إذا تكسَّر الجناح التركي
لمشروع (حدود الدم)
فسيختل توازن الاندفاعة الأميركية
الفارسية
والسؤال المطروح هو ماذا يمثِّل تكسير الجناح التركي في
ثنائية استغلال أميركا لإيران وتركيا في تنفيذ مشروع (حدود الدم)؟
ولأن هدف المشروع إعادة تفتيت الوطن العربي إلى دويلات
طائفية،
ولأنها لن تعيش إلاَّ إذا كانت محمية إقليمياً، إيرانياً
وتركياً، رُسم لتركيا وإيران دور في التنفيذ وحصة في الوطن المفتَّت.
ولأن سياق الأحداث أكَّد ضلوع الدولتين في تنفيذ المخطط.
ولأن المستفيد الأساسي منه هو الولايات المتحدة
الأميركية، والمستفيدين الثانويين هما تركيا وإيران، يكون للمشروع قواعد ثلاث إذا
اهتزَّت إحداها يتهدد المشروع بالانهيار.
ولأن تركيا وإيران مشمولتان بمشروع التفتيت، كانت
مراهنتنا على أن إحساسهما بالخطر سيؤدي إلى انسحابهما من تنفيذه.
ولأن مواقف إيران ثابتة حتى الآن بالتواطؤ مع أميركا،
وهي لم تستشعر بالخطر. وعلى العكس من المواقف الإيرانية أكَّدت الأحداث الجارية أن
تركيا سائرة باتجاه التراجع عن تنفيذ المشروع لأسباب تمسُّ بأمنها بعد أن استشعرت
بخطورة قيام إقليم كردي في شمال سورية مدعوم من أميركا. ولأن التراجع التركي يشكل
خطورة عليه كمشروع استراتيجي استعماري، جاءت أنباء الانقلاب في تركيا منذ منتصف
شهر تموز الماضي لتؤكد أن أميركا لا يمكنها أن تتحمل الخسارة إذا انسحبت نركيا،
فأمرت عملاءها بإزاحة أردوغان عن مركز القرار ونقل النظام التركي إلى أيدي أولئك
العملاء. ولأن الانقلاب أصيب بالفشل ظهرت إلى العلن خفايا الدور التركي الذي كان
يشكل القائمة الثالثة في تنفيذ مشروع (حدود الدم). وحيث إن ما حصل يؤكد أن المشروع
أصبح أعرجاً، وليس هناك ما يعوض دور القائمة التركية، نعتبر أن هناك متغيرات
استراتيجية جديدة أخذت تعرقل مسار التنفيذ. وبناء عليه يمكننا المراهنة على فشله
إذا لم يحصل ما يثبت ذلك. ويمكننا البدء من الفرضية التالية:
المتغير التركي حلقة من سلسلة متغيرات سيؤدي
إلى تراجعات كبرى أمام المشروع الأميركي
-سلسلة المتغيرات التي سبقت المتغير التركي:
1-المقاومة الوطنية العراقية:
في كل مرة نحلل فيها أوضاع العراق والوطن العربي لا يجوز
إغفال الحقيقة الثابتة التي تؤكد أن المقاومة الوطنية العراقية هي التي دقَّت أول
مسمار في نعش المشاريع الأميركية، وكل متغير آخر لم يكن ليحصل لولا الدور التاريخي
الذي لعبته، وما زالت تلعبه، المقاومة الوطنية العراقية، التي بالإضافة إلى إلحاق
الهزيمة بالاحتلال الأميركي، فإنها عرقلت استكمال مؤامرة تقسيم العراق. وقزَّمت
كذلك من الهالة الأسطورية للقوة الأميركية التي باتت دول العالم تظهر الخضوع لها
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومما يجدر ذكره هنا، أن هزيمة أميركا في العراق قد
غيَّرت إلى حد بعيد في استراتيجية (الضربات العسكرية المسبقة) التي طبَّقتها إدارة
جورج بوش الإبن، ونقلتها إدارة أوباما إلى وسيلة القفازات الحريرية الناعمة. ولهذا
فعلى العالم أن يدين للمقاومة العراقية بفضل إرغام أميركا على التراجع عن نزعاتها
العسكرية المباشرة.
2-الفيتو الروسي في القضية السورية دقَّ المسمار الأول
في نعش القطبية الأميركية الواحدة:
بعد سبات دام عشرين عاماً، أعقب انهيار الاتحاد
السوفياتي، فاجأت روسيا، وريثته، الولايات المتحدة الأميركية، في شهر تشرين الأول
2011، باستخدام حق النقض الفيتو لإجهاض قرار باستخدام القوة ضد النظام السوري تحت ذريعة
كاذبة ترفع شعار (حماية المدنيين).
وبعد استرخاء الولايات المتحدة أمام هدف (نحو قرن أميركي
جديد) بعد إعلانها (نهاية التاريخ) وإعلان انتصار الديموقراطية الرأسمالية، جاء
الفيتو الروسي – الصيني ليصب على النار
الأميركية الحامية مياهاً باردة لتضعف شدة حرارته، بعد أن كانت المقاومة الوطنية
العراقية قد أعاقت تنفيذ المشروع الذي أعلنه الرئيس جورج دبليو بوش في خطابه في
أيار من العام 2003.
في ذلك التاريخ صرَّح أمام العالم قائلاً: إن
«معركة العراق مجرد نصر واحد في
حرب على الإرهاب وما زالت دائرة«. وحربه المزعومة على (الإرهاب) تعني كما اعترف «جورج تينيت»، مدير
وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حتى يوليو من العام 2004، في كتابه «في قلب
العاصفة»، قائلاً: إن إطاحة النظام الوطني في العراق كانت مقدمة لإحداث »نقطة تحول في
الأنظمة في الشرق الأوسط«.
وهذا
المتغير، بعد الإصرار الروسي على حماية ممره السوري الوحيد باتجاه (المياه
الدافئة)، سيفرض على أميركا إعادة شروط الاشتباك مع روسيا على قواعد (الحرب
الباردة)، بحيث لا تزيد من حالة التأزم العسكري، ومحاولة إيجاد تسويات سياسية في
بعض النقاط الساخنة بينهما.
3-المتغير
الخليجي - السعودي، دقَّ المسمار الأول في نعش علاقة الخضوع للإمبراطور الأميركي:
بعد
خضوع طويل للإمبراطور الأميركي، وبعد ثبوت صحة مبدأ أن مصلحة الولايات المتحدة
الأميركية هي فوق كل مصلحة، خاصة في تلزيم العراق لنظام الملالي في طهران، ظهرت
إلى العلن المواقف السعودية ضد الولايات المتحدة الأميركية. وراحت المواقف تزداد
ابتعاداً بعد أن تأكَّد للسعودية أن أميركا يمكنها التخلي عن حلفائها في سبيل
مصلحتها، إذ أكدَّت العلاقات الأميركية – الإيرانية أن الإدارة
الأميركية باعت تحالفها مع دول الخليج العربي، واشترت بدلاً منه تحالفاً
استراتيجياً مع إيران. والخطير في عملية البيع والشراء هو أن أميركا سلَّمت العراق
لإيران الأمر الذي جعلها تقف على أكتاف السعودية مهددة أمنها الوطني، وتتسلل إلى
أكثر من عاصمة عربية مُعلِنة قيام الإمبراطورية الفارسية.
هذا
المتغير لا يقلِّل من أهميته بقاء بعض دويلات الخليج خائفة من الغضب الأميركي
طالما أن السعودية، التي تشكل العامود الفقري للقرار الخليجي، ستبقى في حالة
اشتباك مع أميركا إذا ما أصرت الأخيرة على سياسة إفلات الحبل على غاربه لإيران في
المنطقة بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص.
كما
أن هذا المتغير سيبقى هاجساً كبيراً لدى أميركا، ولن يقلِّل من أهميته تحول اهتمام
أميركا إلى الشرق الآسيوي الأقصى، لأن أمن النفط وأمن (إسرائيل) لن تسبقهما أية
أولوية أخرى.
4-المتغيرات
التي حصلت بعد وصول الإخوان المسلمين إلى كراسي الحكم في مصر وتونس:
بما
يتناسب مع مقاييس مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أشار إليه جورج تنيت،
وبما
يتناسب مع استراتيجية التعاون مع (الإسلام المعتدل) التي رسمها أوباما في جامعة
القاهرة في العام 2009.
راحت
أميركا تفصِّل أثواب الأنظمة العربية، والحليفة لها بالدرجة الأولى، على مقاسات
ذلك المشروع. فابتدأت منذ العام 2011 بتغيير نظام زين الدين بن علي في تونس، ونظام
حسني مبارك في مصر لأن مواصفاتهما لا تنسجم مع تفتيت الوطن العربي إلى دويلات
طائفية، بل نظام يقوده الإخوان المسلمون هو المؤهل لهذا الغرض. وكان البدء بهما قد
ضلَّل المحللين لسببين رئيسين، وهما:
-السبب الأول: لم يكن بحسبان
أحد أن مشروعاً خطيراً ترعاه أميركا يمكن أن تبدأ في تنفيذه بإسقاط الأنظمة
الحليفة لها.
-السبب الثاني: على وقع
الإعجاب بأمثولة الـ(بو عزيزي) الذي أضرم النار بنفسه ضد بطش أجهزة الأمن
التونسية، خُيِّل لجميع المحللين أن ثورة شعبية فعلية قد ابتدأت، خاصة أن شوارع
تونس والقاهرة قد امتلأت بالجماهير الشعبية التي راحت ترفع شعار إسقاط الأنظمة
الديكتاتورية. وجاء الدعم الأطلسي الواضح لقيادة الحراك في ليبيا الذي شكَّلت
المخابرات الغربية قيادته، ووفَّرت لها ملاذاً آمناً في بنغازي، ليكشف الغطاء عن
الدور الأميركي في لعبة إسقاط الأنظمة.
وبوصول
حركة الإخوان المسلمين إلى كراسي الحكم في البلدين، التي حصلت تحت غطاء شرعية
الانتخابات النيابية، أخذت خيوط اللعبة تنكشف واحداً تلو الآخر.
وبإسقاط
حكمهم ابتدأت خيوط التناقضات تظهر واحداً تلو الآخر بين السعودية وأميركا.
5-المتغيرات
على الصعيد التركي أفقدت التوازن في الاستراتيجية الأميركية:
بعد
الذي حصل في تركيا منذ أوائل النصف الثاني من تموز، وقبله بقليل، وكان من أخطره المشاركة
الأميركية في التخطيط لانقلاب عسكري في تركيا، قطع نظام أردوغان كل الصلات مع
أميركا، إلى أن يثبت العكس، وهو ينذر بمتغيرات ستنعكس تأثيراتها السلبية على
التحالف الأميركي – الإيراني بصدد مشروع الشرق الأوسط الجديد، إذ أنه
لا يمكن الاستمرار فيه من دون قوائمه الثلاثة. وبعد خروج تركيا من المثلث أصبح
المشروع أعرجاً لن يطول الوقت حتى يتهاوى.
6-المتغير
التركي سيصبح حاصل جمع لكل الرياح الساخنة التي هبَّت في وجه أميركا:
ليس
ما يطفو على سطح الأحداث المتسارعة في الوطن العربي، وخاصة فيما يحصل على الساحات
العربية الملتهبة، يمثل كل الحقيقة، بل إن ما ترسمه الاستراتيجيات للقوى الأساسية
المشاركة في تلك الأحداث هو الجزء الأهم.
سوف
تتبدد مشاريع وتفاصيل، وتعلو مشاريع أخرى وتفاصيل أخرى. والخيط الاستراتيجي
الرئيسي، أي العامود الفقري الذي ستتمحور حوله التطورات اللاحقة، كما نحسب، هو
العمل على ترسيخ قواعد جديدة لترسيم نظام عالمي جديد خالٍ من الهيمنة الأميركية
الوحيدة. وليس أكثر دلالة على ذلك من استنهاض الدب الروسي من أزمة ما بعد انهيار
الاتحاد السوفياتي، ومن انقلاب حلفاء أميركا عليها.
إن
نظاماً عالمياً جديداً، بقيادة روسيا والصين، هو الذي يثبت واقعيته كل يوم أكثر من
اليوم الذي مضى. كما أن نظاماً إقليمياً جديداً، بعد خروج تركيا من النظام الذي
شكَّلته مرحلة تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، سيمهِّد لخلق توازانات أخرى في
وجه العنجهية الأميركية من جهة، والعنجهية الفارسية من جهة أخرى.
ففي
النظام العالمي الجديد لن يُترك العراق لقمة سائغة في يد أميركا، وفي النظام
الإقليمي الجديد لن يُترك العراق لقمة سائغة في يد إيران.
ولماذا
العراق؟
وأما
الجواب فلأن احتلال العرق كان مرسوماً له أن يشكل »نقطة تحول في
الأنظمة في الشرق الأوسط«، أي تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو الذي كان السبب في
تهديد الأمن القومي العربي. وسيكون عامل تهديد مستمر للأمن الإقليمي. ولا يمكن إزالة
التهديد سوى بإزالة أسبابه. ومن أهمها إسقاط حكومة الاحتلال في العراق لإسقاط
مشروع تقسيمه، ذلك المشروع الذي إذا استمر فسوف يسوِّغ بقاء النفوذ الإيراني في
جنوب العراق مهدداً أمن الخليج العربي، والاعتراف بقيام دولة كردية في شماله
تُستكمل بدولة كردية أخرى في شمال سورية مهددة أمن تركيا القومي.
بانتظار
ثبات أسس المتغير التركي، تبدو المنطقة بانتظار تحولات جديدة، نرى عوامل ظهورها
بارزة. والمرحلة القادمة قد تكون حبلى بالمفاجآت، ولعلَّ أهمها سيبدأ في مرحلة إطفاء
الحرائق التي تلتهم الأخضر واليابس في الحجر والشجر والبشر بعد أن يعود مشروع
تفتيت الوطن العربي إلى أدراج المخابرات الأميركية والصهيونية والإيرانية بعد أن
تدقَّ تركيا مسماراً في نعشه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق