الجمعة، مايو 20، 2016

الإسلام التاريخ والإيديولوجيا بمنظار قومي معاصر


الإسلام التاريخ والإيديولوجيا بمنظار قومي معاصر
الفصل السابع
من كتاب البعد الإيماني في الفكر القومي العربي

حسن خليل غريب


 

أولاً: أفكار عن الإسلام من الزوايا التاريخية والإيديولوجية

1-تعريف المصطلحات:

أ: تعريف الإيديولوجيا:

منذ بداية استخدمه في أواخر القرن الثامن عشر، كان مصطلح الإيديولوجيا يعني «عالم الأفكار، كشيء مقابل للعالم المحسوس، وربما مناقض له»، واستخدمه ماركس بمعنى «مجموعة الأفكار والمعتقدات التي تسود مجتمعاً ما بفعل الظروف الاقتصادية والسياسية القائمة». وتطوَّر المفهوم على يد مانهايم (عالم الاجتماع) فأصبحت «الإيديولوجيا هي أسلوب في التفكير». ومهما يكن فبالإمكان «تعريف الإيديولوجيا على أساس أنها ناتج عملية تكوين نسق فكري عام يفسر الطبيعة والمجتمع والفرد»، ومعتنق هذا النسق «يربط ويكامل بين الأفكار في مختلف الميادين الفكرية السياسية والأخلاقية والفلسفية». كما أن الأفكار والإيديولوجيات، ليست مجرد انعكاسات «فوقية ونتائج للواقع الاقتصادي التحتي»، فالعلاقة بينهما تفاعلية تتضمن التأثر والتأثير المتبادل([1]).

ب: تاريخ الحضارة صنيعة الإيديولوجيا:

 التاريخ في اللغة هو «علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية». البعض يستبدل التسلسل الزماني بترتيب سببي «يُرجع فيه الحوادث إلى أسبابها»، وإذا استخرج من الحوادث عبرة تتم بها «فائدة الاقتداء.. في تربية النشء كان تاريخه أخلاقياً وفي تدبير الدولة كان تاريخه سياسياً وإذا تجاوز ذلك كله إلى تعليل الوقائع، لمعرفة كيفية حدوثها، وأسباب نشوئها، كان تاريخه فلسفياً» ([2]).

يبحث الفلاسفة «عن القوانين العامة لتطور الأمم»، ويردها بعضهم إلى تأثير الدين، والبعض إلى تأثير الرجال العظام، والبعض الآخر إلى العوامل الاقتصادية، وآخرون إلى تطور العقل البشري وخطأ الجميع هو أنهم لم يستندوا إلى استقراء واسع للتطور، بل استندوا إلى تصور فلسفي سابق من دون العودة إلى دراسة تاريخ الأمم([3]).



ج: بين التاريخ والإيديولوجيا علاقة تفاعل متبادلة

 ليس التاريخ جامداً وليست الإيديولوجيا جامدة، أيضاً. فلو اتَّصفا بالثبات لما كان هناك أي معنى للتطور والتجديد، فصفحات التاريخ تتبدَّل وتتصاعد، وهكذا الإيديولوجيا.

من مسارات العلاقة بين التاريخ والإيديولوجيا أنهما يتجدَّدان، يتغيَّران، يتبدَّلان. ومن خلال مراقبة تاريخ البشرية، منذ العصر الحجري وصولاً إلى عصر التكنولوجيا، ومنذ مظاهر إيديولوجيا التدين البدائي والطوطمي والصنمي وصولاً إلى الأديان السماوية التي تؤمن بالتوحيد، تتَّضح معالم التغير والتجديد في كل من التاريخ والإيديولوجيا على حد سواء.

وإذا كانت مظاهر التغيير والتجدد مظاهر مشتركة بين طرفيْ العلاقة، نتساءل: هل هناك من تأثرات وتأثيرات مُتَبادَلة بينهما؟

من خلال استقراء سريع لتقدم التاريخ وتجدد الإيديولوجيا نرى أن الارتقاء بالتاريخ يصاحبه تجدد ومتغيرات في الإيديولوجيا. والعكس صحيح أيضاً. ومن خلال مراقبة التاريخ ورصد وقائعه نرى أن التجدد في الإيديولوجيا لا يمكن أن يحصل من دون عملية تراكم تاريخي في وسائل المعرفة ومضامينها. ولم تكن الإيديولوجيا الدينية، ومنها بشكل خاص إيديولوجيا الديانات السماوية بمنأى عن التغيير الإيديولوجي.

ومن الحقائق الأساسية التي نلاحظها في التطور التاريخي أنه لم تحصل أية متغيرات تاريخية من دون وجود متغيرات إيديولوجية. ولهذا نرى، أيضاً، أن الجمود الإيديولوجي يقود إلى جمود تاريخي، أيضاً. فالتجدد الإيديولوجي هو عنصر ثابت وضروري في التجدد التاريخي.

فالإيديولوجيا نتاج للعقل البشري، تستفيد من التاريخ المعرفي، وتفيده. والتاريخ نتاج بشري يصنعه البشر على مقاييسهم الإيديولوجية. فحاصل تلك العلاقة تجدد في التاريخ والإيديولوجيا معاً. فالإيديولوجيا تتحول إلى الجمود بدون تاريخيتها فهي نتاج تفاعل اللاحق المعرفي بسابقه، والتاريخ يتحول إلى الجمود بدون حركية إيديولوجية.



2-الإسلام التاريخ: الثورة الملهمة للعروبة:

انتشرت في أوساط قبائل شبه الجزيرة العربية تعدديات ثقافية دينية، كانت موزَّعة بين اتجاهات رئيسية أربعة: ثقافة عبادة الأصنام وتمثل ثقافة الأكثرية. وثقافة الديانتين: اليهودية والمسيحية. أما الاتجاه الرابع فكان يتمثَّل بثقافة «الأحناف»، وتقوم على قاعدة التوحيد الإلهي. فكانت ثقافة العرب ما قبل الإسلام تشكل إحدى مراحل الثقافة العربية.

ومن أجل أن تشوِّه بعض التيارات الدينية السياسية، على قاعدة الدعوات الشعوبية، دور العرب في الإسلام روَّجت لتعريف للجاهلية وكأن العرب كانوا فيها على مستوى كبير من الجهل والتخلف. او كأنهم كانوا مقطوعي الجذور عن أية حضارة. وهنا يقول صدام حسين كاشفاً عن نوايا تلك الإيديولوجيات بأنه من غير الممكن أن تحدث ثورة، بحجم ثورة الإسلام، «إذا لم تكن الأمة التي تنهض بها أمة حية» ([4]). ومن الخطأ «أن يُنظر إلى تاريخنا وكأنه كان فارغاً أو مخجلاً قبل الإسلام» ([5]).

نحسب نحن أن الدعوة الإسلامية انطلقت من قاعدة نقدية إيديولوجية للدعوتين اليهودية والمسيحية، دعا الرسول العربي اليهود والمسيحيين، باعتبارهم من أتباع الأديان السماوية، إلى تصحيح مساريهما والإيمان بدعوة الإسلام. وذلك النقد واضح تماماً في نصوص القرآن الكريم.  أما عن عبادة الأصنام، فلم يكتف الرسول بدعوة عبدتها إلى الإسلام فحسب، وإنما جرَّد السيف أيضاً تحت شعار «إما السيف وإما الإسلام».

أصابت الدعوة الإسلامية متغيرين توحيديين معاً، وهما: توحيد ثقافي أساسه عبادة الله الواحد، أما الآخر فهو توحيد سياسي أساسه بناء مرجعية سياسية واجتماعية واقتصادية واحدة للقبائل العربية. وبهما تأسست مركزية الدولة السياسية الإسلامية. فيكون إنجاز الإسلام لهاتين المهمتين بمثابة ثورة تاريخية في حياة العرب. وبفعل تلك المركزية أسست الإيديولوجيا الإسلامية لمتغيرات فكرية وسياسية كانت سبباً في تحويل التاريخ العربي من مرحلة البداوة والقبلية إلى مرحلة التأسيس لأهم الإمبراطوريات في التاريخ.

قبل تسعة قرون تقريباً أخذت الإيديولوجيا الإسلامية تتجمَّد بعد أن انتصر أهل النقل على أهل العقل عندما أصدر الخليفة العباسي القادر بالله،في العام (433هـ/1041م)، في بغداد « الاعتقاد القادري». وقُرئ في الدواوين؛ وكتب الفقهاء تواقيعهم فيه، مُقرِّين بأن هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر. وكان هذا نهاية تطور علم الكلام([6])، فتجمَّدت حركة إنتاج المعرفة في التاريخ العربي، بحيث كان النص يكرر نفسه. وأخذت الدويلات الإسلامية تُنتج نفسها بتكرار تقليدي.

تقوم في داخل كل مجتمع، في زمان ومكان معيَّنين، حركة تجدد بُناه الثقافية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وإذا كانت تتميَّز بالتجديد يعني أنها تقوم بثورة على القديم. وإذا أنتجت الجديد فتكتسب صفتها الثورية. وتمثل، تاريخياً، ثورة تميَّز المجتمع الذي حصلت في داخله.

لكن، شعارات الثورة لا تكتسب صفة الديمومة والثبات، فهي تتغير وتتبدل مع تغير الظروف وتبدلها. وما كان ثورياً في زمان ومكان ما يصبح متخلفاً في زمان ومكان آخرين. ساعتئذٍ على الثورة أن تجدد في شعاراتها وأهدافها لتواكب روح العصر الجديد.

فالإسلام، كان في زمانه ومكانه، ثورة العرب الكبرى، التي أحدثت انقلاباً في حياتهم، على شتى الصعد. وخُيِّل للكثيرين، من فقهاء المسلمين أن الإسلام دين يصلح لكل زمان ومكان. فبدأت ثورة الإسلام تتجه نحو الجمود في فكرها وأساليبها، فتخلَّفت عن اللحاق بمتغيرات المراحل، فلم تعد تمثل ثورة بمعناها الحقيقي والواقعي، بل انزلقت، هي نفسها، وانزلق معها المجتمع العربي إلى مهاوي التخلف.

أما بالنسبة لنا، نحن العرب، لما فتحنا صفحة التراث لنستفيد منه في مرحلة التحرر التي تعيشها الأمة العربية المعاصرة، فوجدنا أن في ثورة الإسلام، في مكانها وزمانها، ما يلهمنا إلى خلق ثورة شبيهة. وإذا أردنا أن نبني حركة ثورية جديدة تقودنا نحو التحرر على شتى الصعد، فلن ننطلق من نقطة الصفر لأننا نمتلك تجارب ثورية سابقة، كان الإسلام من أهمها.



3-الإسلام الإيديولوجيا: فقدت الإيديولوجيا الإسلامية تأثيرها التوحيدي بعد وفاة الرسول:

مرّت الإيديولوجيا الدينية الإسلامية بمراحل ثلاث:

الأولى: المرحلة التوحيدية: وفيها تحققت نتائج غيَّرت التاريخ العربي، وفيها انتقل عرب شبه الجزيرة العربية من حالة الانفصال القبلية إلى حالة توحيد القبائل في ظل حالة ثقافية واحدة، وحالة سياسية واحدة.

الثانية: نواة المرحلة التفتيتية: بعد وفاة  الرسول مباشرة أسهمت النزعات السياسية القبلية في التأسيس لمرحلة الشرذمة الإيديولوجية الإسلامية، وانتهت في أواخر القرن الخامس الهجري إلى مجموعة من الدويلات السياسية المتناقضة والمتحاربة. وكانت تلك الدويلات هي المظهر الأبرز لمظاهر المذاهب والفرق التي يكفِّر بعضها بعضاً. فتكون المرحلة الثانية من تاريخ الإيديولوجيا الإسلامية قد انتقلت فيها الإيديولوجيا الواحدة الموحِّدة إلى إيديولوجيات مذهبية. وبذلك عرف العرب عودة إلى الوراء.

الثالثة: مرحلة التفتيت الفعلي: بعد القرن الخامس الهجري تميَّزت الإيديولوجيا الإسلامية بمظهرين، وهما: الشرذمة على الصعيد الإيديولوجي، واستيلاء المسلمين من غير العرب على الخلافة. وبمثل هذا الانتقال دخلت الدويلات الإسلامية في عصر طويل من التخلف الفكري. وعلى الرغم من أن التاريخ الإسلامي السياسي عرف جاذباً وحدوياً على صعيد السلطة المركزية على الرغم من شكليته، إلاَّ أن الدويلاتية والانقسام كانا سائدين ومسيطرين على مجمل أوضاع الإمبراطورية الإسلامية.



4-تجميد الإيديولوجيا الإسلامية وتخلفها عن مواكبة العصور أنتج تخلفاً حضارياً:

منذ اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة للرسول، استعادت النزعات القبلية مواقعها وتأثيراتها، التي كافحها الإسلام، وانتقلت إلى السفيانية في العصر الأموي، ومرَّت بدولة بني هاشم في العصر العباسي، وانتهت إلى سيطرة المسلمين غير العرب في نهايات خلفاء بني العباس تحت عباءة الخليفة العربي، واستقرَّت في آخر المطاف بين أيدي الأتراك العثمانيين الذين نقلوا مقرها إلى آسيا الوسطى، وتناوبوا على الخلافة، وتوارثوها سلطاناَ إثر سلطان. وبهم انتهت المرحلة العربية للخلافة.

وبالعودة إلى دراسة ألف وأربعماية سنة من التاريخ العربي الإسلامي يصبح من الواضح كم كانت الإيديولوجيا الإسلامية تؤثر في صناعة تاريخ الحضارة: كانت في مرحلة الدعوة والتبشير عامل توحيد فأنتجت ثورة غيَّرت وجه التاريخ العربي، ولما بدأت مرحلة التناحر السياسي بين المسلمين، وقصور الفقه الإسلامي عن مواكبة المتغيرات،تجمَّدت الإيديولوجيا فتجمَّد التاريخ الحضاري معها ودخل مرحلة الانحطاط.

أما في العصر الحديث، ومع اتفاقية سايكس بيكو وهي حالة تقسيمية أخرى، لا يزال العرب يعيشون أجواء الدويلاتية والانقسام التي تأسست في عصور الانحطاط. ولا تزال مسألة الخلافة الإسلامية مطروحة من زوايا خلافية عديدة في داخل الفرق الإسلامية. وكلاهما يحاربان المسألة القومية حتى ولو كانت السهام تنطلق من متاريس متعددة الاتجاهات الإيديولوجية، ولكن تحت شعار إسلامي تعزفه كل فرقة على آلتها وتغنيه على ليلاها.



أ-علاقة الإسلام بالأديان السماوية علاقة تواصل إيديولوجي:

إذا كان الإسلام قد نسخ عبادة الأصنام، لكنه لم ينسخ الديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية، بل دعاهما إلى سلوك الطريق التجديدي، المتمثل بالإسلام، من دون اللجوء إلى استخدام القوة في ذلك السبيل. ماذا يطرح النظر من هذه الزاوية من تساؤلات؟

نجحت الإيديولوجيا الإسلامية في توحيد العرب فكرياً وسياسياً، وأوجدت أكثرية إسلامية بعد القضاء على عبادة الأصنام. وحجَّمت انتشار الديانتين اليهودية والمسيحية في الجزيرة العربية وجوارها. وهذا يعني أن الإيديولوجيا الإسلامية لم تلغ الإيديولوجيات السماوية، باستخدام القوة كما فعلت مع إيديولوجيا عبادة الأصنام. وعلى الرغم من أنها كانت قادرة على ذلك امتنعت عن استخدامها. وهذا دليل على اعتراف الإسلام بتعددية دينية سماوية. وهذا دليل أيضاً على أن المسيحية واليهودية تنتسبان إلى تراث المنطقة التي أصبحت عربية لاحقاً. وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج أن التراث العربي، حتى تاريخ انتصار الإسلام، كان قائماً على حضارة العرب ما قبل الإسلام، ومن ضمنها كل من المسيحية واليهودية، والكثير من الأعراف والتقاليد، سواءٌ أكانت الاجتماعية أم الدينية، وضمَّنتها نصوص القرآن الكريم.



ب-الإسلام الإيديولوجيا، بمظاهره الفرقية والمذهبية، عامل تفتيت:

في كل مراحله، حكم الإسلام الإيديولوجيا على أساس التشريعات الإسلامية، ومع أنها حافظت على وجود الأديان السماوية، إلاَّ أنها لم تتعامل معها على أساس من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات. ولم يقتصر التمييز بين المسلمين وغيرهم فحسب، بل شملت أيضاً المذاهب الإسلامية من غير المذهب الإسلامي الحاكم. وفي الدولة العباسية السنية، ما عدا مرحلة الحكم البويهي، والدولة الفاطمية الشيعية ذات المذهب الإسماعيلي، أفضل دليل على صحة استنتاجنا.

لم يقف الأمر بين المذاهب الإسلامية عند تلك الحدود، بل وصلت العلاقة بينها إلى التكفير، وبلغت حدود الاجتثاث([7])، ونالت الصراعات بينها أولوية على الصراع مع العدو الخارجي. وتحول مفهوم الجهاد في القرنين الرابع والخامس الهجريين، مثلاً، إلى جهاد أهل البغي. حينذاك شرَّع الفقهاء الحرب بين المسلمين أنفسهم. فأهل البغي، عند فقهاء الشيعة، هم أهل السنة، أما عند أهل السنة فهم الشيعة. وهكذا أصبح الجهاد ضد أهل البغي، لدى كثير من الفقهاء «أهم وأولى من جهاد الكفار» ([8]).

ولما كانت المذاهب والفرق قد تأسست على تحصين نفسها بالنص، مستندة إلى النصوص المتشابهة في القرآن، وبالأحاديث النبوية المنحولة، أصبح من العسير إعادة الوحدوية إلى الإيديولوجيا الإسلامية، ولم تبق هي نفسها التي لعبت دوراً توحيدياً في مراحل الإسلام الأولى. ونحن نحسب أن لجان الحوار الحالية بين المذاهب والفرق، على قلتها، لن تستطيع، في أحسن الأحوال، إلاَّ إحداث تغيير في تخفيف الاحتقان بين المذاهب.

لكن وإن استطاعت الحركات الحوارية أن تحقق نتائج أكثر من لجم الاحتقان، فلن تصل إلى حدود أن تعيد للإيديولوجيا الإسلامية مهمتها التوحيدية السابقة في حياة الرسول. أما السبب فلأن نصوص المذاهب والفرق تحوِّلت إلى إيديولوجيات إلهية مقدَّسة.

ج-التاريخ العربي يحتاج إلى إيديولوجيا توحيدية جديدة:

ساد حكم الدعوة الإسلامية، أو الحكم باسمها، قروناً عديدة. وتقدمت الحضارة العربية، في تلك المراحل، واكتسبت صفاتها الإسلامية، وتراجعت في مراحل أخرى، وتخلَّفت عن اللحاق بركب الحضارة العالمية.

حينئذٍ أثارت مظاهر التخلف في شتى مراحلها، سواءٌ أكانت في عصورها العربية أم غير العربية، العديد من التساؤلات حول صلاحية النظام السياسي الديني في قيادة المجتمع(*)، فجدَّت تيارات ونُخب عربية في البحث عن البدائل(*). وإذا كانت متغيرات المرحلة، بعد سقوط تجربة الدولة الإسلامية، قد عرفت نشأة مفهوم الدولة القومية المقفلة الحدود، أصبح البحث عن بدائل لمفهوم الدولة الدينية المفتوحة الحدود أمراً في غاية الأهمية. ولأن الدولة القومية أصبحت مقفلة الحدود الجغرافية تجمّعت الإثنيات الدينية والمذهبية والقومية داخل حدود مغلَقَة، لم تعد التشريعات الدينية، ومنها الإيديولوجيا الإسلامية التي كانت توحيدية في مرحلتها الأولى، صالحة كعامل توحيد بين مواطني الدولة. ولأن الأمر على هذا المنوال أصبح من الضروري أن تُصاغ أنظمة وتشريعات تشكِّل جامعاً مشتركاً على قاعدة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بينهم. وتيسَّر الحل من خلال الفكر القومي باعتماد القوانين الوضعية. وسنمهِّد لهذا الأمر بنقد موضوعي للإيديولوجيا الدينية كطريق ممهِّد للإيديولوجيا الوضعية.

استناداً إليه نرى أن المرحلة المعاصرة تتطلَّب الخروج من أوهام التوحيد السياسي على قاعدة الإيديولوجيا الدينية، والتفتيش عن إيديولوجيا أخرى. فهل نجد الحل في الأيديولوجيا القومية؟



ثانياً: أفكار عن القومية وعلاقتها بالإسلام التاريخ والإيديولوجيا



1-الإيديولوجيا القومية، أهداف ووسائل، ليست متطابقة مع أهداف الإيديولوجيا الإسلامية ووسائلها:

كان الأساس الأول في الاعتقاد بصلاحية الدولة القومية عائداً إلى فشل الدولة الدينية في تعميم العدالة ونشرها بين رعاياها. فتاريخها، سواءٌ أكان تاريخ الكنيسة في أوروبا أم كان تاريخ الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، أعطى الأنموذج المثال.

يرى مؤسس البعث، منذ العام 1943، وفي معرض دعوته لاستنهاض العرب وتثويرهم، أن البداية تنطلق من توجيه «كل الجهود إلى تقوية العربوأن تُحصَر هذه الجهود في نطاق القومية العربية» ([9]). ولم ير أن «الدعوة الإسلامية» صالحة لأن تكون نطاقاً جامعاً للعرب. فالإسلام كان توحيدياً في مرحلة «البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة» ([10])، التي يعتبر أنها كانت غنية جداً، والتي تحمل إمكانية التجدد «في روحها، لا في شكلها وحروفها» ([11]).  وإذا كان الغرب، أي المشروع الاستعماري، يخاف اليوم من الإسلام، فلأنه بُعِثَ بمظهر جديد، هو القومية العربية، ولهذا السبب نراه يوجِّه كل أسلحته ضدها. ولو كان الأمر غير ذلك، لأصبح من الواجب أن نتساءل: لماذا يصادق الاستعمار الشكل «العتيق للإسلام»، أي الإسلام الذي يقتصر على «العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة» ([12])؟.

وتظهر أفكار مؤسس الحزب واضحة، في فهمه للقضية القومية، في بيانه الانتخابي، بتاريخ 24/ 7/ 1943، حيث يقول: «ندخل الانتخابات، لا باسم طائفة... بل باسم فلسفة قومية نريد أن تكون إفصاحاً صادقاً عن الحياة العربية في حقيقتها الخالدة... نريد تعليماً قومياً موحَّد البرامج... ويحفظ ولاء النشء للوطن العربي والقضية العربية، فلا يشرك بهما وطناً آخر أو قضية أخرى».  أما عن علاقة الإسلام بالعروبة فيرى أنه عندما تحوَّل من كونه مرحلة ثقافية، أضافت تراكمات حضارية واسعة إلى تاريخ الأمة، إلى فرق ومذاهب متناقضة المصالح والاتجاهات، حينذاك «أبعدت الطائفية قسماً من العرب عن روح بلادهم... وأضعفت مساهمتهم في الحركة القومية»، وكانت مواقف المسيحيين السلبية من المسألة القومية العربية ردة فعل ضد الفعل الطائفي الإسلامي. هذا السبب دفع مؤسس البعث إلى دعوة المسيحيين العرب لـ«أن تستيقظ في المسيحيين العرب قوميتهم يقظتها التامة، فيروا في الإسلام ثقافة قومية لهم، يجب أن يتشبعوا بها ويحبوها، لأنه متصل بطبعهم وتاريخهم، ولأنه الميدان الذي برهن العرب فيه على كفاءتهم في تسامي الروح وخصب الفكر وقوة الأخلاق»([13]).

نقرأ مما كتبه مؤسس البعث أن الإسلام انكفأ عن دوره الثوري التوحيدي الذي لعبه في السنوات العشرين الأولى من تاريخ بعثة الرسول العربي. وأصبحت الإيديولوجيا الإسلامية، في حالتها الراهنة نتيجة تراكم الجمود لمئات السنين، عاجزة عن إحداث ثورة. واستقالت من دورها كإيديولوجيا متقدمة، السبب الذي دفعه إلى توجيه ندائه في خطابه المشهور قائلاً: على القوميين أن يبعثوا في الإسلام «معنى خاصاً» إذا أرادوا أن يبقى للأمة العربية سبباً وجيهاً للبقاء([14]).

أما المعنى الخاص للإسلام الذي يعنيه مؤسس البعث فهو صياغة إيديولوجيا جديدة أطلق عليها اسم «القومية العربية». ولكي تكون ذات زخم عليها الاستفادة من تجربة «السنوات العشرين الأولى من البعثة الإسلامية»، إذ هي الوحيدة، في مثل هذا اللقاء، التي تثير مخاوف الاستعمار. فتصبح القومية العربية، مستلهمة التراث العربي الإسلامي الثوري، هي الإيديولوجيا البديلة. والجديد فيها أنها ستكون مشحونة بحوافز الثورة الأصيلة في النفس العربية من جهة، وستكون النظام السياسي للدولة العربية العلمانية من جهة أخرى.

على الرغم من أن البعث قد وضع حدوداً واضحة في العلاقة بين القومية والدين/ بين العروبة والإسلام في دستور الحزب في العام 1947، أضفى مؤسس البعث، منذ العام 1976، أوصافاً مثالية على تلك العلاقة متأثراً بردات الفعل ضد مظاهر حركات الإسلام السياسي التي كانت تعلن عداءها، منذ أوائل السبعينيات، للإيديولوجية القومية، ومنها بشكل خاص إيديولوجيا حزب البعث. وكنا، من خلال قيامنا بنقد تلك المرحلة من حياة المؤسس الفكرية، قد ألمحنا إلى ما يمكن أن تثير تلك الأوصاف من التباسات في أذهان البعثيين، بشكل خاص، وأذهان القوميين والعلمانيين والمنتسبين إلى أديان أخرى بشكل عام.

بعد أن كان التاريخ «الجهادي» للثورة الإسلامية مصدر إلهام للعرب، كما يرى حزب البعث، أخذت أفكار مؤسس البعث الجديدة، بتعبيراتها العامة المجردة، فظهرت وكأنها توحي بتغيير في مواقفه من تلك الإيديولوجيا.  وقد عزَّز المخاوف تغليف أفكاره بالأحكام العامة المُغرِقة بوجدانية مرتفعة قد تكون متأثرة بشدة العداء ضد القومية العربية الذي كانت تعلنه «الحركات السياسية الدينية».

ومن أجل أن نعيد الاطمئنان إلى النفوس، نرى أن الظروف المرحلية التي تأثَّر بها مؤسس البعث ودفعته إلى إطلاق تلك الأحكام، لم تدفعه على الإطلاق إلى الانقلاب على الثوابت القومية، وليس أقلها رفضه «للدولة الدينية»، ورفضه أن يكون إيمانه غيبياً، وأن تكون عباداته تقليدية.

وما يعزز قناعتنا بأن الثوابت القومية في فكر حزب البعث، شاملة أفكار مؤسسه الجديدة، كانت تحت حماية حصانة مبدئية أكَّدها صدام حسين، وقال بأن فكر الحزب جديد كلياً عن الإيديولوجيات السابقة، كما أن المشروع الفكري والسياسي للثورة العربية الحديثة والمعاصرة يتمثَّل بالفكر القومي المعاصر الذي حمل لواءه حزب البعث العربي الاشتراكي.

2-الإيديولوجية القومية تصوغ أسساً جديدة للعلاقة بين الإيديولوجيا والتاريخ:

نال التخلف قسطاً  من اهتمام التيارات الفكرية العربية. فكان منها الديني، الذي دعا إلى التفتيش عن الحل في الماضي، فوجدها في سيرة السلف. وبعضها دعا إلى التجديد في البُنى الإيديولوجية الإسلامية. والبعض الآخر خرج للتفتيش عن الحلول من خارج دائرة الدين. وكان من أهم التيارات القومية العربية التي راحت تفتش عن الحلول من خارج الدين، هم المثقفون القوميون. وكان حزب البعث من أهم تلك التيارات القومية. ونظريته تستند إلى استلهام التراث على أساس التجديد فيه.

أ-إيديولوجيا حزب البعث قومية بامتياز:

لم تستند نظرية الحزب، في مرحلة التأسيس، إلى مضامين نقدية تشمل التاريخ والإيديولوجيا العربية والإسلامية، إلاَّ أنها ميَّزت فكرها القومي من خلال دستور الحزب الذي أقرَّه المؤتمر التأسيسي الأول في العام 1947م. وفي الدستور لا تجد إلاَّ ما يدعو إلى بناء هيكل فكري سياسي اجتماعي ثقافي اقتصادي قومي، من خلال «إيجاد ثقافة عامة للوطن العربي، قومية حرة تقدمية، تعمم في أوساط الشعب»، وتطبع «كل مظاهر الحياة بطابع قومي عربي»، على أساس إنشاء جميع نواحي الحياة، في الوطن العربي، «إنشاءً عربياً جديداً» ([15]).  وخلا الدستور من أية إشارة إلى علاقة بين الدين والقومية باستثناء ما جاء فيه من تعابير ومصطلحات عامة تقع عرضة للتأويل والاجتهاد، كمثل مصطلح «الرسالة الخالدة».

كان انشغال الحزب بالتنافس مع بعض التيارات الفكرية والإيديولوجية، الإسلامية والعلمانية، قد أبعد مؤتمراته عن النظر في عدد من القضايا الفكرية العامة، ولم يعطها عناية من حيث تعميقها وتحديدها والتجديد فيها. وكان من أهمها العلاقة «بين الدين والقومية»، «بين العروبة والإسلام».

لكنه، في المقابل، اهتمَّ بعض قادته بتوضيح تلك العلاقة، ومن أهمهم ميشيل عفلق، مؤسس الحزب وأمينه العام لعقود عديدة من الزمن. أما الثاني فهو صدام حسين، الأمين العام الحالي للحزب، وهو رائد من أهم روَّاد قيادة أول نظام سياسي للحزب. ولطغيان الجانب السياسي على دوره جعل الكثيرين يُغفلون دوره الفكري. فهو استفاد من الفكر القومي في صياغة تطبيقات عملية ألهمته وساعدته على إغناء فكر الحزب، من النواحي الفكرية النظرية والفكرية التطبيقية.

في محاولته توضيح العلاقة بين الفكرين الديني والقومي، العروبة والإسلام، منذ أواسط السبعينيات تحديداً، ملاقاة لانتشار تأثير الحركات السياسية الإسلامية، وخلافاً لما هو متعارف عليه في ثوابت الحزب الفكرية، حوَّل مؤسس الحزب، علاقة العروبة بالإسلام إلى علاقة مثالية في أكثر جوانبها. وبقراءتها، يخال المتابع أنه ساوى فيها بين الإيديولوجيتين القومية والإسلامية مع أرجحية للثانية. وهذا ما يجعل منهما مرجعيتين فكريتين مركزيتين يطلُّ من خلال تلك العلاقة المثالية العديد من الإشكاليات كنا قد أشرنا إليها من خلال عرضنا ونقدنا لهما في موقعهما من البحث. وكان من أهم ما جعل تلك العلاقة بغاية من العمومية والتجريد، وأحياناً التعميم الشديد، هو غياب الوضوح بين الإسلام كتاريخ والإسلام كأيديولوجيا. ونستنتج من خلال دراسة أفكاره، استناداً إلى منهجه في التعميم والتجريد،أنه لم يهتم بالإيديولوجيا الدينية الإسلامية بقريب أو ببعيد، ولم يتوقَّف عند ما يصلح منها للدولة القومية وما يتعارض معها. فكان الأبرز، من خلال الإلمام بمصطلحاته، اهتمامه بالتأثير التاريخي الذي تركه الإسلام على بُنى الدولة العربية، من الناحية التاريخية والحضارية. فكان ربط التاريخ بالإيديولوجيا من دون رسم حدود واضحة بينهما، في حسابنا، هو ما جعل بعض أحكامه تقع في دوائر التعميم، والتعتيم، مما نتج عنه تأويلات وتفسيرات مختلفة عما يعتبره ثوابت قومية لا يمكن الارتداد عنها.

أما صدام حسين، رائد أول تجربة للفكر القومي في الحكم، فقد ساعدته تجربته من جهة وحيويته الفكرية من جهة أخرى، على الاقتراب خطوات مهمة على طريق توصيف علاقة واضحة «بين الفكرين القومي والديني»، «بين العروبة والإسلام».

ولما كان من غير المنطقي أن نفصل بين أفكارهما إذ يكمِّل أحدهما الآخر، ومن خلال قراءتها، نتساءل: كيف يرى حزب البعث علاقة الإيديولوجيا الإسلامية بالتاريخ العربي الإسلامي؟

لتحديد هذا الجانب، لا بُدَّ من أن نعرف كيف ينظر كلٌّ من المفكِّريْن البعثييْن: إلى علاقة التاريخ مع العصر، أي إلى علاقة التراث بالحداثة؟



ب-التاريخ وعلاقته بالحاضر محور أفكار مؤسس البعث:

يرى مؤسس البعث أن الماضي المجيد هو «حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم» ([16])، وتحديداً، مرحلة «البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة» ([17]). ولأنها كانت غنية، فهي ممكنة التجدد «في روحها، لا في شكلها وحروفها» ([18]). أي أنه لا يمكن أن تتم دراسة تجربة الرسول من خلال قراءة السيرة بسطحية، بل من خلال شعور عميق، الشعور الذي يضع البطولة في موقعها الصحيح، أي في تمثُّلها واكتسابها وتطبيقها([19]).

لكن دراسة تجربة الثورة الإسلامية عنده لا تعني أن يكون الإسلام «جراباً يسع كل شيء، ومعملاً يُنتِج شتى المركبّات والأدوية»، وهذا يعني ضرورة العمل من أجل التجديد فيه، لأننا عندما نجمِّده، نُفقِدَه مميزاته الحية، ونتركه فريسة لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر([20]).

ومن المهمات التي يمكن الاستفادة منها، من خلال دراسة الإسلام، كما يرى مؤسس البعث، فهي أن يتم توجيه «كل الجهود إلى تقوية العربوأن تُحصَر هذه الجهود في نطاق القومية العربية». فالقومية العربية، في العصر الحديث، أعطت للإسلام زخماً جديداً. فخوف الغرب منه، له علاقة ببعثه بمظهر جديد، هو القومية العربية([21]).

ولأن القومية العربية هي الأم، ولأن الإسلام، كثورة عربية دينية روحية، أثبتت مقدرتها على التغيير، رأى عفلق، كردة فعل ضد النظريات المستوردة من الخارج «المدفوعة بالحقد على العروبة»، أن العرب بحاجة إلى الإيمان بالله. لكنه ليس مشروطاً بالعبادات التقليدية، وإنما إيمان بغير تقليد. أي «الإيمان بالحق... وبضرورة السعي كيما يظفر الحق» ([22]).

من أجل تلك الأسباب حصر عفلق بُعده الإيماني بمسألتين: الإيمان بالله، والإيمان بالشعور القومي. وأحبَّ عفلق الإنسانية ومنها أعلن حبه للقومية العربية لأنها جزء منها، وأعلن حبه للإسلام لأنه جزء من القومية العربية([23]). وأصالة القومية العربية ظهرت من خلال صمودها في وجه الظروف القاسية، و«احتفظت بجوهرها»، الذي يكمن في «حقيقتها التاريخية الخلاقة»، الملآنة بالنضال والتضحية([24]). لذلك استلهم الحزب التراث العربي، الذي هو تراث الأمة الروحي فهو «الدافع والملهم والموجِّه» ([25]).

فاللجوء إلى التراث، عند مؤسس البعث، ليس من أجل «التكرار والتقليد»، بل من أجل أن «نقدم إلى الإنسانية رسالة في تجديد القِيَم، في تجديد الأخلاق» ([26]). وإن نظرة شمولية لسياق أفكار مؤسس البعث عن الإسلام، لا تدل أنه يعنى بالتراث الإيديولوجي، بل كل ما جاء به من مفردات لا تتجاوز ما هو مرتبط بالتاريخ. وهذا ما يؤكد أنه يستقرئ التاريخ العربي الإسلامي ليستعيد إلى الذاكرة العربية حوافز النضال ضد التخلف.



ج- التراث التاريخي محور أفكار صدام حسين:

كي «لا تبدو هذه الأمة وكأنها خُلِقت بالإسلام، بما يقوّي منطق الرجعية الدينية المتخلفة»، وكي لا يبدو أن حزب البعث يجب أن يكون حزباً دينياً، يرى صدام حسين ضرورة في أن يًدعِّم الحزب نظريته بالتاريخ القديم للتأكيد على «أن تاريخ الأمة العربية يمتد إلى عصور سحيقة في القِدَم، وأن كل الحضارات الأساسية التي نشأت في الوطن العربي إنما هي تعبير عن شخصية أبناء الأمة» ([27]).

فالعلاقة بالتاريخ، يتابع صدام حسين، هو ما يؤدي إلى استنهاض الهمم، فاستذكار «رموز الأمة العربية والإسلامية في صدر الرسالة الإسلامية»، كان يعطي المقاتلين «شحنة وطاقة لا حدود لهما في مواجهة الغزاة» ([28]). وخصوصيات التراث العربي، هو أنه يتناول من التاريخ ما هو جامع، أي تلك الزوايا التي لها علاقة بقادة التراث الروحي، وقادة العبقرية القومية «من الذين قدَّموا خدمة جليلة للإنسانية وللعالم كله» ([29]).

يستلهم حزب البعث، كما يرى صدام حسين، دروس الأمة العميقة والعادلة، وفي المقدمة منها الإسلام، لتأسيس «نظرية جديدة اسمها حزب البعث«، لكن على أن لا ننسخ الماضي، ولا نستنسخ عنه، و«إنما نستلهم روحه بصيغة جديدة من التطور مع إعطاء الحق والحرية للإنسان في أن يؤمن بما يريد من الأديان وفق الطريقة التي يقتنع بها» ([30]).

يربط الأمين العام للحزب بين التراث والحداثة على قاعدة التجديد، ويرى أن رسالة الأمة التي انبثقت عن المؤتمر القومي التأسيسي للحزب كانت مرتبطة بالنضال، ولم يكن ذلك كمجرد وراثة مقومات عظيمة، بل كانت انطلاقة الحزب متجددة «في معاني ما يجعلها خير أمة أخرجت للناس»، كقاعدة «لنوع الإيمان الجديد، والفعل الجديد، والتطلع الجديد، والتكون الجديد، والممارسة النضالية، والجهادية، وليس لمجرد ما توارثته الأمة من إيمان، وتراث، ووصف لماضيها» ([31]).

وكما كان الأمر في استنتاجنا حول أفكار مؤسس الحزب عن أن التمييز بين الإسلام الإيديولوجيا والإسلام التاريخ كان مسألة ضرورية وقاعدة أساسية لتبيان حقيقة العلاقة بين العروبة بالإسلام. ينطبق الأمر ذاته على استنتاجنا بعد قراءتنا أفكار صدام حسين. ومنها لا نرى اندماجاً بين الإسلام الإيديولوجيا والإسلام التاريخ، فقراءتنا لأفكاره عن علاقة التراث بالمعاصرة والتجديد، ليس أكثر من قراءة للإسلام التاريخ من أجل استحضار حوافز النضال التي تفيد الأمة في حاضرها ومستقبلها.



3-علاقة الإيديولوجيا الإسلامية بالإيديولوجيا القومية علاقة تباين واختلاف، لكنها ليست علاقة تصادم:

كان الإسلام ثورة عربية توحيدية، حققت أهدافها، في شبه الجزيرة العربية، في خلال عشرين عاماً على التقريب. ولذا كانت وحدوية الاتجاهات الثقافية والسياسية. وبعد أن أنجزتهما أسهمتا في وضع تكوين جديد للقومية العربية. أما في القرون اللاحقة فانتقل المسلمون بالدعوة الإسلامية من مستواها التوحيدي إلى حالٍ من التمزق والفرقة عندما تأسست، وانبنت فيما بعد، مئات المذاهب والفرق الإسلامية المتناحرة، كل منها كانت مستندة إلى اتجاه إيديولوجي مبني على النص الإسلامي، واستكملت بناءها الإيديولوجي بأبنية سياسية متصارعة أيضاً.

تميَّزت القومية الجديدة، في ظل شباب الدعوة الإسلامية، بوجهها الديني الإسلامي العربي لقرون عدَّة كانت فيها تراتبية السلطة في يد العرب. وتحوَّل وجهها، لقرون أخرى لاحقة، إلى ديني إسلامي أممي بعد أن تولى السلطة مسلمون من غير العرب. على أن الأمة لم تتفق في المرحلتين: العربية والأممية، على بناء إيديولوجي واحد، ولا على بناء سياسي واحد. وبهذا أخذت الإيديولوجيات الفكرية تنسج التاريخ العربي الإسلامي على هواها.

يحمِّل البعض الصراعات السياسية تبعات الشرذمة والتمزق، بحيث تساوى في التحليل الإسلاميون وبعض المفكرين القوميين. لكننا بدورنا نتساءل: وهل لا يتحمَّل الفكر الديني أي وزر في هذا المجال؟

لكي تكون التحليلات السابقة صحيحة لا بُدَّ من أن تستند إلى ثابت فكري، وهو: هل الظاهرة الدينية تنفصل عن الظاهرة الدينية السياسية؟ أي هل تنفصل أهداف الدين عن السياسة؟

عالجنا هذه الإشكالية بأبحاث(*) توصلنا من خلالها إلى أن الظاهرتين هما ظاهرة واحدة. فالدين لا ينفصل عن السياسة، والدليل هو أن لكل دين تشريعات «دينية روحية» وتشريعات «دينية دنيوية»، كما ربطت الدعوات الدينية طريق الخلاص في الآخرة بممارسات البشر على الأرض. واستناداً إلى ذلك نتساءل: هل يمكن الدعوة الدينية، التي تمهد الطريق لخلاص البشر في الآخرة على قاعدة سلوكهم في الحياة الدنيا، ألاَّ يكون من وظائفها بناء نظام سياسي تؤهل فيه أتباعها، دينياً ودنيوياً، من أجل خلاصهم في الآخرة؟

لذلك نرى أنه لا يمكن فصل الإيديولوجيا الدينية عن السياسة، كما أنه لا يمكن عزل تأثير الإيديولوجيا الدينية عن صنع التاريخ. ولأن الأمر كذلك أصبح من المنطقي أن لا نعلّق كل أوزار التاريخ في رقبة السياسيين لوحدهم فحسب، بل نحمِّل الإيديولوجيا حصتها من المسؤولية أيضاً. أما الوزر الذي يتحمَّل السياسيون وزره، فهو أنهم أسهموا عن وعي، في أحيان كثيرة، في تجميد الإيديولوجيا، وأمروا بحياكة مبادئها على مقاسات مصالحهم.

وهنا تواجهنا إشكالية أخرى وهي: هل تحميل الإيديولوجيا الإسلامية بعض الوزر هو نسخ لها كلها؟ وهل يمكننا نقد التاريخ بمعزل عن نقدها؟ وهل من المنطقي أن نلغي التاريخ العربي بسبب من أن الإيديولوجيا الإسلامية لعبت دوراً مؤثراً في صياغته؟ وهل هذا الإلغاء هو شرط من شروط بناء فكر قومي عربي تتساوى فيه الأديان والمذاهب؟

كلها أسئلة يعادل طرحها إثارة إشكاليات حقيقية. كما تعادل الإجابة عنها إسهاماً في وضع حلول لتلك الإشكاليات. من خلال الرد عليها، من وجهة نظرنا، سنرد أولاً على ادِّعاء الإسلاميين الذين يعيدون الفضل في بناء الحضارة العربية إلى الإسلام وحده. ونرد ثانياً على خوف الخائفين من أن تكون القومية العربية ذات عمق إيديولوجي إسلامي.

ففي احتكار الفضل من قبل طرف، وفي الخوف من غرق الدولة القومية بالإيديولوجيا الإسلامية، ما يدفعنا إلى القول: إن صناعة التاريخ العربي بتأثير من الإيديولوجيا الإسلامية، لا يعني أبداً أنها صنعت التاريخ العربي كله، بل صنعت جزءًا منه، وهو الجزء الأكبر. والتاريخ العربي يعود إلى آلاف السنين التي سبقت المرحلة الإسلامية. لعبت في صناعته الأديان السماوية دوراً، كما كان للأديان الوثنية دور آخر لا يقل أهمية في التأسيس لمرحلة الأديان السماوية. وكي لا نغرق في التفصيل، نشير إلى أن الحفريات السومرية في العراق أثبتت أن الكثير من الرؤى التي فسَّرت تكوين العالم، مما يحسب الكثيرون أنه من إنتاج الأديان السماوية، وجد المؤرخون أنها كانت نتاجاً قديماً يعود في قدمه إلى مرحلة الأديان الوثنية. لكن جًلَّ ما يمكننا الإشارة إليه هنا هو أن تاريخ الأديان السماوية، ومنه تاريخ الدعوة الإسلامية، هو تواصل معرفي لحضارة تأسست على الأرض العربية.

ومن أجل نظرة موضوعية للتاريخ الماضي والحاضر ووضعهما في مصلحة الأمة و مستقبلها، فنرى أن ننقد التاريخ السابق من أجل تصويب بوصلة من يصنعون التاريخ المعاصر. ويتساوى في النقد النظر إلى السلبي مع النظر إلى الإيجابي في القضايا.

في التاريخ صفحات كثيرة بيضاء. فإذا كنا ننقد الصفحات السوداء، فهل نحن لا نعتز بالصفحات البيضاء ونستلهمها؟

هكذا يمكن النظر إلى التاريخ العربي الإسلامي، فيه من الصفحات البيضاء التي لا يمكن أن يمحوها المسيحيون لأنها كانت من صناعة إسلامية، ولا يمكن للمسلم أن يلغيها لأنها من صناعة مسيحية، ولا يمكن للشيعي أن يمحوها لأنها كانت من صناعة سنية، ولا يمكن للسني أن يمحوها لأنها كانت من صناعة شيعية. ولهذا يؤدي النظر إلى التاريخ من منظار إيديولوجي إلى نتائج مخيِّبة للآمال، فتتعدد مناظير  الرؤى إليه.

قد تكون كتابة التاريخ في السابق، كما في عصرنا الراهن، هي السبب الذي يدفع كل جماعة إلى النظر إليه بشكل مختلف عن رؤية الآخرين. وحبذا لو وُجِدَ من يكتب التاريخ بشكل مجرد ومحايد بعيداً عن تأثيرات الرؤى الإيديولوجية. ولأن كتابة التاريخ تخضع إلى إملاء الطبقة المسيطرة، سواءٌ أكانت اجتماعية سياسية أم دينية، سيبقى التاريخ عرضة للاختلاف بين البشر. أما الحل، في عصر الدولة الوطنية أو القومية، فلن يكون إلاَّ بكتابته من منظار وطني أو قومي. ولأن الرؤية الوطنية والقومية، غالباً ما تكون محايدة بين الأديان والطوائف، نستطيع، في هذا العصر، أن نتجاوز نصف المشكلة في كتابة التاريخ، وهي النصف الإيديولوجي الديني. ويبقى النصف الآخر، وهو النصف الإيديولوجي السياسي الاجتماعي الطبقي، موضوعاً تحت مجهر التدقيق من قِبل الإيديولوجيات المتعارضة مع الطبقات الحاكمة أو المهيمنة، التي تفرض كتابة التاريخ من وجهة مصالحها.

فالنظر إلى التاريخ من زوايا إيديولوجية لا يمكن إلاَّ أن يجعلنا نراه بعين حولاء، وبقلب فيه الكثير من التعصب. فالصفحات البيضاء التي صنعتها مراحل الدول الدينية هي جزء من التراث التاريخي القومي. ولكن الدول الدينية أو المذهبية صنعت صفحات تاريخية لا يمكن إلاَّ أن نضعها بين الصفحات السوداء. وإذا كنا لن نلغيها، فعلينا أن نقوم بدراستها بعين نقدية قومية موضوعية لنرى كم نستفيد من دروسها في عصر الدولة القومية. قد نحسب أن بعض الصفحات هي بالفعل بيضاء من منظار ديني فئوي أو من منظار مذهبي فئوي، ولكنها من منظار المجموع القومي تُعدًّ صفحات لا تصلح لأن تلعب الدور التوحيدي في عصر الدولة القومية.

والنتيجة التي نراها منطقية هو أن لصناعة التاريخ القومي طرقاً ووسائل تختلف عن طرق ووسائل الصناعة التاريخية الدينية أو المذهبية. فمن المنظار القومي علينا قراءة التاريخ / التراث، ومن المنظار القومي علينا أن نكتب التاريخ المعاصر ليكون في المستقبل تراثاً جامعاً لكل التعدديات.



4-إستنتاجات

ميَّزت أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، بشكل عام، بين التاريخ العربي الإسلامي وبين الإيديولوجية الإسلامية. حصل ذلك على الرغم من بعض المواقف التي أعلنها مؤسس البعث، ويظهر من بعض مصطلحاتها كأنه يريد أن يمحو كلياً الحدود الفاصلة بين التاريخ العربي السابق وبين الإيديولوجيا الإسلامية.

فالتاريخ يعطي للأمة العربية الكثير من خصوصياتها. ولكن لا يمكننا أن نُقرأه من زاوية إيديولوجية إسلامية، بل من منظار قومي جامع. ولأنه لا يمكن، بل من المستحيل، أن يتم إلغاء التاريخ استجابة لرغبة إيديولوجية، فالتاريخ أصبح تاريخاً ولا يفيد تجاهل بعض مراحله أو بترها، بل يمكن العرب الاستفادة من التاريخ العربي الإسلامي، على الرغم من أنه مطبوع بالإيديولوجيا الإسلامية. وتتم قراؤته بمنظار قومي معاصر بما يُعزِّز موقع الإيديولوجيا القومية الجامعة.

وإذا كان من شروط الجوامع القومية أن تبتر من التاريخ العربي كل ما أسهم فيه دين من الأديان أو مذهب من المذاهب لكان على الأمم  أن تلغي تاريخها السابق عند قيام أي أيديولوجية جديدة. وهذا يتناقض مع التطور المعرفي الإيديولوجي التاريخي، أي أن كل إيديولوجية جديدة مدينة لكل الإيديولوجيات التي سبقتها.

يرى صدام حسين أنه من الخطأ «أن يُنظر إلى تاريخنا وكأنه كان فارغاً أو مخجلاً قبل الإسلام» ([32]). ولكي لا تظهر الأمة «وكأنها خُلِقت بالإسلام يجب أن ندعم نظريتنا بالتاريخ القديم مؤكدين أن تاريخ الأمة العربية يمتد إلى عصور سحيقة في القِدَم، وإن كل الحضارات الأساسية التي نشأت في الوطن العربي إنما هي تعبير عن شخصية أبناء الأمة» ([33]).

ولكي لا يظهر حزب البعث، بسبب من استفادته من التراث، كأنه حزب ديني. ولكي يدلل على التغير الإيديولوجي للتراث، يرى صدام حسين أن نظرية الحزب «هي النظرية الصائبة لحياة العرب في الوقت الحاضر، مع إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً، لأجل ألاَّ تتحوَّل نظريتنا إلى مذهبية جامدة، فننغلق عليها، ونقتل روح المبادرة والاجتهاد» ([34]). ولهذا أكَّد، دعماً لاستنتاجاته، أن«أي طريق غير الطريق القومي، الإنساني، الشامل سيبقى قاصراً عن زخم خطوة البداية القومية، الإنسانية العميقة، والشاملة«، فطريق البعث «ارتقى بنضال الأمة إلى مستوى جديد لفكر جديد كلياً» ([35]).

وبهذا نرى أن صدام حسين قد أكَّد مسألتين: الاستفادة من التاريخ بما يخدم أهداف الدولة القومية، وعلى التجديد الكلي بمضامين الإيديولوجيا وأهدافها. وبمثل ذلك التأكيد ثبَّت في فكر الحزب مسألة التمييز بين حركة التاريخ وحركة الإيديولوجيا.



ثالثـاً: أفكار عن علاقة  القومية بالدين في التاريخ المعاصر



1-وحدوية التيارات في مراحل التحرر الوطني، وتباعدها في ما بعد تلك المراحل:

مرَّت أقطار الأمة العربية، بعد اتفاقية سايكس بيكو، بعدد من التحولات السياسية، كان من أهمها معارك الاستقلال التي خاضتها المجتمعات القطرية ضد سلطات الانتدابين: الإنكليزي والفرنسي في المشرق العربي باستثناء دول الخليج وعُمان، ومعاهدات الحماية أو الاحتلال المباشر من مصر إلى المغرب الأقصى. ولم تتفرَّد طبقة أو شريحة اجتماعية أو اتجاه سياسي، باستثناء مواقف بعض الأحزاب الشيوعية العربية، حيثما حصلت مقاومة ضد الوجود الأجنبي، بالعمل من أجل إنجاز المهمة الاستقلالية. وهذا لا ينفي وقوف بعض الشرائح الطبقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى جانب سلطات الانتداب ومساندتها في الوقوف ضد إرادة الطبقات الأخرى التي كانت تناضل من أجل الاستقلال.

فتكون القوى الإسلامية قد لعبت، إلى جانب القوى القومية والتقدمية  والقطرية الليبرالية، دوراً بارزاً في المقاومة. لكن في تلك المراحل، لم تهتمّ تلك القوى والحركات بصياغة مشروع للنظام السياسي، بل تُرك إلى مراحل لاحقة. ولما جاء أوانه ابتدأت مرحلة الخلاف. فافترقت تلك القوى إلى تيارين قومي وأممي. فالأمميون كانوا تيارين: تيار إسلامي، وتيار ماركسي شيوعي. أما التيار الإسلامي، فكان يدعو إلى إعادة «نظام الخلافة الإسلامية». وبدلاً من أن يكون معيناً ومسانداً للوحدوية القومية، عدَّها من المشاريع المعادية للإسلام، فناهض الفكر القومي وعدَّه في صف القوى المعادية.

انطلاقاً من عدائهم انخرط أصحاب المشروع السياسي الإسلامي في صراع مع الحركة الثورية العربية استناداً إلى ثابتين:

-الأول: التناقض حول قومية المنطلقات أو أمميتها. فالحركة القومية العربية تدعو إلى وحدة سياسية بين الأقطار العربية، بينما الحركة السياسية الإسلامية تعمل من أجل وحدة إسلامية عابرة للقوميات.

الثاني: التناقض بين تشريعات النظام السياسي القومي الوضعية، وتشريعات النظام السياسي الإسلامي ذات المصدر الإلهي. فيقوم ميدان الصراع بين المشروعين على ثنائية «معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والإلحاد»، أي بين حكم الله وحكم البشر.

منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين، لم تتردد بعض الحركات السياسية الإسلامية في الإعلان عن نيتها محاربة «أنظمة الكفر» العربية، كأولوية أولى، قبل الانخراط في محاربة قوى الكفر الآتية من الخارج. أما الأسباب الدافعة فقائمة على أساس أنه لا يمكن محاربة قوى الكفر القادمة من الخارج قبل تأسيس نظام يحكم باسم الله([36]).

وبالعودة إلى وقائع الصراعات وأصول المنطلقات الفكرية للحركات الإسلامية السياسية وحركة الثورة العربية، لا نجد أن هناك ما يمكن أن يجمع المشروعين معاً. لكن تبقى المراهنة على التيارات الإسلامية الأخرى، التي لا تنظر إلى الوحدة القومية بعين الريبة، بل ترى أن الوحدة القومية هي القاعدة الرئيسة في بناء نظام سياسي عربي يحكم بالتشريع الإسلامي. ومن أجل أن تبقى أبواب الحوار مفتوحة بين الحركتين، نرى أن من أسس الحوار أن يكون لدى التيار القومي وضوحاً فكرياً على الصعد التالية:

الأول: أن يكون فكره القومي واضح المعالم وأسسه المبدئية واضحة عن كل ما له علاقة بالدين والقومية، بالعروبة والإسلام. وبغير وضوح حدود العلاقة بينهما سيكون المحاور القومي مُربكاً ضائعاً بين ما هو تراث وما هو معاصر. بين ما هو جامع بين الإثنيات القومية وما هو مفرِّق.

الثاني: استجابة لمبدأ صيانة حرية الاعتقاد وحمايتها، أي تحديد موقف من البعد الإيماني الديني،  لا بُدَّ للفكر القومي من أن تكون له نظرة فلسفية إلى الكون والإنسان، لكي يفسِّر على أساسها البعد الروحي، وأن يلبي حاجة البعد  النفسي لتكوين الإنسان في ثنائية «الروح والجسد»،  على أن يكون عمقها فلسفياً يستند إلى أسس الكليات في القيم والمثل الإنسانية، وتحديد علاقتها مع القِيَم الروحية الدينية الخاصة. ففي تحديد جوامع  الكليات الفلسفية مع خصوصيات الاعتقاد الديني ما يُكسب الفكر القومي مناعة في تقريب العلاقات الودية بين الأديان.

الثالث: أن يقوم المفكرون القوميون بدراسات أكاديمية تتناول العقائد الدينية بالتحليل، كما تتناول الفكر السياسي والتاريخي للأديان والمذاهب. وبالتالي تحديد ما يمكن أن يتوافق مع الفكر القومي أو يتناقض معه.



2-مقاربة بين الخطاب الإيماني الفلسفي والإيديولوجيا الدينية:

بالعودة إلى نتائج مقدمات بحثنا هذا، نرى أن تعريف الإيمان لا يعني أنه ذو علاقة ترتبط بالمفاهيم الدينية فحسب، بل له علاقة أيضاً مع أكثر من عامل اجتماعي وفكري. لكن ارتباط الإيمان بالدين هو ارتباط وثيق، من حيث إن الفكر الديني لا يستند إلى المحسوس، بل يستند، أولاً وقبل أي شيء آخر، إلى اليقين النفسي القائم على الحدس من جانب، وعلى عجز العقل عن بلوغ البرهان اليقيني حول قضايا ما وراء الطبيعة من جانب آخر. ولأن نتائج العقل في بحثه عن قضايا ما وراء الطبيعة لم تملأ الفراغ المعرفي عند البشر، كان الإيمان، بتفسيرات الأديان حول الجانب الماورائي، الملجأ الأكثر قبولاً  عند الأكثرية الساحقة من البشر، لأنها الأكثر تبسيطاً ونفعية.


إلى ما سبق نضيف بعض القضايا، منها تلك التي لبعضها ارتباط بالقيم الإنسانية العليا، كمثل التضحية والإيثار عند الأب والأم مثلاً، فهي لا تخضع لعلم يقيني بأكثر مما تخضع إلى غرائز عند الكائنات الحية جميعها. ولأن الإنسان أخضعها لمستوى رفيع من المحاكمات العقلية الواعية، اكتسبت صفة القيم الإنسانية. فإذا ما أضفنا منهج معرفة تلك القيم، الذي لا يستند إلى براهين عقلية بل يستند إلى أحاسيس غير منظورة وغير ملموسة، نرى أنه لا يمكن تفسيرها من خلال المناهج العقلية المعروفة، لأن الأب أو الأم لا ينتظران التفكير أو البرهان قبل أن تتحفَّز غرائزهما بالتضحية والإيثار في سبيل أولادهما عندما يتعرضون إلى ما يشكل خطراً على حياتهم.

هنا يلعب الإيمان، بمعنى الجانب الغريزي عند الإنسان، دوراً أساسياً في حفظ الجنس ويظهر جلياً أنه لا يخضع إلى أية مناهج أخرى غير مناهج الإيمان التي لا يفسرها البرهان العقلي أو الرياضي أو الصوري، بل هو قانون طبيعي مخلوق في الإنسان خلقاً، وهو قانون طبيعي تتشارك فيه الكائنات الحية جميعها، ويتشارك في ملكيته كل البشر.

فهل لغريزة التضحية، كقانون طبيعي تتميّز به علاقات الوالدين والمولودين، أساس اجتماعي؟

ليست تلك القيمة ذات بعد اجتماعي يمكن أن نقول إنها ذات غرائز اجتماعية، لأن ما يربط أفراد الجماعات ليست غرائز مغروسة فيهم، وهذا ما تؤكده العلاقات بين الأخوة الأشقاء، التي ليست لها عمق غريزي كما هي موجودة في العلاقة بين الوالد والمولود، وإلا ما هو تفسير أن يقتل «ابن جد البشر» قابيل أخاه هابيل؟

لا يرتقي معنى التضحية، هنا، إذا ما انتقلت من مستوى علاقة الوالد بالمولود، إلى مستوى علاقة الفرد بالفرد، أو الجماعة بالجماعة، إلى مستوى الإيمان، بل يستند إلى تربية اجتماعية عقلية وبرهانية، وهنا تنتقل تلك القيمة من مستواها الإيماني الغريزي إلى مستواها الاجتماعي العقلي. وبانتقالها هذا تحتاج إلى أدلة وبراهين تفسِّر قيمة التعاون والمحبة والتعاضد بين أفراد الأسرة، أي الأخوة والأخوات.

فالغرائز الإنسانية تكتسب قيمتها من أن العمل على أساسها لا يحتاج إلى براهين، لعلاقتها الوثيقة بدوافع غير محسوسة ونتائج لا تخضع إلى مقاييس العقل البشري، كمثل تضحية الأم بكل ما تملك من أجل صيانة حياة وليدها. فذلك غير خاضع لمبدأ المنفعة، كما أنها ليست خاضعة لأي عامل اجتماعي آخر.

فهل الإيمان الديني يرقى إلى مستوى القيمة الإنسانية ذات الأصل الغريزي؟


وصف فقهاء المسلمين الإسلام بأنه «دين الفطرة». أي بمعنى أن الإنسان مفطور على الإيمان بالإسلام. وتلك نتيجة تقتضي البرهان عليها. والبرهان لا يمكن أن يتجاوز مسألة إثبات وجودها منذ القِدَم، وإثبات كلِّيتها، أي شمولها الجنس البشري.

أما حول إثبات قِدَمِها فيتهافت أمام وقائع التاريخ التي عرفت العديد من الأديان الوثنية التي سبقت الإسلام. وسبقته أيضاً الأديان السماوية اليهودية والمسيحية. فقولنا إن الإسلام ليس ديناً فطرياً يؤيده غياب ظهور تلك الفطرة ملايين السنين. فالإيمان بالإسلام إذاً ليس مخلوقاً مع الإنسان، كما خُلقت بعض القيم الإنسانية ذات الأصول الغرائزية.

الإيمان الديني مكتسب، وخضع اكتسابه إلى عاملين اثنين: الأول هو مواجهة الإنسان لقوى الطبيعة التي لا يقدر على مواجهتها أو لا يستطيع تفسيرها. أما الثاني فهو نتيجة لظاهرة الموت، تلك الظاهرة التي دفعت الإنسان إلى التساؤل عن مصيره في مرحلة ما بعده.

أما العامل الأول (قوى الطبيعة) فتجاوزه البشر عندما وجد تفسيرات لبعضها، أي عندما كوَّن عنها معرفة يقينية أزالت المخاوف التي كانت تثيرها، سابقاً، بغموضها. ولكن بقي التساؤل الآخر: هل وُجِدت تلك القوى بمحض الصدفة؟ أم أن هنالك من هو أقوى منها، وهو الذي خلقها؟

أما ظاهرة الموت، فهي ظاهرة حسية، وتتشارك فيها كل الكائنات الحية. وقد رأى الإنسان أن ظاهرة الموت ظاهرة طبيعية، لكنه وقف حائراً حول التساؤل: وهل يفنى الإنسان بموته؟ وهل هناك حياة أخرى بعد الممات؟ وإذا كان هناك من هو أقوى من ظواهر الطبيعة، وإذا كانت هناك حياة بعد الموت، فلا بدَّ من أن الذي يسيطر على تلك الظواهر، والذي يقرر مصير الإنسان بعد الموت هو خالق قدير.

ولأن تاريخ الفكر كان مليئاً بالتساؤلات التي لا أجوبة يقينية عنها، ولما كانت من الكثرة بحيث ملأت تاريخ الفكر البشري، ولأنها لم تُقدِّم اليقين المحسوس للبشر، كان أقربها إلى الاعتقاد هو أكثرها تأويلاً لمعاني الثواب والعقاب في مرحلة ما بعد الموت. من هنا تساوت الفلسفة مع الفكر الديني، وكل منهما في حقله، في تفسير الكون على قاعدة ثنائية «الحياة والموت».

ولأن الإنسان يمتلك قوى يستخدمها، بعضها منظور يمكن تعليل وجوده وتفسيره تفسيراً مادياً، أما بعضها الآخر فليس منظوراً أو يمكن تعليله وتفسير وجوده تفسيراً محسوساً وملموساً، سجَّل تاريخ الفكر البشري ثنائية «الروح والجسد».

ثنائيتا «الحياة والموت» و «الروح والجسد»، متكاملتان، ومتفاعلتان. نصفهما مادي خاضع للمراقبة والبرهان المادي، أما نصفهما الثاني فغير خاضع. فالحياة، نصف ثنائية «الموت والحياة»، خاضعة للرؤية الحسية وقابلة البرهان اليقيني، وكذلك الجسد، نصف ثنائية «الروح والجسد» خاضع للمعرفة الحسية اليقينية. أما النصفان الآخران: الموت والروح، فهما غير خاضعين للمحسوس والملموس، بل لما تم الاصطلاح عليه، «المنهج الحدسي»، وهو مصطلح يُقصَد منه تعريف «المعرفة غير اليقينية».

على الرغم من أن روَّاد المعرفتين: الحسية والحدسية، حاولوا أن يأخذوا جانب منهج المعرفة هذا أو ذاك، ويعتبرون أنه يشكل طريقاً لليقين أكثر من الآخر، إلاَّ أن تاريخ الفلسفة لم يحسم الجدل حول تحديد منهج معرفي واحد. هذا الجدل لا يزال قائماً، وانعكست تأثيراته على الواقع السياسي والاجتماعي للبشرية. فتحولت ثنائية مناهج المعرفة، «الحدسية أو الحسية»، إلى مناهج للتطبيقات السياسية والاجتماعية، وبرزت بشكل أوضح وأجلى في مناهج الحوار والتفاعل بين الفكرين الديني والوضعي. الفكر الأول يقوم على الحدس (المنهج المعرفي الإلهي، الإلهام، الوحي)، أما الفكر الوضعي فقائم على الحس (نظام سياسي ينظِّم شؤون البشر، ويتشارك البشر بأنفسهم في إنتاج قوانينه). من تلك البداية عرفت البشرية ثنائية «الفكر الديني (الحدسي) والفكر الوضعي (الحسي) »، فنتج عنهما ثنائية « الدولة الدينية والدولة المدنية»: تحكم الأولى بتشريعات مصدرها الحدس/ الإلهام/ الوحي الإلهي، أما الدولة المدنية  فتحكم بتشريعات مصدرها البشر، الذين يختارون نظام الحكم الذي يحاكي مصالحهم المادية.

أما الإشكاليات التي تتولَّد عن تلك الثنائيات، فهي من النوع الذي أربك عواطف البشر ووجدانهم. صحيح أن البشر يحتاجون إلى تنظيم شؤونهم المادية في مرحلة الحياة الدنيا، لكن مصيرهم بعد الموت هو ما يؤرقهم أيضاً. ويحسب الذين يبشرّون بقيام أنظمة دينية أن لا حياة بعد الموت منفصلة عن حياة ما قبله، فالحياة ما قبله تحدد مصيره في المرحلة الثانية. أما الأنظمة الوضعية الحديثة فلا تهتم بجانب الحياة بعد الموت، فهي بمثل ذلك لا تجيب البشر عن الجزء الغامض الماورائي الذي يقلقهم.

فإشكالية الثنائيات: «الروح والجسد»، و«الحياة والموت»، و«الفكر الديني (الإلهي) والفكر الوضعي (البشري) »، و«النظام الديني والنظام المدني»، هي من أشد ما عانى منه الفكر البشري ولا يزال. فأين هو الحل؟

أثبت التاريخ كثرة الويلات والمصاعب التي عانت منها البشرية من جراء حكم الدولة الدينية، وبشكل أشد فظاعة من حكم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ. والصعوبة الأشد تولَّدت عن أن تاريخ الصراع بين الدول الدينية كان يدور حول ثنائية «الإيمان والكفر»، «الإيمان والإلحاد». فبفعل تلك الثنائية يقتل الإنسان أخاه الإنسان ببرودة متناهية من الأعصاب، لأنه عندما يقتل فهو يعتقد أنه يقتل بأمر من الله الذي يعبده، وبرودة الأعصاب تتولَّد أيضاً من إيمان القاتل بأنه سينتقل إلى حياته الثانية (الآخرة) من باب السعادة (الجنة) أما المقتول فينتقل إليها من باب العذاب (نار جهنم).

بوابة الخلاص في حياة البشر بعد الموت، مرتبط بإفناء الآخر، أي أن المؤمن لا ينال الخلاص إلاَّ بإفناء الكافر. ولأن البشر يتوزَّعون الإيمان بتعدد طرق الخلاص، أصبح من واجب من يُنشدونه أن يبقوا في صراع دائم مع الآخرين. فقتل الكافر جواز مرور إلى الجنة، والسقوط قتلاً على أيدي الكافر هو أيضاً جواز مرور إليها. فالمؤمن يضمن الجنة سواء قَتل أم قُتِل.

أما الأنظمة التي يعتقد بها الوضعيون، فلا تستند إلى ثنائية «الإيمان والكفر»، فمقياس النجاة في الدنيا هي الهم الأساسي التي تعمل الأنظمة الوضعية من أجلها. فلا مؤمن ولا كافر، بل مقياس الحساب هو دنيوي، وليست من مهمات الأنظمة الوضعية أن تحدد مصائر البشر في العالم الآخر. والمقاييس الدنيوية هي مجموعة من القوانين والتشريعات التي تنظم علاقة الأفراد والجماعات في الدولة الواحدة وتدير شؤونهم، فمقاييس الحساب هي التوافق مع تلك التشريعات وتطبيقها.

أما ثنائية «الإيمان والكفر» فليست خاضعة لسلطات النظام الوضعي. لكن ينظمها تشريع وضعي يضمن حرية الاعتقاد للجميع، من دون أن يتدخَّل في مضمونها أو في شكلها أو يعتبرها هدفاً للمساءلة أو المحاسبة. 

لم يحسم الفكر البشري موقفه من تلك الثنائيات، وسوف تبقى عرضة للشد والجذب، أما لو وُضعنا شخصياً أمام محنة الاختيار، لاخترنا ما يلي:

تتفاوت بين بني البشر مستويات اكتساب المعرفة. بعضهم، وهم الأقلية، تتميَّز مستوياتهم بالعمق حتى في فهم أنواع المعرفة المجرَّدَة، وهم يمثلون النخب الفكرية من حيث الإنتاج والاستهلاك. وبعضهم الآخر، وهم أكثر عدداً، تتميَّز مستوياتهم بالانفتاح من حيث الفهم والإدراك، وتغلب على مستوياتهم مهام الاستهلاك الكثير والإنتاج القليل. أما الغالبية العظمى من البشر فهم من مستهلكي الثقافة، وغالباً ما يكونون من المقلِّدين.

لا يعني كل ذلك أننا نؤسس مفاهيم جديدة لطبقية جديدة، لكننا نؤمن بالتعددية بين العقول البشرية على طريق تكاملها. فلو افتقدت البشرية عامل التعدد، لكان من الممكن أن نتصوَّر وجود مجتمع وهمي يتساوى فيه أفراده بكل شيء. وفي مثل هذا الاحتمال سيشكل ذلك المجتمع عبئاً على نفسه، فتقسيمات العمل فيه من أهم ما يتميَّز به المجتمع البشري، وكذلك التقسيمات على مستوى الفكر والأداء الفكري.

تتكامل ثنائية «الجسد والروح» في الإنسان بفعل عاملين:

-الدولة حاجة ضرورية لتنظيم حياة الجماعات البشرية المادية، وهي بحاجة إلى حركة فكرية تخطط لها وتُغني وتجدد.

-جوانب الحياة الروحية للبشر تحتاج إلى حركة فكرية أكثر تعقيداً، لكي تُعنى بوظائف لها علاقة بالروح والنفس.

وإذا كان تنظيم شؤون الدولة يحتاج إلى حركة فكرية علمية واضحة، يتيسَّر للغالبية العظمى فهمها واستيعابها، فإن تنظيم جوانب الحياة الروحية تحتاج إلى نظريات فكرية أشد تعقيداً وأكثر تجريداً. ولهذا كان لا بُدَّ من وجود نخبة تضع تلك النظريات، التي قد يكون استيعاب مناهجها من المسائل التي لن تتيسَّر بسهولة لأكثرية البشر، فيتطلَّب واقع الأمر، أي الممكن، أن لا تُترَك النظريات العامة المجردة، سواء في مناهج المعرفة أو في مناهج الفكر، بدون وسائط فكرية تحوِّل المناهج المعرفية المعقَّدة، خاصة ما له علاقة بالروح والنفس وما يستتبعهما من معرفة القيم العليا المجردَّة، إلى مناهج يتيسَّر فهمها لدى الغالبية من البشر، أو غالبية أفراد الجماعة.

لكل ذلك نرى أن اختيار المنهج المعرفي الإيماني، وبالتالي المنهج الفكري الإيماني، لا يمكن اكتسابه لدى الأكثرية بسهولة، ولا يمكن التبسيط فيه لأنه سوف يفقده قوة العمق. كما أنه قد يُدنيه ويضعه تحت رحمة المبدأ النفعي في الثواب والعقاب. ولأن الفكر الديني السائد يربط الإيمان بثنائية «الثواب والعقاب» في الحياة الدنيا، وتقوم مرحلة حياة الإنسان في العالم الآخر على تلك الثنائية، فقد أصبح الإيمان الديني مرتبطاً بقانون المنفعة، كما أصبح بغاية من التبسيط، فتساوى المفكر والعامي في موازينه ومكاييله. ولهذا ارتبط مبدأ الإيمان، بوظائفه وأهدافه الدينية، بكثير من التعقيدات والعقد والإشكاليات، التي في أقلها ما يُولِّد المخاوف التي تدفع الإنسان إلى متاهات النفعية المادية، فتغيب في تلك اللحظة أهمية اللذة والسعادة اللتين يقطفهما المؤمن من ثنائية «الالتزام والإلزام».

فإذا وُجِدت الأديان، فمن أجل سعادة البشر، وليس من أجل تعاستهم. ونحن نرى، على قاعدة ما تمارسه، أنها في الوقت الذي تريد فيه أن تسهَّل طُرق الخلاص أمامهم زادت من تعقيداتهم النفسية في الحياة الدنيا، وهي قد تحيل حياة الإنسان إلى جحيم أرضي، بدلاً من أن تذيقه طعم السعادة.

فلو نجح الفكر الديني، والفكر الوضعي لا نستثنيه من المسؤولية، في التأسيس لبناء ثقافي يقوم على فعل الخير للحُسن الذي فيه ويبتعد عن الفعل السيئ للقبح الذي فيه، وأن يتيسَّر اكتسابه من قبل الأكثرية الساحقة من البشر، لأصبح في مسألة القيام بالواجب كالتزام بعيداً عن المنفعة الشخصية ما يثير في نفس الفرد سعادة داخلية لسبب واحد هو معرفته بأن ما يقوم به فيه ما يثير السعادة في نفس الغير من الجماعة التي هو عضو فيها، وتكون لها انعكاسات مماثلة على نفوس الغير من الجماعات الأخرى.

قد تكون أفكار من يعمل من أجل أن تكون وظيفة الإنسان، في خلال أداء واجبه على قاعدة استثارة السعادة الذاتية المبنية على استثارة سعادة الغير، أفكاراً وهمية أو خيالية/ طوباوية. ونحن نرفض طوباويتها لأنها متحققة بالفعل عند عدد من البشر، فمهما كان هذا العدد قليلاً فإنه يؤكد إمكانية حصوله ويبعده عن الاتهام بالطوباوية والاستحالة، فتلك الحالة موجودة في نفس الإنسان بـ«الفعل»، فإيجادها بـ«القوة»، وإن كان صعباً، إلاَّ أنه ليس مستحيلاً.

أما أن الانطلاق من إمكانية تربية الفرد أو أكثرية الجماعة على صورة ذلك المثال، لا يعني على الإطلاق أن نبني صورة لنظام كهذا على الفور ونبدأ بتطبيقه، بل لا بُدَّ من المرور بمراحل طويلة ومتواصلة نعمل من أجل أن نبني البشر المؤهلين لأن يكونوا نقطة التأسيس الأولى لصورة ذلك النظام على المدى الطويل.

واستناداً إلى أفكار لها علاقة بالتجريد النظري، وإلى أفكار لها علاقة بالتطبيق، نرى حول البُعد الإيماني الديني ما يلي:

لا يمكن أن يكون الكون قد وُجِد عبثياً. ولا يمكن أن يكون وجود الإنسان عبثياً أيضاً. ولا يمكن لعقل بشري أن يتصوَّر أنه يحيط بأسرار ما بعد الموت. ولا يمكن أن تكون ثنائيات الفكر جميعها، المبنية على التناقضات، هي عبث بعبث. أما إعطاء الدليل والبرهان حول إثبات ذلك، فلن نرى أنفسنا مؤهلين لمثل ذلك التفسير، لأن ما هو غير قائم على المحسوس لا يمكن إثباته ببراهين حسية تحمل إمكانية اليقين الكامل.

ولأن فكر ما وراء الطبيعة غير محسوس أو ملموس، فلا يمكن إثباته بأي منهج من المناهج، وإذا كان من غير الممكن إثباته عن طريق المنهج الحسي، فلا يمكن إثباته أيضاً عن الطريق الحدسي. ولأن خالق الكون هو مركز الدائرة في الفكر الحدسي، ولأن الحدوس الإيمانية متعددة وغير متوحدة الرؤى، فإننا نضع البعد الإيماني في قضايا ما وراء الطبيعة في دائرة الحدس الفردي والقناعة الفردية.

وعلى العكس من ذلك جاءت فكرة الدين على قاعدة الإلزام الجماعي تحت ذريعة أن ما أتى به الأنبياء والرسل كان بفعل إنزال إلهي وأوامر إلهية. ولهذا سلبت فكرة الدين حق الفرد بالاختيار، وألزمته بالانصياع إلى أوامر نخبة من البشر ينتحلون صفة تنفيذ الأوامر الإلهية. فأسقطوا طباعهم البشرية على صورة الإله الذي يدعون إلى عبادته ويحسبون أنهم يمثلون إرادته.

ونحن نرى هنا، أن الفصل بين شأن الدين كاختيار فردي حر، وشأن الدولة كإلزام منظِّم لحياة الجماعة القومية، مسألة أساسية تترك «لكل إنسان حق ممارسة طقوسه الدينية في العبادة وفق دينه ومذهبه وطريقته الخاصة»، على ألاَّ تعالج الدولة شؤون الحياة من طريق ديني ([37]).

فلا يمكن أن يُسمح بوجود تداخل «بين ممارسة الدولة لواجباتها وبين الدين»، لأنه لو حصل ذلك لتحوَّلت السلطة الحاكمة إلى «فرقة ضمن دين، أو فرقة ضمن أديان، أو ضمن طوائف»، وعندها سيتمزق الشعب. فالأولى، إذاً، أن يتم «عزل الدين عن السياسة»، والنظر إلى المواطنين سواسية «بغض النظر إلى اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وقومياتهم» ([38]). انطلاقاً من تلك المبادئ يقيس الحزب الإنسان «على أساس عمله» ([39]).



3-مناهج المعرفة متطورة بشكل جدلي مع اتساع رقعة المثقفين:

وعلى الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية دخلت في مراحلها الأخيرة حقل تطوير النظام السياسي، وعلى الرغم من أن الحركة الثقافية العربية دخلت مرحلة النهضة على أيدي مفكرين كبار، انتقلت البيئة المعرفية العربية من مرحلة النظام السياسي الإسلامي العثماني إلى مرحلة النظام السياسي الإمبريالي بخطوة سريعة.  وكان الانتقال نتيجة عمل عسكري وليس نتيجة  تطور معرفي طبيعي. ولم تترافق النقلة القسرية بنقلة ثقافية فكرية، بل انتقلت بغير إرادة وتخطيط ذاتي من الأمة.  فكان الانتقال من عصر إلى عصر آخر سياسياً أكثر منه فكرياً وثقافياً. فالانتقال المعرفي من التجميد إلى التجديد له أسسه وشروطه. ومن أهمها البدء في نقد الثقافة السابقة: استخلاص الإيجابي منها ورفض السلبي وتأسيس للبديل، بحيث تنعكس التغييرات على بنية الثقافة الشعبية. وبغير ذلك ينقطع حبل العلاقة بين الإنتاج الفكري الجديد وميدانه الشعبي.

كانت ثقافة الأمة إسلامية سطحية. وغالباً ما كانت ثقافة المذاهب الدينية هي السائدة، لا يميزها التجميد والتقليد فحسب، بل ومنع التجديد أيضاً. وكان إنتاج الثقافة خاضعاً لسلطتين: سياسية تقود ودينية تُخضع إنتاجها الثقافي، على قاعدة إخضاع النص الديني للفتوى من أجل مصلحة السلطة السياسية. فالسلطة السياسية كانت مثالاً في المركزية بحيث تحتل حماية أركانها مركز العناية الأول في القرار السياسي وفي استغلال ثروات الأمة. أما السلطة الدينية فكانت شكلية تؤدي وظيفة إخضاع الفتوى الدينية لمصلحة مركزية السلطة السياسية وديكتاتوريتها. وكانت السلطتان مندمجتان إلى الحد الذي لا تجرؤ فيه السلطة الدينية على الخروج عن إرادة السلطة السياسية ومصالحها. فأنتج تحالفهما منهجية معرفية تقوم على إخضاع التشريعات الإسلامية لمصلحة السلطة السياسية، ومُلزمة للمسلم بالتقليد والتلقين مستندة إلى روح النص الإسلامي في واجب إطاعة ولي الأمر.

قبل الانتقال بين العصرين، في الربع الأول من القرن العشرين، مهَّدت الإمبريالية لدخولها بتعزيز الإرساليات الأجنبية ودورها الثقافي في بعض زوايا المجتمع العربي. فمحتوى دور الإرساليات سواءٌ أكانت لأغراض تبشيرية دينية أم لأغراض سياسية اقتصادية تخدم المصالح الإمبريالية، كان وعاءً ينقل ثقافة أُعدَّت لمجتمع آخر غير المجتمع العربي. فتواجهت الثقافة القادمة مع الثقافة المقيمة على قاعدة أصولية جامدة. فلا الثقافة المقيمة نقدت قديمها ولا الثقافة القادمة أخذت الواقع العربي الاجتماعي الثقافي الخاص بعين الاهتمام.  وهكذا كان مشهد البيئة الثقافية، في مثل تلك المرحلة، منفعلاً إما بتقليد التراث من دون إغناء وتجديد، أو بنقل الفكر الغربي من دون نقد و تمحيص. ذلك السبب أدَّى إلى خوض صراعات مريرة بين التيارين. وقلائل هم الذين انخرطوا في التأسيس لورشة بناء معرفي جديد، ينقد التراث ويجدد فيه، ويستفيد من الفكر الغربي بما يتناسب مع خصوصيات المجتمع العربي. فكانت تلك القلة، ولا تزال، غريبة عن بيئتها لا تجد من يقف إلى جانبها إما خوفاً من التقليديين التجميديين تحت شعار الخوف من خيانة التراث، وإما اتهام من التغريبيين الذين يقيسون التقدمية بمكيال الثقافة المستوردة.

لذا غرقت الأكثرية الساحقة من النخب العربية في خطابية الشعار السياسي، لأنها تعتبر أن المهمة الأكثر إلحاحاً هي مهمة النضال من أجل إنجاز مرحلة التحرر الوطني. وفي غمرة الغرق في إنجازها، تجاهلت التيارات والأحزاب السياسية أهمية العمل الفكري ودوره، فغرقت في السياسة على حساب إنتاج الفكر العربي الجديد وتعميقه. وإذا كنا نعطي أولوية لمعركة التحرر الوطني، فنرى أيضاً أن القيام بالمهمة الفكرية لن يعيق معركة التحرر السياسي على الإطلاق وإنما يزودها بسلاح لا يقل أهمية وتأثيراً.

ولما هيمنت الثقافة السياسية على الحركة الثقافية التحررية، ولا تزال، افتقدت بوصلتها الفكرية وقلَّلت من شأنها، وأهملت العناية بمنهجية البحث الأكاديمي. وليس ذلك فحسب، بل  نال البحث الأكاديمي أيضاً بعض اللوم تحت حجة أنه خال من القلب ومن حرارة النضال.

إن العمل الأكاديمي هو فعلاً بلا عاطفة، لأنه لو حملها لمنعته من البحث عن الحقيقة المجردة، فالحقيقة إذا خضعت لمقاييس العاطفة لظهرت بمظاهر متعددة الألوان والأحجام، أما الحقيقة المجردة عن العواطف فهي الحقيقة الأساسية، وهي التي تعبِّر عن الكليات الإنسانية وليس عن الخصوصيات الفئوية. وإذا أغرقت حركة التحرر الوطني بخصوصياتها وأهملت العموميات الإنسانية فلن تجد ما يمنعها من الانحدار نحو التقوقع. ولن يشكل حلاً سوى أن تتحصن الإيديولوجيات بالفكر الإنساني. لذا نرى أنه يمكننا الاعتماد على البحث الأكاديمي والوثوق به، وبغيره تكون الحقائق غير مكتملة وغير واضحة، فهي إذا بقيت خاضعة للمصالح المحدودة تبقى عاجزة عن اكتساب أهدافها ووظائفها الإنسانية.

لا ينبغي أن يُفهم من دعوتنا إلى البحث عن الحقيقة المجردة، خاصة تلك التي لها علاقة بمشروع التغيير القومي، بأنها دعوة إلى إلغاء قيمة الحرارة التي يجب أن تتوفَّر للمناضلين. فإن قضايا الأمة، حتى تبقى ذات علاقة وثيقة مع عمقها الإنساني، لا بُدَّ من أن يخضع البحث عنها لمقاييس صارمة بالتجريد والتجرد عن الأهواء، ومن بعدها يأتي دور حرارة الإيمان بها.

لم تعط النقلة المفاجئة، التي واجهتها الأمة من حال إلى حال، الفرصة للقيام بما يُسمّى بمرحلة الانتقال الطبيعي في التفتيش عن الحقائق بتجرد، أي للانتقال بالأمة من مرحلة معرفية إلى أخرى، بل وجدت نفسها وجهاً إلى وجه مع خصم جديد، فراحت تعد نفسها لمواجهته، فكان السلاح المتيسِّر هو سلاح التعبئة الفكرية والسياسية حسب المناهج الإيمانية المكتسبة من عجينة الثقافات السابقة للعدوان الجديد. وإن ما أضاف قوة لتلك المناهج هو فشل التيارات التي استندت إلى نظريات جاهزة كانت سبباً لاتهامات نال منها التعقل والعمل الأكاديمي نصيبه من الاتهام بالقصور عن فهم طبيعة المرحلة الاستثنائية في حياة الأمة ومتطلبات النضال الاستثنائية.

ولما انتشر تأثير الحركات السياسية والحزبية ذات النظريات الجاهزة، ولما تكاثرت الدعوات المشبوهة لمهادنة الاستعمار الجديد تحت حجة غياب تكافؤ القوى، كانت الدعوات إلى تعبئة الأمة بمناهج الوجدان والضمير والمحبة قد أخذت تسن أسلحتها المنهجية، فبدا وكأن الأمة قد انقسمت إلى دعاة طوباويين والى دعاة علميين، فكانت أسلحة تلك المعركة تبدو وكأنها قائمة على الاستفزاز من خلال اتهامات يوجهها البعض إلى قصور مناهج الآخر.

فليس، إذاً، من منطلق التوفيق والمجاملة أن نقول بأن مناهج المعرفة السياسية تتكامل وتتعاون وتصبح أهدافها أكثر قرباً للتحقق إذا تكافلت تلك المناهج وتعاونت، بدءًا من معرفة الحقيقة العلمية المجرَّدة وصولاً إلى التعبئة والتحريض في سبيل إنجاز النجاح لتلك الحقائق التي لها علاقة بقضايا الأمة.

من بديهيات الأمور أن تستعين الحركات الثورية بشتى الوسائل الثورية لتحقيق أهدافها. ولأن مناهج الثورات تستفيد، في أحيان كثيرة، من طبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية لمجتمعاتها، فمن البديهي أن تكون دعائم الثورة البعثية، في بدايات تأسيسها، مستندة إلى طبيعة الثقافة التي كانت سائدة حينذاك، لكن على أن لا يشكل تكتيك تحريض الجماهير بمناهج محددة أن تكتسب صفة المناهج الجامدة الثابتة التي تصلح لكل زمان ومكان.

نلاحظ، من خلال مراقبة علمية، أن الطبقات المثقفة في الأمة، في المراحل الراهنة، تتحوَّل إلى مزيد من تجذير مستواها الثقافي والاتجاه به نحو المعرفة الأكثر عمقاً من السابق، السبب الذي يوجب على التيارات الثورية فيها أن تعيد صياغة وسائلها في التعبئة للنضال. فلا ضير، هنا، من أن نعمل على تعميق المعرفة إلى جانب العمل من أجل تغذية النضال بأكثر ما يمكن من الحرارة. فأسلوب الحب أولاً ثم المعرفة، لم يعد هو الأسلوب الوحيد لبيئة ثقافية جديدة . وإن أساليب التخويف من نقد المناهج الفكرية القديمة، ومن أهمها المناهج الدينية، لم يعد صالحاً، خاصة في هذه المرحلة التي انكشف فيها زيف أكثر التيارات الدينية الإسلامية الأصولية.

تلك البيئة الثقافية الجديدة، وانكشاف الغطاء عن حركات الإسلام السياسي، وكذلك انكشاف الغطاء عن الإسلام السياسي الرسمي، تشكل بدايات على الحركة القومية العربية أن تستفيد منها للبدء في تأسيس مرحلة لنقد الفكر الديني، الذي هو نقد للفكر المذهبي التفتيتي. على أن تبدأ المرحلة التأسيسية داخل حزب البعث على مستوى الإعداد لمشروع نقدي موضوعي يستهدف، في بدايته تعويد العقل البعثي على أسلوب النقد، كخطوة ضرورية لكي يكون أكثر وثوقاً بمبادئه الفكرية والسياسية.

كان الانتقال المعرفي انتقالاً سياسياً، بين معرفة تراثية تقوم على التقليد المُلزم إلى معرفة غربية وضعية.  فالغرب كان يريد الانتقال بنا إلى تقليد آخر. وهو نقل مناهجه بالمعرفة ليدلل على تخلف المعرفة العربية السابقة، وكأن المعرفة سلعة يمكن استعمالها من دون تعديل. فكثر المستوردون، وتكاثر المنبهرون بجودتها.  ولهذا انقسمت المناهج المعرفية إلى حدين متناقضين: إما منبهر بالمنهج الغربي الجديد، وإما متمسك بالمنهج القديم ، فسادت ثنائية «الغربة والتغريب».  وتناسى الطرفان أن مناهج المعرفة الغربية ليست ثنائية «الغزو والإشعاع»، إما أن تُؤخذ بكاملها أو تُرفض بكاملها. بل يمكن اعتبارها تراثاً إنسانياً أصبح ملكاً للإنسانية يمكن الاستفادة منه([40]).

كانت من أهم إشكاليات النقلة بين مناهج المعرفة والفكر أنها انتقلت بشكل قسري ومُفتعَل بين مرحلتين سياسيتين وفكريتين. كان من الطبيعي أن يتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى من خلال نقد المرحلة السابقة نقداً علمياً موضوعياً، على أن تأخذ المرحلة النقدية وقتها الكافي بحيث تتفاعل مع عقل الأمة وثقافتها، لأن الانتقال المعرفي إذا لم يجد له عمقاً كافياً في عقلها لا يمكن أن تتم ولادة المناهج المعرفية والفكرية الجديدة ولادة طبيعية.

طال انتظار البدء بمرحلة نقد مناهج المرحلة السابقة، وإن ظهرت، حتى في لحظتنا الراهنة، فإنها لا تخرج عن كونها خجولة خوفاً من سيف التقليديين، ورهبة من الاصطدام بعقول العامة السهلة الاستثارة والتحريض. وأصبحت المهمة النقدية أكثر صعوبة بعد أن أطلت الأصولية الإسلامية حاملة سيف التكفير. وقد تطول المسافة ويمتد الزمن أكثر إذا لم نعمل على ولادة الحركة النقدية اليوم قبل الغد، وتضيع من الأمة فرص الإسراع في التغيير. إن خوفنا من ضياع الفرص والوقت ناتج عن أن التغيير الحقيقي، خاصة على الصعيد المعرفي، لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، لأن من شروط نجاحه أن يتعمَّق في عقل مجموعات واسعة من الذين نذروا أنفسهم للتغيير، ولا يمكننا أن نتوهَّم بأن التغيير يمكن أن يتم من خلال بحث من هنا أو مقال من هناك أو محاضرة من هنالك، فالتغيير هي عملية تربوية مستمرة تستهلك، أحياناً كثيرة، حياة أجيال تتبعها أجيال.

فإلى دعاة تأخير المرحلة النقدية تحت ذريعة أن المرحلة غير مناسبة، لارتباطها بمرحلة التحرر الوطني والقومي خوفاً من انعكاس سلبياتها على علاقات القوى المتحالفة في معركة التحرر، نقول إن بيزنطية تسقط كل يوم ونحن لا ندري، وسقوطها غير مرتبط بالتفرغ لتحديد مسارات جديدة للفكر القومي. وهي غير مرتبطة أيضاً بمسألة الصراع الفكري، والصراع الفكري لا ينتظر وهو بالفعل غير منتظر، لأن الرجعيات التقليدية والأصوليات الإسلامية، لا تعطي الفكر القومي أية هدنة بل هي تصارعه في كل لحظة، فالفكر الأصولي يتابع معركته سواءٌ أعملنا على تجنبها أم لم نعمل.

أما من ناحية أخرى، فيمكننا ونحن نؤدي مهمتنا النقدية، أن يكون خطابنا مرناً وموضوعياً ووحدوياً. فانفتاح الخطاب السياسي ومرونته هو من المسائل المطلوبة ولكن ليس على حساب المبادئ. فالمبادئ، بالنسبة لتيارات التغيير هي أكثر من ضرورية، ووضوح المبادئ هو حصانة لها من الانحراف، لأنه على هديها يمكن تصحيح المسار إذا ما حصلت انحرافات، أما في ظلال غيابها فإنه لا يمكن تصويب المسارات هذا إذا لم نضيعها بالكامل.

فلا بُدَّ للفكر القومي من أن يكون حاسماً في خياراته الفكرية وإلاَّ فسوف يدع شتى تياراته السياسية تسير على غير هدى. وسينعكس التردد في حسم الخيارات على مسار الجماهير العربية ومواقفها. ولن تكون البنى الفكرية لتيارات التغيير بمنأى عن البلبلة.

تكون الجماهير، في الواقع، أقرب إلى سلوك الطريق الفكري الذي يتطلَّب عناءً أقل. وهنا يكون طريق الفكر الديني الغيبي أكثر قرباً  من عقول الجماهير لأنه لا يتطلَّب منهم سوى التصديق والتسليم. وفي هذا المجال يستطيع الأصولي أن يصل إلى قلوبهم بشكل أسرع وأيسر من السالك لطريق الفكر القومي. وهنا يفقد القومي التوازن في المقدرة على إيصال المعرفة الإيمانية مع الأصولي الذي يتقن فن تفسير الفكر الديني أكثر بكثير من الذي يقوم منهجه الفكري على المنهج العلماني.



4-ليس البعد الإيماني في فكر البعث دينياً بل بُعدٌ قيمي إنساني:

كثيراً ما نرى العلمانيين يُضفون على الإيمان أوصافاً دينية، فهم لن يستطيعوا الدفاع عن مواقفهم وأن يثبتوا عليها، والسبب أنهم لن يستطيعوا أن يكتسبوه بكفاءة  المتدينين، ويُخشى من أنهم إذا أرادوا العودة إلى منهجهم  العلماني من أن ينسوه، فيخسروا المنهجين معاً. فهم لن يُفلحوا في اكتساب الإيمان الديني بمهارة المتدينين، ولن يعمقوا أفكارهم الروحية على قاعدة علمانية توحِّد أبناء مجتمعهم بديلاً للتفرقة والتفتيت.

والأمر كذلك نرى من الضروري أن نميَّز بين الاتجاهين الدينيين: الديني ذو العمق الروحي الذي يفسر الكون والإنسان، و الديني السياسي ذي العلاقة بتطبيق ما يحسب دعاته شرائع الله على حياة البشر الدنيوية.

من المعروف أن الفكر الديني المذهبي أصبح بديلاً للفكر الديني، وأخذ يشكل خطورة على مسيرة المجتمعات القومية. ولأن على أرض العرب وُلدت كل الأديان السماوية، وهي نعمة روحية بلا شك، إلاَّ أنها ليست خالية من نقمة أيضاً. فكثرة الأديان على الأرض العربية ولَّدت كثرة في المذاهب. فتميزت بتعددية في الأديان وتعددية أكثر في المذاهب.

ولأن الإبقاء على تلك التعددية أو تقليصها ليست متيسرة لأية قوة، فقلتها أو كثرتها ملك يمين رجال الدين وحدهم، ولأن في التراجع خوفاً من الاصطدام مع الجماهير تسجيل لأكثر من نقطة انتصار للحركات السياسية الإسلامية كان لا بُدَّ للفكر القومي من الوقوف بعقلانية أمام تلك المخاوف لنرى هل هي مخاوف مشروعة وحقيقية أم أنها مجرد هواجس وأوهام؟

إذا كنا قد اعتنقنا الفكر القومي بسبب من صلاحيته في تأمين وحدة المجتمعات، فلا شك بأننا قد استندنا إلى أسباب واضحة ومقنعة. وما كان اعتناقنا له إلاَّ لأن الفكر السياسي الديني يفتقد عامل الإقناع. فلماذا نخشى، إذاً، أن نبرز عوامل الضعف فيه ونشدد على عوامل القوة في الفكر القومي؟

ومن بعض تلك الثغرات ما يلي:

-البديل للدولة الدينية دولة قومية علمانية. والسبب أن الدولة الدينية لا تشكل جامعاً مشتركاً بل مصدراً للتفتيت.

-البديل للتشريع الديني تشريع علماني. فالتشريع الديني مكبَّل بالمقدس، أما التشريع العلماني فهو عرضة للتجديد والإغناء آخذاً بالاعتبار مصلحة البشر في التطور. يرى الفقه الإسلامي أن ما جاء من نصوص في الكتاب والسنة هي نصوص تعبِّر عن الحقيقة المطلقة في كل زمان ومكان، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. لهذا حرَّموا نسخ أي حكم من أحكامهما. يفعلون ذلك على الرغم من أن متغيرات العلاقات بين الدول، ومن خلال التشريعات الأممية قد فرضت النسخ على كثير من أحكام الفقه الإسلامي.

أما معتنقو الفكر القومي، فلا يعتقدون بثبات أحكام الشرائع الدينية، وإلا لو كان العكس هو الصحيح لكان عليهم أن يرفضوا أية تشريعات أخرى غير التشريعات الدينية. ولأن الفكر القومي، نسخ الكثير من أحكام الشرائع الدينية، ومنها الإسلامية،أصبح لزاماً عليهم أن يقابلوا مسألة نقد الفكر الديني بكل جرأة ثورية.

فليس من الواقعي أن تكون أحكام الإسلام هي أحكام نهائية ومطلقة، وليس من الصحيح أنه لا يمكن أن تقوم أية مرجعية دينية بنسخ واحد أو أكثر من الأحكام التي وضعتها الشريعة الإسلامية. فالمرور من بوابة رفض أحكام دينية شرعية إلى اعتناق أحكام قومية وضعية لا يمكن أن يتم من دون معالجة قواعد  الناسخ والمنسوخ، المعمول به في الفقه الإسلامي، بنقد موضوعي. لأنه لو اعتقد القوميون بصلاحية تثبيتها لأصبح من غير الميسور لهم أن يتبنّوا شرائع أخرى غير الشرائع الإسلامية.

إنه بمقدورنا أن نستنبط من خلال النصوص والأحداث الإسلامية، التي واكبت حياة الرسول، أسباباً تدل على أن قواعد الناسخ والمنسوخ ليست ثابتة على الإطلاق، بل إنها تعني التجديد وليس التجميد(*).

كما أن ما يدفعنا إلى الاقتناع، ولو بشكل نظري، بأهمية تأسيس فكر قومي متميَّز عن الفكر الديني، هو أن الحركة الفكرية التجديدية إذا لم تتميَّز عن الحركة الفكرية السابقة، وإذا لم تقترن بجرأة وثورية في التبشير، أي إذا بقيت تدور في فلك الحركة السابقة، فلن تشهد التيارات القومية تقدماً يُذكَر وسوف تبقى أسيرة لرغبات الجماهير، فبدلاً من أن تقودها نحو آفاق فكرية جديدة، ستكون منقادة لثقافة الجماهير تحت حجة منع الاصطدام بها([41]).

***





([1]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (ج 1): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1985م: ط2: صص 412 422.
([2]) د. جميل صليبا: المعجم الفلسفي (ج1): دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1982م: ص 325.
([3]) م. ن، ص 230.
([4]) صدام حسين: «حديث  (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 84.
([5]) صدام حسين: «حديث في 1/ 12/ 1977م) » : م. س: ص 93.
([6]) ميتز،آدم: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري(م1): مكتبة الخانجي: القاهرة: ط4: 1967: ص 381-384. نقله إلى العربية محمد عبد الهادي ريدة.
([7]) راجع بحثنا الردة في الإسلام: دار الكنوز الأدبية: بيروت: ط2: 2000: الفصلين الثالث والرابع.
([8]) الرحموني، محمد: الجهـاد: دار الطليعة: بيروت: ط 1:  2002: ص 97.
* راجع بحثنا المنشور في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: دار الطليعة: بيروت: 2000م: ط1: الفصول الأول والثاني والثالث.
* راجع البحث نفسه: الفصل الخامس.
([9]) عفلق، ميشيل: «في ذكرى الرسول العربي» (188 - 197): م. س: ص 193.
([10]) م. ن، ص 190.
([11]) م. ن، ص 189.
([12]) م. ن، ص 194.
([13]) نضال البعث (الجزء الأول): دار الطليعة: بيروت: ط4: 1976: ص 27-28.
([14]) م. ن، ص 194.
([15] مقاطع من كلمة عفلق الافتتاحية للمؤتمر القومي الأول»: نضال البعث (ج21): م. س: ص 34.
([16]) عفلق، ميشيل: «في ذكرى الرسول العربي»: م. س: ص 189.
([17]) م. ن، ص 190.
([18]) م. ن، ص 189.
([19]) م. ن، ص 191.
([20]) م. ن، ص 193.
([21]) م. ن، صص 193 194.
([22]) م. ن، ص 197.
([23]) يقول عفلق: «بدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام».
([24])«أصالة الأمة قوة نضالية متجددة / 19-1-1976م» (20 - 35): ميشيل عفلق: الكتابات السياسية الكاملة (ج3): م. س: ص 21.
([25]) م. ن، ص 26.
([26]) م. ن، صص 26 27.
([27]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 87.
([28]) صدام حسين: 30/ 11/ 1988م: الأعمال الكاملة (ج 18): م. س: ص 68.
([29]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام القومي (في 11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 18.
([30]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 88.
([31])«كلمة صدام حسين في افتتاح المؤتمر القومي الثاني عشر / أواخر العام 1992م» نضال البعث (ج 21): م. س: ص 1127.
* راجع بحثنا «إشكالية العلاقة بين الفكرين الديني والقومي» المقدَّم إلى ندوة بيت الحكمة في بغداد بتاريخ 28 29/ 9/ 2002م.
([32]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام القومي (في 1/ 12/ 1977م)» (91- 97): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ): م. س: ص 93.
([33]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 87.
([34]) م. ن، ص 87.
([35])«كلمة صدام حسين في افتتاح المؤتمر القومي الثاني عشر»: م. س: ص 1128.
([36]) راجع  بحوثنا التالية:
 1-بحثنا المقدَّم إلى ندوة عن الفكر القومي في بيت الحكمة بغداد، بتاريخ 28 29/ 9/ 2002م، تحت عنوان «التحديات والإشكاليات التي تواجه الفكر القومي: إشكالية العلاقة بين القومية والدين».
2- في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: دار الطليعة: بيروت: 2001م: ط2: الفصل السادس.
3-الردة في الإسلام: م. س: الفصل السادس: حركة الإخوان المسلمين.
([37]) صدام حسين: حديث صحفي بتاريخ 20/12/1979م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 5): ص 263.
([38]) صدام حسين: حديث صحفي نُشر في جريدة الثورة العراقية بتاريخ 24/ 6/ 1987م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 15): م. س: صص 393 394.
([39]) صدام حسين: بتاريخ 10/ 1/ 1988م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 16): م. س: ص 376.
([40]) راجع بحثنا، في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: م. س: ص 238 2667.
*  راجع بحثنا، عن الناسخ والمنسوخ، في كتاب مفاهيم إسلامية بمنظار قومي معاصر: دار الطليعة: بيروت: ط1: 2003.
([41]) م. ن، راجع بحثنا «إشكالية العلاقة بين القومية والدين».

ليست هناك تعليقات: