-->
أولاً: مقدمة في ثنائية العلاقة بين القائد
والشعب:
إذا
كان الهدف المركزي من العملية السياسية حماية المجتمع وترقية رفاهيته، بما في ذلك
صحة أفراده وأمنهم وسلوكهم الأخلاقي، فلا بدَّ من سلطة تقوم بهذه العملية. وإذا
كانت حماية المجتمع تحتاج إلى تغيير دائم، أي بمعنى الثورة الدائمة، فإن مفهوم
السلطة لا بدَّ من أنه مرتبط بمفهوم الثورة، فالسلطة هي الوسيلة التي تسهم في نجاح
الثورة وهي التي قد تكون سبباً في فشلها. ومن هذا الترابط نعرف مدى أهمية التفاعل
بين الثورة والسلطة، الذي إذا اختلَّت شروطه فستنعكس نتائجه سلباً على العملية
السياسية برمتها.
لذلك فالسياسة
فعل يتعلق بإدارة شؤون البشر، أي أن وظيفتها إنسانية، ولا وظيفة أخرى لها حتى ولو
اشتقَّها اللغويون من وظيفة سياسة الخيل، (أي ساس الخيل: درَّبها على الامتثال إلى
أوامر فارسها). فوظيفتها بالنسبة للخيل التكرار بالتدريب الذي يستحضر التكرار
بالاستجابة للأوامر، إذ تصبح عملية روتينية عند كل من السائس والحصان. أما وظيفتها
بالنسبة للبشر فتختلف اختلافاً جذرياً من حيث الوظيفة والأهداف، فالسياسة بالنسبة
للآمر والمتلقي هي فعل خلق وإبداع، أي علاقة جدلية بين القائد والشعب. وهنا
يستحضرنا تعريف القائد الذي ليس هو مجرد إنسان فرد يترأَّس مجموعة من الأفراد فقط،
بل هو أيضاً إنسان يترأس تلك المجموعة ويعتنق أنظومة فكرية تعبِّر عن مصلحة
المجموعة، ويقودها لتطبيق تلك الأنظومة عن طريق التفاعل بينه وبين من يقود، وما
يقود على هديها. وطريقة التفاعل تعني أن القائد هو فرد من تلك المجموعة ولكنه
يتميَّز عنها بسمات وخصائص من أهمها: ليس استيعاب الأنظومة الفكرية فحسب، بل
اعتبارها أيضاً أساساً معرفياً وجزءاً من بنيانه الشخصي، ويكون حريصاً على تطبيقها
وكأنها وُضِعَت من أجله. ولذلك يعمل على أن تتقمَّص المجموعة التي يقودها تلك
الأنظومة الفكرية ليشارك كل فرد منها في تطبيقها بوعي وإدراك. ولهذا يكون القائد
جزءاً من الشعب ويعمل لمصلحة الشعب بحيث يتضافر طرفا ثنائية (تلقي الأفكار وضخها)
بين طرفيْ المعادلة (القائد والشعب).
وإذا كنا نحصر فكرتنا بالعلاقة بين القائد والشعب فلا
بدَّ من النأي عن فكرة طالما ضلَّلت
الكثيرين ومضمونها اختصار الشعب بعقل واحد، هو عقل القائد، الأمر الذي يثير الكثير
من الملابسات، وتعميم الصفات السلبية حول القائد والقيادة والأحزاب المنظمة كـ(الأحزاب
الشمولية والنزعات الفردية والحكم الديكتاتوري وعبادة الفرد...)، وينبثق عنها
الكثير من التشوهات التي لا توفِّر حتى المثقفين الملتزمين التزاماً صارماً بمصلحة
الشعب، فهم ينالون نصيبهم من النعوت الظالمة، كمثل (مثقف السلطة، ومثقف السلطان،
ووعاظ السلاطين...). وإذا كان يوجد من هؤلاء الكثيرون فهذا لا يعني أن تعميم تلك
النعوت على كل المثقفين نتيجة عادلة وعلمية.
وهنا، عندما نثير العلاقة بين القائد والشعب، فهذا يعني
أن ما يربطهما هي تلك الأنظومة الفكرية التي تتضمن المبادئ والقيم التي هدفها بناء
المجتمع الواعي ديموقراطياً، وتأهيل القادة على قواعد العمل من أجل مصلحة الشعب،
وهذا لا يمكن ترجمته إلاَّ من خلال بناء سلطة تتولى تطبيق تلك الأفكار بشكل سليم.
ولأن أنظومة الأفكار تلك هي القاعدة المنشودة في التطبيق نخلص إلى نتيجة أساسية، واستنباط
ميزان أو مكيال نقيس عليه مدى قرب السلطة من أهداف الأنظومة الفكرية أو بعدها عنه.
وهذا بالتالي يحدد أسس العلاقة بين القائد والشعب.
طالما كانت مبادئ الأنظومة الفكرية هي الرابط الأساس في
علاقة القائد بالشعب، نخلص إلى نتيجة تقول إن هذه العلاقة لا بدَّ من أن تكون علاقة إبداع متبادلة، وهنا يدخل العامل
الثوري أي مفهوم التجديد المستمر في مضمون تلك العلاقة وبنائها. أي أنه كلما استمر
عامل التجديد وتمت المحافظة عليه، تكون العملية الثورية مستمرة. وكلما خفَّ ذلك
العامل أو ضَعُف، تصاب العلاقة بالخلل، وتزداد الفجوة كلما أمعن القائد بالخروج عن
ثوابت الرابط الفكري، أو كلما خفَّ وعي الشعب بتلك الثوابت أيضاً. أي بمعنى أنه
طالما أصبحت الأنظومة الفكرية خارج سياق العلاقة تتحول السلطة، كمنهج لا غنى عنه،
إلى هياكل تصب في مصلحة الطبقة التي تتولى قيادة السلطة نفسها، والسلطة من دون الأنظومة
الفكرية ستنحرف عن أهدافها وتبتعد عن المنهج الثوري في الحكم. وتتحول السلطة حينذاك
إلى منهج يصب في مصلحة أقلية ممن يتولون شؤونها فيحصل الطلاق بين القائد والشعب.
1-ثنائية (القيادة – القائد) خزان استقبال وتوليد:
من أسس تنظيم الحياة البشرية على الصعد النظرية والعملية
استخدام شكل الهرم، بحيث يشكل المجتمع بكل أفراده قاعدة للهرم، والتقسيمات
الاجتماعية تشكل طبقاته التي تضيق مساحتها كلما اقترب نحو القمة. وتحتل القيادة
قمة الهرم التي يعلوها موقع القائد. وإذا كان كل عضو في القيادة يمثِّل نخبة من
أشكال التقسيمات الاجتماعية، ومجموع القيادة يمثِّلون مجموع النخب، فإن مفهومنا
للقائد هو أن يكون الرأس المدبِّر.
وحيث إن الأنظومة الفكرية تمثِّل رابط العلاقة بين
القيادة والشعب، فهذا لا يعني أنه يجب أن يتجمَّد الدور القيادي عند حدود أفراد،
بل يجب تبادل المواقع القيادية كلما اقتضت الحاجة. ولهذا، منعاً للشغور في المواقع
القيادية، كلها أو بعضها، فإن التجربة تفرز باستمرار المتميزين من الجماعة البشرية
من الذين يتعمقون بثوابت الأنظومة الفكرية، أو من تثبت التجربة كفاءتهم، فتضعهم في
دائرة الخيارات بين القادة لملء فراغ أو شغور في هذا الموقع القيادي أو ذاك، وهذا
ما نسمح لأنفسنا بالتعبير عنه بـ(الخزان القيادي) الذي يستقبل كل الواعدين بلعب
دور قيادي، وفي الوقت ذاته هو الخزان الذي يولِّد القادة الجدد ليضع القائد
المناسب في الموقع المناسب كلما اقتضت الحاجة ذلك.
وهنا، واستدراكاً للوقوع في أفخاخ المثالية، ولأن القائد
المثالي قد لا يتوفر فإن الأقرب للمثالية يصبح المطلوب. ولذلك نعتبر بأنه لا توجد قيادة،
من دون رأس مدبِّر، ولا ثنائية لـ(القائد –
الشعب) من دون ثنائية (القيادة – القائد).
2-ثنائية (القائد – الشعب) علاقة إبداع:
ولضمان بقاء علاقة القائد بالشعب علاقة الإبداع
والتجديد، كيف نعرِّف مفهومنا لإبداع العلاقة بين القائد والشعب؟
من أهم مواصفات القائد أن تشكل الأنظومة الفكرية كتلة
معرفية تنصهر في كيانه الفكري أولاً، وأن يحرص على أن تكون القيادة جماعية تمحَّص
كل القضايا نقاشاً وحواراً ثانياً، وأن يحرص على أن تصبح تلك الأنظومة جزءاً
أساسياً من وعي الشعب ثانياً. فالقيادة، إذن، هي قدرة على معاملة الطبيعة
البشريّة أو على التَّأثير في السُّلوك البشري لتوجيه جماعة من النّاس نحو هدف
مشترك بطريقة تضمن بها طاعتهم وثقتهم واحترامهم وتعاونهم
.
وبهذه الصفات تنصهر ذاتية القائد في معرفة المبادئ
الكلية، وأن يتفاعل دور القائد ومعرفته مع المجموعة القيادية، وينصهر الشعب بتلك
المعرفة أيضاً ويتفاعل معها بتقييم التجارب وتقويمها. وهذا الانصهار يشكل أهم
إبداعات القائد والقيادة، كما يشكل أهم إبداعات الشعب.
إن الشعب لن يكون مبدعاً إذا لم يكن صادقاً مع مصلحته،
ومصداقيته تستند أساساً إلى وعي معرفي لواجباته ولحقوقه أولاً، وإلى القيام بدور الرقابة
الواعية على القيادة ثانياً، ومحاسبتها إذا خرجت عن وظيفتها ثالثاً. فعلاقة القائد
بالشعب، في مثل هذا الانصهار، تصبح علاقة ثورية إبداعية تعتمد على وسيلة الفعل
والتفاعل، الأخذ والعطاء، في عملية تكاملية لا تنتهي عند حدود بل تبقى سقوفها
مفتوحة على التغيير المتواصل، أي بمعنى الثورة الدائمة التي لن تتحول إلى وسيلة
جامدة من وسائل السلطة. يضخُّ القائد في التطبيق كل ما اكتسبه من معرفة نظرية،
ويستفيد من التجربة التطبيقية لتثبيت القسم الذي حقق النجاح واستبدال القسم الذي فشل
في التطبيق بأحسن منه. وإذا أبدع الشعب بدوره في التطبيق، وساعد القائد على تقييم
التجربة وتقويمها، فيعني أن عملية التغيير تسير في طريق سليم.
ثانياً: من عمومية مفهوم القائد إلى خصوصية القائد
العربي الرمز:
لا بدَّ قبل الانتقال إلى تحديد مفهومنا للقائد الرمز من
الإشارة إلى دور التغريبيين والحاقدين الذين ينكرون على الأمة مقدرتها في توليد
الرموز القيادية في التحرر والتغيير. فالتغريبيون هم المصابون بعقدة النقص تجاه الثقافة
الوطنية فلا يرون فيها قابلية للتطور والتجديد والإبداع، لذا فهم يلجأون إلى
استيراد الثقافة من الخارج كمعرفة جاهزة من دون إعطاء أهمية لخصوصيات وظروف
المجتمعات التي صاغتها. أما الحاقدون فهم المصابون بـ(التكلس الإيديولوجي)، وعادة
ما ينتسبون إلى العقائد التي يعتبرونها مقدَّسة، وهذه بدورها لا يقاس التغيير في
ثقافتها إلاَّ بناء على أنظومات فكرية أو عقيدية سابقة يحرِّمون مناقشتها، لذا اعتبروا
أن الفكر البشري قد انتهى بها. ومن مفاهيم تيارات (التكلس الإيديولوجي) اشتقَّ
مصطلح (نهاية التاريخ).
لقد سقنا هذه المقدمة النظرية لكي ندخل في ميدان
التطبيق. ونحن نسوق هذا أيضاً لكي نضع حقائق أمام التغريبيين والحاقدين، الذين على
الرغم من أنهم ينتسبون إلى المجتمع العربي، فإنهم ينكرون على العرب مقدرتهم على الارتقاء
بأمتهم إلى مصاف الشعوب التي قدَّمت للإنسانية خدمات جلى. أجل لقد أنكروا على
العرب قيمتين خاصتين، وهما:
-أن العرب أسسوا منذ فجر
التاريخ السحيق قواعد الحضارة الإنسانية، وفتحوا بوابات العبور إلى ميادين الحضارة
العالمية على صعيد الأنظومات الفكرية والنظريات العلمية.
-وهم أيضاً أسسوا ثقافة تحرير
الأمة من الخضوع لغزوات الخارج، ورفضوا الاستعباد.
وللدخول إلى مسار التوضيح أكثر نجد أنه كلما تعرَّضت
أمتنا العربية لاعتداءات الاستعمار والصهيونية أو من القوى الأخرى الطامعة بأمتنا.
وكلما انبرت حركات التحرر العربية إلى مواجهة تلك الاعتداءات، يرفع التغريبيون (مظلات)
رموز من حركة التحرر العالمية وتجاربهم، ويدعون إلى اعتبارهم قدوة ومثالاً. يفعلون
ذلك وكأن أمتنا كانت صحراء قاحلة لا تُنبت الثورات ولا تُولِّد الرموز. ويتناسون
ما قدمته أمتنا من نماذج للتحرر، ومن رموز ملأت التاريخ القديم والحديث والمعاصر.
لقد تناسوا أن أول ثورة تحرر من الاستعمار، الذي كان
معروفاً بعصر الإمبراطوريات الكبرى، قد انطلقت من الجزيرة العربية عندما حررت
الثورة الإسلامية أرضنا العربية، بقيادة النبي العربي، من أكبر إمبراطوريتين وهما:
إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس.
لقد تناسوا رموزنا في التحرر من غزوات الخارج وغزوات
الاستعمار، وما أكثرهم، ومن أهمهم كنماذج: صلاح الدين الأيوبي، ويوسف العظمة، وعمر
المختار، و... وأخيراً وليس أخراً ، نذكر منهم جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وياسر
عرفات،... وقد تجاهل التغريبيون أن حبل التوالد والتوليد في أمتنا لم ينقطع، ولن
ينقطع.
وإذا كنا لا ننكر رموز الثورات العالمية إلاَّ أننا
نستنكر تجاهل رموز الأمة العربية، أولئك الرموز الذين من حقهم علينا الاعتراف
برمزيتهم وتبجيلها، ومن واجبنا أن نفعل ذلك.
1-القائد العربي الرمز هو رمز عالمي أيضاً:
ولهذا ومن تحت دخان التعتيم على رموزنا، سنقوم بالإضاءة
على دور من يشكلون الرمزية الثورية في اللحظة الراهنة، وهم ممن يتابعون النضال من
أجل صياغة تاريخ جديد للعالم انطلاقاً من العراق، وسيكون الرفيق عزة ابراهيم
الدوري، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، والقائد الأعلى لفصائل
المقاومة العراقية، هو الأنموذج الذي سنوفيه حقه على الرغم من آراء التغريبيين أو الحاقدين
الذين تجاهلوا رمزية غيره من قادة حزب البعث والعراق والأمة العربية، بل ممن
أصبحوا رموزاً لحركة التحرر العالمية.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى الحقيقة التي لا يجوز أن
يتغافل عنها كل عربي مهما كانت مشاربه السياسية والفكرية، بل لا يجوز أن تتغافل
عنها كل حركات التحرر في العالم التواقة للتحرر من الاستعمار والصهيونية، كما لا
يجوز أن تتغافل عنها الدول الكبرى، كمثل روسيا والصين. ولذلك، نقول: لم تكن ممانعة
مشاريع الاستعمار والصهيونية التي أعلنتها قيادة العراق الوطنية استراتيجية لها
منذ ثورة 17 – 30 تموز 1968، إلاَّ السبب الرئيسي في إعلان العداء
ضدها وإسقاطها. كما أن نزولها إلى خندق مقاومة الاحتلال الأميركي منذ بداية عدوان
العام 2003، وإلحاق الهزيمة بالاحتلال، كان السبب الوحيد والأول في إسقاط نظرية
(نهاية التاريخ) وترجمتها العملية كانت في إسقاط استراتيجية حكم العالم بـ(قطبية
واحدة)، أي القطبية الأميركية. أفلا يعود الفضل في استعادة روسيا والصين الآن
وتنشيط أهدافهما وتفعيل دورهما واختصار الزمن أمام تلك الأهداف، ولا ننسى أيضاً
كوبا ودول أميركا اللاتينية،...
ألا يعود الفضل بكل ذلك إلى قيادة العراق الوطنية التي
قدم بعض أعضائها الروح، والبعض الآخر كابد من عناء السجن والاعتقال، والبعض الثالث
تمسك بالبقاء في خندق المقاومة، والتزم بها وفاءً لعقيدته، والبعض الرابع أرغمته
الظروف إلى الهجرة لخارج العراق؟
ألا يعود الفضل في ذلك لشعب العراق الذي أبدع في علاقته
مع قيادته بالثورة على الاحتلال، وظلَّ مستمراً في نضاله حتى اقتلاعه وإلحاق
الهزيمة به؟
ألا يعود الفضل، بعد كل ذلك إلى شعب العراق وقيادة
العراق الوطنية بإرغام الولايات المتحدة الأميركية على الانكفاء بعيداً عن حلم حكم
العالم بقطبية واحدة؟
2-عزة ابراهيم الدوري والانتقال من الثورة إلى
الرمز الثوري
بعد انتمائه إلى أنظومة حزب البعث العربي الاشتراكي
الفكرية انخرط عزة ابراهيم الدوري في نضال دائم، وحركة مستمرة، من أجل بناء السلطة
الثورية في العراق، لتطبيق أنظومة البعث الفكرية، ولذلك أسهم بدور بارز في مواجهة
السلطات الحاكمة لإسقاط نهجها في الحكم. ذلك النهج القائم على إلحاق العراق
بالخارج ورهن إرادته الوطنية ووضع اقتصاده في خدمة الرأسمالية العالمية. وتوظيف
طاقات الشعب العراقي لخدمة مصالح الطبقات الميسورة والإقطاعية والعشائرية والنخب
الاقتصادية التي تلعب دور الوسيط بين آلة الإنتاج الغربية والمستهلك العراقي.
فمن دوره في ثورة 14 تموز 1958، إلى دوره في ثورة 8 شباط
1963، وصولاً إلى تفجير ثورة 17 – 30 تموز 1968، كان
مشاركاً فعَّالا فيها كلها. وهنا لن نمر مرور الكرام بما أطلق عليه البعض بأن كل
تلك الثورات كانت بمثابة (انقلابات عسكرية)، ولم تنطبق مفاهيمهم للثورة عليها.
ولهذا، وعودة منا إلى تعريف مفهوم للثورة، سنرد على الذين
جمدوا تعريفهم لها عند حصرها بالوسائل، لنقول بأن الثورة أهداف أولاً، ووسائل
ثانياً.
أما الأهداف فتكفي الإشارة إلى مبادئ حزب البعث العربي
الاشتراكي الأساسية في الوحدة والحرية والاشتراكية التي نصَّ عليها دستوره . ولذلك
حينما ناضل البعثيون العراقيون للوصول إلى السلطة فإنما فعلوا ذلك من أجل تطبيق
مبادئ حزبهم بإحداث ثورة في مفاهيم السلطة التي تضمن تطبيق تلك المبادئ تطبيقاً
ثورياً. ولما كان (الانقلاب العسكري) هو الوسيلة المتاحة في تلك المرحلة اعتمدها
تنظيم البعث في العراق وسيلة لاستلام السلطة. فـ(الانقلاب) كان وسيلة، لا يجوز
الوقوف عند مناقشة شرعيتها أو لا شرعيتها، طالما كانت أهدافها وطنية، ومن قادها
كانوا من الوطنيين، بل المشروع هو مناقشة النتائج التي انبثقت عنها. وهذه المناقشة
تقتضي الإطلالة على مسيرة خمسة وثلاثين عاماً من وجود سلطة الحزب في العراق.
وإذا كنا لن نستطيع أن نحصي النتائج التي أنجزتها ثورة
تموز 1968، في مقال واحد أو مقالات عدة، في دراسة واحدة أو عدة دراسات، فلأنَّ حجم
النتائج كانت كثيرة جداً تحتاج إلى عشرات المجلدات لتدوينها. ولذلك يكفينا في هذا
المقال الإشارة إلى أن النتائج الكبرى كانت ماثلة في العناوين التالية:
1-بناء السلطة على أساس
أنظومة فكرية كان الأخطر فيها الجانب العقيدي القومي العربي الذي أقلق الاستعمار
والصهيونية. ويكفي للاستدلال على خطورته الإشارة إلى قرار بول بريمر الأول،
المُؤرَّخ بالأول من أيار من العام 2003، وهو الذي لم يسبقه قرار آخر، وقد حمل عنوان
»تطهير المجتمع
العراقي من حزب البعث«. ولماذا حزب البعث؟ فلأنه يعمل من أجل
الوحدة العربية والحرية والاشتراكية. وفي كل هدف منها الشيء الكثير مما يتناقض مع
مصالح الاستعمار والصهيونية والرأسمالية العالمية.
2-تحرير الاقتصاد العراقي
عبر تحرير ثرواته من سيطرة الشركات الأجنبية.
3-توظيف ثروات العراق
لمصلحة الشعب العراقي والعربي.
4-نقل المجتمع العراقي من
دور الاستهلاك إلى دور الإنتاج: إن من أهم
أهداف العدوان على العراق واحتلاله، في العام 2003، كان اقتلاع فكرة تحويل العراق
إلى دولة منتجة بعيداً عن رقابة المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية ومشاركتها. ولذلك خطط
العدوانيون لـ(اجتثاث عشرات الآلاف من العلماء العراقيين)، وتدمير البنى
الاقتصادية التحتية التي قامت ثورة تموز ببنائها عبر عشرات السنين.
5-استراتيجية مكافحة
الاستعمار: كان الإنجاز الأكبر والأهم هو استراتيجية ثورة تموز في حماية كل تلك
الإنجازات من سيطرة الاستعمار والصهيونية عبر رفض كل الإملاءات الأميركية والإذعان
لأوامرها. وهذه الاستراتيجية التي تعتبر أن (الاستعمار وكل ما يمت إليه
عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة)،
و(النضال
ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً)، تكفي لتفسير أسباب كل أنواع الاعتداءات التي تعرضت لها السلطة الوطنية
في العراق. ويكفي حكم البعث في العراق مصداقية ثورية في مكافحة الاستعمار، أن
القيادة الوطنية انتقلت فوراً، بعد الاحتلال المركَّب الأميركي – الأممي – الإيراني، من خندق السلطة إلى خندق المقاومة.
ولأن ما أنجزه حزب البعث العربي الاشتراكي، كان إنجازاً
ثورياً تجاوز الخطوط الحمر التي لا تسمح قوى الرأسمالية والاستعمار لدول العالم
الثالث بتجاوزه، وخوفاً من تعميم التجربة، كان لا بدَّ من تهديمها وتقويض أسسها. وبالتالي تشويهها وشيطنة الحزب والقيادة التي
كانت السبب في إنجازها. وهنا يستحضرنا السؤال التالي: وهل لم يكن عزة ابراهيم
الدوري إلاَّ أحد قادتها الرئيسيين؟
هذا الجانب له علاقة ببناء الدولة العراقية في مرحلة النضال
الثوري الإيجابي، والذي على أساسه لا يمكن اعتبار من يجهِّل أو يتجاهل رمزية عزة
ابراهيم الدوري أو يتجاهلها إلاَّ تغريبي أو حاقد. ويكفيه أنه كان أحد قياديي
الثورة العراقية التي اخترقت أكثر الخطوط الحمر خطورة على مصالح الاستعمار
والصهيونية، باعتبار الثورة ذات أبعاد فكرية وسياسية قومية أولاً، وذات أعماق
تنموية اقتصادية واجتماعية وثقافية ثانياً، وذات أبعاد تحررية من الاستعمار
والصهيونية ثالثاً.
أما فيما له علاقة بمرحلة النضال الثوري السلبي، خاصة
المتعلق منها بتفجير مقاومة شعبية مسلحة في وجه الاحتلال، فهو أشد مضاضة على القوى
المعادية من المرِّ العلقم. وهذا ما سنوضحه فيما يلي:
الرمز
هو علامة تدل على معنى له وجود قائم بذاته ، فتمثِّله وتحل محلَّه، والرمز هو القادر على
التعبير عن الأحداث والعقائد. وإذا كانت قيادة الحكم الوطني في
العراق، من دون استثناء أحد منهم، قد نزلت إلى خندق مواجهة الاحتلال كتعبير عن
العقيدة البعثية، بانتقال بطولي نادر لم تسجله ثورات العالم الآخر، فإنهم ينقسمون
إلى ثلاث فئات، ترمز كل واحدة منها إلى نوع من أنواع الرمزية، ولكن هذا لا يعني أن
بينها حدوداً فاصلة، بل هناك تقاطعات لنوع منها مع الأنواع الأخرى، وهذه الفئات
هي:
-رمزية الشهادة: وهم من قدَّموا حياتهم بكل عزة وشجاعة، وترمز إليهم شهادة صدام حسين.
-رمزية الحرية: وهم من قدموا حريتهم بكل صبر وجلد في سجون الاحتلال، ويرمز إليهم طارق
عزيز.
-رمزية المقاومة
الخلاَّقة: وهم ممن لا يزالوا قابعين في خندق المقاومة، ويرمز
إليهم عزة ابراهيم الدوري.
من مواكبة دؤوبة ومستمرة لسيرة من كانوا نماذج للرمزيات
الثالث نخلص إلى عدد من النتائج، ومن أهمها:
-إذا كان الرمز هو الفرد الذي يعتنق عقيدة الدفاع عن
جماعته، فتنصهر العقيدة به وينصهر بها، كانصهار الصوفي بعقيدته الإيمانية، فتصبح
(هي هو) و(هو هي)، كذلك كان انصهار قيادة البعث الوطنية بعقيدتها. وتوصيفنا لها
بهذا الشكل ليس من قبيل الشطحات الرومانسية، بل هي واقع ملموس وحقيقي. وليس أكثر
دلالة على ذلك من استعراض تجربة من مثَّلوا رمزيتهم في (الشهادة) و(الحرية)
و(المقاومة المستمرة الخلاَّقة). واختصاراً لذلك لا بدَّ من القول إنَّ رمزية
القادة البعثيين تشعُّ على المستويات الثلاث: البعثية الوطنية والبعثية القومية
والتحررية العالمية:
-استجابة لمبادئ الحزب في
الوحدة والحرية والاشتراكية، كانت قيادة البعث مثالاً للالتزام بمضامينها، تبشيراً
وتطبيقاً ودفاعاً عنها.
-كانت قيادة العراق
الوطنية تمثِّل بفعل حقيقي آمال الشعب العراقي وطموحاته، من خلال مبدأين رئيسين:
العمل من أجل رفاهية الشعب العراقي على مستوى بناء الدولة المدنية الحديثة (تجربة
خمسة وثلاثين عاماً من ثورة 17 – 30 تموز 1968)، وعلى
مستوى حماية سيادة العراق والدفاع عنها (رفض الرضوخ لإملاءات الاستعمار والصهيونية
قبل الاحتلال)، وبالتالي (إطلاق مقاومة شعبية مميَّزة بعد الاحتلال).
-كانت تعبِّر عن التزامها
بتوحيد العرب من خلال عقيدتها القومية، نظرية وتطبيقاً، وبالتالي الدفاع عن الأمة
العربية من خلال المشاركة أو المساعدة في النضال من أجل تحرير أية أرض عربة تتعرض
للاغتصاب الاستيطاني أو الاحتلال الاستعماري.
-ولأن مخاطر الاستعمار لا
تختص بالوطن العربي لوحده، بل هي مخاطر تهدد كل قوى التحرر والاستقلال في العالم،
نزلت قيادة البعث إلى خنادق القتال متصدِّرة الشعب العراقي من أجل اجتثاث
الاستعمار ومن ورائه الرأسمالية العالمية والصهيونية. ولهذا ليس من واجب كل قوى
التحرر العالمية أن تعترف برمزية قيادة البعث للمواجهة مع الاستعمار والصهيونية
فحسب، بل من حق تلك القيادة على تلك القوى أن تعترف برمزيتها أيضاً.
وكجزء من الواجب الموكول إلينا، نرفع كل آيات الاعتزاز
برموز البعث، ونعلن احترامنا واعتزازنا بالرفيق عزة ابراهيم الدوري الذي ما يزال
يقود من خندق المقاومة في العراق أشرس معركة ضد كل آيات الشر والعدوان وفي المقدمة
منهم الاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتباركه الصهيونية
العالمية وترعاه وتشارك فيه، والذي تنخرط فيه إيران مستندة إلى أوهام تجديد أمجاد
الإمبراطورية الفارسية، حتى ولو كان على أنقاض أمتنا العربية المجيدة.
هناك تعليقان (2):
اكثر من رائع!!!
مقتبس من النص:
رمزية الشهادة: وهم من قدَّموا حياتهم بكل عزة وشجاعة، وترمز إليهم شهادة صدام حسين.
-رمزية الحرية: وهم من قدموا حريتهم بكل صبر وجلد في سجون الاحتلال، ويرمز إليهم طارق عزيز.
-رمزية المقاومة الخلاَّقة: وهم ممن لا يزالوا قابعين في خندق المقاومة، ويرمز إليهم عزة ابراهيم
متابع
لماذا لا نتجرأ على القول بتغيير علاقات الانتاج الى الافضل وتحرير الطبقات المسحوقة من قِبل الطبقات السائدة؟؟؟؟؟
هل لانه طرح علمي ؟؟؟
قاريء
إرسال تعليق