أضواء على
نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها
(1/ 5)
الحلقة
الأولى:
الحركات
الإسلامية من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنظيم:
استناداً
إلى مقاطع منتخبة من الفصل السادس من كتاب (الردة في الإسلام) لمؤلفه حسن خليل
غريب، المنشور في العام 1999، سننشر خمس حلقات تعالج هذا الموضوع، وقمنا بتقسيمها
إلى موضوعين رئيسين، وهما:
أولاً:
التعريف بأهم حركتين بينها، وقسمناها إلى ثلاث حلقات:
-الحلقة
الأولى: الحركات الإسلامية من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنظيم:
-الحلقة
الثانية: حركة الإخوان المسلمين
-الحلقة
الثالثة: حركة ولاية الفقيه مع ملحق فكري.
ثانياً:
القضايا الخلافية بين حركات الإسلام
السياسي:
-الحلقة
الرابعة: حركـة الإحياء الإسلامي وسيادة مبدأ الاتهام بالردة
-الحلقة
الخامسة: إشكالية مقاربـة النص الإسلامي
مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة
الحلقة
الأولى:
الحركات
الإسلامية من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنظيم:
مقدمة: هل يمكن المقاربـة بين الردة وعصرنا الحاضر؟
من أين نبدأ ونحن على
مشارف القرن الواحد والعشرين الميلادي، وقطعنا شوطاً من أوائل القرن الخامس عشر
الهجري؟ ومن غير الجائز، وليس من الواقع في شيء، أن يسود منطق التناقض حول التساؤل
التالي: هل أمتنا متخلفة، أم هي غير متخلفة؟
تعترف
الأمة بالإجماع، أن الأمة متخلفة –عربية كانت أم
إسلامية- ويتأيد هذا الاعتراف بأقوال كل أبنائها، نقليون وعقليون؛ مؤمنون-متدينون
وعلمانيون؛ نخبويون وعاميِّون…
وهل
تعترف الأمة أنه من الواجب أن تنتقل إلى مصاف الشعوب المتقدمة أم لا؟ ومرة أخرى
تعترف الأمة أن الواجب يقضي بضرورة أن تتقدم. فالأمة متخلفة، وقدرها –بإرادة أبنائها- أن تتقدم، ولكن كيف؟
من
هنا تبدأ الإشكالية، ومن هنا يأخذ التناقض مداه بين آراء أبنائها. فكل خلافها،
إذاً، يدور حول علامة الاستفهام :«كيف»؟ فأبناء الأمة متَّفِقون حول تشخيص الواقع
الراهن، لأنهم يحيون فيه وبه ومعه، فالواقع شاخص واضح تحت السمع والبصر وكل الحواس
الأخرى… وفي القلوب والعقول.
أما
الخلاف فيدور حول تشخيص الماضي، كنقطة انطلاق لتشخيص الأمراض؛ وعلى استشراف
المستقبل. فتشخيص الماضي له علاقة وثيقة بتشخيص المستقبل، لماذا؟
ينطلق
النصوصيون/ السلفيون من أن التخلف الحاصل كان نتيجة للابتعاد عن الدين –وتحديداً الابتعاد عن سيرة السلف الصالح- فالشفاء من الأمراض لن
يكون إلا بالعودة إلى تقليدهم تقليداً صحيحاً؛ فصورة المستقبل عندهم مرتبطة
بالعودة إلى الأصول السلفية التي أثبتت صلاحها لخير الأمة.
لم
يُنقل الماضي بدقة وموضوعية، بل غلبت على نقله الأهواء المذهبية والسياسية
والطبقية؛ فلم يبق منه إلا محطات رئيسة واضحة، ونتائج ملموسة مخيبة للآمال.
لقد
نقلنا من الماضي، في خطابنا الراهن –وليس في بحثنا
النقدي والموضوعي-الصورة المشرقة، مع أنه لا ريب في إشراق بعض الصورة. وكان النقل
الخطابي ذا علاقة بمرحلة التحرر والاستقلال، فوُضِعَت الصورة الماضية المشرقة في
خدمة الخطاب التعبوي؛ وهذه مسألة في غاية الأهمية، إلا أنها ليست الأهمية كلَّها.
فلو استمرت -وهي مستمرة حتى الآن- فإنها تتحول، بلا ريب، إلى أحلام وأوهام وسراب…
فلو
كان الماضي مشرقاً، إلى الدرجة التي وصفه الخطاب التعبوي، لما كان من المنطقي أن
تسود الحاضر أية مسحة من الظلام. فالنتائج التي تحصدها الأمة اليوم هي أوضح علامة
تؤكِّد أن التاريخ الماضي لم يكن مشرقاً إلى الدرجة التي أوصله إليه ذلك الخطاب.
فإذا
كان للخطاب السياسي أو الديني أو السياسي-الديني أهدافه المرحلية، فإن البحث
الرصين عليه أن يرى صورة التاريخ كما كانت بالفعل.
امتنع
بعض النخبويين -من أبناء الأمة- وانعكس امتناعهم تضليلاً على وعي الجماهير
الواسعة، وهي انفعالية بحكم طبيعتها الثقافية الموروثة، عن النظر إلى الجانب
المظلم من الصورة، كرد فعل على ما شاب أبحاث عدد من المستشرقين الأجانب من ضلالات
ذات استهدافات مسيئة لأمتنا. ولكن علينا أن لا ننسى أن المادة التي استخدمها
المستشرقون حتى استطاعوا الوصول إلى
النتائج المسيئة كانت مواداً أولية استخرجوها من عجين التاريخ الذي سجَّله مؤرخو
تاريخنا، من جهة؛ ومن الثغرات الموجودة في جدراننا العقائدية-المذهبية، أومن
تراثنا السياسي والطبقي والاجتماعي من جهة أخرى؛ فتسللوا منها في سبيل النيل منا…
أما
الخلاف حول استشراف المستقبل، فلم يكن أقل حِدَّةً من الخلاف الدائر حول تشخيص جزء
الصورة القاتم، فبدا والحال كذلك -وهو صحيح كما نحسب-وكأن تقييم الماضي واستشراف
المستقبل يرتبطان ارتباطاً جدلياً.
أما
نحن فنحسب أن العلاقة بين الماضي والمستقبل صحيحة، فأساس الخلاف يستند إلى
افتراقات عقائدية: منها المذهبية الدينية، ومنها السياسية الطائفية، ومنها القطرية
والقومية والأممية… فالتاريخ، سواء كان في جوانبه العقائدية-الدينية، أو
الأيديولوجية السياسية، خضع إلى أهواء هذه أو تلك من الفرق الدينية؛ أو هذا وذاك
من المذاهب السياسية الفئوية؛ لذا أخذ كل اتجاه يغرف من التاريخ ما يُدَعِّم
اتجاهاته وأهواءه.
وكان
من أخطر ما دار الخلاف حوله –ولا يزال
مستمراً حتى الآن- هو البحث العقائدي الديني الإسلامي المذهبي، والذي أسبغ عليه كل
فريق صفة القدسية. فكما فرَّخ هذا الخلاف وتفرَّع في الماضي، جاء الحاضر الراهن
ليشهد استمرار التفريخ والتفريع.
اصطدمت
كل دعوات التجديد، والبحث عن أسباب التخلف، بموجات التقديس للماضي -تاريخاً
وعقائد- فأصبح المستقبل مرتبطاً بعودة المقدس. ولهذا قُمِعَت كل اتجاهات التجديد
بفتاوى الاتهام بالردة. فما زالت الردة -حتى الآن-سلاحاً يمتشقه الأصوليون كلما
أعجزهم الرد على كل فكر جديد. فهل يمكن المقاربة بين مبدأ الردة وعصرنا الحاضر؟
الانتقـال من التبشير إلى
التنظيم في حركة الإحياء الإسلامي.
تقلَّصت
الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى
والثانية، وانحسرت، لكنها نشطت من جديد في أوساط جماعة الإخوان المسلمين-بشكل خاص-
في عدد من الأقطار العربية؛ ولدى بعض الحركات الإسلامية في الهند-مثل تلك الدعوة
التي تزعَّمتها شخصيات من أمثال أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي- وقد بدت
الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، هذه المرة، ذات طبيعة متشددة تماماً. ولعلَّ ذلك
كان عائداً إلى ظهور دول جديدة إلى الوجود ذات طابع إسلامي خالص، كدولة باكستان
مثلاً.
تميَّز
القرن العشرون بعدة من التحولات التي كان لها تأثير بالغ على مجرى الواقع السياسي
والفكري الإسلاميين. فكان من أهمها المسألتان القومية والديموقراطية منذ بداية
تأثيرهما في الفكر العربي ابتداء من القرن 19م؛ وقد لحقت بهما مسألة إلغاء الخلافة
الإسلامية بعد انهيار الدولة العثمانية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبذلك
أخذ العديد من الإشكاليات يواجه المسلمين والدعوة الإسلامية. وانفتحت آفاق الصراع
في داخل صفوف النخب العربية، بشكل رئيس، عندما أخذ الفراغ الحاصل في غياب خلافة
حكمت العرب والمسلمين أكثر من ألف وثلاثماية سنة.
كانت
الخلافة تعبيراً عن رمز سلطوي يدير شؤون الدولة الأممية الإسلامية، وكانت تعبيراً
عن النظـام السياسي للدعوة الإسلامية. ترك هذا الفراغ المفاجيء بلبلة شديدة في
أوساط السياسيين، ووضع النخب المثقفة أمام مأزق كبير لم يكونوا يُعدُّون أنفسهم
لمواجهته. فمنذ أواخر مراحل انهيار الدولة العثمانية الإسلامية كانت صورة النظام
السياسي البديل غير واضحة لدى تلك النُخَب.
انطلاقاً
من هذه البداية حصل النزاع بين شكل النظام الإسلامي الأممي وشكل النظام القومي.
وفي المقابل حصل نزاع بين شريعة الوحي كقانون إلهي وبين شرائع النُظُم السياسية
القادمة من الغرب كقوانين وضعية من صنع البشر.
أصبح
النزاع، منذ الربع الثاني من القرن20م، قائماً بين الداعين للمحافظة على الأصول
الإسلامية والداعين إلى التغريب عن الأصالة؛ ووقفت بينهما تيارات سياسية وفكرية
كانت تحاول التوفيق بين الاغتراب والتغريب، التي طغى على مواقفهم شدّ وتجاذب بين
الأولويات الحاسمة في عملية التوفيق، حيث لعبت المسألتان القومية والديموقراطية
دوراً رئيساً في عملية النزاع.
ولأنه ليس من شأننا، في
هذا الكتاب، أن نخوض في البحث عن البدائل بمساراتها التفصيلية، فإننا سنكتفي
بالإضاءة على أهم الخطوط العامة للإشكاليات الرئيسة السائدة في تلك المرحلة.
في
مواجهة ما حُسِبَ أنه استفزاز مُوَجَّه، من التغريبيين المنتصرين لحضارة الغرب ضد
الأصوليين المنتصرين للتراث التشريعي الإسلامي بكل ما فيه، نشأت عدَّة من الحركات
الإسلامية الأصولية المنظمة؛ و برز عدد من المفكرين الإسلاميين، الذين حسبوا أنهم
يقومون بدور المجتهدين، وهو حق لهم.
ولأن
دور الحركات المنظَّمَة هو الأكثر تأثيراً وفاعلية، والأكثر انتشاراً على
المستويين العربي والإسلامي، سنسلِّط بعض الأضواء على أهمها، ومنها: حركة الإخوان
المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وحركة الثورة الإسلامية في إيران.
«إن
إقامة دولة الإسلام هدف ثابت عند معظم الحركات الإسلامية، وهي هدف صريح و مباشر
يهيمن على نشاطها ويطبع علاقاتها بالأنظمة الحاكمة بطابع المنافسة والريبة إن لم
يكن بطابع العداوة والتصادم؛ وقد يكون عند بعض الحركات هدفاً مقصوداً على مراحل،
ومُرجّئاً تحقيقه إلى حين: إما لاستحالة التحقيق في الأمد القريب، بسبب التفاوت
الكبير في ميزان القوى بين الحركات الإسلامية والأنظمة
…وإما
أن تتعلل الحركات الإسلامية في إرجائها بأن الهدف لا يمكن طلبه بمعزل عن حالة
المجتمع الإسلامي، وما به من أوضاع التخلُّف والانحلال والتبعية…فلا بد من تقديم السعي إلى إصلاح المجتمع على السعي إلى تحكيم
الشريعة».
انقسمت
الحركات الإسلامية المعاصرة إلى فريقين:
-فريق المتصلبين الذي يرى أن الجهاد هو الوسيلة
الباقية بعد أن فشلَت سائر الوسائل، وإن التغيير لم يبق منوطاً بإصلاح الأوضاع …وقد ذهب هذا المذهب جماعة الإخوان المسلمين في سوريا و مصر…
-فريق المعتدلين الذي يميل إلى العمل الاجتماعي
الطويل، الرامي إلى تأهيل الأفراد والجماعات بالتربية الإسلامية و بالتقويم
الأخلاقي.
انحصرت
مواقف تلك الحركات في جدلية رفض الأنظمة الحاكمة وتكفيرها، وكانت المقاصد المطلوبة
تغييرها. فمن الطبيعي أن تكون العلاقة مطبوعة بالتصادم حيناً، وبالمهادنة أحياناً
أخرى…ولا يصلح عامل الزمن إلا
للتربص وإتمام الاستعداد للإطاحة بالطرف المقابل. وقد تولَّد عن ذلك الصراع ما لا
يزال يتجدد من آيات النضال والقمع، ومن مظاهر الإرهاب والإرهاب المضاد، ومن صنوف
التعذيب والبطش والإجرام و الاستشهاد، ما لا يمكن القطع بأن حلقاته قد انتهت، وأن
زمانه قد ولَّى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق