الأربعاء، مايو 08، 2013

من أرشيفنا الخاص/ المعارضة السورية والمهمة شبه المستحيلة:

في ظل انتقال الأزمة السورية من مرحلة الدفاع عن حقوق الشعب إلى مرحلة الدفاع عن وحدة الكيان
المعارضة السورية والمهمة شبه المستحيلة:
التوفيق بين حقوق الشعب ورفض التدخل الأجنبي


-->

حسن خليل غريب في 30/ 9/ 2012
لا شك بأن القضية السورية قد دخلت النفق المسدود عندما أصبح السلاح وسيلة الحوار الوحيدة في الصراع الدائر بين النظام والمعارضة أولاً، وثانياً لأن عوامل التدخل الأجنبية تكاثرت وتعددت بتعدد القوى التي تتناقض مصالحها، فراحت تمارس الحروب بالواسطة.
وإطلاقنا لمصطلح النفق المسدود أو دائرة الصراع الجهنمية جاء لقناعتنا بوجود حقيقتين واقعيتين، وهما:
-الحقيقة الأولى، وهي أن الأطراف الخارجية، وهي دولية وإقليمية، ذات مصالح متباينة ومتناقضة، ولن يتم جمعها على طاولة مستديرة، بل ستظل طاولة الحوار بينها مستطيلة وسباعية وثمانية، ومن المستحيل تدوير المصالح بينها لأن الساحة السورية لا تتسع لكليهما خاصة مع بداية التحولات الجديدة التي تشق فيه القوى الكبرى الطريق لبناء عالم محكوم بالتعدديات القطبية، بعد أن كانت أميركا تحفر خندق حكم العالم بقطبية أميركية واحدة.
وإن انقسمت القوى الإقليمية إلى محورين رئيسين، إيران وتركيا، يدور كل منها في فلك قوة دولية عظمى. ولذلك فلن تتفق القوى العظمى في سورية على قاعدة (لا غالب ولا مغلوب)، بل على قاعدة إما أبيض وإما أسود، أي إما أن تحتوي إحداهما النظام في سورية لوحدها وإما فلا حل.
ومن أجل تعزيز موقعه على طريقة الحسم بين اللونين، راح هذا المحور وذاك، يدعم حليفه بكل ما يستطيع من أسباب الإسناد والقوة. فالمحور الشرقي الذي يخوض (معركة دفاعية) عن حليفه، راح يمد النظام بكل أسباب الصمود الأمني والعسكري والاقتصادي لمواجهة قوى المعارضة المسلَّحة. والمحور الغربي الذي يقود (معركة هجومية) ضد نظام تمرد على بعض إملاءاته في قضايا استراتيجية، راح يمد المعارضة بكل أسباب القوة العسكرية والمالية والإعلامية لخوض معركة عصابات ضد مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية تارة، وحرب مواقع تارة أخرى، ليعزز صمودها في معركة قد تطول آماداً طويلة. وهو وإن لم يستطع إسقاط النظام فعلى الأقل يرهقه، مراهناً على أن بنيته قد تضعف وتخور قواه في النهاية. وهو يدفع بإمكانياته المادية من دون تقديم أي خسارة في أرواح جنوده، فمن يدفع الثمن هو الشعب السوري وحده، وهو لا يضير المحور الغربي شيئاً طالما أنه لا يدفع قطرة دم واحدة تثير الشعوب الغربية، ولن تضع أنظمتها السياسية أمام مساءلات قانونية أو أخلاقية.
-والحقيقة الثانية، وهي إن الأطراف الداخلية، وعلى قاعدة أن القرار أصبح بشكل كامل بيد القوى الخارجية، تحولت المعركة العسكرية بين النظام والمعارضة المسلَّحة، إلى معركة حسم غابت فيها قواعد التسويات السياسية التي تقوم على مبدأ (لا غالب ولا مغلوب) التي تقتضي تقديم تنازلات متقابلة من قبل النظام والمعارضة المسلَّحة، بل تسير القضية بينهما الآن على قاعدة (لا بدَّ من  وجود غالب بينهما)، حتى ولو كان المغلوب هو أمن الوطن والمجتمع وبنى الدولة السياسية والأمنية والاقتصادية.

الشعب السوري الآن كالأيتام على مائدة اللئام:
وبتبسيط أكثر، وخلافاً لأي حالة عربية أخرى، تعتبر بعض دول المحور الشرقي الداعمة للنظام السوري، وفي المقدمة منها الدولة الروسية، أنه لا أولوية تسبق أولوية بقاء هذا النظام ورقة نظيفة لصالحها لا يجوز إشراك أي من دول الغرب بالتأثير عليها؛ وأما السبب فيعود إلى أن سورية هي كل ما تبقى لها من عوامل التأثير في الوطن العربي. كما أن دول المحور الغربي لن تساوم على أقل من احتواء سورية كورقة نظيفة تضمن أمن (إسرائيل) و(أمن المصالح الغربية) في الوطن العربي.
وإذا كانت محاور الدول العظمى هي الأصل، فإن دول الإقليم (إيران وتركيا) راحت تدور في فلك الدول العظمى. فإيران تدور في فلك المحور الشرقي، وتركيا تدور في فلك المحور الغربي. وهذا لا يخفي ما لكل منهما من أطماع ومصالح تتقاطع مع مصالح المحور التابعة له؛ ولعلَّ أكثرها بروزاً أن كلاً منهما تعمل على إعادة إنتاج إمبراطوريتها القائمة على استعادة ثنائية الصراع (السني الشيعي)، وما يقتتلان حوله هو ما يستطيع كلٌّ منها اقتطاعه من جسد (الفريسة العربية) التي أصبحت عارية من (الثوب العربي) والحماية العربية.
وإذا كانت محاور الدول العظمى لا تثيرها مشاريع دول الإقليم وأحلامها، ولا تخيفها أيضاً، فلأن كلاً منهما لديه القوة والمقدرة على توظيف مشاريع دول الإقليم وأحلامها لمصلحتها.
وأما الأنظمة العربية الرسمية فأصبحت ليس على هامش التأثير فحسب، بل أصبحت ملحقات بمحور الغرب أيضاً، تائهة منزوعة الأنياب من دون قرار الحد الأدنى المستقل، تلبي رغبات المحور الغربي من دون تردد. وهذا إن كان يعني شيئاً فإنما يعني قبل أي شيء آخر أن القضايا العربية، وسورية في طليعتها الآن، أصبحت في عهدة التدويل والأقلمة. وبناء على هذه الحقائق، لا نرى حلاًّ تسووياً للأزمة السورية على طالات التدويل والأقلمة، والسبب هو التناقضات الحادة التي تتحكم بمسار المصالح الخارجية، وتليها التناقضات الحادة التي تتحكم بمسار المصالح الإقليمية.
وإذا كانت مقدمة مقالنا قد حددت النتائج قبل تشخيص الأسباب فهذا عائد إلى أن عرض المشكلة يتيح للقارئ مساحة يدخل منها إلى تفصيل ما سنوجزه في القسم اللاحق من هذا المقال:
أولاً: كيف نصنِّف مصالح محور دول الغرب؟
وفي هذا المقطع، سنجمع بالتحليل معاً مصالح المحور الغربي مع تركيا كقوة إقليمية تدور في فلكه. كما سنجمع معاً مصالح المحور الشرقي مع إيران كقوة إقليمية تدور في فلكه.
1-المصالح الغربية تتمسك باحتكار الهيمنة على منطقة (المياه الدافئة) من دون شريك:
لم يبق أمام المحور الغربي  لإكمال دائرة الهيمنة الغربية على الوطن العربي غير الحلقة السورية، بعد أن احتوت النظامين الجديدين في تونس ومصر لمصلحتها، كما لا يخفى أن النظام الجديد في ليبيا، هذا إذا التأمت جراحها الكبيرة، ليس بمعزل عن أن إنتاجه تم في مصانع غربية، ولذلك ستبقى الحلقات التي تم احتواؤها عرضة للتحول طالما ظلَّت الحلقة السورية كحلقة أساسية خارج دائرة الهيمنة.
ويمكننا اعتبار التخطيط لمشروع احتواء النظام السوري كان سابقاً لأي حراك سوري شعبي مطلبي وإصلاحي. وكان من المخطط له أن يتم تنفيذ هذا المشروع سواءٌ أحصل هذا الحراك أم لم يحصل. فالتقارير الغربية المنشورة تؤكد ذلك. علماً أن ما نُشر من معلومات يؤكد أن المحور الغربي كان قادراً على اختلاق سبب للتنفيذ، حتى لو لم يحصل أي حراك شعبي، وهو قادر على ذلك. لكن، ولأن الحراك السوري الشعبي قد حصل، لتوفر شروطه الموضوعية، وهو حق الشعب بالثورة على نظام عاث بالدولة السورية فساداً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فقد وفَّر للمشروع غطاءً للتدخل. فبدأ تطبيق مشروع الهيمنة الغربية عامة، والهيمنة الأميركية خاصة، تحت دخان الانفجار الشعبي. فبدا للمراقب المتسرِّع بالأحكام أن ما يجري في سورية هو ثورة شعبية بالمطلق، كما كانت تدل بداياتها. ولكن التسرع بالأحكام حجب الأنظار عن رؤية الجانب التآمري الخارجي، وبالتالي حجب الأنظار عن رؤية وقائع حرف مسارات  ثورة الشعب السوري من زاويتها المطلبية والإصلاحية المحقة إلى زوايا تآمرية أخرى، وسُرِقتْ منها شعاراتها الحقة، ويتم الآن توظيفها بمشروع المؤامرة على الكيان السوري. وبمثل غياب الرؤية الصحيحة لهذا التحول، أي سرقة قطار الثورة الحقيقية وحشوه بركاب من المعارضة من كل ما هبَّ ودب ولم تفتهم الفرصة من إشراك قوات من الشركات الأمنية (المرتزقة)، غاب عن بال البعض ذلك الانتقال، في الوقت الذي كان من الواجب الانتباه له من أجل وضع الخطط الكفيلة بإحباطه من أجل إعادة قطار الثورة إلى مساراتها الشعبية الحقيقية.

2-مصالح تركيا العثمانية (تتريك المنطقة تحت غطاء الإسلام السني):
مما لا يخفى على أحد أن بناء دولة الخلافة الإسلامية من أهم مشاريع تركيا أردوغان رئيس (حزب العدالة والتنمية) الحزب الذي ما يزال البعض يخمِّن: أهو حزب إسلامي حقيقي، أم أنه حزب قومي طوراني يتغطى بلحاف الإسلام لاستعادة أمجاد السلطنة العثمانية. وهو وإن صحَّت اتجاهاته الإسلامية، وإن كانت على أسس تنويرية إسلامية (الإسلام المعتدل)، فمن غير المنطقي أن يكون مسلماً صحيحاً، بمصطلح الفقهاء، من لا يفقه لغة القرآن (دستور المسلمين الحقيقي). فكل من لا يفقه لغة دستور المسلمين، فلن يفقه أيضاً كيف يطبِّق هذا الدستور حتى ولو كان عن طريق الاجتهاد، لأن المجتهد السليم في النص السليم. وإن كان معنى التنوير والاعتدال لا يعادي القومية، إنما ستكون القومية الطورانية التركية هي القائد والرائد لدولة الخلافة كما كانت في عصرها العثماني الذي سبق انهيارها في الحرب العالمية الأولى.

ثانياً: كيف نصنِّف مصالح محور دول الشرق؟
وفي هذا المقطع من المقال، سنجمع معاً مصالح المحور الشرقي مع إيران، القوة الإقليمية التي تدور في فلكه.
1-المصالح الشرقية تتمسك بدور الشريك باقتطاع حصة نظيفة تضمن لها حماية ممر استراتيجي تجاه منطقة (المياه الدافئة):
تاريخياً، وفي روسيا تحت الحكم القيصري، كما في ظل الاتحاد السوفياتي، والآن في العصر الـ(بوتيني)، أثبتت الوقائع أن لـ(الدب الروسي) مصلحة أساسية في اقتطاع حصة له في (المياه العربية الدافئة). واستعادة تاريخ (المسألة الشرقية) يؤكد ذلك. وإن كان الدب الروسي قد كبا لفترة لا تتجاوز السنوات العشرين بتأثير من تفكك الاتحاد السوفياتي إلاَّ أنه قفز فوق أزمته ودخل ساحة تاريخ الصراع الدولي من جديد. ووقائع هذه المرحلة ومساراتها تؤكد أن استسلام روسيا لأوحدية النظام الدولي تحت قيادة أميركا لم يطل به الوقت، وهذه المرحلة تشهد بداية بناء محورية جديدة ترفض هيمنة أميركا والغرب على القرار العالمي والتلاعب بمصائر الشعوب من دون قيد أو شرط.
وقد اختصرت روسيا، بدعم من الصين، المسافات التاريخية، بفعل استفراد أميركا بالقرار العالمي، خاصة وأن أميركا راحت تعبث بأمن روسيا وتطويقها بمنظومات هجومية صاروخية عابرة من جهة، وتطويقها من جهة أخرى بدائرة جغرافية تضم أنظمة معادية إقليمية لها مستغلة ما تُسمَّى بالصحوة الإسلامية؛ تلك الحركات راحت تمد يدها إلى دول انفصلت عن الاتحاد السوفياتي لتصدير ما تُسمى بالصحوة الإسلامية إليها. وما مَثَلُ الحركة الإسلامية في الشيشان وبعض دول القوقاز إلاَّ نماذج حية.
لكل تلك الأسباب كان لا بدَّ أمام النظام الروسي الجديد من استعجال استخدام مبدأ الدفاع عن النفس، وكان ما يجري في سورية أكثر العوامل التي دفعته لاستعجال وضع إجراءاته الدفاعية موضع التنفيذ.

2-مصالح إيران الفارسية (تفريس المنطقة تحت غطاء الإسلام الشيعي):
ما لا يخفى على أحد، وما لا يفوت النظام الإيراني بالتصريح به على الملأ بأن هدف النظام هو بناء دولة إسلامية عالمية يكون الفقيه، نائباً للإمام المهدي المنتظر، مرشداً لها. والحكومة الإسلامية العالمية تعني القفز فوق الحدود القومية، أي أن المسألة القومية هي أحد أهم الحواجز التي تعيق تطبيق تلك الحكومة وبناءها.
ونحن وإن كنا نصنِّف إيران في دائرة الذي يدور في المحور الشرقي إلاَّ أن هذا التصنيف لن يكون دقيقاً تماماً، لأن النظام الإيراني يعمل على الاستفادة من المحورين معاً في مواقف ديماغوجية لا مثيل لها، مليئة بالخداع والتمويه؛ فكل همه أن يضمن مصالحه سواءٌ امتطى صهوة الحمار الأميركي، أي صهوة (الشيطان الأكبر)، أم مال إلى ركوب الدب الروسي الذي ما زال يرمز إلى (الشيطان الشيوعي) وهو رمز الإلحاد والتجديف على الأديان السماوية. فهو في الوقت الذي يعقد اتفاقات استراتيجية مع الروس تبدأ بالعسكرية وتنتهي بالاقتصادية، يغزل على أنوال أميركا في العراق ويساعدها في العدوان العسكري ضد هذا البلد العربي ويسهم بشكل كبير في إبقائه محتلاً وخاضعاً للنفوذ الفارسي. كما أنه في الوقت الذي يعلن فيه العداء ضد (البعث في العراق) الذي يصل إلى حدود الحقد الأعمى، نجده يعقد اتفاقيات استراتيجية مع (البعث في سورية) تصل إلى حدود التماثل والتكامل بينهما. وهل في هذا المشهد ما يدع مجالاً للشك بديماغوجية هذا النظام وممارسته أقسى وسائل الخداع والتمويه؟
وهل هناك أقذر من ديماغوجية النظام الإيراني الذي تتطابق استراتيجيته مع أميركا في العراق بشكل خاص، وتتناقض إلى حدود الاقتتال بينهما على الساحة السورية؟ وهل ليس هناك ما يثير أكثر من مواقف المالكي، رئيس حكومة العملية السياسية في العراق، تلك الحكومة التي تمثل مصلحتيْ أميركا وإيران في العراق؟ تلك المواقف التي تقدم العون للنظام السوري. العون الذي يتم توظيفه في مقاتلة عملاء أميركا المزروعين في صفوف المعارضة السورية للقيام بالتخريب والتدمير والنهب والتقتيل؟؟!!
ولكن على الرغم من أن النظام الإيراني يضع بندقية الشرق على كتف، وعلى الكتف الآخر يضع بندقية الغرب، فإنه لا شك بأنه يمارس الكثير من وسائل التقية المكشوفة أمام المحورين، وهما ساكتان عنها لأنهما يستفيدان من خدماتهما ويوظفانها بما يدعِّم مشاريعهما، ولو بشكل جزئي. وهذا بالتالي يفصح عن ديماغوجية شرقية وغربية مماثلة لديماغوجية النظام الإيراني. وبين هذه الديماغوجية وتلك تبقى مصالح كل من الشرق والغرب هي التي توجِّه استراتيجيتهما ووسائلهما التكتيكية، وإيران بينهما تلعب دور (الجوكر) بمهارة من لا همَّ له إلاَّ تطبيق شعار (المصالح أولاً) وقبل أي شيء آخر.

ثالثاً: المصالح الإقليمية، كملحقات للمحاور الشرقية والغربية، إعادة إنتاج مشروع الصراع (العثماني الصفوي)، بحلة صراعات إسلامية (سنية شيعية):
مما لا شك فيه أن الأصوليات الإسلامية، بشقيها السني والشيعي، تحسب أن الفرصة التاريخية أصبحت سانحة أمامها لتحقيق حلم استعادة عصر (الخلافة الإسلامية)، كل شق منها يشد لحاف الخلافة على مقاييس فقهه المذهبي.
وتحت هذا الغطاء راحت الأنظمة العربية الجديدة، التي أنتجها (الربيع العربي) تصطف تحت شعار مشروع الخلافة الاستراتيجي، بدعم تركي أردوغاني غربي. وعزز اصطفافها تحت جناح المحور الغربي، عوامل عديدة لعلَّ من أهمها دوران مشروع (ولاية الفقيه) في فلك المحور الشرقي أولاً، ووضع إمكانيات النظام الإيراني في معركة للدفاع ضد إسقاط النظام السوري ثانياً.
وهنا لا بدَّ من  الإشارة إلى أن المحورين الدوليين لا يضيرهما أن تستند القوى الإقليمية إلى مشاريع إسلامية سياسية استراتيجية طالما أنها تشكل لها جسوراً للعبور تجاه منطقة (المياه الدافئة)، خاصة أن التاريخ يؤكد، من خلال قراءة قواعد المسألة الشرقية، أن تلك القوى استندت تاريخياً إلى مبدأ (حماية الأقليات الدينية)، وعلى أساس ذلك المبدأ بُنيت مواد (بروتوكول متصرفية جبل لبنان) قبل قرن ونصف القرن تقريباً.

رابعاً: من أهم النتائج التي تساعد على استشراف ما يجري الآن في سورية:
أثبتت وقائع التاريخ القديم والوسيط والحديث صحة مقولة: (الشرق شرق، والغرب غرب، ولن تلتقي مصالحهما)، أي أنَّ حركة صراع تناقضات المصالح بينهما هي محرِّك التاريخ بينهما. وعلى أسس تلك المقولة، سنقوم بتحديد مجموعة من النتائج التي تعمل على تفسير ما يجري في سورية الآن.
تنقسم المصالح بين القوى الدولية الرئيسة، الغرب الأوروبي والأميركي والشرق الروسي والصيني، إلى متناقضين تماماً على الساحة السورية، وهذا ما يفسره التاريخ على قواعد معجم المسألة الشرقية، وهي المسألة المزمنة في الصراع بين القوى العظمى بحيث تحاربت تاريخياً من أجل أن يبقى لها ممر على المنطقة العربية؛ أي إلى المنطقة التي كانت دافئة من أجل موقعها الجغرافي، والتي أصبحت أكثر دفئاً بعد اكتشاف البترول، وبعد تعزيز حركات الإسلام السياسي المدعوم غربياً. وفي هذا نعتقد أن خسارة الساحة السورية يعني بالنسبة لروسيا خسارة سلة من مقويات وحاميات جدران الأمن الروسي الاقتصادي والعسكري على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهي كما يلي:
1-إقفال بوابات التسهيلات اللوجستية تجاه الشرق الأقصى، وإنه بعد إقفال تلك البوابات تجاه أوروبا الغربية، يعني حصاراً كاملاً لروسيا يؤدي إلى خنقها عسكرياً واقتصادياً، وبالتالي ارتهانها سياسياً. ومن أجل منع مثل هذا الحصار خاضت روسيا حروباً عديدة في القرنين الماضيين.
2-الهيمنة الغربية على بترول العالم باستكمال الهيمنة على البترول العربي. وعلى قاعدة المبدأ الغربي الذي يقول: (من يسيطر على البترول يسيطر على العالم)، يعني بشكل أو بآخر سيطرة على روسيا نفسها، ناهيك عن خنق الصناعة الصينية وغيرها من صناعات الدول المتقدمة.
3-تسوير روسيا بمنظومات عسكرية غربية استراتيجية من الغرب، وتسويرها بتلك المنظومات من الجنوب الذي يمر من تركيا وصولاً إلى الوطن العربي، يعني تهديد الأمن الخارجي الروسي.
4-تعزيز وضع منظومات أصولية إسلامية في الوطن العربي، علماً أن تلك المنظومات ملتحقة تاريخياً وحالياً بالغرب وموالية له، وفي هذا العامل ما فيه من خطورة على أمن روسيا الداخلي. بحيث ستشكل خسارة سورية استكمالاً لدائرة الطوق الأصولي الذي يتنامى في الأنظمة الجديدة، تونس ومصر وليبيا، التي جاءت بها (ثورات الربيع العربي)، والتي سيكون نظام أردوغان في تركيا بوابتها الرئيسية للانتقال إلى مساعدة الأصوليات الإسلامية الناشطة في الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً، وهذا يعني تهديداً للأمن الداخلي الروسي.
 إن تلك المخاطر التي ستحدق بالأمن الروسي (سواءٌ أكان روسياً قيصرياً أم سوفياتياً شيوعياً أم روسياً بعد تفكك المنظومة الشيوعية)، وإن التنازل أو المساومة، بمفهوم الشرق الروسي، عن سورية تعني تنازله عن الممر الاستراتيجي الأخير ووضعه تحت إمرة الغرب، وتعني أيضاً تسليم الاقتصاد والأمن ووضعهما في خدمة الغرب بما تعنيه من حصار يجعل الاقتصاد والأمن الروسي بيد الغرب على طريق وضع روسيا تحت وصاية غربية.
ومن جهة أهداف المحور الغربي، مضمومة إليه تركيا، هي تنفيذ ما يشكل مخاوفاً استراتيجية لروسيا بشكل خاص، والصين بشكل عام.
وبما أن مصالح المحورين الشرقي والغربي أصبحت بحالة من التناقض الشديد، نرى أن الأمر يشكل سبباً رئيساً لاعتبار الصراع الدائر في سورية هو (صراع وجود) بين المحورين، وليس صراعاً من النوع الذي يحتمل التسوية حولها.

ما هي انعكاسات وجود هذه الحقائق على الأزمة السورية؟
ومن النتيجة الأخيرة نستخلص نتيجة أخرى أصبحت شبه ثابتة في وقائع ما يجري الآن على الساحة السورية، وهي أن القرار بمعالجة الأزمة قد بات خارج إرادة المعارضة الشعبية وخارج إرادة النظام أيضاً، بل بات القرار بأيدي الخارج بوضوح تام، ولهذا السبب نعتبر أن التفتيش عن حلول أو بداية حلول بين المعارضة والنظام أصبح تفتيشاً في غير محله. ولم يعد تحميل المسؤوليات للنظام مكان في الحلول، ولم تعد دعوة المعارضة لتوحيد صفوفها وأهدافها مكان على أي طاولة. وبهذا أصبحت سورية، نظاماً وشعباً، كمثل (الأيتام على مائدة اللئام). فهل من مخرج؟
طالعتنا الصحف عن أنباء انعقاد مؤتمر للمعارضة الوطنية السورية في أحد فنادق دمشق، وفي هذا الخبر ما يُثلج القلب خاصة أنه يؤشر إلى ما تتميَّز به هذه المعارضة من وطنية وحرص على أهداف (الحراك الشعبي السوري)، وعزَّز فرحتنا خروج المؤتمرين بنتائج من أهمها متابعة النضال من أجل تحقيق أهداف الحراك الشعبي السوري من جهة، وتأكيداً لرفض التدخل الخارجي من جهة أخرى.
وإن كان هذا المؤتمر يشكل كوَّة سليمة للخروج من الأزمة، ونحن نعتبرها كُوَّة صحيحة هذا إذا كان الصراع بين النظام والشعب صراعاً مجرداً من تأثير العوامل الخارجية، ففي هذه الحالة يستطيع الطرفان عقد طاولة مستديرة والحوار بإرادة مستقلة يقدمان تنازلات متبادلة تؤدي إلى تسوية يعملان على إنجاحها. ولكن وبما أن الصراع فات أيديهما معاً، باتت تلك الكوة كمثل مدخل مسدود بنيران مستعرة لا يستطيع الدخول منها أحد إلاَّ ويحترق بلهيبها. وما اللهيب إلاَّ نتيجة مما يصح اعتباره (من صنع الخارج وإخراجه)، ولن يسهم الخارج بإطفائه بل سيصب عليه المزيد من الوقود ليزيده اشتعالاً، ويحول دون المعارضة الحقيقية، والثوار الحقيقيين ودون المشاركة بحل، لأنه ليس المطلوب (إصلاحاً ولا ديموقراطية) بل المطلوب (مصالح الخارج ونوعاً من الديموقراطية التي يتم توظيف أشكالها لتخدم تلك المصالح).
وهنا وقبل أن نختتم مقالنا، سنطرح مجموعة من الأسئلة التي تسهم وتضيء الطريق أمام من يعمل على اتخاذ الموقف السليم مما يجري في سورية الآن.
إذا اختلط حابل المعارضة الحقيقية بنابل المعارضة الآتية من الخارج، كما هو حاصل الآن في سورية، لمن سيكون القرار؟
وإذا كانت المعارضة السورية معارضات متناقضة الوسائل والأهداف، فهل تستطيع المعارضة السلمية الوطنية الرافضة للتدخل الخارجي أن تفرض رؤيتها بالحل على المعارضة المسلَّحة؟
وهل تستطيع المعارضة المسلحة، بحكم تسليحها من الخارج، أن تتخذ قراراً بجمع سلاحها ومسلحيها من الشوارع إذا أقدم النظام على خطوة سحب قواته وإعادتها إلى ثكناتها؟
نحن نشك بأن شيئاً من هذا سيتحقق، لأن الأزمة السورية دخلت نفق الخارج وهي لن تتخلص منه طالما تحولت الساحة السورية إلى ساحة يمارس الآخرون حروبهم عليها.
ولهذا، ومن أجل هذا، أصبح من التبسيط الشديد التفتيش عن حلول داخلية، بين النظام والمعارضة. وحيث إن (الثورة السورية) قد سُرقت، وحيث إن الخارج يتلطى بشعارات الثورة السورية، نجزم بأن تلك الثورة انتقلت من مسارها المطلبي إلى مسارات خطيرة تهدد الكيان السوري بالإسقاط، كما أُسقِط الكيان العراقي، والكيان الليبي. وبسرقة شعارات الثورة الشعبية تكون الأزمة السورية قد انتقلت إلى ضفة الدفاع عن الوطن، وما لم تتم حماية سورية ووحدتها وعروبتها، عبثاً تكون الثورة مطلبية وإصلاحية. فمتى خسر السوريون وطنهم فلا أسف على أي إصلاح سياسي أو اقتصادي. وإذا لم يمارسوا معركة الدفاع عن الوطن الآن، فإن المعركة قادمة بشكل أكثر قسوة في المستقبل وسيجدون أنفسهم في خندق الدفاع عنه بعد فوات الأوان، أي بعد استكمال تدمير بنى وطنهم، وخاصة تدمير بنية الجيش السوري، لحمة وطنية وتسليحاً، على الرغم من عدم استخدامه في معركة الوجود مع الصهيونية والإمبريالية حتى الآن، إلاَّ أن هذا لا يُشرِّع تفتيته وشرذمته وتحويله إلى شرطة تحافظ على الأمن الداخلي، ولن يُسمح له في المستقبل إذا ما نجحت مؤامرة الغرب والصهيونية بأكثر من هذا الدور.

أما للخروج من متاهات أي تدخل أجنبي نريد؟
مع إيماننا المطلق بأن السيادة الوطنية لا تستوي مع وجود تأثيرات للخارج.
ومع الإشارة إلى أن التدخل الأجنبي في كل أزمات أقطار الوطن العربي، خاصة في الأزمة السورية الراهنة، أصبح حقيقة واقعة لا مردَّ لها: من يزعم أنه مع النظام أو من يزعم أنه ضد النظام.  أو من يزعم أنه مع الشعب، أو من يزعمون أنه ضد الشعب.
وفي معرض ألوان الحلول المطروحة بين أبيض الخارج وأسوده، علينا أن نختار الأقل سواداً والأقرب ما يكون إلى الأبيض، على أن لا ننسى المبدأ الأساس الذي عليه نبني وطناً مستقلاً عن أي وصاية أجنبية أو أي ارتهان لقرار خارجي، يقوده نظام سياسي يمثل مصلحة الشعب بكل ما لهذا التمثيل من موجبات قانونية سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية. نبني وطناً يشكل الحلقة التي تتلاقى مع سلسلة أهدافنا في بناء أمة عربية واحدة تنشد النظام السياسي الذي يرفع أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية.

ليست هناك تعليقات: