الخميس، يناير 10، 2013

مرحلة الإسلام الأممي وانهيار التجربة السياسية (1/ 2)

-->
مرحلة الإسلام الأممي وانهيار التجربة السياسية
(1/ 2)
الحلقة الأولى:
العوامل التاريخية التي أسهمت في تكوين الفكر القومي العربي
-->

نصوص مستلة من الفصل الثالث من كتاب (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)
9-انعكاس المؤثرات الحضارية الأوروبية على الوضع السياسي والأيديولوجي للإثنيات داخل الإمبراطورية العثمانية الإسلامية الأممية.
إبان القرن (13هـ//18م) بدأ أثر الحضارة الأوروبية في الظهور مترافقا مع حدثين: بعد أن اصبح للأتراك العثمانيين ثقافة خاصة بهم من جهة، وفي الوقت الذي بدأت تستشعر فيه الدولة العثمانية بالضعف السياسي إزاء أوروبا من جهة أخرى ([1]).
أخذت المؤثرات الأوروبية تظهر على الاثنيات القومية والدينية في داخل الإمبراطورية العثمانية وفق ثلاثة مسارات: المسار التركي العثماني، والمسار الإسلامي، والمسار القومي العربي. فكانت العوامل الداخلية سبباً أساسياً قابلا لتلقي التأثيرات الحضارية الأوروبية، ومن هذه العوامل التالية:
-بداية انحلال الإمبراطورية العثمانية، ومنها عجز النظام السياسي الإقطاعي العسكري عن قيادة الشعوب المتمايزة الأعراق والأديان والحضارات.
 - جمود الفكر الديني وتخلفه عن مواكبة مراحل التطور، لأنه في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تدير الشعوب الخاضعة لها بواسطة علماء الدين، كان هؤلاء يتخيلون أنهم يقودون الأمة الإسلامية بنظام تركي إسلامي تحت راية الخلافة الإسلامية.
-تسابقت الإدارات السياسية الوسيطة المحلية، واقتتلت في سبيل الحظوة برضى السلطان لتمتين أسس إدارتها السياسية وتحسين شروط استغلالها الاجتماعي والاقتصادي لعامة الشعب، وكثيراً ما كانت هذه الإدارات تسعى للاستقلال الذاتي في داخل دائرة السلطنة العثمانية.
فكيف انعكست هذه العوامل على تحديد اتجاهات المسارات الثلاثة، وكيف انفعلت وتأثرت بموجة التغييرات القادمة من أوروبا ؟
أ- المسار الأول: انعكاس المؤثرات الأوروبية على الوضع التركي: كان هذا المسار هو الأكثر قبولا والأسرع تأثيراً بما جاء من الغرب، فالمجتمع التركي العثماني كان مجتمعاً وليداً في الحضارة بجانبيها الديني والمادي. فهو ليس المجتمع الذي له عقائده الدينية الإسلامية التي التصق بها والتصقت به، لأنه لم يستطع أن يتمثلها بشكل صحيح لأكثر من سبب ذاتي: أصوله القبلية التي لم تستطع أن تتطور ثقافياً بسرعة، وجهله للغة العربية كشرط أساسي لاستيعاب العقيدة الإسلامية.
كان الدين الإسلامي، بالنسبة للمجتمع العثماني، واسطة تساعده على كسب ولاء الشعوب الإسلامية التي أخضعها بفعالية قوته العسكرية، وهذا ما يفسر استقدامه للعلماء وتنظيمهم في مؤسسة خاضعة لإشرافه المباشر وسيطرته، لا سيما وأن تلك المؤسسة كانت تشكل الساعد الأيمن له والغطاء الديني المؤثر لتدعيم سلطته السياسية.
وهو ليس المجتمع الذي استطاع أن يؤسس له حضارة مادية أو ثقافية تميزه عن غيره من المجتمعات، سواء على صعيد الإنجازات العلمية من عمران وإدارة، أو على صعيد الإنجازات الثقافية الفلسفية والأدبية؛ و إنما كان على صعيد الحضارة، يقع في دائرة الانفعال بعلاقاته مع الحضارات الأخرى، ويأخذ عنها من دون أن يعطيها.هذه هي الصورة التي كان عليها الوضع العثماني، على الرغم من أنه بنى متأخراً، ثقافة أدبية خاصة به وبلغته القومية، التي لم تتجاوز الأدب والقصص والشعر واللغة، والتي اكتسبت شخصيتها المميزة بحلول القرن (12هـ/18م).
ففي سياق انفعالاته السياسية بالثقافتين العربية والفارسية، كانت له انفعالاته بالثقافة الإسلامية، بوجهها الصوفي؛ وهو قد نهل، أيضاً، وفي زمن سابق، من التراث السلجوقي والبيزنطي والمسيحي؛ كما وإن تأثراته بالحضارات الأوروبية لم تنقطع من خلال سيطرته على أجزاء واسعة من الأراضي والشعوب والأوروبية.
فلما جاءت رياح التغيير من أوروبا، انطلاقا من حضارتها التي كانت قد نضجت في تلك المرحلة، لم يجد الأتراك العثمانيون حرجاً كبيراً في أن ينهلوا من تلك الحضارة ويتأثروا بها بشكل حر واسع ومن دون أية قيود .
ففي بداية ضعف الدولة العثمانية، أي منذ النصف الثاني من القرن (12هـ)/ الربع الثاني من القرن (18م)، لم تعد الثقافة العثمانية الخالصة وقفاً على طائفة العلماء بعد أن ظهرت طبقة جديدة من المثقفين العثمانيين بفعل نشأة الطباعة في العام(1140هـ/ 1727م)، التي أصابت الطبقات العليا، والتي كان معظم أفرادها يشغلون مناصب في الحكومة، فخرج منها صدور/ سلاطين عظام. فأحدثت هذه الظاهرة  تغييراً كبيراً في الصيغة الحربية القديمة التي كان يتصف بها الحكم العثماني، وقد أحدث ذلك ثغرة في بنية النظام القديم.
اهتمت هذه الطبقة بالإصلاح، خاصة في الجيش. ولما لم يكن لها صلات بالطبقات الإسلامية الدنيا، فثار المتضررون منها، بحيث اتفق الإنكشارية مع طائفة كبيرة من العلماء؛ إلا أن إصرار هذه الطبقة على المضي في الاصلاحات دفع أحد سلاطينها، محمود الثاني (1223-1255هـ/1808-1839م)، إلى التنكيل بالعلماء وإحداث المذبحة المشهورة بالانكشارية في العام (1242هـ/1826م) ([2]).
ومنذ العام (1255هـ/1839م) بدأ عصر قوانين الاصلاحات فى السلطة بإلغاء الضرائب وإعلان المساواة بين جميع رعايا الدولة؛ وتتالت الإصلاحات في الأعوام، (1273هـ/1856م) و(1281هـ/1864م) و(1293هـ/1876م)، إلى أن جاء السلطان عبد الحميد الثاني، في العام (1293هـ/1876م)، متحدياً إرادة النخبة العثمانية الإصلاحية، لكي يلغي الدستور الجديد في العام (1295هـ/1878م) ([3]).
وفي أوائل القرن (14هـ)/ أواخر القرن (19م)، عرفت الدولة العثمانية تمايزات متعددة بين النظام القديم ومرحلة التنظيمات التي ابتدأت في العام (1255هـ/1839م)، وكانت بداية لمرحلة تحولات في المجتمع والسلطة، تزامنت مع وضعية اجتماعية داخلية من جهة، ومع الصراع الدولي للتسابق على وراثة الرجل التركي المريض من جهة أخرى. وقد أفرزت هذه المرحلة، على صعيد الإثنيات الأخرى وخاصة العربية الإسلامية منها، تجربة العمل السياسي المحلي الذي قدم حلولاً متضاربة لمواجهة الأزمة، فحمل بعضها  نزعة عثمانية تمحورت حول الإصلاح واللامركزية، وحمل بعضها الآخر نزعة استقلالية عبَّرت عن نفسها في محاولة إبراز خطاب قومي ([4]).
تمثَّل المأزق السياسي العثماني، بشكل أساسي، في عجز الدولة عن أن توحِّد مجتمعات متنوعة ومتعددة، وعجزت عن أن تضبطها في أطر تنظيمية واحدة وإدارة مركزية قوية، في وقت تعدَّدت فيه مشاريع السلطات المحلية في الولايات، كما تعددت فيه سياسات مناطق النفوذ من قبل الدول الغربية ([5]).
قد تكون النخبة العثمانية، بعد أن فشلت في تركيز حكم قادر على الامساك بكل مفاصل الإمبراطورية، وبتأثير من الغرب، قد اتجهت إلى التحول نحو القومية الطورانية يكون فيها لكل مواطن، حقوقه السياسية والمدنية أياً كان دينه ([6]).
فكان القضاء على الحكم الحميدي في تموز/ يوليو العام (1326هـ/1908م)، على أيدي جمعية تركيا الفتاة، فاتحة عهد جديد في انحياز الأتراك نهائياً إلى جانب القومية الطورانية، التي حاولت أن تتحدى انتصار فكرة الكرامة العربية، فوطدت العزم على الانتفاع بفكرة الجامعة الإسلامية لخدمة انتصار فكرة الطورانية. وعندما قامت بجملة من الممارسات لتحقيق حلمها دفعت العرب إلى ردود فعل قومية وخلقت في نفوسهم روح العداء للأتراك، أسفرت عن قيام حركة وطنية تركية راح روَّادها يهاجمون الإسلام على أنه نظام حكم ديني، وتأسس منها حركة علمانية تركية ([7]).
وبفعل تداعي الأسس التي قامت عليها الإمبراطورية العثمانية، وبعد أن ثبت فشلها، فقد أعلنت الجمهورية التركية فى 29 تشرين الأول/ اكتوبر سنة (1342هـ/1923م)، وأنتخب مصطفى كمال أتاتورك رئيساً لها، وكانت الرغبة متجهة نحو الاحتفاظ مؤقتاً بالخلافة، فاختير عبد الحميد ابن السلطان عبد العزيز لهذا المنصب؛ فأدرك مصطفى كمال، بعدها، أن زعيماً دينياً أعلى معترف له بهذه الصفة في العالم الإسلامي خليق بأن يصبح، سواءٌ شاء أم أبى، نقطة الدائرة التي تلتقي عندها آمال الرجعية؛ فوطَّد العزم على أن يسير بدولته في طريق الحضارة الأوروبية، ولذلك آثر أن يتخلى عن المنافع التي كانت دولته جديرة بأن تجنيها لو رغب في إبقائها مركزاً روحياً للإسلام. لكنه في 3 آذار/ مارس العام (1343 هـ/ 1924م)، اتخذت الجمعية الوطنية التركية قراراً بإلغاء الخلافة وإخراج الخليفة من البلاد. ومن بعدها أخفقت جميع المحاولات التي بُذلت في سبيل إحياء الخلافة في البلاد الإسلامية الأخرى ([8]).
قبل أن نبدأ عرض المسار الثاني وتوضيحه، نرى أولاً وجوب الإشارة إلى أنه بين المسارين الثاني والثالث جملة من العلاقات المتداخلة ومنها التطلع، نحو مضامين الوجهة القومية العربية، لكنهما يتمايزان ببعض المنطلقات وأهمها: أن التيار الديني انطلق من ضرورة التجديد على صعيد الإسلام كمدخل أساسي لمعالجة المآزق التي فشل النظام الإسلامي العثماني في إيجاد حلول لها؛ أما التيار الآخر فقد انطلق من حيثيات قومية عربية وحدوية لإيجاد حلول لتلك المآزق بصرف النظر عن الانتماءات الدينية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن المساربن معاً قد اتفقا على وجود مآزق على صعيدي السياسة والفكر، كعوامل داخلية باتجاه التأثر برياح التغيير القادمة من الغرب من جهة، وكانت وسائل مرور تلك الرياح واحدة من جهة أخرى.
فكيف وفدت هذه المؤثرات، وكيف تلقى كل تيار تأثيرات الحضارة الأوروبية ؟
لقد سبق نشأة المسارين جملة من الأحداث والمتغيرات، ومن أهمها:
ضمن دائرة التسابق الأوروبي الأمبريالي تجاه المنطقة العربية، قام نابوليون برنابرت بحملة عسكرية فرنسية ضد مصر في العام (1213هـ/1798م)، لكن هذه الحملة فشلت على أبواب فلسطين وسورية. وفي المقابل، امتدَّ الصراع الإنكليزي- الفرنسي باتجاه مصر، أيضاً، بواسطة عملائهما منذ العام (1221هـ/1806م)، عندما أنزل الإنكليز جيوشهم في الإسكندرية، فكانت نتيجة هذه الحملة الفشل. وعلى العموم فقد شهدت المنطقة منذ أوائل القرن (13هـ/19م)جملة من القلاقل المحلية، وبداية جدية للتدخل الاستعماري ([9]).
استمرت الحملة الفرنسية على مصر، ثلاث سنوات(1213-1216هـ/1798-1801م)، وكانت فاتحة لإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وتكاثرت هجرة الإرساليات التبشيرية باتجاه المنطقة العربية. وكانت الطباعة قد وصلت إلى المنطقة، قبل ذلك، مع قدوم أول مطبعة إلى دير قزحيا في لبنان في العام (1010هـ/1601م)، ثم إلى دير يوحنا في العام (1150 هـ/ 1737م). لكن الصحافة ظهرت لأول مرة، في مصر في أثناء الاحتلال الفرنسي، واقتصرت الترجمة في بادىء الأمر على الكتب الدينية، واتخذت طابعاً فردياً غير منظم، ثم نشطت الجمعيات العلمية، فظاهرة الاستشراق.
-المسار الثاني: حركة التجديد الإسلامي ردة فعل ضد التخلف الداخلي وإستجابة للمؤثرات الأوروبية: عمل في داخل هذا المسار تياران من علماء الدين:
-تيار التجديد الإسلامي لذاته، وهو قد سبق وصول المؤثرات الأوروبية.
-تيار التجديد الإسلامي متأثراً بحضارة أوروبا، عمل على التوفيق بينها والإسلام.
فبالنسبة للتيار الأول: فقد أثار الجمود الفكري والتقليد الأعمى وما علق بالإسلام، منذ أن أُغلق باب الاجتهاد في القرن (4 هـ/10م)، من ضلالات وبدع وما نشأ من طرق صوفية. أدرك عدد من العلماء المتنورين  الحاجة إلى الإصلاح، بدءاً من ابن تيمية (661-728 هـ/1262-1327م). ثم الدعوة الوهابية التي كانت أول رد فعل ديني على مفاسد المجتمع الإسلامي في العصور الدينية، وتنتسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1115-1206هـ/1703-1791م)، وقد نادت بالعودة بالإسلام إلى صفائه الأول، والتوحيد، وإنكار تأويل القران، وفتح باب الاجتهاد، والدعوة إلى التقشف. ولأن الوهابية صدمت المسلمين في عنفها وشدة تصلبها فقدت عطف وتأييد المسلمين السنة وعدُّوها هرطقة ([10]). ويأتى من داخل هذا التيار ([11]):
-الألوسيان: شهاب الدين محمود الألوسي (1217-1270هـ/1802-1853م)، و محمود شكري الألوسي (1273-1342هـ/1856-1924م)، وانحصرت دعوتهما بتنقية الدين مما علق به من شوائب، واتِّباع السلف في مسائل العقيدة، وقد تأثَّر الأول بالتصوف النقشبندي.
-الحركة السنوسية: مؤسسها محمد بن علي السنوسي في الجزائر (1201-1275هـ/ 1787-1859م)، ونادت بالعودة بالإسلام إلى نقائه الأول، والى أن الكتاب والسنة مصدرا الشريعة، فتح باب الاجتهاد، تنقية الدين من البدع، الإيمان بمباديء الصوفية، حصر الإمامة بقريش، الإيمان بالمهدوية.
-حركة المهدي في السودان: مؤسسها محمد بن أحمد بن السيد عبد الله (1260-1302هـ/1844-1885 م)، وقد دعت للأخذ بالكتاب والسنة، توحيد المذاهب الأربعة، تحريم زيارة القبور، والقضاء على الفساد السياسي.
كان من مميزات هذا التيار، أنه أخذ على عاتقه، وقبل دخول المؤثرات الأوروبية، أن يعالج من وجهة نظره الدينية مختلف المشاكل التي كانت قد استشرت في داخل المسلمين، وحسب أن السبب يكمن في الابتعاد عن أصول الدين، وكان رواد هذا التيار قد وُجدوا في معظم بقاع الإمبراطورية العثمانية الإسلامية.
بعد أن واجه المجتمع الإسلامي التأثيرات الغربية، أخذت مكانة العلماء بالاهتزاز، وأخذت سلطتهم تنحسر أمام طبقة جديدة من الموظفين والمحامين والصحافيين الذين حلوا محلهم كطليعة مثقفة ([12])، وانحسر النموذج الإسلامي أمام تقدم الطراز الغربي بحد أن استحدثت طبقة إدارية لا يوجهها حكم التقاليد، فشكلت نخبة اجتماعية جديدة، وشكلت نواة طبقة من رسميي الحكومة نتيجة الإصلاحات التعليمية المستحدثة ([13]).
رفض العلماء المشاركة في التيار الجديد، وأصبح التعبير عنه بدعة تستحق التوبيخ، وأسهم جمود العلماء في إعاقة تطوير الأزهر الثقافي، وأعطى مبرراً لاتهامهم بالتخلف، وخبا نفوذهم السياسي عندما قصر المسلم الحديث دور الدين على الناحية الروحية ([14]).
أما التيار الثاني: فتأثر بالاتجاهات الحضارية الوافدة من أوروبا، وبدأت الجهود بالفعل، في العام (1220 هـ/ 1805 م)، مع محمد علي باشا الذي قام بإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا، وكان على رأس البعثة الأولى في العام (1243هـ/1826م) رفاعة الطهطاوي (1216-1290هـ/1801-1873م) الذي وعى بشكل جيد واقعة انهيار الحضارة الإسلامية ([15]). نشأ في مواجهة العلوم الغربية اتجاهان:
-الأزهر والأزهريون الذين اعتقدوا أن العلوم الشرعية هي الأساس واكتفوا بها.
-المفكرون الإصلاحيون الذين وقفوا موقفاً إيجابياً من تلك العلوم وعدُّوها الأساس لقيام الحضارة المتفوقة ونموها، ورأوا ضرورة اقتباسها والأخذ عنها بدون تردد([16]).
كانت القضية المشتركة التي اجتمعت حولها فئة المثقفين في القرن (13 هـ/ 19م)، هي قضية الإصلاح والخروج من الواقع المرير، واقع التخلف؛ لكنه عند تحديد الوسيلة كان كل فريق يسلك سبيله الخاص، وفي الحالتين كانت التأثيرات الإسلامية مستمرة الحضور، وكانت تتأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل: بين العالم الإسلامي كله أو العالم العربي فقط؟. وقد نشطت هذه الحركة، أيضاً، في الرد على أنواع النقد والتجريح التي كانت تواجه الإسلام من بعيد أو من قريب، وقد تبددت جهود كثيرة في رد ادعاءات خصوم الإسلام، ولهذا انصرف المفكرون المسلمون إلى المواقف الدفاعية والتسويغية ([17]).
 شملت هذه الفئة: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي (1255-1308هـ/ 1810-1890م)، وأحمد بن أبي الضيَّاف (1219-1291هـ/1804-1876م)، وجمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1838-1897م)، وأحمد رضا والشيخ علي يوسف وعبد الله النديم (1261-1314هـ/1845-1897م)، وعلي مبارك (1239-1311هـ/1824-1893م).
فأما ما لم يتم الاجماع عليه بينهم هو الأساس الذي ينبغي التركيز عليه أكثر من غيره في تحقيق الرقى والتقدم. وليست هذه المسألة حديثة النشأة و إنما اتَّخذت في تاريخ الفكر الإسلامي صوراً عديدة:
-صورة الفعالية العقيدية الخالصة التي أنتجت الفرق الكلامية الإسلامية.
-صورة الفعالية العملية، أو الفقهية الخالصة (المعاملات، العبادات)، وأنتجت الفقه وأصول الفقه.
-صورة النظر العقلي وأنتجت فلسفات متعددة تتراوح بين قضايا العقل الخالص وقضايا الإيمان.
-صورة الانصراف عن عالم الشاهد إلى حياة الروح الخالصة فأنتجت الصوفية.
- صورة التوحيد النظري بين الإسلام والمدنية، لكن لم يحدِّد المفكرون الأساس أو الأسس الجوهرية التي ينبغي التعويل عليها من أجل تحقيق تقدمها ([18]).
وفي السياق ذاته، ردَّ المفكرون العرب في العصور الحديثة التقدم إلى أساس أحادي، فردَّها بعضهم إلى العقيدة التوحيدية، والاقرار بمبدأ التوحيد مثل ما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م).
وكانت عند البعض الآخر مُستلهَمة من ضرورة وجود السلطة الوازعة وتطلعات الفرد والمجتمع السياسية. وعند البعض الثالث قيمياً مُؤسَّسَاً على قيمة المدنية أو على القيم الاجتماعية- الأخلاقية، أو على القيم الاقتصادية. أما المركبات الشمولية المتكاملة التي أدرك أصحابها أن تعدد الأسس أو العلل هو الأصل في طريق التقدم، فلم تظهر إلا في وقت متأخر جداً ([19]).
وعلى العموم فالفكر الاعتقادي الإسلامي الحديث قد تحرر من قيود وتصورات كثيرة كانت تُكبِّله، و انتقل من حالة التجريد والسكون إلى حالة التنوع والحركة ([20]).
ج- المسار الثالث: الاتجاهات القومية العربية والتحرر من قيود أحادية الرابطة الدينية: في القرن (13هـ/19م) تغلغلت آراء الثورة الفرنسية، وحملها طلبة العلم العرب معهم إلى المنطقة العربية. هذه الآراء هي الحرية والمساواة والإخاء، وكانت معروفة في الحضارة الإسلامية، لكن الجديد فيها هو معانيها الجديدة.
كانت الحرية  تخضع للنقاش الديني من حيث الجبر والاختيار الإلهي كما عند الفرق الإسلامية (الجبرية والقدرية والمعتزلة)؛ أما المساواة فقد زخر بها الأدب الديني من حيث إنها مساواة المؤمنين أمام الله، فلا يفضل واحدهم الآخرين إلا بالتقوى.
لكن الجديد الذي دخل معنى ا الحرية هو المعنى الحياتي العلماني، أي حرية الناس في حياتهم السياسية والمدنية، ومساواتهم أمام القضاء وفي الفرص المختلفة ([21]).
وقد وصلت إلى المنطقة فكرة الثورة على السلطان (الثورة على الاستبداد في الثورة الفرنسية)، والثورة ضد الأجنبي تؤدي إلى الاستقلال (كما في ثورة أميركا على بريطانيا)، ودخلت فكرة الدستور بما تحتويه من توضيح لحقوق الشعب وتحديد لسلطة الحاكم الذي كان مطلق التصرف، لا حدود لقوله أو لظلمه ([22]).
وكان من تأثيراتها، أيضاً، الاحساس بوجود العلم والرغبة في التعرف عليه، وقد وصلت، عن طريق الفكر السياسي والأدب، مسألة القومية التي استولت على العواطف([23]). فمنذ العام (1326 هـ/ 1908م) سادت البلاد العربية ثلاثة اتجاهات:
-أن تكون الخلافة عربية.
-إعطاء صلاحيات كبيرة للأمصار العربية وقدر من الحكم الذاتي في داخل الإمبراطورية العثمانية.
-الاستقلال التام عن العثمانيين، وإقامة دولة عربية موحَّدة ([24]).
فمنذ حملة نابليون بونابرت على مصر، انفتح الباب المصري أمام المباديء الوطنية والديموقراطية والعلمية والعلمانية، وغيرها من الأفكار؛ وانتقلت هذه المباديء إلى لبنان بواسطة الحملة التي قادها ابراهيم باشا في الأعوام (1247-1256هـ/1831- 1840م)، فأسبغ حقوقاً وامتيازاتٍ على غير المسلمين، واستعمل القوة مع مسلمي دمشق وصفد عندما اعترضوا على تغيير حالة مواطنيهم الذميين، فشجَّعت هذه السياسة الإرساليات الأجنبية، اليسوعية والإنجيلية والبروتستانتية، أميريكية وبريطانية، فازدهرت المدارس الوطنية وصدرت الصحف والمجلات وتأسست الجمعيات الأدبية، وكان من أهم الروَّاد اللبناني بطرس البستاني (1234-1300هـ/1819-1883م)، الذي مهَّدت كتاباته الطريق لتنبيه الوعي القومي وبدء ظهور حركة القومية العربية ([25]).
كانت الفروقات الاجتماعية، داخل الولايات العربية، تحول دون نشوء وعي قومي صحيح. بالإضافة إلى الأقليات القومية من أكراد وأرمن وشركس؛ فكانت مصالح البدو والفلاحين تتباين مع مصالح سكان المدن الاقتصادية؛ كما أن توزع أبناء البلاد إلى سُنَّة وشيعة ودروز ونصيرية، من جانب، وكاثوليك وموارنة وملكيين ويعاقبة تابعين لروما، وأرثوذكس ونساطرة من جانب آخر، تلعب دوراً معيقاً في إنماء هذا الشعور. لكن الواقع أن الشعور بقومية واحدة أخذ يتنامى لكي يشدَّ السوري إلى السوري في نضال مشترك ضد الأتراك العثمانيين؛ وشقَّ طريقه، في بداية الأمر، في داخل الأوساط الراقية، تحت تأثير الثقافة الفرنسية ([26]).
لقد سبق المسيحيون العرب المسلمين إلى التحسُّس بالشعور القومي، وإلى المجاهرة بالحركة القومية؛ و تشكَّلت على أيديهم أولى الجمعيات السرية، التي ندَّدت بالحكم التركي، مثل جمعية بيروت السرية في العام (1292هـ/1875م)، وجمعية حقوق الملَّة العربية في العام (1298هـ/1881م).
انخرط عدد من علماء الدين المسلمين، مثل الكواكبي والشيخ طاهر الجزائري، في الدعوة إلى الإصلاح الديني والإصلاحات السياسية؛ وقد مهَّدت دعوتهما الطريق من أمام تشكيل الجمعيات والمنظمات السرية لمقاومة الاستبداد التركي في مطلع القرن العشرين. فمنذ تلك المرحلة نشأ عدد من الجمعيات القومية العربية، مثل:جمعية الإخاء العربي-العثماني (1326هـ/1908م)، والجمعية القحطانية (1327هـ/1909م)، والمنتدى الأدبي (1327هـ/1909م)، وجمعية الجامعة العربية (1328هـ/1910م)، وجمعية العهد (1331هـ/1913م)، وجمعية العلم الأخضر (1330هـم1912م)، والجمعية الإصلاحية البيروتية (1331هـ/1913م)، وجمعية البصرة الإصلاحية (1331هـ/ 1913م)([27]).
كانت الاتجاهات العاملة في سياق هذا المسار تُعبِّر، في بداية الأمر،عن حالة الانقسام الديني، وإذا قمنا بترتيبها استناداً لمضامينها السياسية والعقيدية لوجدنا أن أنها تخفي وراءها أغراض عقيدية دينية إسلامية موروثة. لذا كانت الدعوات الإصلاحية، على الصعيد السياسي تتمحور حول دعوتين:
-اللامركزية ذات المضمون الإصلاحي في الولايات العربية، والمحافظة على اللغة العربية، مع قدر من الحكم الذاتي في داخل الإمبراطورية العثمانية؛ أو تتضمَّن مشروع إنشاء مملكة عربية تتمتع بالاستقلال الذاتي وترتبط بالسلطنة العثمانية. وكان روَّادها من بعض العلماء المسلمين العرب، وبعض النخب الإسلامية.
-كان هناك ما يصح أن نحسبه منسجماً مع الدعوة الإسلامية، وهو ينطلق في بعض جوانبه من انحياز للعروبة الإسلامية، وكان يُعبِّر عن ذلك اتجاه يرفض الخلافة العثمانية، ويدعو إلى خلافة عربية؛ وكان هذا الاتجاه ينسجم تماماً مع الدعوات الإسلامية السابقة التي دعا فيها فقهاء كثيرون إلى اشتراط قرشية الخليفة.
فإذا كان الاتجاهان المذكوران يُعبِّران عن اتجاهات قومية، فهما دعوة واحدة من حيث انتسابهما إلى خلفيات عقيدية إسلامية، أو اتجاهات سياسية لإسلامية. فسواء دعا أي منهما إلى اللامركزية أو الانفصال، فإن البصمات الإسلامية واضحة فيه، بل إن قاعدة انطلاقهما الأساسية هي العقيدة الإسلامية.

أما الدعوة الثانية فتبنَّت الاتجاهات الداعية إلى الثورة على الأتراك والانفصال عن الدولة العثمانية، وإنشاء دولة عربية مستقلة، ويمثل هذا الاتجاه جمعية العربية الفتاة([28]).

في هذا السياق كان التمييز بين رعايا الدولة العثمانية يتم على أساس الانتماء الديني: «مسيحي»  و«مسلم»، لذلك لم يرتفع أي شعور بالتمييز بين عربي وعثماني ([29])، فلماذا ارتفعت، إذاً، الأصوات المطالبة بالاستقلال الذاتي؟

يعيد، زين زين، هذا التحول إلى جملة من الأسباب :
- على الرغم من أن الحركة الوهابية كانت إسلامية صرفة إلا أنها بشَّرت بعودة الخلافة إلى العرب ([30]).
- لم تكن حركة محمد على باشا ذات أهداف وطنية عربية بسبب شعور جميع المؤمنين، في ذلك العصر، بالأخوة الدينية ([31]).
- أما في لبنان، فلم يشعر المسيحيون بأن الحكومة العثمانية هي حكومتهم، وقد دفعهم عامل الحرب الأهلية في العام (1277هـ/1860م) إلى المطالبة بالانفصال التام عن الإمبراطورية العثمانية بحماية أجنبية، فكانت فرنسا مؤهلة كي تلعب هذا الدور. وساعد المسيحيين على المطالبة عدة عوامل، من أهمها: انتشار التعليم الغربي وتغلغل آراء الثورة الفرنسية، إحياء اللغة العربية وآدابها، تأسيس المطابع، إنشاء الصحف، السياحة في الخارج، عودة بعض المهاجرين اللبنانيين من أميركا الشمالية، التبادل التجاري مع الغرب([32]).
وبعد أن يستقرئ زين زين الوقائع يجد أنه لم يكن للمدارس التبشيرية دور في توعية الجيل العربي، قومياً وسياسياً، لأن أغراض المبشرين كانت ترتكز إلى تعليم العقيدة المسيحية؛ فكان أقصى ما تسعى إليه كل طائفة هو اجتذاب الأنصار إليها من أصحاب الطوائف الأخرى من جهة، وكانت ترى من واجبها تعزيز النفوذ السياسي، للدول التابعة لها، في هذه المنطقة من جهة أخرى([33]).
كان  العرب، مسيحيون ومسلمون، منقسمين في  اتجاهاتهم، عندما  أخذت بوادر انحلال الإمبراطورية العثمانية، تظهر جلية واضحة. فكيف توزعت، إذاً، هذه الاتجاهات، وما هي أسباب التناقض في المواقف ؟
ضمَّت الإمبراطورية العثمانية العديد من الشعوب المتمايزة عرقياً ودينياً؛ ولما كان هدفنا من البحث تفسير المسألة القومية، بمضامينها الحديثة، لمعرفة مدى صلاحيتها في معالجة الإشكاليات التي عجز النظام السياسي العربي الإسلامي السابق عن مواجهتها وإيجاد الحلول لها، فإنما سوف ينصبُّ اهتمامنا على ما له علاقة بما يسمى الولايات الناطقة بالعربية، ويأتي في سلم الأولويات، النظر في مواقف المسلمين والمسيحيين العرب من النظام التركي العثماني الإسلامي .
لأن الدين الرسمي للامبراطورية العثمانية هو الإسلام، ولأن أكثرية العرب هم مسلمون، ولأن العرب هم حَمَلة رسالة الإسلام ، فهل كانت تربط الأتراك العثمانيين روابط مميَّزة مع العرب ؟
انتزع الأتراك البلدان العربية من أيدي المماليك، وكان العرب في حالة ضعف. ولم تكن سلطة الأتراك تتم بشكل مباشر على تلك البلدان، بل بواسطة ولاة عثمانيين يحكمون البلاد بوسائط محلية. فكان الحكم التركي، بالنسبة للعرب المسلمين، هو الذي حمى البلدان العربية والإسلام من الاعتداءات الخارجية .
من جهة أخرى، تأثر الأتراك باللغة العربية، لغة الدين الإسلامي، وكان للعرب اليد الطولى في وضع النظام القضائي على أسس الشريعة الإسلامية؛ وكان ما يجمع بين الأتراك والعرب ، طيلة أربعة قرون، رابطة الإسلام؛ لهذا لم يدر في خلد المسلمين العرب أنهم يعيشون في ظل امبراطورية "عثمانية تركية" ما دام  الإسلام كرباط ديني  هو الذي  يوحِّد بين الجميع ([34]).
 أما في القرن (13هـ/19م) فأدخلت الدولة العثمانية عدداً من الشرائع والقوانين العلمانية، بتأثير من الفكر الغربي والضغط السياسي للدول الغربية؛ وقام الأتراك بمحاولات إصلاحية، وبدأ ما يسمى بعصر التنظيمات، ومنها: إعادة تدوين الفقه الإسلامي، وإعادة تنظيم السلك القضائي بإنشاء وزارة العدل والمحاكم النظامية، وهي خطوات أولى باتجاه وضع الدولة على أسس عصرية؛ كما صدر قانون الجنسية في 19كانون الثاني / يناير العام 1286هـ/1869م حُدِّدت فيه الأحوال والظروف التي تُمنح فيها الجنسية التركية([35]).
لم يكن القانون العثماني، على قاعدة نظام الملة، طوال القرن (13هـ/19م)، يميَّز بين القومية، كعرق، وبين الانتماء الديني؛  فالجاليات الدينية (الملة) كانت قوميات متميزة؟ وهكذا أصبحت لفظة الدين تُعَدُّ مرادفاً للفظة قومية. ولأن المواطنين في داخل الإمبراطورية كانوا رعايا للسلطان فإنهم كانوا فئتين: المسلمين وغير المسلمين؛ أما غير المسلمين فهم النصارى، وكانوا يُحسبون من أهل الذمة؛ وكلمة الرعية، عندهم كانت تعني مركزاً اجتماعياً فيه شيء من الحِطَّة والمهانة إذا ما قيس بمركز المسلمين ([36]).
استناداً إليه كان المسلم يشعر بأن الإمبراطورية العثمانية هي إمبراطوريته ، وعلى النقيض من ذلك، كان المسيحي يشعر أنه واحد من رعايا السلطان، وأن الحكومة التركية لا يمكن أن تكون حكومته. فكان يشعر أولئك المسيحيون اللبنانيون، بشكل خاص، أنه لا بد من التعاون مع المسلمين العرب لبلوغ أهدافهم ولم يكن هناك قاسم مشترك سوى العروبة، فهي كشعار كان في وسعها أن تثير في نفوس العرب شعوراً بالقومية وتوحِّد المسلمين والمسيحيين العرب ([37]) .
ازداد شعور العرب بالعداء تجاه الأتراك في عهد السلطان عبد الحميد، ليس بسبب استبداده وطغيانه بالحكم فحسب، و إنما لأنه، أيضاً، عندما تبؤَّأ السلطة في العام 1293 هـ/1876 م) كان يساوره الخوف من العرب الذين يعملون على استعادة الخلافة من أيدي الأتراك. وعلى الرغم من إجراءاته التعسفية، فإنهم رفعوا شعارات الإصلاح في الولايات العربية، ولم يخطر ببالهم تقويض أركان الخلافة([38])،فكان هذا الاتجاه  يعبِّر عن الاتجاهات العامة والسائدة لسكان الأقاليم العربية، أي البقاء على الولاء للأتراك مع شرط إصلاح الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فحتى المتطرفين، من العرب المسلمين، كانوا يطالبون بالاستقلال الذاتي، إنما داخل الإمبراطورية العثمانية لا خارجها؛ وكان من أهم أعلام هذه الحركة الشيخ محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا ([39]).
أما في أوائل القرن العشرين، وبعد أن نشطت الحركة التغييرية عند الأتراك، نشأت جمعية تركيا الفتاة، وعندما استطاعت أن تقضي على الحكم الحميدي في تموز/يوليو من العام (1326 هـ /1908م)، حاولت أن تتبنى فكرتي الجامعة الإسلامية والاتحاد الطوراني، كطريق يحقق الهدف الأساسي، وهو انتصار الفكرة الطورانية. ولأن جمعية تركيا الفتاة لم تستطع بمبادئها الإصلاحية أن تحقق العدل والمساواة بين الرعايا، أخذت ردود الفعل العربية تنمّي في النفوس روح العداء نحو الأتراك، خاصة بعد محاولاتهم ترجمة القرآن إلى اللغة التركية، وقيام حركة تركية وطنية راحت تهاجم الإسلام على أنه نظام حكم ديني؛ وبالإجمال أسفر برنامج التتريك الذي حاولت "تركيا الفتاة" تحقيقه عن ولادة حافز قوي أمام الزعماء العرب للتشديد على الدعوة إلى القومية العربية([40]).
تمثل المسار القومي، في أواخر أيام الإمبراطورية العثمانية، بموقفين متمايزين:
 -أولهما موقف العرب المسلمين الذي سيَّره التردد في الانفصال عن جسم الإمبراطورية العثمانية لأسباب دينية عقيدية تنادي بالتوحيد السياسي  للمسلمين كافة من جانب، ونتيجة أجيال عديدة من الخضوع والاستعباد والجهل والبؤس جردت العرب من الثقة في أنفسهم وقدرتهم على تمييز شخصيتهم عن حكم يضرب أية تطلعات استقلالية بيد من حديد، من جانب آخر.
ففي أواسط القرن (13هـ / 19م )، كان العرب قد عرفوا وعياً جديداً أي «شعروا بالتضامن مع العرب الآخرين على أساس الرابطة الإثنية أو اللغوية أو الثقافية أو الجغرافية . وإن ما بقي في نفوس هؤلاء الناس، كعامل اتحاد أو قرابة أو وحدة سياسية واجتماعية، هي الرابطة الدينية»([41]).
ولن ننسى أن نؤشر إلى عوامل أخرى، كانت سبباً في ذلك، هي أنه لم يكن موجوداً ما نعرفه اليوم بالرأي العام الشعبي ، لأن المنطق النخبوي، على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي، هو الذي كان يعمل على توجيه الأمور، في الوقت الذي كانت فيه تلك النخبة تتمتع بامتيازاتها من داخل العلاقة مع السلطة العثمانية. فإذا ما أضفنا هذا السبب إلى ما سبقه من الإيمان بالرابطة الدينية العقيدية، لاستطعنا أن نتلمس الأسباب التي دفعت بالنخبة لأن تبقى أسيرة دعوتها السياسية الإصلاحية المترددة في المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية الإسلامية. وإذا ما أضفنا سبب انتشار الأمية والجهل في داخل دوائر الطبقات الدنيا، إلى عوامل التعسف والاضطهاد والاستعباد التي كانت تُمارَس عليها من قبل السلطة المتمايزة عنها عرقياً، ومن قبل وسطائها، أبناء القوم الواحد، لاستطعنا، أيضاً، أن نتلمَّس معالم اليأس من التحرر الذي كانت تعاني منه تلك الطبقات .
بفعل انتشار فكرة القومية الطورانية لدى الأتراك ، أخذ الموقف المتردد للعرب المسلمين، الذي منعهم من المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية، يتراجع أمام الشعور القومي العربي، منذ العام (1335هـ/ 1917م )، حينما برزت حركة القومية والوحدة العربية مع ثورة الشريف حسين ([42]).
أما أصحاب الموقف الثاني، وهو موقف العرب المسيحيين، فهم لم يكن يساورهم أي شعور بأن هناك ما يجب أن يجمعهم مع الإمبراطورية العثمانية؛ فهم من حيث العرق عرب أما صاحب السلطة فهو تركي. ومن حيث الدين فهم رعايا مسيحيون وهو مسلم حاكم؛ السبب الذي كان يجعلهم يشعرون، بل يعانون، من الانتقاص من حقهم السياسي بصفتهم ذميين يدفعون الجزية، لا حق لهم بالمشاركة السياسية، ويتمتعون، بأفضل الحالات، بامتيازات استثنائية، والتي على الرغم من ذلك كانت تشعرهم بانتقاص في مواطنيتهم .
بدأت الحركة القومية بين المفكرين السوريين وبنوع خاص بين اللبنانيين منهم الذين تعلموا في الجامعة الأميريكية في بيروت أو عملوا في مصر؛ وكانت مظاهرها، في العقد الأخير من القرن (13هـ)/ العقد الثامن من القرن (19م)، الإقبال على الأدب العربي والبحث في التاريخ الإسلامي. وكانت الإشادة بمجد الإمبراطورية الإسلامية القديمة، ومآثر العرب العلمية اللامعة أملاًً بمستقبل الأمة العربية([43]). كانت النهضة الأدبية العربية  ذات اتجاهات قومية سياسية غامضة، خائفة، مترددة، كرد فعل ضد فكرة القومية التركية الإسلامية([44])، وكان هدفها، في البدء، تحرير الشعوب الناطقة باللسان العربي من السيطرة التركية العثمانية([45]).
فعلى العموم كانت أهم العوامل التي ساعدت على تصاعد الاتجاهات الانفصالية والالتفاف حول الحركة القومية العربية :
- سياسة التعصب التي اتبعتها «جمعية تركيا الفتاة».
- حكم جمال باشا الطاغية.
-تشجيع الحلفاء للعرب كي يقوموا بثورة ضد الأتراك، وقاموا بمساندتهم في حقهم
بالمطالبة بالحرية والاستقلال.
فعلى الرغم من اتساع رقعة الاتجاهات الدافعة لظهور الحركة القومية العربية، إلا أن جميع قادة العرب فى الولايات العربية لم بكونوا موحَّدي الكلمة فيما يتعلَق بمفهوم الاستقلال، ولم يكن هناك اتفاق على شكل الحكم أو شخصية الحاكم ([46]).
كانت تلك المسارات الثلاثة، بذرة للاتجاهات التي كانت تُعِدُّ نفسها لمرحلة ما بعد انهيار التجربة السياسية الأممية للإسلام، وأخذت أدوارها بعد الحرب العالمية الأولى.
 على صعيد المسار الأول ، انكبَّ الأتراك العثمانيون على بناء دولتهم القومية على الأسس الحديثة التي اقتنعوا بصلاحها . وإذا لم يكن لدينا اهتمام بما استقر الوضع عليه في هذه الدولة، فإنما النتيجة النهائية أنها قد أقلعت عن الإيمان بالحلم القديم الذي حاولت تحقيقه في بناء أممية إسلامية، كانت قد سبقتها إلى محاولة تحقيقه الدولة الصفوية في إيران على طريقتها الخاصة، منذ العام (907هـ/ 1502م )، و عجزت عن بلوغه وانفصلت بلاد فارس عن الجسم السياسي للأمة الإسلامية .
ولا بد من القول إن الحلم ذاته ، كان يقبع في قناعات علماء الإسلام الذين شاركوا الدولة العثمانية وساعدوها على تحقيقه، إلا أن التجربة التاريخية الطويلة قد أثبتت فشله حينما عجز هذا النموذج الإسلامي الأممي عن تحقيق ما دعا إليه الإسلام من مُثُل وأخلاق في السياسة والاقتصاد والاجتماع. استكان هذا الحلم ذاته طوال المرحلة منذ نهايات الحرب العالمية الأولى، وكاد أن ينام في زوايا النسيان، حتى أوائل الثمانينات من القرن العشرين ، عندما بدأت محاولات جديدة لإحيائه .
لهذا، كما نحسب، لم يجد المساران، الأول والثاني، أي شرط من شروط نجاح الحلم المشترك. فإذا كان المسار الأول قد اتجه ناحية الحل القومي، فإن المسار الثاني والذي يمثله علماء الدين المسلمون العرب، فإنه أخذ يبني خياراته الواقعية من داخل الخارطة الجغراسية لاتفاقية سايكس - بيكو. والى أن نقوم بدراسة المشروع الجديد في إحياء الحلم الإسلامي الأممي ، الذي وُلِد في خلال مرحلة الثمانينات من القرن العشرين الميلادي، فإننا نحسب أن الحلم لم ينته تماماً عند الداعين إلى تحقيقه، و إنما استمر حيَّاً بشكل نسبي لحسابات عقيدية.
أما المسار الثالث فجرى في تيار تنمية البذرة القومية العربية، التي كانت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عبارة عن بعض الملامح المشتركة التي وردت في بعض الكتابات العربية، مثل الحديث عن الأمة العربية، والإشادة بأمجاد العرب وبدورهم الحضاري؛ فكانت الآراء تحاول تعميق مفاهيم قائمة على التراث مثل مفهوم الأمة الواحدة، واللغة العربية الواحدة، والفضائل العربية الموروثة. لكن مفهوم الأمة لم يكن مترافقاً مع التأكيد على الدولة الواحدة لتلك الأقطار العربية، ولم تكن الاتجاهات، في داخل هذا التيار، تُجمِع على مفاهيم واحدة في الاتجاه القومي؛ ولذا فقد غابت النظرية العامة للقومية العربية؛ كما غابت، عن الفئات التي تجسِّد الفكرة العربية، المضامين الواضحة للوجهات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الفكرة . وعلى الرغم من ذلك فإنه يبقى لتلك المرحلة  أهمية واضحة في رسم وجهة الفكر القومي العربي في المراحل اللاحقة ([47]) .





([1])دائرة المعارف الإسلامية (م 5): م. س: ص 160.
([2]) دائرة المعارف الإسلامية (م 5): م. س: ص 183-89 1.
([3]) المحافظة، علي: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة: م. س: ص 20-22.
([4]) كوثراني، وجيه: السلطة والمجتمع والعمل السياسي: م. س: ص 214.
([5]) م. ن: ص 215.
([6])دائرة المعارف الإسلامية (م 5): م. س: ص 185.
([7]) زين، زين نور الدين: م. س: ص 83-90.
([8]) بروكلمان، كارل: م. س: ص695-696.
([9]) لوتسكي: م. س: ص 43-63.
([10]) المحافظة، علي: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة: م. س: ص 37-39.
([11]) م. ن: ص 49-69.
([12]) السيد، عفاف لطفي: م. س. ص 216.
([13]) م. ن: ص 234.
([14]) م. ن: ص 237.
([15])جدعان، فهمي: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث: م. س: ص 111.
([16]) المحافظة، علي: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عمر النهضة: م. س: ص 236.
([17]) جدعان فهمي: أسس التقدم...: م. س: ص 179.

([18]) م . ن : ص180-181.
([19]) م . ن : ص183.
([20]) م . ن : ص 251.
([21]) زيادة، نقولا: شاميـات (دراسات في الحضارة والتاريخ): دار رياض الريس: لندن:1989: ص 282.
([22]) م . ن : ص283.
([23]) م . ن : ص284.
([24]) م . ن : ص293.
([25]) حتي، د.فيليب: تاريخ العرب: م. س: ص 843-847. 
([26]) بروكلمان كارل: م. س: ص 756.
([27]) المحافظة، علي: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة: م . س:ص129-147.
([28]) م . ن : ص 147-148.
([29]) زين، زين نور الدين: م . س: ص 43.
([30]) م . ن : ص 45.
([31]) م . ن : ص 45.
([32]) م . ن : ص 46-50.
([33]) م . ن : ص 51-52.
([34]) م . ن : ص 21-25.
([35]) م . ن : ص 35-36.
([36]) م . ن : ص 38-40.
([37]) م . ن : ص 60-61.
([38]) م . ن : ص 57-58.
([39]) م. ن: ص68-70.
([40]) م. ن: ص 83-90.
([41]) بولس، جواد: م . س: ص374.
([42]) م . ن : ص 376.
([43]) حتي، د. فيليب: تاريـخ العرب: م . س: ص 835.
([44]) بولس، جواد: م . س: ص376.
([45]) م . ن : ص 373.
([46]) زين، زين نور الدين: م . س: ص122-123.
([47]) الدوري، عبد العزيز: التكوين التاريخي للأمة العربية: مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت: 1984: ط1: ص 284-285.

ليست هناك تعليقات: