المقاومة الوطنية العراقية
(معركة الحسم ضد الفرسنة)
(الحلقة الثانية)
(2/ 7)
حسن خليل غريب
مقدمة
الدراسة:
لماذا
الانتقال من معركة الحسم ضد الأمركة إلى معركة الحسم ضد الفرسنة ؟
في 27 شباط 2009، أشار باراك أوباما،
رئيس الولايات المتحدة الأميركية، إلى أن قرار سحب الجنود من العراق لا يعني بأي
شكل «الانسحاب من مصالحنا في المنطقة، وننوي الاستعاضة عن وجودنا العسكري، بمساعٍ
دبلوماسية نشطة»، تشمل سوريا وإيران.
وفي الثامن والعشرين من كانون الثاني من العام 2010، أعلن الرئيس
الاميركي باراك أوباما أن حرب العراق تشارف على نهايتها. وأكد مجدداً في خطابه حول حال الاتحاد
الالتزام بالجدول الزمني لانسحاب القوات الاميركية
قائلاً:
«في الوقت الذي نقاتل تنظيم القاعدة نترك العراق لأهله. تعهدتُ كمرشح بانهاء هذه
الحرب وهذا ما أفعله كرئيس. سترحل قواتنا القتالية كلها عن العراق بحلول نهاية آب،
وسندعم الحكومة العراقية...، وسنبقى شركاء مع الشعب العراقي لتحقيق السلام والازدهار
الإقليميين».
ولكنه لم يف بوعده بالانسحاب في آب من العام
2010، فعاد وأكد الانسحاب في 21 تشرين الأول من
العام 2011، عندما
أعلن بوضوح: «بوسعي أن أعلن اليوم، بحسب الوعد الذي قطعته، أن كل قواتنا التي لا
تزال في العراق (نحو 39 ألفاً) ستعود إلى الوطن بحلول نهاية العام الجاري. بعد
مرور نحو تسع سنوات، ستنتهي حرب أميركا في العراق».
وفي آخر كانون الأول من العام 2011، انسحبت
القوات الأميركية من العراق.
وكانت تلك هي الخطوة التاريخية التي اعترفت
فيها الولايات المتحدة الأميركية بالهزيمة،
وكانت أيضاً تصديقاً لما وعدت به المقاومة
الوطنية العراقية، فكانت نهاية «معركة الحسم ضد الأمركة».
وفي تصريحات الرئيس الأميركي المتتالية ما
يجب الوقوف عنده، والتفكر فيه، وفي قراءة تلك التصريحات، سنتلمس الاستراتيجية
الأميركية التي رسمتها المؤسسات الحاكمة في أميركا، وهي تتلخص بالحقائق التالية:
1-اعتبار ضمان المصالح الأميركية في العراق
والمنطقة خطاً أحمر.
2-استبدال الوجود العسكري بالمساعي
الديبلوماسية النشطة مع إيران.
3-دعم حكومة العملية السياسية.
ومن خلال تلك الحقائق يبدو واضحاً أن
أميركا ستبقى في العراق، وتعتبر أن تحالفها مع إيران يشكل الضمانة الرئيسية
لمصالحها، وإنه لولا التفاهمات الأميركية –
الإيرانية، لما كان رئيس أميركا مطمئناً لتسليم ملف العراق للإيرانيين. وأما الدليل على ذلك فيعود إلى نجاح تجربة بلاده بالتحالف معهم قبل
الاحتلال وبعده.
وعن ذلك يكشف زلماي خليل زاده، الذي كان سفيراً لبلاده
في الأمم المتحدة، حيث نقلت صحيفة نيويورك
تايمز الأمريكية عن كتاب جديد أعده زاده، كشف فيه النقاب
عن إجراء مسؤولين أمريكيين مباحثات مع إيران بشأن
مستقبل العراق قبل بدء عمليات غزوه في العام 2003. واستمرت حتى بعد احتلال القوات
الأمريكية لبغداد عام 2003. كما كانت أميركا تأمل أيضا في أن تشجع إيران العراقيين
الشيعة على المشاركة بصورة بناءة في تشكيل حكومة جديدة في العراق. كما حصلت واشنطن
على ضمانات بعدم إطلاق إيران النار على أي طائرات أمريكية تخترق المجال الجوي
الإيراني.
ولأن أميركا أعلنت هزيمتها، ولأن الحكومة
العميلة لا تملك مقومات استمرارها، تعتبر المقاومة أن التواجد الإيراني في العراق
تحوَّل إلى احتلال بديل للاحتلال الأميركي، لذا أعلنت استراتيجيتها بتحرير العراق
من الاحتلال الإيراني. وحيث إن الاحتلال هو عمل عدواني، فقد أعلنت المقاومة أنها
ستستمر في عملها النضالي حتى خروج آخر نفوذ إيراني من العراق، وهذا بحد ذاته سيبتر
أي تأثير أميركي، وهو في الوقت ذاته إسقاط للعملية السياسية.
وإذا كان هدف تحرير العراق لم يكتمل بهزيمة
الولايات المتحدة الأميركية، بل أعلنت المقاومة استئناف نضالها ولكن بوسائل أخرى
فرضتها المتغيرات الميدانية.
فما هي تلك المتغيرات؟
لقد خُيِّل للكثيرين أن المقاومة العراقية
في العام 2012 قد انتهت، فقد غّيِّبت تماماً عن الإعلام، وارتفعت الأسئلة حينذاك
حول مصيرها. ولكن حقيقة الأمر أن المقاومة كانت تعد لاستراتيجية نضالية جديدة، وما
لم يكن معلناً في وسائل الإعلام، فقد كان يدور في كواليس قيادة المقاومة.
فماذا كان يدور حينذاك؟ وما هي حقيقة الواقع
غير المرئي؟
التعتيم على نشاط المقاومة لن يحجب رؤية تأثيرها
إن أنسى، فلن أنسى تلك اللحظة التي دخل فيها الغزاة
الأميركيون إلى بغداد. حينذاك أضمروا بقصفها بقنابل النيوترون بعد تقسيمها إلى
مربعات، وهي القنبلة التي استخدموها بمعركة مطار صدام الدولي بعد أن ألحقت بهم
المقاومة خسائر فادحة. ولحسم المعركة خشية من أن تتحول العاصمة العراقية إلى وكر
يستنزف قدرات الجيش الأميركي، حسب وكالات الأنباء الروسية حينذاك، أعدَّ جيش
الاحتلال الأميركي لتطبيق (الخيار صفر)، أي سياسة الإفناء بقنابل النيوترون لبغداد
كلها بمن فيها من بشر.
وإن أنسى، فلن أنسى حالة الإحباط التي أصابت كثيرين بعد
أن رأوا جيش هولاكو العصر يلوِّث شوارع بغداد النظيفة الطاهرة. حينذاك حسب
الكثيرون أن العراق لن يتخلص من دنس المعتدين إلى الأبد. أما في المقابل فكان
البعض الآخر يراقب المعركة بمنظار استراتيجي لإدراكهم أن المواجهة مع العدوان لم
تنته بل ابتدأت. فكانت البداية على طريقة استخدام البدائل في المواجهة، وليست تلك
البداية إلاَّ ما خططت له قيادة الحزب والثورة في العراق، وذلك بتطبيق استراتيجية
الكفاح الشعبي المسلَّح. وكانت لحظة الإعلان عن البدء بصفحة المقاومة الشعبية مما
لا يُنسى، ولهذا لن أنسى تلك اللحظة. لن أنساها لأنها أعادت الثقة للنفوس التي
اضطربت فأصابها الإحباط.
وإن أنسى فلن أنسى تلك اللحظة التي تساءل بها البعض
قائلين: ضمن التعتيم الإعلامي على أداء المقاومة، وفي ظل انعدام وسائل الإعلام
الموالية لها، وفي ضوء ضعف الإمكانيات، كيف سيكون العمل؟ وما هو الحل؟ فكانت
المراهنة على أن مدى تأثير حرب التحرير الشعبية على قوات الاحتلال سيفرض نفسه على
الإعلام، وسيكون الإعلام الآخر مرغماً على خدمة المقاومة من حيث لا تدري. ولذلك
عمَّت أخبار المقاومة الآفاق، وأنهكت أفعالها أكبر تجمع دولي في العدوان على
العراق واحتلاله، وظلَّت سواعد المقاتلين تلاحق القوات المعتدية المشاركة للاحتلال
الأميركي، فكانت تهرب الواحدة منها تلو الأخرى، حتى أعلن رئيس الولايات المتحدة
الأميركية بنفسه انسحاباً أميركياً مُذلاًّ من العراق زعم أنه انسحاب مُشرِّف.
لم يصدِّق من كان يتابع ظواهر الوقائع فقط على قلَّتها
أن المقاومة العراقية هي التي ألحقت الهزيمة بكل الدول التي عُرفت في تلك المرحلة
بـ(قوات الائتلاف)، وفي المقدمة منها القوات البريطانية والأميركية. وأما السبب
فكان عائداً إلى ضعف الإعلام المؤيد للمقاومة، وقوة الإعلام المعادي لها.
تلك اللحظات التي ذكرت أنني لن أنساها، والتي ضلَّلت
البعض وحالت دون استشرافهم للنتائج الباهرة التي أنجزنها المقاومة العراقية. وطغت
عليهم وسائل التضليل لأنهم لم ينظروا إلى الوقائع نظرة استشراف استراتيجي، بينما
المنظار الاستراتيجي يعتمد على تحليل عوامل النجاح الثوري للمقاومة العراقية، تلك العوامل
مكونة من المنهج السياسي الاستراتيجي أولاً، والقوة البشرية التي تحمل هذا المنهج
ثانياً، وتعمل على ترجمته إلى واقع تنفيذي ثالثاً. أي باختصار، فقد تلازمت
الاستراتيجية النظرية للمقاومة وتكاملت مع القوة المنظَّمَة التي تعمل على
تطبيقها. لذا كان اللقاء بين البعث واستراتيجيته في تحرير العراق لقاءً على مستوى
عالٍ من الوعي والأداء.
وإذا ما أدركنا أن المقاومة العراقية ما تزال مستمرة في
نضالها، وذلك على الرغم من أن التعتيم الإعلامي على إنجازاتها لا يزال مستمراً بعد
الهزيمة الكبرى للقوات الأميركية كما كان قبل تلك الهزيمة. وهذا ما يدفعنا
للمساهمة في سد النقص في الإعلام المؤيد، على الرغم من ضعف الإمكانيات. وللكشف عما
تعتِّم به أجهزة الإعلام المعادية عن نشاط المقاومة الحالي، وكي نقدِّم صورة أقرب
ما تكون من الموضوعية عن واقعها الآن، فيجب أن نضع المعادلة العلمية التي تربط بين
البعث واستراتيجيته في الحسبان، وهذا الربط لا يزال يشكل المعيار الموضوعي الذي
نقيس به نتائج حركتها الراهنة في معركة المواجهة التي تدور اليوم بينها وبين فلول
الاحتلال الأم.
إن الهدف من الإشارة إلى هذا الجانب كان رداً على ما كان
يتم التساؤل عنه، ومفاده: بعد إعلان الانسحاب الأميركي من العراق، أي بمعنى تقليص
الوجود العسكري الأميركي المباشر، وبعد تلزيم النظام الإيراني ملف العراق لتستبيحه
وتعمل على تفكيك ما تستطيع من نسيجه الاجتماعي والوطني، لا نسمع عن أي فعل
للمقاومة. فما هو السبب؟
وإسهاماً في توضيح ما كان يتم التساؤل عنه، لا بدَّ من عودة للمقارنة بين التساؤل الذي رفعه
الرافضون للاحتلال في بداية العدوان وبعد إتمام فصوله العسكرية، وبين التساؤل بعد
هزيمة أميركا. ولذلك نقول بداية: إن النظر بمنظار خبري إلى واقع العراق في الأشهر
التي أعقبت الانسحاب الأميركي، كما إلى واقع المقاومة العراقية، سيؤدي إلى غموض
وعجز عن رؤية مستقبل المواجهة التي كانت المقاومة تقودها ضد ما تبقى من قوات
أميركية أولاً، وضد الاحتلال الإيراني البديل ثانياً، وضد أدواتهما في الحكم
ثالثاً. فمن كان ينتظر الخبر ليطمئن قلبه فإن الخبر لن يأتيه، وأما السبب فيعود
إلى منهج التعتيم الإعلامي المنظَّم ضد حركة المقاومة ونضالاتها في تلك المرحلة.
ولهذا يجب النظر إلى ما كان يدور من منظار استراتيجي يستند إلى أن المقاومة كانت
تستكمل ما نصَّ عليه منهجها السياسي الاستراتيجي أولاً، وعليه أن لا يغفل ثانياً
أن القيادة التي أنجزت أهم أهداف ذلك المنهج كانت ما تزال هي نفسها التي تقود تلك
المرحلة وتديرها. فمن أنجز ما هو أمرُّ وأقسى، فلن تعوزه المقدرة والحكمة من
متابعة إنجاز ما تبقى من مراحل تحرير العراق بشكل ناجز وتام. وحول ذلك فالرؤية
بمنظار استراتيجي كان سيكشف ما كان غير مرئي في المشهد، وبالتالي سيساعد على وضع
التحليل السليم في الموقع السليم.
وليس أكثر دلالة على ذلك أن ما كان مخفياً في مرحلة
الاحتلال الأولى، لم يشكل حينذاك عائقاً أمام من كان يحلل الوضع بأفق استراتيجي،
ولم يمنعه من رؤية نتائج المستقبل في أن المقاومة ستؤدي إلى إلحاق الهزيمة
بالاحتلال على الرغم من كثرة من شاركوا فيه ودعموه. وكان التحليل الاستراتيجي
السليم يستشرف تلك النتائج بغض النظر عن تحديد توقيتات محددة، لأن النظر إلى نتائج
المستقبل ضمن تحديدات زمنية لهو ضرب من التنجيم.
استناداً إلى العوامل المعرفية أعلاه، نرى في المشهد السابق،
الذي نتابع فيه أعمال المقاومة العراقية في تلك المرحلة، أن هناك أعمالاً كانت منظورة،
وأعمالاً كانت غير منظورة. وحتى الأعمال المنظورة كان يتم التعتيم عليها من وسائل
الإعلام المعادي، وأما السبب في التعتيم فلأنه بالمقدار الذي تنكشف حقيقة تأثير
المقاومة أمام أنظار الأكثرية الساحقة من العراقيين، فإنها كانت ستزوِّد تلك
الأكثرية بشحنات معنوية كافية لدفعها إلى المشاركة في تقويض ما بقي من آثار للاحتلال.
وأما تلك الآثار فهي ثلاث بقايا تبدأ بمن تبقى من وجود للاحتلال العسكري الأميركي
أولاً، وعمليته السياسية ثانياً، وعوامل الاحتلال الإيراني ثالثاً.
ومن أجل توضيح دور المقاومة العراقية في تلك المرحلة نرى
العودة للتذكير باستراتيجيتها المعلنة منذ التاسع من أيلول من العام 2003، وبما
جاء في بيان قيادة قطر العراق المؤرخ في 8 تشرين الأول من العام 2003. واستراتيجية المقاومة المعلنة هي
تحرير العراق بشكل تام من الاحتلال الأميركي، ومن عملائه، وحرق أصابع دول الإقليم
التي تواطأت مع الاحتلال. ولأن الاحتلال الأميركي الأم، والاحتلال الإيراني البديل
يتستران تحت خيمة اسمها (العملية السياسية) التي كان يقودها العميل نوري المالكي،
فإن حركة المقاومة العراقية النضالية كانت تولي اهتمامها الرئيسي من أجل تقويض
أعمدة تلك الخيمة لتجويفها من الداخل، وإسقاطها شعبياً.
نحسب الآن أن آليات مهمات المقاومة العراقية كان قد طرأ
عليها متغيرات استناداً إلى أرضية المتغيرات التي حصلت بعد هزيمة الجيش الأميركي.
ومن أهم هذه المتغيرات هي تحديد أولوياتها في العمل، وذلك بترجيح كفة الدور
السياسي على كفة الدور العسكري. أي إن العمل على إسقاط (العملية السياسية) حلَّ في
المرتبة الأولى، ويليها مواجهة التأثير والتواجد الإيراني، وأما التأثير العسكري الأميركي
فقد حلَّ في المرتبة الأخيرة. علماً أن العاملين الإيراني والإميركي كانا في تلك
المرحلة يستظلان تحت خيمة (العملية السياسية) ويستمدان شرعية تدخلهما في العراق
منها، بعد أن كبَّلاها بمجموعة من الاتفاقيات العسكرية والأمنية والاقتصادية
والسياسية. وهذا يعني أن تقويض تلك العملية فيه إضعاف لقوى التأثير الخارجي،
ومقدمة لإلحاق الهزيمة بكليهما معاً. ومن أجل ذلك فقد ارتفع سؤالنا: إلى متى
تظل الديكتاتورية في العراق، الملوَّثة بالخيانة الوطنية والفساد والجريمة
المنظمة، من المسكوت عنه؟
من أجل إنجاز هذه المهمة كانت المقاومة العراقية تقوم
بعملها على صعيدين اثنين، وهما: استكمال العمل العسكري حيث يتطلب الأمر ذلك ويقوم
بأوده الجهاز العسكري والأمني التابع للمقاومة، والقيام بأداء سياسي على أن يتكامل
مع حركة الشعب العراقي.
أولاً: الصفحة العسكرية:
إذن، بعد إنجاز الصفحة العسكرية بدرجة امتياز تصل إلى
حدود الذهول من السرعة التي حصلت فيها، انتقلت مهمات المقاومة العراقية في مرحلة
ما بعد الهزيمة الأميركية إلى صفحات سياسية تعادل في تعقيدها الصفحات العسكرية مع
فارق وحيد هو أن سلاحها سياسي يقتضي الحنكة والوعي واتخاذ الخطوة المناسبة كلما
نضجت ظروف اتخاذها. لكن هذا لم يكن يعني أن العمل العسكري قد انتهى، وإنما تأثيره
انكفأ إلى الدرجة الأخيرة أمام أهمية العمل السياسي والأمني. وانكفاء دوره كان عائداً
لمتغيرين اثنين، وهما:
1-استهداف ما تبقى من جنود الاحتلال الأميركي إلى قواعد
عسكرية بعيدة عن
متناول المقاومة العراقية، والتلطي خلف واجهة سياسية وأمنية وعسكرية عراقية تشكل
له الحماية والغطاء، وتوفِّر عليه الكثير من الخسائر بالمال والأرواح، وهذا يعني
أن العمل العسكري قد خفَّ تأثيره، واقتصر على قصف تلك القواعد بالمدفعية
والصواريخ.
2-استهداف عملاء الاحتلالين الأميركي والإيراني، سواءٌ أكانوا في أعلى الهرم السياسي
والعسكري والأمني، أم كانوا من صغار المجنَّدين من الذين يصرون على تهديد أمن
المقاومة والشعب.
ثانياً: الصفحة السياسية:
إن العمل السياسي، في تلك المرحلة كان يتفرَّع إلى
مهمتين: داخلية وخارجية.
1-المهمة السياسية الخارجية وهدفها بناء علاقات في شتى الاتجاهات
العربية والإقليمية والدولية. ومما كان يتسرَّب من أخبار يمكن التقاطها من هنا أو
هناك، كان يشير إلى أن مكتب العلاقات الخارجية للمقاومة ينشط في هذا الاتجاه،
سواءٌ ببناء علاقات مع الدول مستفيداً من نقاط الاتفاق بالمواقف السياسية
والأمنية، أم ببناء علاقات مع الهيئات والجمعيات الأهلية أو الدولية أو الإنسانية
من أجل كشف ما كانت تقوم به قوات الاحتلال الأصيل والاحتلال البديل من جرائم وفساد
تحت مظلة (حكومة الاحتلال).
2-المهمة السياسية الداخلية، وكانت تهدف إلى تقويض دعائم (العملية
السياسية) بوسائل سياسية أولاً، والعمل الأمني - العسكري بملاحقة رموز تلك
العملية، سياسيين وعسكريين، للاقتصاص منهم ثانياً.
إن المتغيرات في واقع الاحتلال، إذن، أدى إلى متغيرات في
عمل المقاومة على الصعيد السياسي الداخلي. وتلك المتغيرات تعني على أرض الواقع
أنها نقلت المقاومة إلى مواجهة مباشرة مع من يشغلون الواجهة السياسية والأمنية في
حكومة الاحتلال. وهذا الوضع يشبه إلى حد كبير مواجهة بين العراقيين أنفسهم، إذ قد
يقاتل فيها العراقي عراقياً آخر، وتلك مواجهة يغلب عليها الطابع (الأمني – السياسي)، والتي تستخدم فيها
المقاومة سلاحاً يشبه مبضع الجرَّاح الماهر، الذي يعمل على استئصال الجزء الخبيث
من المرض من جهة، وأن لا يؤذي الجزء السليم من العضو الذي يخضع للجراحة من جهة
أخرى.
يصبح العمل الأمني السياسي الداخلي حاجة وضرورة على شرط
ممارسته بدقة وحرص وعناية فائقة، وهذا يصبح واضحاً إذا ما عرفنا أن مهمات المقاومة
انتقلت من ملاحقة جنود الاحتلال وهي عليه أسهل من ملاحقة عراقي عميل. فجندي
الاحتلال واضح بلباسه وبندقيته وآليته وقاعدته ومكتبه، أما العميل العراقي الذي
ينوب عن الجندي الأميركي فأمر اكتشافه صعب حتى ولو كان يرتدي زي الجندي الحكومي أو
الشرطي الحكومي، فهذا أو ذاك قد يكون من المضللين أو من الذين استغلَّ الاحتلال أو
عملاؤه وضعهم المعيشي من أجل تجنيدهم في السلك الحكومي الأمني.
في مثل تلك الوقائع، أصبح المقاوم العراقي يقف في مواجهة
العراقي الذي يخدم في السلك الحكومي، والخدمة تعني أكثر من جندي أو شرطي، ضابطاً
أكان أم فرداً، بل تعني كل موظف يعمل في مؤسسات الدولة الرسمية، ولا تستثني من ذلك
بعض المترددين والخائفين من كبار السياسيين.
وإذا كانت الصورة هي على ما قمنا بتصويره، يعني أن جزءاً
كبيراً من عمل المقاومة قد يصب في دائرة الحرب الأهلية إذا أخطأت الهدف في التمييز
بين من هو مغلوب على أمره، وبين من هو يشارك عن سابق إصرار وتصميم. ومن البيِّن أن
المقاومة كانت حريصة على منع الوقوع بالخطأ، خاصة وأنها أعلنت ذلك في أكثر من بيان
أو تصريح أو مقابلة صحفية.
ولأن للحركة الشعبية دور أساسي في إسقاط العملية
السياسية، يصبح العمل السياسي بين الجماهير ضرورياً لجذب المترددين من أطياف الشعب
العراقي، ولذلك يجب أن يتصف بالحذاقة والتطمين والإقناع، كما يتطلب مهارة ودراية
في تحريكه للمطالبة بحقوقه المنتهكة على كل الأصعدة. ومن ضمن ما يمكن أن يتصف به
جهد المقاومة السياسي مع الجماهير العراقية، نذكِّر ببعض ما يلي:
لما أصبح الاحتلال احتلالاً غير مباشر، وهذا أمر قد لا
يدرك العراقي العادي أبعاده وخطورته، فقد تكون نقمته على الاحتلال قد خفَّت بعد
تجميع من تبقى في قواعد معظمها بعيداً عن أماكن السكن. وهذا أمرٌ يتطلب الكشف عنه
وتعريته، خاصة أن الإعلام المعادي يقوم بحملة تضليل واسعة النطاق. ومن ضمن ذلك إن
التضليل الإعلامي، الذي تمارسه أجهزة الإعلام الأميركية والإيرانية، قد مسخ هوية
حكومة المالكي العميلة وجعلها تبدو كأنها حكومة شرعية يقودها عراقيون وصلوا إلى
الحكم وفق قواعد ديموقراطية مبنية على انتخابات تشريعية.
لهذه الأسباب، كان يمكن في تلك اللحظة اعتبار مهمة
المقاومة العراقية ذات شقين:
-الأول وطني، باعتبار حكومة المالكي، التي شكَّلها
الاحتلال، بمثابة حكومة للاحتلال، فمن يشارك فيها أو يدعمها يكون كمن يرتكب جريمة
الخيانة الوطنية. والعمل ضدها يتساوى مع العمل ضد الاحتلال.
-والثاني مطلبي، ويقتضي استنهاض الشعب العراقي
لاستعادة حقوقه وانتزاعها مستفيدة من أخطاء وجرائم من يتولون مسؤولية (العملية
السياسية). ومما كان يساعد على ذلك أن تلك الأخطاء والجرائم أصبحت أكثر من أن
تُحصى. وأن المواطن العراقي لم يكن بحاجة إلى أدلة وبراهين على وجودها لأن جرائم
حكومة المالكي العميلة كانت تلذعه كل يوم في مأكله وملبسه ومرضه ومنع العلم عن
أبنائه، و..و..، وهو الضحية التي تنال من الأذى ما تناله.
وطالما أن الأمر كان هو ما عليه، كان السؤال يرتفع:
لماذا لا يثور الشعب العراقي بمقدار ما يناله من أذى حكومته التي لم تترك باباً من
أبواب الفساد والجريمة إلاَّ وشرَّعته أمام اللصوص، ويأتي في المقدمة منهم الصف
الأول ممن يتولون الحكم في العراق؟
وإذا ما عملنا على مقارنة ما كان يجري في الشارع العربي
مع ما يجب أن يحصل في الشارع العراقي، كان التساؤل يرتفع: إذا كانت أسباب ما يجري
في الشارع العربي هي الثورة ضد ظلم أنظمته وتعسفها، فحري بالعراقيين أن يثوروا
بوتائر أعلى وأكثر ثورية، لأنهم يواجهون ديكتاتورية ملوَّثة بالخيانة الوطنية
لخضوعها لإملاءات التدخل الخارجي من جهة، ولأنها تمارس أقذر أنواع الجرائم
السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحق الشعب الذي تحكمه من جهة أخرى.
واستناداً إلى ذلك، يصح القول بأن الحراك الشعبي في معظم
الأقطار العربية كان يتم من دون قيادة ودليل، أما في العراق فهناك قيادة ودليل استراتيجي
ولكن بحراك شعبي يحصل ولكن ليس بالمقدار الذي يهز فيه كراسي ديكتاتورية حكومة
المالكي وفسادها وجرائمها.
واستطراداً، كنا نرى أن الشعب، فيما تُسمى انتفاضات
(الربيع العربي) يتحرك بوتائر ساخنة ولكن من دون دليل نظري ومن دون قيادة تقوده
إلى الشاطئ الآمن، كنا نرى الصورة في العراق معكوسة، فهناك دليل وقيادة، ولكن لا
حراك شعبياً ملحوظ المعالم، وحيث يوجد هذا الحراك، فإنه يتم التعتيم عليه وتجهيله،
والأخطر من كل ذلك كان يتم توصيف أسبابه بالعوامل الطائفية والمذهبية وتجهيل
أسبابه ودوافعه الوطنية؟
إنه الإعلام المعادي للقضية الوطنية القومية، كان يبرز
الحراك بأثواب إيجابية في أقطار عربية، ويعتِّم عليه في العراق ويتجاهله. إنه بلا
شك له علاقة بازدواجية المعايير التي كانت تمارسها قوى التدخل الخارجي في الشؤون
العربية. وهنا لا يفوتنا التساؤل: وهل كل جماهير الأقطار العربية، التي تأتلف في
حراك شعبي زلزل أنظمة التعسف السياسي والاجتماعي، هي أكثر ثورية من الشعب العراقي؟
جواباً على ذلك، كنا نرى أن الأمر ليس كذلك، بل كنا نقول
أكثر: إن الشعب العراقي، بعد أن أثبت كفاءته التاريخية بطرد احتلال أكبر قوة
عالمية معاصرة، هو من أكثر المجتمعات العربية وعياً في هذه المراحل، وأكثرها
إقداماً لتقديم التضحيات، والدليل على ذلك أنه أعطى الأولوية لمواجهة الاحتلال على
ما عداه من مهام أخرى، كما أنجز مهمته بكفاءة عالية ستذكرها كتب التاريخ التي
ستُدوَّن لتلك المرحلة.
وأما في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، وبعد أن وُضع
في مواجهة مغايرة لمرحلة الاحتلال المباشر، كان يتحفَّز هنا أو هناك من أجل القيام
بثورته المطلبية في وجه حكومة عميلة. ولهذا يصبح من المُلحِّ جداً توضيح أن
الاحتلال للعراق ما زال موجوداً ولكن تحت أقنعة عملاء الاحتلال، الذين يتلطون تحت
قناع (العملية السياسية)، بمن فيها من عملاء يؤدون أدواراً سياسية، وبمن يؤدي
أدواراً عسكرية وأمنية، ومنهم من يؤدي أدواراً في الفساد الإداري والاقتصادي
والاجتماعي. لقاء ذلك الواقع كان من الضروري رفع شعارات لتلك المرحلة، ومن أهمها:
إن الحكومة التي شكَّلها الاحتلال، هي احتلال آخر؛ ومواجهتها حينذاك كانت مهمة
أساسية في مواجهة الاحتلال.
هذا الأمر لم يكن عصياً على الفهم والإدراك، إذ أن حكومة
المالكي كانت تقوم بتنفيذ إملاءات الاحتلال الأميركي من جانب، وإملاءات الاحتلال
الإيراني من جانب آخر. وإن المواجهة التي تخوضها المقاومة العراقية ضد طرف من
أطراف الاحتلال المُقنَّع، مع ترتيب الأولويات، تؤدي إلى إضعاف الطرفين الآخرين.
وفي المحصلة كان يُعتبر تقويض العملية السياسية، في تلك المرحلة، بمثابة تقويض
لأسس الخيمة كلها. وإذا كانت مهمة المقاومة في مرحلتها العسكرية فرض كفاية
فالمواجهة في المرحلة الجديدة فرض عين على كل عراقي أن يؤدي دوره فيه. وبإيجاز
تقوى عملية تحرير العراق من فلول الاحتلال كلما تكامل جهاد المقاومة العراقية مع
الحراك الشعبي العراقي.
وأخيراً، كان ما يتسرب من أنباء عن مظاهر البداية في
حراك شعبي عراقي كان يُنبئ بالاستمرارية، كما كان يُنبئ أنه أتي بزخم شديد ولن
يتوقَّف حتى تحرير العراق من فلول الاحتلال الأميركي الذي أفل نجمه منذ سنوات،
وسيجتاح بقوة زخمه الاحتلال الإيراني البديل، بعد أن يُرغم كل الخونة من العراقيين
على الهرب يلوذون بسلامتهم لكي ينعموا بما سرقوه ونهبوه من حق العراق والعراقيين.
ونتيجة
لكل تلك المتغيرات، ونتيجة لاستراتيجية مواجهة مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من
العراق التي وضعتها قيادة المقاومة العراقية، سنقوم بدراسة المراحل التي استأنفت
فيها المقاومة نضالها. فنبدأ بالعناوين التالية:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق