تاريخياً كان الشرق، وبالأخص
منه ما يُعرف حديثاً بالوطن العربي، محطة لأطماع شعوب الدول المجاورة، القادمين
غرباً من أوروبا، أو القادمين من الشرق الأقصى. وتلك الفترة التي امتدت لآلاف
السنين أسست إمبراطوريات، زالت الواحدة منها تلو الأخرى. وبعد أن تأسست
الإمبراطورية العثمانية كإحدى امتدادات التاريخ العربي الإسلامي، نحت الأطماع
الخارجية بالمنطقة التي يشكل الوطن العربي جزءاً أساسياً منها باتجاه إعادة غزوها
بوسائل وأساليب أخرى. بينما الثابت الوحيد لتلك الدول عبر ذلك التاريخ الطويل كان
ضمان مصالحها، ومصالحها فقط. ولهذا سنقوم برصد أهم المحطات التي تشكل الإطار
التاريخي لما تتم تسميته بالمسألة الشرقية. وسنقوم بتقسيمها إلى عناوين كبرى، وهي
التالية:
يعود استخدام مصطلح (المسألة
الشرقية) إلى القرن التاسع عشر، حينما انتشرت الحروب بين دول تلك المرحلة التي كان
يحدوها التنافس والصراع على حيازة موقع لها في منطقتنا، وهذه بعض تلك المحطات:
1-حماية الأقليات الدينية من أهم وسائل التسسل
الأوروبي: إعطاء امتيازت حماية الأقليات المسيحية، فكانت المعاهدة الأولى بين
الإمبراطورية العثمانية وفرنسا في العام 1535م، بإعطائها الحق في حماية المسيحيين الكاثوليك.
وفي العام 1774م، إعطاء روسيا حق حماية الأرثوذكس المسيحيين. وفي العام 1838، السماح لبريطانيا بفتح قنصلية
بفلسطين
ورعاية اليهود
وبناء كنيسة بروتستانتية. هذا
بالإضافة إلى العديد من الاتفاقيات البحرية والتنازل عن أقاليم تابعة للإمبراطورية
لمصلحة هذه أو تلك من الدول الغربية. وحكاية نظام المتصرفية في لبنان، الذي تأسس
بعد المذابح الطائفية في لبنان، هي الحكاية الأنموذج للتدخل الأجنبي في شؤوننا
الداخلية.
2-الحصول على الأسواق والممرات التجارية في
منطقتنا: كان القرن التاسع عشر ذروة عصر النهضة الأوروبية، حينذاك شكلت
أوروبا الغربية حضارة كونية مزدهرة، تسود العالم. ولهذا كانت بحاجة إلى تسهيلات
وممرات تجارية نحو أسواق الهند والصين. وقد منحت الإمبراطورية العثمانية امتيازات
على هذا الصعيد إلى دول أوروبا الغربية، والتي شكلت فيما بعد مدخلاً للاستعمار
الاقتصادي الأوروبي للإمبراطورية. وذلك بتحويل الإمبراطورية العثمانية، التي لا
تنتج السلع المصنعة وتصدّر المواد الأولية، إلى زبون لدى الصناعة الأوربية.
3-المنطقة تقع تحت سيطرة الدول الأوروبية: إن
الشرق الأوسط العربي انبثق من قرارات اتخذها الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى
وبعدها. إذ اعتقدت الدول الأوروبية آنذاك أن باستطاعتها أن تغير آسيا الإسلامية في
صميم أساسيات وجودها السياسي. وإذ حاولت الدول الأوروبية هذا التغيير فقد استخدمت
نظام دول مصطنعة في الشرق الأوسط مما جعل منه منطقة لبلدان لم تصبح أمماً حتى
يومنا هذا.
واقعياً بانتهاء السلطنة العثمانية
تقاسم ممتلكاتها في الشرق الأوسط، كل من تركيا، فرنسا وبريطانيا. فإقامة دولة
قومية تركية مقتصرة على الجزء الناطق بالتركية كان نتيجة اقتراع بإجماع الأصوات في
المجلس الوطني التركي في العام 1922م. وتقاسمت بريطانيا وفرنسا ما تبقى من
الممتلكات العثمانية السابقة في الشرق الأوسط بموجب ما عُرف الانتداب.
ومع انهيار الإمبراطورية
العثمانية سلكت المسألة الشرقية وجهة أخرى، وأصبحت منذ ذلك الحين تتموضع، ليس في
قلب البلقان، وإنما بين أنابيب النفط العراقية، السعودية، الإيرانية وقناة السويس،
بين البحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر والخليج العربي. إن القيمة الإستراتيجية
المهمة التي تتمتع بها بلدان هذه الرقعة الجغرافية إضافة إلى أهميتها الاقتصادية
كانت قد ولدت بين المعسكر الأنكلوسكسوني والمعسكر الروسي صراعات مريرة طوال القرن
التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. وبين الحربين العالميتين نجد أمامنا
ثلاث قوى لها مصالح أساسية في الشرق الأوسط تعمل على حمايتها أو تطويرها:
بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وهناك قوى رابعة وهي الاتحاد
السوفييتي كانت تعمل على بناء مصالح لها في المنطقة.
5-إنتقال المسألة الشرقية إلى
الحاضنتين السوفياتية والأميركية: لقد أثرت الحرب العالمية
الثانية كثيراً وبعمق في علاقة الدول الأوروبية ببقية العالم. وأدى ضرورة تقديم
التنازلات إلى التخلي عن سياسة الهيمنة والتسلط. بحيث انتقلت آليات السيطرة
والهيمنة من قبل دولتين ذو نظامين مختلفين ولكنهما سوف يقتسمان العالم: الولايات
المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي.
لقد كان على القوى الأوروبية
الانسحاب من الشرق الأوسط، لترتسم أطر مسألة شرقية معاصرة تستعيد الكثير من سمات
المسألة الشرقية القديمة. وإن قراءة جديدة لتطور المسألة الشرقية طوال القرن
التاسع عشر تضع المسألة الشرقية المعاصرة في ما نعتقده إطارها الصحيح، أي بناء
كيانات سياسية في الشرق الأوسط.
6-انتقال العالم لحكم قطبية واحدة: بعد
انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، ومع تبعية أوروبا
الغربية للولايات المتحدة الأميركية، أصبحت المسألة الشرقية ساحة للنفوذ الأميركي.
7-العالم اليوم بعد فشل الاحتلال الأميركي للعراق
يتجه نحو قطبيات متعددة: أثار حكم العالم بقطبية واحدة مخاوف
أصدقاء أميركا ومنافسيها على حد سواء. وإذا كانت أميركا قد شاركت أصدقاءها من
الأوروبيين في مخططاتها الرامية لإعادة
الاستيلاء على المنطقة تحت غبار (الربيع العربي)، وكان من أخطرها وأكثرها لفتاً
للنظر هو ما حصل في ليبيا، الأمر الذي أخاف روسيا بشكل كبير، الأمر الذي دفعها
لعقد تفاهم مع الصين لمنع تكرار التجربة الليبية ثانية في سورية. وهذا ما يشير إلى
أن في الأفق تبرز احتمالات القضاء على تجربة حكم العالم بقطبية واحدة، والعودة إلى
تعدد القطبيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق