الجمعة، مارس 16، 2012

أخترنا لكم من أرشيفنا/ إعادة تأصيل وتفسير ما يجري الآن في سورية

-->
إعادة تأصيل وتفسير ما يجري الآن في سورية

  في 16/ 3/ 2012
بتاريخ 6/ 10/ 2005، كنا قد نشرنا دراسة نستشرف فيها مرحلة ما بعد احتلال العراق، وهي المرحلة التي كانت تخطط لها الولايات المتحدة الأميركية لتدعيم الاحتلال، خاصة بعد أن تجذَّرت المقاومة الوطنية العراقية. إذ كان المخطط المكمِّل للاحتلال هو تجفيف كل المصادر اللوجستية لحركتها خارج العراق، على قلتها، وأكثرها وضوحاً كانت البوابة السورية على الرغم من الثغرات التي لم يردمها النظام حينذاك. وبالإضافة لتلك الورقة كان من المطلوب أميركياً تجفيف الملاذات لكل عمل عربي مقاوم. وهي الإملاءات ذاتها التي حملها كولن باول إلى سورية في الأول من أيار من العام 2003. ولما لم يذعن النظام لها بدأت السيناريوهات الأميركية تتوالى ضد سورية. لذلك قمنا برصدها قبل تاريخ الدراسة، أي منذ أواسط العام 2004. ولأنها تلقي أضواء كاشفة على ما كان يُخطط أميركياً لإسقاط الموقع السوري، سنعيد نشرها في هذه المرحلة، لعلَّ وعسى تشكل تحذيراً لكل من يراهنون على أن ما يجري في سورية الآن وكأنه صراع بين الشعب المقموع والنظام القامع فقط. وعلى الرغم من أن أحداً لم يسأل نفسه عن الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة الأميركية ومن ورائها الغرب بأكمله إلى البكاء على حقوق الإنسان العربي، ذلك الغرب الذي لم يذرف دمعة واحدة على ملايين الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والليبيين الذين قضوا تحت قذائف الغرب وصواريخه، ولم يذرف دمعة على ملايين العراقيين الذين هربوا ليس من القتل العمد فحسب، بل أيضاً تركوا وطنهم بعد أن اكتظَّت سجون الاحتلال وعملائه في العراق بمئات الآلاف من العراقيين، نالوا فيها أكثر صنوف التعذيب وحشية.
ونحن نعيد نشر هذه الدراسة، لن نتوقَّف عند آراء من اختزلوا ما يجري في سورية وغيرها من الأقطار العربية بين خيارين لا ثالث لهما: إما أبيض وإما أسود. أي اعتبار من يضع الاحتمال الثالث وهو دور التدخل الخارجي، كأنه يقف ضد إرادة الشعب الثائر ضد القمع، ويؤيد الأنظمة الديكتاتورية القامعة. وإن على أولئك الذين حصروا أنفسهم بين الأبيض والأسود أن يقلعوا عن تلك المواقف لأنهم لن يحصدوا إلاَّ الريح. وإن الدموع ستجف سريعاً من عيون الغرب الوقحة إذا ما حصلوا من (الربيع العربي) على ما يضمن استمرار سرقة ثرواتنا والهيمنة على قرارنا، ومن بعدها فأهلاً عندهم بالديكتاتورية وألف سلام على الديموقراطية وحقوق الإنسان!!!
لذا نوجِّه نداء إلى كل الحريصين على مصلحة الأمة فنقول: إن الصراع الآن قد انتقل من وجهته وأهدافه الداخلية (الشعب النظام)، أي من وجهته الداعية للحصول على الديموقراطية، إلى وجهته الوطنية (الدولة التدخل الخارجي) أي المحافظة على الدولة من التفتيت والتقسيم والحروب الأهلية.
وننقل للقارئ الكريم نص الدراسة كما نُشرت في وقتها:
وحدة الموقف القومي المقاوم
أرضية صلبة في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني
6/ 10/ 2005
في عملية احتيال كبرى تواطأت فيها دول مجلس الأمن الدولي، تحت رعاية كوفي عنان، أنهى القرار الرقم 1546 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، بشكل صُوَري، صفة الاحتلال عن الولايات المتحدة الأميركية. كما اعترف صُورياً بسلطة عراقية عميلة، وأسبغ عليها صفة الشرعية. وبمثل هذا القرار تنفَّست إدارة جورج بوش الصعداء، كما فعلها طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني.
لقد جاء في حيثيات القرار المسائل التالية الملفتة للنظر، والاستهجان معاً، ما يلي: «وإذ يشير إلى التقرير المقدم من الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن في 16 نيسان/ أبريل 2004 بشأن جهود القوة المتعددة الجنسيات وما أحرزته من تقدم، وإذ يقر بتلقي الطلب الوارد في الرسالة المؤرخة 5 حزيران/يونيه 2004 الموجهة إلى رئيس المجلس من رئيس وزراء الحكومة المؤقتة للعراق، والمرفقة بهذا القرار بالإبقاء على وجود القوة المتعددة الجنسيات:
1-يقر تشكيل حكومة ذات سيادة للعراق، على النحو الذي عُرض به في 1 حزيران/يونيه 2004، تتولى كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004 لحكم العراق مع الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات تؤثر على مصير العراق فيما يتجاوز الفترة المؤقتة المحدودة، إلى أن تتولى حكومة انتقالية منتخبة مقاليد الحكم على النحو المتوخى في الفقرة الرابعة أدناه؛
2- يرحب بأنه سيتم، بحلول 30 حزيران/ يونيو 2004 أيضا، انتهاء الاحتلال، وانتهاء وجود سلطة الائتلاف المؤقتة، وبأن العراق سيؤكد من جديد سيادته الكاملة؛».
وبعد أن تشرعن وجود الاحتلال، كقوة صديقة، بمجرد توجيه رسالة من رئيس للوزراء غير شرعي، يضرب مجلس الأمن عرض الحائط بالقانون الدولي، ويركله برجله كما فعل جورج بوش منذ زمن يعود إلى ما قبل الاحتلال، ويتفرَّغ لوضع فقرات في القرار المذكور تتيح لإدارة جورج بوش بالإمساك بسلاح سياسي، وهو أن ينتقل بالضغط إلى دول الجوار العربي والإقليمي من أجل الانصياع لأوامرها، وتطبيق فقرات القرار المذكور. فكيف تمَّ ذلك؟
منذ اللحظة التي شرَّع مجلس الأمن قوات الاحتلال، وحوَّلها بقدرة ساحر إلى قوات صديقة.
ومنذ اللحظة التي شرَّع فيها جواز «الخيانة الوطنية» باعترافه بأن من خانوا وطنهم، بالتآمر على الأمن الوطني للعراق، معترف بتواقيعهم، ضارباً عرض الحائط كل القيم الإنسانية والدينية والدولية.
تحوَّلت المقاومة العراقية بالمنظار الأميركي، التي اعترف لها القانون الدولي بحقها في قتال قوات الاحتلال، إلى منظمات إرهابية. فأصبح الاحتلال صديقاً، ومقاومة الاحتلال إرهابية؟؟!
وتحت ذريعة تلك الحجة/ النص، أوغل مجلس الأمن بالاحتيال على الرأي العام الدولي، وراح يُلزم دول الجوار الإقليمي والعربي بالمساعدة على مكافحة الإرهاب في العراق، أي إلزامهم بمكافحة المقاومة العراقية. فجاءت الفقرة 17 من القرار المذكور لتخدم هذا الغرض. وقد نصَّت على ما يلي:
«وإذ يسلم بأهمية الدعم الدولي، لا سيما الدعم المقدم من بلدان المنطقة والبلدان المجاورة للعراق والمنظمات الإقليمية، لشعب العراق في الجهود التي يبذلها لتحقيق الأمن والازدهار، وإذ يشير إلى أن التنفيذ الناجح لهذا القرار سيسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي»، ]لذلك، كما جاء في المادة 17 منه[: «يدين كافة أعمال الإرهاب في العراق ويؤكد من جديد التزامات الدول الأعضاء بموجب القرارات 1373 (2001) المؤرخ 28 أيلول/سبتمبر 2001، و 1267 (1999) المؤرخ 15 تشرين الأول/أكتوبر 1999، و 1333 (2000) المؤرخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2000 و 1390 (2002) المؤرخ 16 كانون الثاني/يناير 2002، و 1455 (2003) المؤرخ 17 كانون الثاني/يناير 2003، و 1526 (2004) المؤرخ 30 كانون الثاني/يناير 2004، وغيرها من الالتزامات الدولية ذات الصلة، المتعلقة، في جملة أمور، بالأنشطة الإرهابية في العراق أو الناشئة من العراق أو ضد مواطنيه. ويؤكد مجدداً، على وجه التحديد، دعوته إلى الدول الأعضاء أن تمنع عبور الإرهابيين إلى العراق ومنه، وتزويد الإرهابيين بالأسلحة، وتوفير التمويل لهم مما من شأنه دعم الإرهابيين، ويؤكد من جديد أهمية تعزيز تعاون بلدان المنطقة، ولا سيما البلدان المجاورة للعراق، في هذا الصدد».
لقد أسلست كل دول الجوار قيادها ورضخت لإملاءات إدارة جورج بوش منذ ما قبل الاحتلال، وظلَّت سورية في خارجه، ولم ترض الاندماج الكلي في المشروع الأميركي، بل ظلَّت محتفظة ببعض الأوراق لمصلحتها.
ولأن أوراق ممانعة المشروع الأميركي كلها مطلوبة مهما كانت ضعيفة.
ولأن إدارة جورج بوش في عجلة من أمرها في حسم المعركة في العراق نتيجة المآزق الكبرى التي وضعتها فيها المقاومة العراقية: فالفسحة المتاحة أمام المحافظين الجدد مهددة بالضياع بعد انتهاء مدة ولاية رئيسها جورج بوش، ولأن كرة ثلج الاعتراض الأميركي تكبر طالما هناك خسائر في أموال المكلف الأميركي وفي أرواح أبنائه، وطالما الاستحقاق الانتخابي الأميركي على الأبواب وفيها فرصة للحزب الديموقراطي في التضييق على المحافظين الجدد.
فكان لا بدَّ أمام الإدارة الأميركية من أن تمارس الضغوط على أي شيء يعيق مخططاتها. وتكبر الحاجة عندما تتلازم مصلحة مشروع المحافظين الجدد مع مصلحة المشروع الصهيوني، فتتحوَّل مقاومة المشروع المشترك، أو المشروعين التوأمين، إلى إرهاب. ولأنه إرهاب راح مجلس الأمن بخطوة مستهجنة، وتعتبر احتيالاً على القانون الدولي، الذي اعتبر المقاومة عملاً شرعياً، يبرر لإدارة جورج بوش الضغط على سوريا لتقديم الأوراق التي تملكها، تحت صيغة محاربة الإرهاب. فأصبحت المقاومة العربية، من وجهة نظر المتواطئين من دول مجلس الأمن مع إدارة جورج بوش، إرهاباً.
ومن أكثر ما لفت النظر راح الموقف الفرنسي، الذي تحت ضغط مصالح النخب الاقتصادية الفرنسية، يخون مبادئ الثورة الفرنسية، ومبادئ مقاومة الاحتلال النازي، راحت تغطي على جرائم إدارة بوش، وتعمل على إنقاذها من مآزقها. فشاركتها في كل قرارات مجلس الأمن اللاحقة. وكان من أكثرها إثارة وجدلاً ما تضمنه القرار 1559، ذلك الذي صدر في الثاني من أيلول/ سبتمبر من العام 2004، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من صدور القرار 1546. وخلافاً لما هو متداول بأن القرار كان نتيجة للتمديد للرئيس لحود «كان القرار معداً للإصدار قبل التمديد وبغض النظر عنه. وهذا ما اعترف به بوش في حديث لصحيفة (لوفيجارو) الفرنسية موضحاً أن شيراك طالب في شهر يونيو (حزيران) الماضي بقرار يرغم لبنان على تنفيذ جميع المطالب التي وردت لاحقاً في القرار 1559».
ومن ربط نصوصيْ القرارين 1546 و1559، يتبيَّن بأنه لا مجال للشك في ترابط أهدافهما. وأنه لا مجال للشك في أنهما يستهدفان المقاومة العربية في العراق وفلسطين وفي لبنان....
لم يكن هم الديموقراطية في لبنان هو ما يؤرق جفون جورج بوش. بل كانت النصوص تعني لبنان، أما عين إدارة جورج بوش فكانت على المقاومة العربية. وما على الذين لم يندمجوا تماماً في المشروع الأميركي أن ينصاعوا لتعليمات البيت الأبيض.
جاء القرار 1559، الخاص بلبنان، معطوفاً على القرار 1546 الخاص بالعراق، يجمع بينهما همَّ ما تصفه الإدارة الأميركية بالإرهاب. ولهذا اتَّخذت ذريعة الإرهاب وسيلة لمحاصرة سوريا. فكان القرار 1559 على قصره وإيجازه، يطلب من سورية أن تنسحب من لبنان وأن تقوم الحكومة اللبنانية بنزع سلاح الميليشيات، والمقصود به سلاح حزب الله وسلاح المخيمات الفلسطينية معاً. واستأنفت إدارة جورج بوش ذلك القرار، باستصدار قرار آخر عن مجلس الأمن يحمل الرقم 1566، تاريخ 8/ 10/ 2004، وكانت الغاية الأساسية منه إرغام كل الدول على الاعتراف بتعريف الولايات المتحدة للإرهاب، أي اعتبار كل نوع من أنواع المقاومة إرهاباً على المجتمع الدولي أن يسهم في القضاء عليه، ولهذا نصت المادة الثانية من القرار المذكور على ما يلي: «يهيب بالدول أن تتعاون تعاوناً تاماً على محاربة الإرهاب، لا سيما مع الدول التي تُرتكب فيها أو ضد مواطنيها أعمال إرهابية، وذلك وفقاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، من أجل العثور على أي شخص يقوم بدعم الأعمال الإرهابية أو تيسير ارتكابها أو الاشتراك أو محاولة الاشتراك في تمويلها أو التخطيط أو الإعداد لها أو ارتكابها أو توفير ملاذات آمنة لمرتكبيها، وحرمان ذلك الشخص من الملاذ الآمن وتقديمه للعدالة على أساس مبدأ: إما التسليم أو المقاضاة».
وجاء في المادة الرابعة، استئنافاً لما جاء في المادة الثالثة: ما يلي: «ويهيب بجميع الدول أن تمنع هذه الأعمال، وأن تكفل، في حالة عدم منعها، المعاقبة عليها بعقوبات تتمشى مع ما لها من طابع خطير». وتتضمن المادتان الرابعة والخامسة صفة استعجال الدول من أجل ذلك، فتهيب المادة الرابعة على انخراط الدول في الاتفاقية «بصفة عاجلة»، كما تهيب المادة الخامسة بتلك الدول على أن تتعاون في هذا السبيل «بصفة عاجلة» أيضاً.
في هذا القرار ما يلفت النظر مما يفسر الكثير مما تتزايد وتيرته في الإعلام السائد اليوم: فقد جاء في المادة التاسعة من القرار 1566: إنشاء فريق يلاحق تطبيق التدابير المتعلقة «بتنظيم القاعدة... ومنع تحركاتهم عبر أقاليم الدول الأعضاء... وكذلك فيما يتعلق بإجراءات تنفيذ تلك التدابير». ففي تلك المادة ما يلقي الضوء على ربط العمليات العسكرية الوحشية التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي على المدن والقرى المحاذية للحدود السورية العراقية، بحيث تريد قوات الاحتلال الأميركي أن تصيب عصفورين بحجر واحد: الإيحاء بأن المقاومة في العراق مرتبطة بتنظيم القاعدة من جهة، وتحميل سورية الإخلال بواجباتها الدولية في منع المتسللين من تنظيم القاعدة من الدخول إلى العراق من جهة أخرى.
لن نقف كثيراً عند التفاصيل التي تتناول أولويات الإدارة الأميركية، في هذه المرحلة، بل لا بدَّ من الإشارة إليها. اما أولوياتها، فهي ليست لبنان، إلاَّ بالقدر الذي توظِّفه فيه ورقة ضغط في وجه سورية لكي تقوم بتنفيذ إملاءاتها الوحيدة والكافية ضد المقاومة العربية بشكل عام، والمقاومة العراقية بشكل خاص. ولو جرَّدت سوريا حزب الله، والمخيمات من سلاحها، لكان أمراً يستدعي شكر إدارة بوش لها. وهي ستكون خطوة حسن نوايا عليها أن تستكملها بالتضييق على المقاومة العراقية، وهي التي تستحق الشكر الأكبر، والتي ستكون مكافأتها، لو نفَّذتها، البقاء في لبنان، وعلى الديموقراطية ألف سلام. ولما لم تتنازل سورية عن أوراقها تلك، لم يكن أمام إدارة بوش إلاَّ استكمال كل أنواع الأسلحة ضدها من أجل إرغامها على تقديم ما هو مطلوب منها.
جاءت حادثة اغتيال الرئيس الحريري لتكون القاعدة الأساسية التي تلقفتها إدارة بوش من أجل استكمال معركتها ضد المقاومة العربية. ومنذ تلك اللحظة جمَّعت في لبنان تحالفاً فيه من الغرابة ما فيه. وإن كانت مقاصد أطراف التحالف وأهدافه متباينة وقد تصل إلى حدود التناقض، إلاَّ أن ما جمعتهم كانت وحدة الخلاص من مؤسسات سياسية وأمنية ألحقت ببعض أطراف التحالف بأفدح الأضرار، ناهيك عن الأضرار التي طالت الجماهير الشعبية. وهذا لا ينفي أن يكون البعض الآخر من الذين استفادوا منه، ولكن لم تكن الاستفادة بالقدر الكافي، ولما وجدوا أنهم قد يقطفون فائدة أكبر من المشروع القادم انعطفوا بشكل سريع لالتقاط الفرصة الجديدة.
سيان كانت نوعية الذين نفذوا الاغتيال، أو أهدافهم، فهو عمل إجرامي يتوجَّب الكشف عن فاعليه ومعاقبتهم. لكنه كان الفرصة الذهبية أمام إدارة بوش للاستفادة منها في تنفيذ أغراضها وأهدافها. وإن كان من العدالة أن تنكشف الحقيقة عن هوية الذين قاموا به إلاَّ أنه من غير الجائز أن تبقى مخاطر توظيف تلك الحقيقة لمصلحة لا تهتم بلبنان ولا بشعبه سواءٌ أكانت الاستفادة على صعيد الديموقراطية أم كانت بغيرها.
استخدمت إدارة بوش، بواسطة سفارتها في بيروت، كل وسائل التحريض ضد سورية، منذ اليوم التالي للاغتيال، وأصبحت ساحة البرج في بيروت محجة لكل المتضررين من المؤسسات السياسية والأمنية السابقة. ولا يمكن قطف الفوائد لمصلحتهم إلاَّ بإسقاط كل رموزها والماسكين برقابها. فتصدَّرت اليافطات، وعناوين الصحف، ووسائل الإعلام المختلفة، التي تعمل في خدمة التيار السياسي الذي أُطلق عليه اسم المعارضة، كل العناوين العريضة للمطلوبة رؤوسهم: الأجهزة السياسية والأمنية وصولاً إلى رئاسة الجمهورية. ولذلك ارتفعت صور المطلوبين والذين حُمِّلوا المسؤولية. كما ارتفعت شعارات طرد الجيش السوري من لبنان، وكل قيادات المخابرات التي كانت ممسكة بتفاصيل الحياة اليومية للبنان. ومن أجل ذلك لمَّت ما تسمى بالمعارضة، حينذاك، كل فئات الشعب التي نالها من سلبيات المرحلة ما نالها من الأذى والأضرار.
كان الجو المتوتر والمحتقن في لبنان مناخاً مناسباً لتدخل المخابرات الأميركية على الخط، لتزيد من وتيرته، ولتمده بأسباب البقاء والاستمرار، ولم يكن بخاف على أحد، في تلك الفترة، أن مئات الملايين من الدولارات وُضعت في خدمة ذلك الهدف. وصُرفت أضعاف أضعافها في معركة الانتخابات النيابية في شهر أيار/ مايو من العام 2005.
وعلى صعيد آخر، بلغت حرارة الحركة الأميركية تجاه لبنان مدياتها القصوى، فراحت تتابع سياسة التحريض إلى أقصى مدياته. كما راحت توظِّف حادثة الاغتيال على الصعيد الدولي، وكانت في كل ذلك مستفيدة من الغطاء الفرنسي مما جعلها تبدو مرتاحة من وجود أية عوائق دولية كتلك التي واجهتها في مرحلة التمهيد للعدوان على العراق واحتلاله. فتتالت الخطوات على الصعيد الدولي:
1-تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية. قامت بزيارة لبنان. وبتاريخ 26/ 3/ 2005، قدمت تقريراً عن أعمالها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، خلصت فيه إلى أن «عملية التحقيق اللبنانية تشوبها عيوب جسيمة، وأنها تفتقر إلى القدرة والالتزام للتوصل إلى نتيجة مرضية وذات صدقية». وأوصت بأن واقع الأمر «يستلزم إجراء تحقيق مستقل دولي تتوافر له سلطة تنفيذية وموارد ذاتية في جميع مجالات الخبرة ذات الصلة». ولهذا أصدر مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 7/ 4/ 2005، القرار الرقم 1595، الذي يقضي بإنشاء «لجنة مستقلة دولية للتحقيق، تتخذ من لبنان مقراً لها، لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق الذي تجريه في جميع جوانب هذا العمل الإرهابي، بما في ذلك المساعدة في تحديد هوية مرتكبيه ومموليه ومنظميه والمتواطئين معهم».
2-وعلى موازاة تحريك المؤسسات الدولية واستخدام ضغوطها على سورية، قامت إدارة جورج بوش بتحريك مؤسساتها لكي تضغط بدورها. ولهذا بدأ الكونغرس، بتاريخ 29/ 3/ 2005، بدراسة «قانون تحرير سورية» الشبيه بما سُمِّي «قانون تحرير العراق». ويدعو المشروع، الذي أقرته اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط في مجلس النواب الأميركي، «إلى مساعدة الساعين لإطاحة النظامين السوري واللبناني ودعم الانتقال إلى الديمقراطية في كلا البلدين، والتلويح بفرض حصار اقتصادي وسياسي ودولي على سوريا».
ويفوض مشروع القانون رئيس الولايات المتحدة في العمل على تقديم التأييد والمساعدة لأشخاص ومنظمات غير حكومية، لدعم الانتقال نحو حكومة ديمقراطية ومنتخبة انتخابا حرا، ومعترف بها دوليا، في سوريا، وإعادة ديمقراطية وسيادة لبنان.
أما الاتهامات الموجَّهة فيعددها المشروع بالتالي: «تهدد حكومة الجمهورية العربية السورية المصالح الأمنية القومية للولايات المتحدة، والسلام العالمي، بأفعال منها الآتي: تأييد الارهاب، وتطوير صواريخ باليستية بعيدة المدى، وبرامج وقدرات أسلحة الدمار الشامل، واستمرار احتلال جمهورية لبنان بما يخالف الالتزامات الدولية، ودعم، وتسهيل، كل النشاطات الارهابية في العراق، وخرق كبير ومستمر وغير عادي لحقوق الانسان للشعبين السوري واللبناني».
تستمر عقوبات واجراءات وقوانين الولايات المتحدة ذات الصلة بسوريا، وبالاشخاص الذين يثبت انهم يساعدون حكومة سوريا، بعد صدور هذا القانون، حتى يبلغ رئيس الجمهورية لجان الكونغرس المختصة بالآتي، ومنها الانسحاب من لبنان، واحترام : «حدود وسيادة كل الدول المجاورة». ولهذا ستصدر قرارات مالية تفوض رئيس الجمهورية لتنفيذ هذا الجزء في ميزانية العام 2006 ، وكل عام مالي بعده.
3-تمَّ تشكيل لجنة التحقيق الدولية المنصوص عليها في القرار 1595، برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، وباشرت أعمالها بتاريخ 16 حزيران/يونيو 2005. ومُدّد انتداب اللجنة الأساسي الذي أصدره المجلس حتى 26 تشرين الأول/أكتوبر 2005. وقدَّمت تقريرها إلى مجلس الأمن الدولي في التاريخ الممدَّد المذكور.
وهنا من المفيد أن ننقل بعض المعلومات التي تسرَّبت عن القاضي ميليس، بما يساعدنا على تكوين صورة واقعية عن عمل اللجنة، وبما يمكننا من استشراف النتائج التي يمكنها التوصل إليها في المستقبل.
إن ديتليف ‏ميليس لا يملك الكفاءة المهنية التي تخوله للقيام في مهمة خطيرة. فهناك قرار من قاضٍ ألماني يؤكد عدم مصداقيته، فهو كان يُرغم بعض الشهود على إعطاء شهادات تخدم نتائج القضايا التي كان يتسلَّم مسؤوليتها. وسجَّل القاضي في أحد قراراته أن المدعي ‏العام ميليس لم يكن صادقاً اثناء استجوابه كقاضٍ.‏
وفي المحاكمات التي كان يشارك فيها كقاض للتحقيق، «يتحدث باسلوب، انني اعتقد، انني ‏اظن». ما أجبر رئيس محكمة ألمانية للقول: «السيد المدعي العام إنك تستطيع ان تعتقد ما تشاء، ‏وهذه قاعة محكمة، ونحن بحاجة الى ادلة لقد فشلت في بيان الادلة التي تثبت ان هذا المتهم ‏بالجرائم، فهو بريء، وانا اعلن براءته».
هناك سببان لرفض تعيين ميليس كرئيس للجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري (كما يقول د. سعيد دودين في مقابلة له مع جريدة الديار اللبنانية في 27/ 10/ 2005)، الاول عدم كفاءته المهنية، والسبب الثاني هو تبعيته لاجهزة ‏المخابرات الالمانية والاميركية والفرنسية والاسرائيلية. فهو كان على علم ببعض نشاطات الموساد الإسرائيلي.
ميليس ينفذ ‏ما كلف به، وما كلف به هو موثق في وثيقة كلينبر التي وضعها ريتشارد بيرل من اجل اجتياح ‏سوريا ولبنان. الخطير ليس ميليس، الخطير هو ضابط ‏مخابرات الماني وهو نائب رئيس اللجنة، وقد ظهر عندما سلم رئيس مجلس الوزراء فؤاد ‏السنيورة التقرير، تحت اسم ليمان، وقام منذ العام 1979، ببناء شبكة جواسيس في لبنان من أجل اختراق المنظمات الفلسطينية وحركة «امل» و«حزب الله»، فهو جاسوس قام باختراقات امنية خطيرة يعاقب ‏عليها القانون الالماني، وهو ملقن للسيد ميليس منذ ‏سنوات. وما يقوم به ميليس هو تنفيذ ما وضعه بيرل ومجرمون آخرون تحت اشراف ديك تشيني.
أما عن التقرير الذي أعدَّه ميليس، فقد علَّق عليه خبراء ألمان بالقول: هذا ليس تقريراً بل وثيقة تحريضية. إن المكان المناسب لهذا ‏التقرير هو سلة المهملات، وإنه يشكل اهانة لذكاء الحد الادنى لأي رجل ‏قانون في المانيا. ولن يستطيع ميليس تمريره عند قاض في قرية في المانيا، ‏وهو يعلم ذلك.
جاء في تقرير ميليس إدانة لكل من له علاقة بسوريا وبالمرحلة السابقة، فلم يستثن حتى رئاسة الجمهورية. وحمل التقرير طابعاً سياسياً واضحاً.
لقد اعتمدنا تلك الشهادات عن ميليس للاستفادة منها في استنتاجاتنا اللاحقة. وهذا ما يظهر بشكل واضح بردود الفعل الأميركية:
4-أثار التقرير ارتياحاً لدى مجلس الأمن الدولي، حاملاً ارتياحاً أميركياً واضحاً من خلال فقرات وردت في قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1636، تاريخ 31/ 10/ 2005. فهو:
أ-أثنى القرار على عمل اللجنة، كما أثنى على السلطات اللبنانية.
ب-وبناء لحاجة اللجنة إلى مزيد من الوقت لاستكمال ما وصفه القرار «تقدماً كبيراً، و]لأن تقرير ميليس[ توصل إلى نتائج هامة». وبناء على رسالة رئيس وزراء لبنان المرفوعة إلى مجلس الأمن بتاريخ 13/ 10/ 2005. رأى المجلس «من الأهمية القصوى أن يواصل التحقيق سيره»، لذا مدَّد مهمة اللجنة إلى 15/ 12/ 2005، وقرر أنه سيمدد ولايتها مرة أخرى إذا أوصت اللجنة بذلك، وطلبته الحكومة اللبنانية، مشيراً إلى أبرز المسائل التي يريد شدَّ الأنظار إليها:
-«في ضوء تغلغل دوائر الاستخبارات السورية واللبنانية... ما كان يمكن ]لقرار الاغتيال[ أن يُتَّخذ من دون موافقة مسؤولين أمنيين سوريين رفيعي المستوى». كما يشير إلى ضلوع مسؤولين لبنانيين في القرار.
-حاول عدة مسؤولين سوريين تضليل التحقيق بإعطاء بيانات مغلوطة أو غير دقيقة.
-اتخاذ إجراءات بحق كل الذين وردت أسماؤهم في التقرير، ومنها: أن تلتزم كل الدول بمنعهم من دخول أراضيها أو عبور حدودها. وتجميد أموالهم.
-يقرر أن ضلوع أية دولة في الاغتيال يشكل انتهاكاً خطيراً للقرارات الدولية ذات الصلة. ولذلك يشكل امتناع سورية عن التعاون في التحقيق انتهاكاً خطيراً لالتزاماتها بالقرارات الدولية. لذا عليها أن توضح قدراً كبيراً من المسائل التي لم يتم حسمها، ومنها: اعتقال المسؤولين أو الأشخاص السوريين «الذين تعتبر اللجنة أن يُشتبه بضلوعهم في التخطيط لهذا العمل الإرهابي أو تمويله أو تنظيمه أو ارتكابه». كما يجب عليها أن تتعاون بالكامل و«دون شروط»، سواءٌ أكان في تقرير مكان التحقيق أم في أساليب إجراء المقابلات. ويمكن للجنة، في أي وقت، أن تبلغ مجلس الأمن عن أي تأخير في التعاون بما يفي بمتطلبات القرار.
5-وتدعيماً للاتجاهات السياسية التي أفصحت عنها قرارات مجلس الأمن الدولي، جاء التقرير الدوري نصف السنوي، الذي قدَّمه تيري رود لارسن إلى مجلس الأمن بتاريخ 25/ 10/ 2005، بصفته مكلفاً بمتابعة تطبيق القرار 1559، لكي يساند نتائج تقرير ميليس، فأشار إلى أنه «لا تزال هناك بنود أخرى لم تُطبَّق لا سيّما تفكيك الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها وبسط سيطرة الحكومة على كامل الأراضي اللبنانية وإعادة الإرساء الكامل والاحترام الشديد لسيادة لبنان ووحدته وسلامته الإقليمية واستقلاله السياسي، لا سيّما عبر إقامة علاقات ديبلوماسية طبيعية بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية وترسيم الحدود بينهما».
واستطرد التقرير في الإشارة إلى أن هناك عدد من التطوّرات المقلقة قد وقعت وأثّرت في استقرار لبنان، ومنها تهريب للأسلحة والأشخاص عبر الحدود إلى لبنان. كما أشارت لجنة التحقّق أيضاً، كما ورد في تقرير لارسن، في ضبابية تريد أن توحي بهدف ما: «كان من الصعب التحقّق من انسحاب الاستخبارات السورية لأنّ الأنشطة الاستخبارية غالباً ما تكون سرّية بطبيعتها». واستنتجت انطلاقاً من أفضل الإمكانات المتاحة لها أنّه «لم يعد هناك وجود للاستخبارات العسكرية السورية في لبنان في مواقع معروفة أو في بزّات عسكرية» وأضافت أنّها «لم تستطع أن تستنتج في شكل مؤكّد أنّ كلّ الأجهزة الاستخبارية قد انسحبت».
التباسات تركها التقريران معاً، والمقصود منها أن تعطي تأثيراً نفسياً يشكل الضاغط المأمول منه إكراه سورية على الانضمام إلى منظومة دول الجوار التي اندمجت في المشروع الأميركي.
ليست الأهداف الأميركية محصورة بالضغط على سورية كنظام، بل كدولة تمتلك بعض أوراق التأثير في مجريات الصراع العربي الأميركي حالياً، والصراع العربي الصهيوني المتعارف عليه. فالمقصود ليس قطف رأس النظام السوري، بل قطف رأس الأمة العربية بكاملها. فهي تريد من خلال الضغط عليه أن تحاصر الثورة العربية الراهنة المتفجرة على الساحتين الفلسطينية والعراقية. فعلى أية مسافة يقف العرب مما يدور؟
إن الأنظمة العربية وأنظمة دول الجوار المحيطة بالعراق حسمت مواقفها إلى جانب المشروع الأميركي وراحت تعمل على إنجاحه بشتى الوسائل والسبل. فهي تلعب دور تخويف النظام السوري لدفعه إلى الاستجابة إلى كل إملاءات الإدارة الأميركية. ولأجل هذا الأمر يتحرك حسني مبارك، الذي كما كان «يدعو العراق إلى الامتثال التام لمجلس الأمن فإنه يدعو سوريا ولبنان للامتثال دون مقاومة، مدعياً أن سوريا لا تستطيع الصمود أمام الضغط الدولي»، وكذلك يفعل النظام السعودي. وأخيراً، وليس آخراً، النظام القَطَري. ودور جامعة الدول العربية، على خلفية موقفها المتواطئ من العراق، ستقوم على لعب دور آخر في تخويف النظام السوري.
لم يبق خارج دائرة الاندماج في المخطط الأميركي غير بعض أطراف حركة التحرر العربية، وهي الوحيدة التي تعلن مواقفها ضد ذلك المخطط. ولم تمر المتغيرات في لبنان وسوريا، على صعيد الصراع الدائر مع المشروع الأميركي من دون مواقف، فهي الاتفاق على المسائل التالية:
-من ثوابت المرحلة أن الإدارة الأميركية تعمل من أجل احتواء العالم والهيمنة عليه، بالاندماج مع الصهيونية العالمية.
-تسخِّر تبعية النظام العربي الرسمي من أجل كسح الحواجز المعيقة للمشروع. ويأتي على رأسها كل عوائق الممانعة مهما كانت صغيرة خوفاً من أن تتكاثر وتنمو وتتحوَّل إلى مقاومة جدية.
-فإذا كانت مظاهر الممانعة تصب في خدمة المشروع الأميركي الصهيوني، فالأولى بحركة التحرر العربية أن تقويها وترفدها بعوامل القوة. فكما أنها تعمل للحؤول دون تحويلها إلى عوامل قوة تقف إلى جانب المشروع المذكور فإن عليها أن تبقيها عوامل قوة لصالحها.
-للنظام السوري تأثير في احتضان المقاومين في هذه المرحلة. كما له تأثيرات سلبية في المرحلة السابقة. فبالموازنة بين الحالتين لا يمكن أن تحول سلبيات الماضي دون الاستفادة من إيجابيات الحاضر. والحالة كذلك، لا يجوز تركه وحيداً في مواجهة الضغوط الأميركية الصهيونية مدعومة باستئناف بعض أنظمة الاستعمار السابق الأوروبية لنشاطها.
استناداً إلى ذلك، حذَّرت قيادة المقاومة العراقية من خطورة المرحلة التي تقوم بها إدارة جورج بوش بتوظيف النتائج الهزيلة لتقرير ميليس ووضعها في خدمة ضغطها على إجبار النظام السوري في الاندماج مع المشروع الأميركي. وقد جاء في بيان جهاز الإعلام والنشر لحزب البعث في العراق، الصادر بتاريخ 26/ 10/ 2005، مشخِّصاً طبيعة اللحظة الراهنة، أن الولايات المتحدة الأميركية دفعت بعمرو موسى إلى استكمال اندماج النظام العربي الإقليمي بالمخطط الأميركي من جهة، وإعلان نتائج تقرير ميليس من أجل «استغلاله المدبر في عكس هزيمة مشروعها السياسي والأمني والاقتصادي في العراق المقاوم على أنظمة عربية غير مدمجة مع مشروعات الاحتلال السياسية والأمنية في العراق المحتل... وفي محاولة مستميتة من إدارتها (الولايات المتحدة) تعمل لإحداث حالة الدمج القسري للنظام السوري مع مخططات الاحتلال في العراق المقاوم».
وبالعودة إلى دراسة الحالة العراقية، نرى أن معظم القوى المحسوبة على حركة التحرر العربية قد أخطأت في تشخيصها، ولهذا عملت على الموازنة بين معارضتها للنظام السابق في العراق والاحتلال الأميركي، فغلَّبت عصبيتها السابقة ضده. وهي لم تقف إلى جانب الحياد كأضعف المواقف فحسب، بل ساعدت الاحتلال أيضاً. وهكذا كانت عليه مواقف تيار من الحزب الشيوعي العراقي المؤيَّد من قبل تيارات أخرى من الأحزاب الشيوعية العربية. فهي قد ضحَّت بوطنيتها من أجل ما تُطلق عليه الحق بالديموقراطية. فهي بمثل تلك المواقف خسرت موقفها الوطني، ولم تربح الديموقراطية.
وعلى العكس منها، فقد وقفت قوى عراقية أخرى كانت معارضة للنظام السابق، أجَّلت المسألة الديموقراطية إلى ما بعد التحرير، فهي قد أعطت أولوية لتحرير الوطن لأنها بغير تحريره من الاحتلال تبقى الديموقراطية حبراً على ورق.
أما في مسألة ما تتعرَّض له سورية الآن من ضغوط أميركية صهيونية متواصلة، تُعيد إلى ذاكرتنا المشهد العراقي قبل الاحتلال. وما لم نستفد منه كتجربة قريبة وماثلة في الأذهان فنكون واحداً من إثنين:
-إما أنه لم يتخلص من عصبيته ومواقفه السابقة وقطريته وهذا لا يعني إلاَّ موقفاً مرحلياً يُفوِّت فيه فرصة مواجهة المشروع المعادي.
-وإما أنه يضيِّع بوصلة تحديد الأولويات المرحلية في ثنائية التحرر الداخلي والاستعمار، وبمثل ذلك سنخسر المعركة مع الاستعمار حتماً ولن نربح معركة التحرر الداخلي لأن الاستعمار لن يترك لطرفيْ الصراع الداخلي (النظام والمعارضة) شيئاً يقتتلان عليه، فالاستعمار كفيل بالقضاء على الطرفين معاً.
إن هذا لا يعني على الإطلاق أبداً أن هناك موجبات تقع على عاتق النظام السوري في هذه المرحلة، ومن أهمها:
1-نزع فتيل قنبلة المسألة الديموقراطية في سوريا باتخاذ إجراءات توفِّر مستلزمات انخراط أكبر عدد ممكن من القوى والأحزاب في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني. ومنها، واستقواءً بها، يمكن للنظام أن يقود عدة مواجهات خارجية في آن معاً.
2-أن يتحصَّن بالجدار العربي ولكن على قاعدة الموقف من المخططات التي تجتاح المنطقة، وليس على موقف «طلب السلامة»، و«حماية الرأس على قاعدة إحنائه أمام جبروت القوة».
3-أن يُقوِّي مواقف الممانعة في مواجهة المشروع المذكور. وليعلم النظام السوري أن المشروع أصبح بلا أنياب، وهو أصبح قصير النَفَس وضعيفه لأنه يلهث من معركته مع المقاومة العراقية من جهة، ويحاول أن يعالج جروحه في داخل أميركا نفسها بعد أن ازدادت ثخانتها من الشارع الأميركي، وهي على ازدياد. وليعلم النظام أن إدارة جورج بوش تلعب على مسرح محدود المساحة والتوقيت، فهو يعمل من أجل إخضاع سورية بسرعة تقتضيها الفرصة الزمنية القصيرة المتاحة له.
4-تأهيل الشعب السوري لحرب التحرير الشعبية. فالشعب السوري يمتلك من الأهلية القومية والثورية ما يكفي لممارسة دوره في مواجهة المخطط الأميركي الصهيوني.
5-إن فتح بوابة مقاومة جديدة في سورية ستكون عمقاً استراتيجياً للمقاومة في العراق وفلسطين ولبنان، كما أن تلك المقاومات ستكون عمقاً استراتيجياً للمقاومة السورية. وستكون المقاومة العربية، بدعم من حالة الرفض العالمية، طليعة أساسية في كبح جماح مشروع المحافظين الأميركيين الجدد، كخطوة أساسية على طريق ضربه في مهده. وخطوة مماثلة ستحقق نتائج باهرة، وستجد سورية، على ضوء تلك المواقف، تأييداً شعبياً عربياً واسعاً.

ليست هناك تعليقات: