الخميس، يونيو 07، 2012

تهافت مشاريع الإمبراطوريات الدينية (الحلقة الثانية)


لأهمية الدور الذي تلعبه حركات الإسلام السياسي في هذه المرحلة،، أضع بين أيدي القراء الكرام المهتمين بالشأن القومي، هذا البحث عسى أن يسد ثغرة في الثقافة القومية حول هذه المسألة الحساسة. ويشكل بحثنا هذا الفصل الرابع من كتاب (تهافت الأصوليات الإمبراطورية).
الحلقة 2/ 4

ثانياً: مناهج الحركات الدينية في بناء الدولة الإسلامية متناقضة

 I-إعادة إحياء نظام الخلافة الإسلامية على نهج الحاكمية لله
(الإخوان المسلمون)
تأسست حركة الإخوان المسلمين في القاهرة في العام 1928م، وتوسعت بشكل كبير في داخل مصر، وانتشرت في السودان وسوريا والعراق. وكان من أهدافها الدعوة للمحافظة على أسس الدين، لكنها أخذت، فيما بعد تعلن أن للإسلام معنى واسعاً، وإنه لا يقتصر على المسائل الدينية والروحية الصرف. فدعت الحركة إلى تأسيس دولة إسلامية، وأعلنت أن «فصل الدين عن الدولة كان نتيجة للتدخل الغربي في البلاد الإسلامية. وقد حاول برنامج (الإمام حسن البنا (1906-1949م): مؤسس الحركة ) تأكيد القانون المقدس في شتى مجالات الحياة.
أخذ الإمام حسن البنا في العام (1927م)، السلفية عن الحركة الإصلاحية، وبشكل خاص عن محمد عبده، مدعَّماً بحماس الأفغاني ونشاطه ونظرته الشمولية وعدائه للاستعمار والتخلف؛ وحاول أن يكمل ما نقص عند الأفغاني في تجنيد الجماهير الإسلامية. فأسس جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت منها الجماعات الإسلامية الحالية.
شقَّت حركة الإخوان المسلمين طريقها بسهولة، منذ تأسيسها حتى قيام ثورة 23يوليو/ تموز 1952م في مصر؛ وامتازت بعدد من الخصائص، منها:
-ارتباطها بالحركة الوطنية المصرية، في الأربعينيات من القرن العشرين، وكان الاستعمار عدوها الرئيس. وشارك أعضاؤها في حرب فلسطين.
-اصطدامها بالملكية، لأن إماماً للمسلمين لا تقوم ولايته إلاَّ بالبيعة والشورى.
-شعبية الدعوة وتغلغلها في أوساط العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين.
ومرَّت حركة الإخوان المسلمين بطورين:
-الأول: الدعوة إلى الله، وإلى القيم الإسلامية، كقيم مقدسة؛ والعودة عن طريق البدع إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله، وعمل الصحابة والتابعين.
- الثاني: الانتقال من وسائل تحقيق الأهداف بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الجهاد.
ولهذا ركَّزت الحركة على مطالبة الحكومة المصرية بالعمل في سبيل الله، عن طريق الاهتمام بالتعليم الديني ومحاربة الإلحاد. وبهذا انتقلت إلى الوقوف في وجه الحكومة، والدعوة إلى أن تكون السياسة جزءاً من الدين، فكونت كتائب الجهاد للقيام بواجب الصراع مع السلطة لاستلامها وبناء الدولة الإسلامية.
ولكي تبني تنظيماً مجاهداً، حدَّدت شروط الانتساب إلى الجماعة: بالطاعة العمياء (فطاعة المرشد أو أمير الجماعة هي طاعة الله). والإيمان بأن النظام الإسلامي هو النظام الديني الإلهي (الإسلام هو النظام العام الشامل الذي يفضل أي نظام آخر في كل زمان ومكان). والعداء لكل النظم التي حلَّت محل الإسلام (الأفكار المستوردة في الدستور، وإلغاء الأحزاب). والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس. ثم العمل لاسترداد الخلافة.
وكان تناقض الجماعة واضحاً مع الأنظمة السياسية الحاكمة في بعض الأقطار العربية مثل سوريا ومصر، ما أدَّى إلى نشوب صراع دموي بين الطرفين، بحيث كانت ثورة تموز/ يوليو 1952م في مصر، بداية لنهاية الإخوان المسلمين.
ومنذ الستينيات، دخلت «جمعية الإخوان المسلمين» في سوريا في حركة معارضة مسلحة وأعلنت عن ثورة إسلامية شاملة في سوريا ضد النظام تحت ذريعة أنه فاقد للشرعية. لكنه، إلى جانب هذا التيار المتصلب، كان هناك تيار معتدل يؤيد حركة الإخوان، لكن، من دون المشاركة في عمليات العنف.
بعد اغتيال الإمام حسن البنا، برز سيد قطب في مصر، الذي دعا إلى تكفير الحكومة ومواجهتها بالعمل الثوري بعد أن عملت السلطات بالإخوان قمعاً واعتقالاً وتعذيباً. ولقد تأثَّر سيد قطب بأبي الأعلى المودودي، الباكستاني الأصل، خاصة في بلورة فكرة الجهاد. وكان المودودي يدعو إلى: «أن حاكمية الله هي ضد حاكمية البشر، وألوهية الله في مواجهة ألوهية البشر، ثم ربانية الله في مقابل العبودية لغيره من البشر». وقد مثَّلت فكرة (الحاكمية لله) ما يشبه المُسلَّمَة الفكرية والحركية بالنسبة لتنظيمات الإخوان المسلمين، والحاكمية تعني تكفير الحاكم والمؤسسات المحيطة به، وشرعية الانقلاب عليه، لأنه يستند إلى حاكمية أخرى غير حاكمية الله، وهي (حاكمية البشر) التي تسمح أحياناً بالديموقراطية، وأحياناً أخرى بالاشتراكية وبالعلمانية.
مثَّل كتاب سيد قطب (معالم في الطريق) محوراً أساسياً في تطور فكر الإخوان. ودعوته قامت على أن هناك تعارضاً شديداً بين مجتمعين ونظامين وحقيقتين: الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، ولا بقاء لطرف إلا بالقضاء على الآخر. فالإسلام هو مجتمع الإيمان حيث تكون فيه الحاكمية لله؛ ونظام الدولة القائم هو مجتمع الكفر. ولا يمكن إحداث التغيير فيه إلا عن طريق القضاء على أئمة الكفر، ووضع أئمة الإيمان محلهم؛ ويقوم بهذه العملية الصفوة المؤمنة، وهي مفروضة فرضاً عينياً على كل مسلم ومسلمة.
وقد أدى التغيير الذي أحدثه سيد قطب إلى تفريع الجماعة إلى محورين رئيسين:
-فرع التبشير والحوار، ومنه السلفيون، والإخوان المسلمون.
- وفرع التغيير عن طريق الجهاد، ومنه:
-جماعة الجهاد: التي ترى أن قتال السلطة الكافرة واجب ديني لا يمكن التقصير في القيام به. فقتال الحاكمين واجب لأنهم ارتدُّوا عن دينهم، وقتل المرتدِّ واجب.
- جماعة التكفير والهجرة: تأسست في العام 1977، وتحسب نفسها أنها الفرقة الناجية من النار. ودعت إلى النضال ضد الدولة الكافرة التي تحكم بغير ما أنزل الله. ويمر النضال عندهم بمراحل ثلاث: الدعوة العلانية إلى إعلاء كلمة الله، الهجرة إذا تعرض المسلمون للبلاء، والعودة عندما يشتد عودهم لإزاحة الطاغوت، وحينها سوف ينتصرون على جند الشيطان حتماً.
وتحسب الجماعة أن أكثر المعاهد الأزهرية الدينية منحرف كل الانحراف، لأنها تدرِّس فلسفة ابن سينا والفارابي والكندي وغيرهم على طلبة الكليات. فالعلم «من الله وحده، وإن ما عداه فهو ظن، وإن العلم الذي أجاز الله تعلمه للناس إنما هو على سبيل الحصر: العلم الذي يربطهم بالتكليف الوحيد الذي لم يكلفهم الله إلا به وهو عبادته سبحانه وثبت عند الجماعة «أن الأعلم بالله والأتقى له هو الأقل علماً بأمور الدنيا». و«يُحرَّم تعليم الكتابة في الجماعة المسلمة إلا بقدر الحاجة العملية، وتعلُّم الكتابة الزائدة حرام». لأن «البشرية كلها الضالة، التي دمرها الله تعالى، لم تكن تزهو إلا بالعلم، ولم تكن تتعالى على الله إلا بثمرة هذا العلم المنعدم الصلة بعبادة الله وحده».
تحكم الجماعة بالكفر على كل من لا يقتنع بفكرها ومذهبها، ولكنها لا تحِلُّ قتله الآن، وإذا قتله أحد أفرادها فلا يستحق القود لأنه « لا يُقتَل مؤمن بكافر».
-تنظيم الفنية العسكريـة: أنشئ في العام 1973م، يعتقدون أن الجهاد لتغيير الحكومات الكافرة، وإقامة الدولة الإسلامية، فرض عين على كل مسلم ومسلمة. ويكفرون كل شخص يشترك في الأحزاب والجمعيات ويعتنق مبادئها العقائدية، وكل من يوالي الدولة والأحزاب الكافرة، وكل من أعدَّ القوانين المخالفة للإسلام أو أسهم في إعدادها، أو طبَّقها من دون اعتراض، والمعارضون لأحكام الإسلام مهما كانت، والاعتزاز بتراث الكفر، وحصر الدين بالعبادة، وكل من سبَّ الله أو الدين أو النبي، وكل من ترك أركان الإسلام، وكل من أنكر إحدى عقائده.
-جماعـة الجهـاد: وقد ظهرت في العام 1973م؛ وتفرَّعت عنها جماعة الجهاد الإسلامي في العام 1979م، وهي التي نفَّذت اغتيال أنور السادات في العام 1981م. وهي جماعات متعددة، لا يضمها إطار تنظيمي واحد، ولكن تجمعها (عقيدة الجهاد)، وقتال الحاكم وتكفير مؤسساته المختلفة.
أما السلطة عندها فهي أداة لتنفيذ شرع الله. وعن فكرة الحاكمية ينتج تكفير النظام، ووجوب الخروج عليه، وجواز قتاله، واغتنام أموال الدولة، ومحاربة الجيش والبوليس لأن الخدمة فيهما كفر. فلا طاعة إلا لإمام، ويجب عصيان إمارة الكفر والسفه والجاهلية. لذا ترى جماعة الجهاد أن القتال ضد السلطة الكافرة واجب ديني.
انتقدت جماعة الجهاد جماعة التكفير والهجرة، والواقفين بالإسلام عند حدود التقوى والعبادة والنسك، وقالوا بأن قمة العبادة في الإسلام هي الجهاد؛ إلاَّ أنهم يعتبرون أن الطريق إلى تحرير القدس يمر عبر تحرير البلاد من الحاكم الكافر. ويرون أن بناء دولة إسلامية يمر بمرحلتين: مرحلة البناء والتكوين، ومرحلة الحركة.
ففي المرحلة الأولى تهتم الجماعة بالتعليم الشرعي من جهة، وبالتربية الروحية والبدنية من جهة أخرى، وإعداد الأعضاء قتالياً من جهة ثالثة.
أما في المرحلة الثانية، أي الحركة، وهي مجموعة الأعمال التي تقوم بها الجماعة للوصول إلى الغاية العظمى؛ وتتمثَّل بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الجهاد في سبيل الله وهو ذروة سنام الإسلام.
أعلنت حركة الإخوان المسلمين مشروع استعادة بناء الدولة الإسلامية، وكان العمود الاستراتيجي لتنفيذ مشروعها يمر عبر إسقاط الأنظمة العلمانية، لذا أعلنت عداءها الصريح لتلك الأنظمة لأنها لا تحكم بما أمر الله به، واعتبرت بعض الفروع، التي ولدت من رحمها، أن إسقاط تلك الأنظمة أولوية لا تسبقها أولوية أخرى حتى ولو كان على حساب الصراع مع الصهيونية والاستعمار. وعلى هذا الأساس انتقلت من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنفيذ منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين.
جاءت التطورات اللاحقة لتثبت حقيقة تلك الاستراتيجية، وكان من أهم مظاهرها علاقة بن لاذن مع الأميركيين الذي استجاب للاستراتيجية الأميركية فيما عُرف بتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي.  ومن بعد إنجاز المهمة انفصل عن الاستراتيجية الأميركية وأعلن بناء نواة للدولة الإسلامية المنشودة في أفغانستان المحررة. واعتبرها القاعدة المركزية التي ينطلق منها لما اعتبره تحرير الدول الإسلامية من أنظمتها العلمانية. وأدَّت تلك الاستقلالية إلى الصدام مع الولايات المتحدة الأميركية، حليف الأمس.
كما نجد ترجمة لهذا المبدأ في التحالفات التي عقدها (الحزب الإسلامي العراقي)، وهو أحد فروع حركة الإخوان المسلمين، مع الاحتلال الأميركي.
وإن كانت الحركة السلفية السنية، التي تشبَّعت بفكر حركة الإخوان المسلمين، قد أعلنت الجهاد ضد الاستعمار فيما بعد في أفغانستان، فإنما كان هذا الجهاد نقلة تعتبر المرحلة التالية في استراتيجيتها. لكن هذه المرحلة لم يبلغها (الحزب الإسلامي العراقي) منتظراً متغيرات أخرى، ربما يكون من أهمها الاطمئنان لخروج الاحتلال الأميركي من العراق.  وتلك مرحلة تمثل أحد أكبر المآزق التي تواجه تلك التيارات السلفية، وليس أكثر خطورة من ارتكاب جريمة الخيانة العظمى بحق الدول التي تنتسب إليها تحت ذريعة أنها تقاوم إلحاد الأنظمة المتمثل بالعلمانية، كما تعتبرها أخطر من الاستعمار ذاته.
إن تركيزنا على جانب أهداف الحركات السلفية السنية واستراتيجياتها، إنما يشكل الخطورة الأكثر مثولاً في مشاريع تلك الحركات، أي أنها تهدم الأنظمة الوطنية، وهي لا تمتلك شروط بناء البديل على شتى الصعد، خاصة وأنها ترتكب جريمة الخيانة.  ولهذا صحَّ فيها قول نيكسون، رئيس الولايات المتحدة الأميركية الراحل:  إنها حركة تعرف كيف تهدم، لكنها عاجزة عن معرفة كيف تبني.

ليست هناك تعليقات: