على أرضية نتائج الصراع
الدائر في العراق
سينحدر مشروع الشرق الأوسط
الجديد أو سيستمر في الصعود
في شهر حزيران
من العام 2006، نشر رالف بيتزر، جنرال أميركي متقاعد، في مجلة القوات المسلحة
الأميركية، مقالاً تحت عنوان: (حدود الدم: كيف سيبدو الشرق الأوسط بصورة أفضل؟).
وهذا ما سلَّط
الأضواء على مضمون المقال، وأثار الأسئلة في حينه عن أهدافه ومراميه، وبالتالي كان
التساؤل الأكبر حول جدية المشروع وإمكانية تطبيقه.
ارتفعت كل تلك
الأسئلة على الرغم من أن مظاهر التطبيق كانت واضحة منذ احتلال العراق، خاصة أن
الولايات المتحدة الأميركية أعلنت وبشكل سافر تنسيق خطوات احتلالها للعراق مع
إيران. وهذا ما لم يكن يشد انتباه أكثر الدول العربية المشاركة في عملية الاحتلال
تلك. ولكن قلة هم الذين وضعوا أهداف التنسيق
المذكور في
سياق مشروع استراتيجي له علاقة وثيقة بإعادة ترسيم مستقبل الوطن العربي بعد أن
أثبتت تقسيمات سايكس – بيكو عجزها عن إلغاء فكرة القومية العربية. وكثرة هم الذين توقفوا عند
أهداف مرحلية تعيد فيها أسباب التنسيق بين الإدارة الأميركية والنظام المذكور إلى
أسباب إيرانية ثأرية تاريخية قديمة وتاريخية معاصرة.
وأما لماذا
تمَّ تسليط الأضواء بشكل واضح على ذلك المشروع في العام 2006، ولم يكن قبل ذلك؟
وجواباً على هذا فليس من قبيل التخمين، بل من خلال الفرضية العلمية، أن نربط مظاهر
فشل الاحتلال الأميركي للعراق، وانخراط أميركا في الوقت ذاته بمفاوضات جدية مع النظام
الإيراني لاستلام العراق بعد خروج القوات الأميركية منه. بحيث إذا خرجت فعلى
الإدارة الأميركية أن تضمن استمرار تنفيذ المشروع الأم، مشروع (حدود الدم) الذي من
أجله احتلت العراق، وهي لن تجد أكثر أمناً وضماناً لاستمرار المشروع من إبقاء العراق
تحت قبضة النظام الإيراني، وذلك يعود إلى أن استراتيجية ذلك النظام هي العمل على تقسيم
الأقطار العربية وتفتيتها إلى دويلات طائفية، لأنه بغير التقسيم لن يستطيع التسلل
إلى أي بقعة في الوطن العربي سيما وأن الخميني أعلن (مبدأ تصدير الثورة) منذ وصوله
إلى الحكم.
(حدود الدم)
مشروع قديم
وأما دور
الولايات المتحدة الأميركية في التركيز على المشروع المذكور فقد بدأ في عهد الرئيس
الامريكي الاسبق جيمي كارتر (1977-1987)، الذي في ولايته تم وضع مشروع تفكيك
المشرق العربي، وتم وضع هذا المشروع في عهدة برنارد لويس الذي كان كان مستشاراً
لوزير الدفاع لشؤون الشرق الاوسط، ومن وزارة الدفاع قام برنارد لويس بوضع أسس تفكيك الدول العربية
والاسلامية.
وضع برنارد
لويس خطته على أساس تقسيم وتفكيك الدول العربية والاسلامية الى دويلات على أساس
ديني وعرقي ومذهبي وطائفي، وأوضح ذلك بخرائط حدَّد فيها التجمعات العرقية
والمذهبية والدينية التي على أساسها يتم التقسيم. وسلم برنارد لويس المشروع إلى
بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر. وفي جلسة سرية
في العام 1983، وافق الكونجرس الامريكي بالإجماع على خطة برنارد لويس.
وبذلك يعود تأسيس التنسيق الأميركي – الإيراني إلى
ذلك التاريخ، أي أن مبدأ تصدير الثورة في إيران الخميني تتساوى مع مبدأ كارتر الذي
وضعه برنارد لويس وأقرَّه الكونغرس الأميركي. وإلى ذلك، فقد نشرنا دراسة في 6/ 1/
2006، تحت عنوان (هل
إيران شريك في صفقة تمرير سايكس بيكو الجديدة؟)، وقمنا بتأصيل إيديولوجي لأوجه التطابق بين المشروعين.
احتلال العراق
نقطة البداية في تطبيق مشروع قديم
لم يكن المشروع
سرياً، خاصة بعد أن تسرَّبت المعلومات من البنتاغون، حينذاك خاطب دونالد رامسفيلد
المجتمعين لإقناعهم بأهمية العراق والبدء باحتلاله، واصفاً إياه بأنه يمثل مركز
الدائرة في موقعه الجغرافي، الذي إذا ما انهار فستنهار الدول المحيطة به كمثل
أحجار الدومينو التي ما إن ينهار أحدها فستنهار الأحجار الأخرى. وتلته تصريحات الصقور في إدارة جورج بوش، بعد
احتلال بغداد مباشرة، الذين وصفوا احتلال العراق بأنه الخطوة التي إذا لم تُستكمل
بأقطار عربية أخرى، فكأنَّ الإدارة لم تفعل شيئاً. وهكذا دواليك،...
ولترغيب
حلفائه، والحصول منهم على الدعم والإسناد في احتلال العراق، وفي آذار من العام 2004
م، طرح الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش على مجموعة الدول الصناعية الثمانية مشروعاً
أطلقت عليه الادارة الامريكية "مشروع الشرق الاوسط الكبير"، وينص هذا
المشروع على إنشاء منطقة واسعة تضم كامل العالم العربي بالاضافة الى تركيا،اسرائيل،
ايران، باكستان و افغانستان.
ومن بعدها جاء
مقال الجنرال رالف بيتزر، المشار إليه أعلاه، لتنشره مجلة أميركية تنطق بلسان
وزراة الدفاع الأميركية.
التحالف
الأميركي – الإيراني يخوض معركة الدفاع الأخيرة عن مشروع (حدود الدم)
وإذا كان تطبيق
المشروع قد تأجَّل تنفيذه بسبب شراسة المقاومة الوطنية العراقية، إلاَّ أن التحالف
الأميركي – الإيراني رسم البنى الدستورية لخرائط التنفيذ خاصة باعتبار
تقسيم العراق إلى فيديراليات ثلاثة مبدأً دستورياً، فإن الإدارة استأنفت التنفيذ في
بداية العام 2011، أي جاء مترافقاً مع الإعلان عن بدء (الربيع العربي).
فمنذ الانطلاقة
الأولى لـ(الربيع)، تأكد أن عرابه كان هنري برنار ليفي، المفكر الصهيوني الفرنسي
الهوية. وأصبح من الواضح بعد توالي أعمال
التخريب في بنى عدد من الأقطار العربية أن (الربيع العربي) هو التسمية الحركية
لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وما الشعار المرفوع (الديموقراطية في مواجهة
الديكتاتورية) سوى الغلاف الأكثر جذباً للعواطف والأماني عند المجتمعات القطرية
العربية. وما إطلاق مصطلح (الثورات الشعبية) سوى الغطاء الخادع لكل المجنَّدين من
أجل القيام بالتخريب. وهكذا تسير قافلة مشروع الشرق الأوسط الجديد على خطى ما أطلق
عليه رالف بيتزر مصطلح (حدود الدم). وما خطوط النار التي تفصل بين المتقاتلين،
أينما وجدت في الأقطار العربية، سوى (حدود الدم) التي رسمت إلى حد بعيد حدود
الدويلات الطائفية التي يعمل أصحاب المشروع على تحويلها إلى حدود فعلية في نهاية
الأمر.
المشروع غير
قابل للتطبيق إذا لم يكتمل مشروع تقسيم العراق
ولأن العراق يمثل التجربة الأولى، والتي على ضوء نتائج الصراع الدائر الآن
على أرضه، سيتم البدء في إعلان الدويلات في كل قطر تدور على أرضه الصراعات
الدموية. وما لم تنجح التجربة في العراق فإن تنفيذ التقسيم في الأقطار الأخرى يصبح
على درجة عالية من الصعوبة.
عود على بدء،
نعيد التذكير بما قاله دونالد رامسفيلد قبل احتلال العراق، لنستنتج بأن الأحجار
الأخرى لن تنهار في لعبة الدومينو إذا لم يتم تقويض المركز العراقي، بمعنى أنه إذا
كانت بعض الأقطار العربية التي لم تنهار دفاعاتها أمام الهجمة الأميركية وتصل
خاتمة الأحداث فيها لمرحلة التقسيم الفعلي، فلأن العراق ما يزال عصياً على التقسيم
وأما السبب فكامن في استمرار المقاومة العراقية. فالمقاومة بهذا المعنى تؤدي غرضين
استراتيجيين حتى الآن، وهما:
-عرقلة المشروع الأميركي – الإيراني في
الوصول إلى خاتمة سعيدة. والمقاومة العراقية مصرة على القضاء على المشروع كاملاً،
ويصبح هدفها أقرب للتحقيق إذا ما انضافت جهود عربية ودولية أخرى إلى جهودها.
-إبعاد كأس مرارة التقسيم والتفتيت عن الأقطار العربية الأخرى.
وإذا لم يحصل التقسيم في تلك الأقطار حتى الآن، فلأن الحجر المركزي في لعبة
الدومينو لم ينهار حتى الآن.
وأما حول الغرض
الأول، ومن أجل إزالة أهم العراقيل من أمام استكمال تنفيذ مشروعيهما، لا يمكننا أن
نتصور بأن الحليفين، الأميركي والإيراني، بأنهما وتحت مظلة خادعة (محاربة إرهاب
داعش)،
سوف يوقفا اعتداءاتهما الهمجية
المشتركة على المناطق العراقية المستهدفة والتي تمثل المحافظات الست رأس الحربة في
منع تقسيم العراق. وتصب المعارك الدائرة الآن حول الفلوجة أهم مظاهرها. ولهذا
فإنهما سيصران على الطرق على حديد المقاومة تحت ذريعة (محاربة الإرهاب)، ولن يدعاه
يبرد. وما زعمهما أن الفلوجة تخضع لسيطرة (الدولة الإسلامية) سوى ذرٍّ للرماد في
عيون الرأي العام العالمي والعربي.
وأما حول الغرض
الثاني، وإن مُنعت مرارة التقسيم عن الأقطار العربية التي اندلعت النيران فيها على
قواعد مشروع (حدود الدم)، فلن تستريح مهما بدا للعيان من مبادرات دولية وعربية لإطفاء
الحرائق فيها، وسوف تستمر المعارك في التدمير حتى يلين حديد المقاومة في العراق
ويصبح تقسيم العراق ميسوراً. وإن الرهان على حلول سياسية أو عسكرية ليست بأيدي
المتصارعين من أبناء الوطن الواحد بل هي بأيدي من يمتلك القرار، لأن من أشعل النار
ويزودها بالوقود لن يعمل على إخمادها طالما بيده قرار الحرب والسلم، وأما السبب
فلأن قرار الحرب والسلم مرتبط بمن يمتلك الإمكانيات المادية والسياسية والعسكرية
التي يسخو في تقديمها للمتقاتلين، وهو لن يقدمها إلاَّ للذين يذعنون لأوامره. كما
أن المراهنة على انتصار القوى المحلية عسكرياً في الصراع الدائر، وليس القوى
الخارجية من أفراد ومجموعات، هي في موقع الاستحالة، لأن الحل هو قرار سياسي أولاً
وأخيراً، ومضمونه أن تتغلَّب عند القوى المحلية مصلحة الأمن الوطني على أي أمن
مطلبي آخر، ولهذا موجباته التي لن تكون بأقل من تحرر الأطراف المحلية من المساعدات
الخارجية التي تغدقها القوى الدولية والإقليمية لتوظيفها من أجل مصالحها الخاصة.
ولأن حصول أي تطور على هذا الصعيد يُعتبر صعب المنال، لكن هذا أيضاً لا يجيز
إغفاله والدعوة إليه، والنحت في زواياه.
لنجاح مشروع
المقاومة الوطنية العراقية لا بُدَّ من عوامل إسناد جدية
ولهذا كله فإن
المراهنة على حلول هنا أو هناك من دون إقفال البوابة العراقية سيكون مضيعة للوقت،
ومراهنة على السراب. وليكن في العلم أن كأس المرارة سيظل ماثلاً أمام الجميع،
أنظمة وقوى وحركات وأحزاب، حتى يتم تجطيمه على أبواب بغداد، وأبواب بغداد وحدها.
وإذا كان مشروع
المقاومة العراقية يستند إلى مبادئ وثوابت وطنية عراقية وقومية عربية، فإنما يأتي
في المقدمة منها تحرير العراق من الاحتلال وعملائه بغض النظر عن أشكالهم وألوانهم،
وبناء نظام وطني حر مستقل أعلنت المقاومة العراقية مواصفاته، وشروطه وخطوات الوصول
إليه، بشكل صريح وواضح. وهذا يقتضي التفافاً شعبياً عراقياً واسعاً، فمن البديهي
أن تنخرط كل القوى الوطنية والقومية والإسلامية في العراق في بناء حلقات من
الجبهات على مستوى العراقيين في المهجر، وفي الداخل على المستوى الوطني الشامل،
كما على مستوى المحافظات والأقضية والأحياء في المدن.
وإذا كانت
بوابات العراق مفتوحة لكل أنواع تهديد الأمن القومي العربي، فمن البديهي أن تلتف
جهود الأنظمة الرسمية والحركات الشعبية فيها حول تقديم الدعم للمقاومة الوطنية
العراقية وإسنادها بكل الإمكانيات، وبكل الوسائل والسبل المتاحة، وتذليل الصعوبات
أمام السبل غير المتاحة.
وهكذا، فمن
العراق انطلق مشروع (حدود الدم)، وعلى تراب العراق يجب تحطيم موجاته وتكسيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق