوية، أثبتت أنها أعجز ليس من أن تحقق العدالة والمساواة بين أبناء الأديان المتعددة فحسب بل بين أبناء الدين الواحد أيضاً. بحيث كان المستفيد من أي نظام ديني سياسي هم النخبة من أبناء المذهب الواحد المنتسبون إلى المذهب الحاكم. فالمساواة بين أتباع المذهب الحاكم على صعيد العدالة الاجتماعية غائبة لأن الطبقية بينهم متفشية ورائجة، وهي مسنودة بالتعاليم الدينية وتشريعاتها، لأن الغنى والفقر مثلاً مصدرهما من الله فهو الذي يرزق من يشاء، وهو الذي خلق البشر على درجات.
إجمالا يمكن تعريف الدولة الدينية بأنها كل دولة تتجاوز إرادة الشعب وتستبعدها لتتخذ من الدين مصدر شرعيتها، مهما اختلفت التسميات والمبررات والعناوين. أما الدولة المدنية فهي كل دولة تستمد شرعيتها من الشعب الذي تولي حكامه برضاه واختياره ويملك حق محاسبتهم وعزلهم.
نتيجة ذلك، ولأن الوطن العربي كان أرضاً خصبة لولادة الأديان السماوية، ولأن البيئة الفكرية والنفسية للثقافة في الوطن العربي تتأثر إلى حد كبير بجذورها الدينية، يمكننا التساؤل:
هل هذه الخصوصيات الثقافية كافية لتطبيق نظام سياسي ديني منهجاً للحكم؟
وهل هذا المنهج كافٍ لتعميم قيم العدالة والمساواة بين أبناء المجتمع الواحد؟
هنا، نؤكد أن حزب البعث العربي الاشتراكي، هو أكثر الأحزاب والتيارات والقوى القومية عناية واهتماماً بالمسألة القومية، لأن إيديولوجيته تعتبر أن المسألة القومية ثابتاً أساسياً في فكره وإذا غابت فإن الحزب يفقد خصوصيته، ويتساوى مع معظم الأحزاب القطرية. ولأنه كذلك سنقوم باستحضار نظريته في اختيار نوع الدولة، بمعنى أسسها الفكرية والسياسية والتنظيمية والتشريعية، أي مضمون النظام السياسي الذي اختاره في دستوره كمنهج للحكم.

ثانياً: الدولة القومية المدنية في فكر حزب البعث ثابت سياسي
حزب البعث العربي الاشتراكي شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها. (المادة 5 من المبادئ العامة).
ونظام الحكم في الدولة العربية هو نظام نيابي دستوري والسلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب مباشرة (المادة 14 من الدستور).
ومن أجل ذلك يعمل الحزب على تعميم الروح الشعبية (حكم الشعب)، ويسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً (المادة 17 من الدستور). ولضمان ذلك يوضع بملء الحرية تشريع موحد للدولة العربية (المادة 18 من الدستور). تمنح فيه الحقوق كاملة لكل مواطن عربي (المادة 20 من الدستور).
ومن ناحية أخرى يعتبر مؤسس البعث أن مهمة الحزب «ليست إنشاء دولة دينية، بل دولة قومية، الدين جزء أساسي فيها، كروح ينْبثّ في فكرها، ينبث في نظرتها الأخلاقية، في نظرتها الإنسانية».
كما يعتبر صدام حسين أن قراءة الحزب للدين تتميز عن «المنهج والفقه الإسلامي في جوانبه المنغلقة المتحجرة لأن أصحاب المنهج الديني يعتبرون العامل الروحي كل شيء في صيرورة الأمم، في نهوضها وفي انطفائها وانسحاقها». وفي المقابل يرى أن التوجه إلى المادي، بدعوى أنه «قانون العصر»، يؤدي إلى الغرق فيه، «ويتحول إلى غاية ومنطلق، بدلاً من أن يكون وسيلة ازدهار الروح والحياة معاً، وتحقيق سعادة الإنسان». وإذا كان الحزب قد «أعطى للمسألة الدينية اهتماماً بارزاً في عقيدته وفي سلوكه السياسي والاجتماعي؛ غير أن الحزب لم يدع إلى بناء دولة على الطراز الديني»، والبديل عنها يقوم على أساس «الرابطة الوطنية في إطار القطر الواحد، وعلى أساس القومية في إطار الوطن العربي الكبير». لذا يدعو صدام حسين إلى وقفة ضد «تسييس الدين من قبل الدولة وفي المجتمع، وضد إقحام الثورة في المسألة الدينية».

الدولة القومية ثابت استراتيجي في فكر البعث:
حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر القومية حقيقة حية خالدة، والشعور القومي الواعي شعوراً مقدساً، باعث على توجيه إنسانية الفرد (المادة 3 من المبادئ العامة). لذا فالرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة. لذا يلتزم الحزب في تعميم ثقافة قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة وإنسانية في مراميها. على أن تكون الدولة مسؤولة عن صيانة حرية القول والنشر والاجتماع، في حدود المصلحة العربية العليا، يكون فيهل العمل الفكري من أقدس أنواع العمل وعلى الدولة أن تحمي المفكرين والعلماء وتشجعهم. ومن أجل ذلك على الدولة أن توظف كل وسائل المدنية الحديثة في تعميم الثقافة القومية (المادة 42 من الدستور)، وتطبع كل مظاهر الحياة الفكرية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والفنية بطابع قومي عربي (المادة 45 من الدستور). ومن أجل توحيد الثقافة يعتبر الحزب أن التعليم وظيفة من وظائف الدولة وحدها ولذا تلغى كل مؤسسات التعليم الأجنبية والأهلية (المادة 46 من الدستور).

ثالثاً: الدولة الدينية لا تحقق العدالة والمساواة:
1-الدين حاجة نفسية وتربوية اجتماعية على الدولة أن تحميها:
كان الدين حاجة منذ التكوين الأول المعروف للبشرية فشكل جامعاً مشتركاً بين جميع شعوب العالم ومجتمعاته. والإنسان لن يكون سوياً نفسياً إذا لم يجد ما يطمئنه عن مصيره بعد الموت. ولهذا ومهما اختلفت هُوِّية الإلوهية عند تلك الشعوب، كانت تلك الهوية ممراً أساسياً في معتقدات الإنسان منذ فجر التاريخ ليعبر منها لتكوين أرضيته المعرفية ورؤيته للكون.
ومن أهم ما رافق تشكيل تلك الأرضية هي تلك النزاعات حول تعريف هوية المقدس، الأمر الذي أدخل شتى المجموعات الدينية في حروب ربما كانت الأشرس والأكثر ضراوة في التاريخ البشري. ومع تقدم التكوين المعرفي والتكوين السياسي للشعوب قاطبة أصبحت الحاجة للتقارب بينها أكثر إلحاحاً لتوفير دماء البشر وحياتهم كي لا تُهدَر على مذابح الاختلاف حول هوية المقدسات. وأصبحت هذه الحاجة أكثر إلحاحاً في عصر تكوين القوميات التي يتشكل مجتمعها من شرائح وتجمعات وتيارات تدين كل منها بنوع وشكل من المقدسات الدينية التي تتنافر في أكثر جوانبها مع مقدسات الآخرين. وتزداد الخطورة أكثر عندما راحت كل شريحة من تلك الشرائح (الفرق أو المذاهب الدينية) أن تفرض تشريعاتها الخاصة على الشرائح الأخرى التي لها مقدساتها الخاصة. وهذا السلوك وصل بتلك الفرق والمذاهب داخل المجتمع القومي الواحد إلى حالة احتراب دائم؛ إذ ذاك فقد المجتمع الواحد عوامل تماسكه الاجتماعي ووحدته السياسية، ودفع به إلى مصير مصدره القلق والخوف.
والحال على هذا المنوال كان لا بُدَّ من التفتيش عن حل يوفر لمواطني الدولة القومية الواحدة العيش باطمئنان وأمان، ووحدة وانسجام، على قاعدة أن يحتفظ كل منهم بتعريفه الخاص للمقدس على أن تُنتزع منه عوامل التفجير والاقتتال.
يعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها». وأن قيمة المواطنين لا تقدر بنوع انتسابهم إلى دين أو مذهب، بل بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر، وخاصة (الطائفية الدينية). (المبدأ الثاني من دستور الحزب). إن هذا المبدأ إذ يؤكد على العدالة والمساواة بين مواطني الدولة القومية المدنية، فإنه لا يميز بين منتسب إلى دين ما ومنتسب إلى دين آخر، الأمر الذي يطرح إشكالية علاقة القومية بالدين، واستتباعاً علاقة العروبة بالإسلام. والتركيز على هذا الجانب ليس ترفاً فكرياً ونظرياً، لأن طبيعة العلاقة بينهما ورسم حدودها تُعتبر حاجة أساسية لوحدة المجتمع. فتغليب التأثير الديني، ورفع منسوب حق دين معيَّن، أو مذهب معيَّن، بحصص استثنائية في الحقوق أو الواجبات لا يمكن أن يتم من دون انتقاص بحقوق وواجبات الأديان أو المذاهب الأخرى. وإذا طُبِّقت هذه المعايير في المجتمع القومي فستبدأ رحلة المتاعب والانقسامات بين فئات المجتمع. فالعدالة والمساواة مبدأ يجب أن يبقى ثابتاً في تشريعات الدولة القومية من دون النظر إلى استثناءات هنا أو هناك.
2-إحترام الدين لا يعني القبول بدولة دينية:
ولما كان البعث قد ميَّز علاقة العروبة والإسلام بخصوصية واضحة، كاد البعض يعتبر أن تلك الخصوصية قد أعطت للمسلمين الخصوصية ذاتها، أي اعتبروا أن للمسلمين في الدولة القومية امتيازات وحقوقاً تفوق حقوق المؤمنين بالأديان السماوية الأخرى. هذا الأمر يطرح إشكالية خطيرة تهدد أسس وحدة المجتمع القومي، إذ يعيد للنفوس قلقاً كان يساور الأقليات الدينية والمذهبية، في تجارب الدول الدينية السابقة، من إعطائهم حقوقاً أقل من حقوق المؤمنين بدين الحاكم الديني أو المتمذهبين بمذهبه في ظل الدولة الدينية.
جاء تأكيد حزب البعث على دور مميز للإسلام على الرغم من أنه يرفض قيام دولة دينية، ليضعنا أمام إشكالية جمع حالتيْ قبول الإسلام ورفضه في وقت واحد. فهل هناك تناقض فعلي؟ أم أن هناك التباساً في فهم فكر الحزب؟
هنا سنقف أمام هذه الإشكالية لمعالجتها على قاعدة أننا لا نجد تناقضاً بين تمييز الإسلام واعتباره عاملاً أساسياً في تكوين القومية العربية، ورفض البعث قيام دولة إسلامية في آن معاً.

رابعاً: بين تاريخية الإسلام وإيديولوجيته مساحة للقائه مع الفكر القومي أو التمييز بينهما:
أن نميز الإسلام وأن نرفض قيام دولة إسلامية، يعني أن هناك حلقة وسيطة مفقودة في وعينا المعرفي لطبيعة العلاقة بين الدولة القومية المدنية الرافضة للدولة الدينية، فما هي طبيعة تلك الحلقة المفقودة؟
نفترض بداية أن هناك تمييزاً بين مفهومين ووظيفتين للإسلام: مفهوم الوظيفة التاريخية للإسلام، ومفهوم وظيفته الإيديولوجية. وبناء عليها سنقوم بالنظر إلى هذه الفرضية من أجل اختبار صلاحيتها لتفسير الالتباس الحاصل في قبول الإسلام ورفضه معاً من جهة، أي نفي وجود تناقض بين قبول الإسلام ورفض دولته من جهة أخرى. فكيف نفسِّر استناداً إلى المصادر الأساسية لفكر البعث دور الإسلام التاريخي، ودوره الإيديولوجي؟
1-تاريخية الإسلام:
يعتبر حزب البعث أن الإسلام مرحلة من مراحل التكوين القومي للعرب. وهي أيضاً من أهم تلك المراحل. كما أنه من الخطأ، كما يرى صدام حسين «أن يُنظر إلى تاريخنا وكأنه كان فارغاً أو مخجلاً قبل الإسلام» ([1]). كما يرى أيضاً أن استذكار «رموز الأمة العربية والإسلامية في صدر الرسالة الإسلامية»، كان يعطي المقاتلين «شحنة وطاقة لا حدود لها في مواجهة الغزاة» ([2]).
ومن جانب آخر أكَّد مؤسس البعث، في خطابه «في ذكرى الرسول العربي» على الجانب التاريخي للإسلام، تحديداً مرحلة «البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة». التي يعتبر أنها كانت غنية جداً، والتي تحمل إمكانية التجدد «في روحها، لا في شكلها وحروفها». وهنا يستوقفنا أن مؤسس البعث قد حصر تأثير الإسلام بـ«العشرين سنة» الأولى.
أما الروح في مصطلح المؤسس فتعني الثورة الخلاقة التي بدأها رجل واحد لم يخش الصعاب فعمَّت الثورة الجزيرة العربية ما فتأت أن عمَّت العالم المعروف في تلك المرحلة. وقد أشاد بذلك الرجل واعتبره الرمز المثال قائلاً فيه: «كان محمد كل العرب فليكن كل العرب محمداً». ولأن تلك السنوات العشرين هي التي استوقفت مؤسس البعث، والتي وصفها بأنها ممكنة التجدد بروحها، فتعني الروح عنده هي تلك الحالة الثورية الفاردة التي قادها نبي فارد، وكانت ثورية بالفعل لأنها أنتجت تغييرين جذريين في حياة العرب: إنجاز وحدة القبائل العربية أولاً، والقدرة على تحرير الأرض العربية من الفرس والروم ثانياً. ومنهما استطاع العرب أن يبنوا إمبراطورية واسعة الأرجاء حاكت الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، وتفوَّقت عليها، بانتشارها في كل الاتجاهات الجغرافية المعروفة في تلك العصور.
لم يشكل الإسلام محطة عابرة في تاريخ العرب، بل شكَّل محطة تاريخية أساسية نقل العرب من حال القبلية والعشائرية إلى وحدة العرب في الجزيرة العربية، ومن حال التبعية والخضوع لإمبراطوريات متعددة كانت آخرها إمبراطورية الفرس والروم إلى حال التحرر منهما. وبمثل تلك النقلة النوعية يكون الإسلام قد شكَّل ثورة تاريخية مهَّدت لبناء أول دولة عربية حكم فيها العرب نفسهم بنفسهم.
ومن أجل ذلك، وإن كان العرب، بمعنى الشعوب التي أسست ممالكها بين حوضيْ بلاد الرافدين ووادي النيل وصولاً إلى المغرب العربي، قد مهدوا طوال آلاف السنين في بناء حضارة مادية ومعرفية، كانت تتم تحت سلسلة من الغزوات المتبادلة، بحيث كان التمازج السكاني والتفاعل الحضاري بين شعوب تلك المراحل، يقوم بتشكيل أمة تتجانس وتتفاعل تدريجياً لتصوغ تراثاً ثقافياً يسهم في تشديد اللحمة الاجتماعية بين شعوب الممالك حتى ولو كان ذلك يتم بقوة السيف. ولما جاء الإسلام استفاد من كل حالات التفاعل ليعطي للأمة شكلها الجديد.
ونحن إذا عدنا إلى دراسة آلاف السنين من الطور التكويني للعروبة، سنجد أن الثورة الإسلامية كانت حصيلة التفاعل المعرفي على المستوى الديني ابتداء بحالات التكوين الديني الوثني، التي شكلت الأرضية المعرفية للديانتين الموسوية والمسيحية، وهاتان شكلتا الأرضية المعرفية للديانة المحمدية. فكان التكوين المعرفي الذي قطع أشواطاً طويلة عبر آلاف السنين عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات، لا يجوز قطع حلقة منها عن الحلقات الأخرى، ففي حالات التطور والتراكم كانت كل مرحلة منها تمهد للمرحلة التي تأتي بعدها.
لقد نظر البعث إلى الإسلام من زاويته التاريخية، بمعنى أنه كان حلقة نوعية من حلقات التكوين القومي، استفاد كثيراً مما سبقه، وشكل أرضية معرفية أساسية لما أتى وقد يأتي بعده. ولقد جاءت نظرة البعث للإسلام مخالفة لنظرة الإسلاميين الذي عملوا ويعملون على تجريد العروبة من أي فضل على ولادة الثورة الإسلامية.
لقد اعتبر الإسلاميون أن الدعوة الإسلامية كانت منقطعة الصلة عن تاريخيتها، بمعنى أنها منفصلة كلياً عما سبقها، علماً أن القرآن الكريم فيه الكثير مما ينقض وينفي زعم أولئك الإسلاميين، خاصة إذا عدنا إلى النصوص التي اعتبرت «إسرائيليات القرآن»، المنصوص عليها في التوراة والإنجيل. وما سُمِّيَ بـ«الإسرائيليات» وُجدت أصول أكثرها في الحفريات السومرية التي يعود نقشها إلى آلاف من السنين التي سبقت نصوص كتب الرسالات السماوية. تلك النصوص التي يعود عهدها إلى عصور الديانات الوثنية.
إن النظر إلى الإسلام من زاوية تاريخيته يساعدنا على فهم أكثر موضوعية وأكثر علمية لعلاقة القومية العربية بالإسلام، بعيداً عن عامل الإغراق بالتعصب لوجهة النظر التي تقول باللقاء العضوي بينهما، كما لو أن انفصالهما في المرحلة الراهنة يعني إلغاء للعروبة. أو التعصب لوجهة النظر التي تفصل بينهما كما لو أن انتقال العرب إلى مرحلة الدولة لا تدين بالفضل للثورة الإسلامية. أما حقيقة الأمر فهي أن التفاعل والتواصل وبالتالي التراكم الحضاري مهَّد لأكبر ثورة عربية مثَّلها الإسلام، كما أنه مهَّد لوضع العرب على طريق الدخول إلى التاريخ بصيغة الدولة العربية، وأصبح من الصعب إلغاء دوره هذا أو حتى تجاهله. لكن هذه الحقيقة تقف حدودها عند الدور التاريخي للإسلام، أما حدود الدور الإيديولوجي فله مكان آخر، سنقوم بالإطلالة عليه لاحقاً في هذه الدراسة.
لا يضير «الوحي» الإسلامي أنه استفاد من التراكم المعرفي والحضاري الذي سبقه، بل يقويه ويشد من ثباته، فالوحي الإلهي لا يمثل قفزات عشوائية، لأن الله تعالى عندما صنع العالم، كما تحسب الأديان السماوية، إنما صنعه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع. بينما كان في مقدرة الله أن يصنعه في لمحة من البصر على قاعدة قوله للشيء «كن فيكون». وكان في مقدرته أيضاً أن لا يكرر دعوته الأولى عندما أوحى بـ«الموسوية»، فهو قادر على أن تكون دعوته الأولى والأخيرة لو شاء ذلك، ولكنه استكملها بـ«المسيحية»، ومن بعدها بـ«المحمدية».

أما القول بأن محمداً بن عبد الله، خاتم الرسل والأنبياء، و﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا، فلا يعني أن الله قد أقفل باب المعرفة، وأمر المسلمين باعتبارها اكتملت تماماً بالإسلام، و إلاَّ كان باستطاعته أن يخلق من بني «آدم وحواء» «ملائكة» لا يعانون من عبء التفتيش عن معرفة جديدة.

ولما خلق الله في بني البشر قوة التفكير ليس ليغلق عليهم أبواب التفتيش عن المعارف وإغنائها والتجديد فيها، بل خلقها فيهم لكي يفتح منها بوابات التجديد في المعرفة. ولهذا عندما أغلق الخليفة العباسي القادر بالله أبواب المعرفة بـ«القرار القادري»، غاب العرب عن منهج المعرفة فناموا في سبات عميق، بعد أن كانوا قد استفاقوا في عهد الخليفة المأمون على كل أنواع المعرفة العلمية والفلسفية. وبعد «القرار القادري» ساد التخلف عند العرب والمسلمين واستمر لقرون عديدة، ولا يزال حتى الآن يأكل من عقولهم الشيء الكثير. لقد أرغم الخليفة القادر بالله كل المسلمين على التوقيع على قراره بحيث ألغى كل قاعدة معرفية لا تقوم بجهد الفقهاء واعتبرها معرفة باطلة تقع تحت طائلة مساءلة الدولة الإسلامية وحسابها بتهمة التبديع والتفسيق والتضليل، والتكفير أيضاً.
ونتيجة لروحية القرار، شاملاً ما سبقه وما جاء بعده، حصلت بعض المجازر الجماعية بين مذاهب المسلمين وفرقهم من جهة، ونال الكثير من العلماء والفلاسفة والمتصوفين عقاباً أدى إلى حرق بعضهم، وسجن أو قتل البعض الآخر، من جهة أخرى. وطال العقاب بعض علماء الدين من الذين تجرأوا على التجديد في مناهج المعرفة الإسلامية في وضع قواعد عقلية لتأويل النص أو تفسيره؛ وكان من أكثرهم حظاً أولئك الذين عوقبوا بإحراق كتبهم، أو نفي البعض الآخر بعيداً عن مكان سكنهم الأصلي.

 2-إيديولوجيا الإسلام:
قامت الثورة الإسلامية على دعوة دينية في زمانها ومكانها وظروفها، خاصة أن للدين أكبر الأثر في أوسع الأوساط الشعبية، كان له هذا التأثير في العصور البدائية ولا يزال يشكل مؤثراً كبيراً في عصر الثورة التكنولوجية الهائلة. راجت فكرة الدين بداية تحت ستار الأديان الوثنية ومن بعدها الأديان السماوية. في مرحلة ما قبل ولادة الإسلام كانت حركة دينية نقدية تتفاعل عما له علاقة بمسألة التوحيد. كانت هذه الحركة تتفاعل في المسيحية التي كان من اعتبروا من أهم مفكريها مهرطقين بعد أن أنكروا فلسفة «التثليث» المسيحية ومضمونها مقولة «الآب والإبن والروح القدس» بما فيها الاعتقاد بأن «المسيح» هو «ابن الله». وإذا ربطنا البعثة المحمدية بعاملين لهما علاقة بها، وهما: تبشير راهب بحيرا بنبوة محمد، ومشاركة القس ورقة بن نوفل بعملية تثقيفه المعرفي طوال أكثر من عشرين سنة، كان فيها ورقة بن نوفل ينقل إليه ترجمة التوراة التي كان من أكثر الضالعين فيها، فلن يساورنا الشك بعامل التواصل المعرفي بين الحركة النقدية المسيحية وبين أسس الدعوة الإسلامية بمسألة «التوحيد الإلهي». ومن ذلك كانت سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ / اللَّهُ الصَّمَدُ / لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ / وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ، هذه السورة التي كأنها جاءت رداً على عقيدة «التثليث» المسيحية.
ولأن الإسلام اعتبر أن الديانتين، الموسوية والعيسوية، ديانتين سماويتين؛ وأياً تكن أصول الدعوة الإسلامية والمؤثرات التي رافقت ولادتها، كان الإسلام رداً حاسماً على عبادة الأصنام، وكثرتها وتعددها بتعدد القبائل والعشائر. كما كان توحيد ثقافة عرب الجزيرة عاملاً أساسياً في لمِّ شملهم، الأمر الذي أحدث ليس انقلاباً دينياً عند عرب الجزيرة فحسب وإنما أحدث شعوراً عارماً بالقوة أيضاً، فتحول عرب الجزيرة بفعل ما جاءت به الدعوة الإسلامية إلى قوة ما لبثت أن فرَّغت نفسها في الخروج من وسط دائرة الجزيرة إلى الانتشار في المناطق المحيطة (العراق، وسورية، ومصر، والسودان، ومعظم أجزاء المغرب العربي) لتنجز أكبر عملية تحرير لها من بسط نفوذ واحتلال طالت لفترة فاقت مئات السنين. وكان من أهم انتصارات الثورة الإسلامية طرد الفرس والروم من الأرض العربية، وتسطر للعرب دوراً نوعياً في بناء أول دولة موحدة أرهبت العالم المعروف في تلك المراحل.
كان هذا التحول التاريخي يجري تحت تأثير الإيمان الديني الإسلامي، ومما يعزز دورها أن حالة الانتشار والتوسع كانت بأيد وقيادة عربية. وإذا كان من فضل للشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام فيما بعد فإنما أتى في مراحل متأخرة بمئات السنين، ترافق مع أواخر الدولة العباسية على أيدي المماليك ومن بعدهم الأتراك العثمانيين.
لم يلبث وهج الدعوة الإسلامية طويلاً بعد وفاة الرسول العربي، وما لبث العرب طويلاً بعد إنجاز أكبر الفتوحات وأوسعها وأسرعها، حتى أخذت حدة ذلك الوهج تخفت وتتلاشى بالتدريج وتباعاً. لقد ابتدأت الوحدة تضعف تدريجياً بعد وفاة الرسول، إذ كان أول تأسيس لمرحلة الضعف والتفتيت قد بدأ منذ مبايعة أول خليفة راشدي، وتصاعدت أكثر في عهد الخليفة الرابع عندما استولى الأمويون على الخلافة وحولوها إلى ملكية يتوارث فيها الخلافة الأبناء عن الآباء. ففي العصر الأموي تواصلت الصراعات والخلافات بين المسلمين لم تفسح المجال لفترة من الهدوء إلاَّ بعد استيلاء العباسيين على الخلافة، كانت فيها الدعوة الإسلامية قد تفسخت إلى عشرات الفرق والملل والنحل التي يكفر فيها بعضها البعض الآخر. وبمثل تلك الصراعات أصبح من الصعب أن تعرف أين هو موقع الإسلام الصحيح، فكل فرقة كانت تحسب نفسها ممثلة لهذا الإسلام. وتعبيراً عن تلك المرحلة بقرون انتشر حديث الرسول العربي «تفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة الناجية من النار واحدة».
من استعراض السياق التاريخي أصبح من الضروري أن نطرح السؤال التالي: هل الإيديولوجيا الإسلامية لا تزال صالحة لتوحيد العرب؟ وهل لا تزال تلك الإيديولوجيا تشكل حافزاً روحياً يجعل من العرب حزمة واحدة ليحققوا ثورة جديدة تنجز ثورة حقيقية للتحرر من فساد الوضع الداخلي وتحرير الأمة العربية من عدوانية الخارج؟
لقد استعاض العرب في مرحلة التمزق الحالية عن تعدد الشعوب والقبائل التي كان بعضها يغزو البعض الآخر إلى تعدد بالفرق والمذاهب يكفر بعضها البعض الآخر.
ولأن مرحلة الضعف والتشتت طالت قروناً لم يعرف العرب فيها أيديولوجيا أخرى تعمل على توحيدهم، بينما الأغلبية لا تزال تراهن على الإيديولوجيا الإسلامية، كان لا بدَّ من التفتيش عن طريقة إصلاحها من قبل العديدين من المفكرين الإسلاميين، كأمثال محمد عبده والأفغاني وغيرهم... إلاَّ أن محاولاتهم باءت بالفشل، ولن يظهر ما يدل على أن إعادة توحيد الدعوة الإسلامية ممكن حتى في الأفق الأبعد من البعيد.
ولما كان الأمر ميؤوساً منه فعلاً، وكل ما يُقال عن محاولات التوحيد بين الفرق الإسلامية ومذاهبها عبر إعلان خطابي من هنا أو خطاب من هناك، بمحاولة من هنا أو محاولة من هناك، ليس أكثر من ذر الرماد في العيون. هذا ليس تيئيساً ولا تحريضاً، بل بالعودة إلى مئات السنين التي تفصلنا عن ساعة وفاة الرسول العربي يثبت ما رحنا إليه. ولما كان من غير المجاز أن يبقى العرب منتظرين مخلِّصاً لم يأت، وقياساً على قراءة المرحلة التاريخية السابقة التي أثبتت أنه لن يأتي من الغيب، كان لا بدَّ من التفتيش عن حل آخر مولود من الواقع والعلم المنظور والملموس، فكانت الدعوة القومية هي الحل المتاح الذي أثبت فعاليته الواقع الراهن لتجارب معظم دول العالم.
خاتمة الدراسة
وأخيراً نرى أنه خلافاً لما يروِّج له البعض ممن أغرقوا في سوء فهم للعلاقة الحقيقية بين الفكر الديني والقومي، بين العروبة والإسلام، لم يتخذ البعث موقفاً سلبياً من الدين، بل وضعه في موقعه المعرفي الحقيقي وهو يكن الاحترام لخيارات الفرد العربي الدينية، ويعمل كل الوسائل لحمايتها. كما أن البعث لن يتحول إلى مؤسسة ينوب فيها عن رجال الدين، ورفض أن يصنِّف المواطنين بين «مؤمن» و«ملحد»، أو يُدخل الدولة والحزب في شؤون الدين.
لكل ذلك، وإذا كان البعث قد أتاح حرية الاختيار الديني فإنه أيضاً أعطى للدين أهميته ومنع الترويج للإلحاد. وإذا كانت الدولة القومية، بمفهوم البعث، لا تتيح الفرصة لأحد بالترويج للإلحاد، فإنها أيضاً لا تتيح الفرصة للترويج للمذهبية، أو للخصوصيات الدينية، التي تهدد وحدة المجتمع القومي. لذا يرى صدام حسين أنه على البعثيين، أن لا يتحولوا إلى رجال دين تحت حجة رفضهم للإلحاد، لأن التدخل «في الشؤون الدينية يؤدي إلى أن ينقسم شعبنا، ليس بين المتدينين وغير المتدينين فحسب، وإنما بين المتدينين أنفسهم بضوء اجتهاداتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية المختلفة».


([1]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام القومي (في 1/ 12/ 1977م)».
([2]) صدام حسين: جديث بتاريخ 30/ 11/ 1988م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 18): م. س: ص 68.

ليست هناك تعليقات: