استمرار الحروب الأهلية في
الوطن العربي
دلالات وأبعاد
في 6/10/2016
الحروب بأداة عسكرية هي وسيلة لفض النزاعات السياسية، فالعمل
العسكري إذن يرتبط بالأهداف السياسية، ولذلك لا يمكن تحليل أبعاده من دون ربطه بتلك
الأهداف، والتي من أجل معرفتها، لا بد من معرفة القوى المشاركة في الحروب وأهدافها
من المشاركة.
واستناداً إلى المقدمة يرتفع السؤال عن دلالات الأعمال
العسكرية التي تجري في معظم الأقطار العربية، وعن دلالات الفشل في الوصول إلى
نهايات لتلك الحروب. ولمحاولة تفسير ذلك، وبناء على المقدمة، علينا أن نحدد أهداف
المتحاربين، وتلك الداعمة لهم أيضاً، أي تلك التي، بشكل معلن أو غير معلن، تدعم الأطراف المشاركة فيها.
بمراجعة لملف تلك الحروب، الذي يعود إلى ما يقارب
السنوات الستة، نجد فيها تداخل حابل القوى الداخلية (النظام والمعارضة) بنابل
القوى الخارجية (الدولية والإقليمية). واستباقاً للنتائج نستطيع التأكيد أن القوى
الداخلية أصبحت الخيمة التي تختبئ تحت مظلتها كل قوى التدخل الخارجي، فتحولت
الأطراف الداخلية المتقاتلة إلى أداة تتقاتل باسمها القوى الدولية والإقليمية.
وإذا حسبنا، بحسن نية، أن المشاركين الوحيدين في القتال هم
قوى متقابلة من أبناء الوطن الواحد، ولكل طرف له أهدافه السياسية، وأن الدعم
الخارجي لا يتعدى مناصرة أهداف هذا الطرف أو ذاك، فهذا لا يعني، مهما بلغت بنا حسن
النوايا، أن الدعم الخارجي سيكون فعل خير ولوجه الله، بل لا بُدَّ من أن يقف وراء
الدعم هدف سياسي لهذه الجهة الخارجية أو تلك.
وبناء عليه، نستطيع تصنيف أهداف القوى الداخلية
المتحاربة، وكذلك أهداف القوى الخارجية الداعمة والمشاركة. فما هي أهداف الأطراف
الداخلية، وما هي أهداف القوى الخارجية، من استمرار الحروب التي تجري على أرض معظم
أقطار الوطن العربي؟
أهداف القوى الداخلية المتقاتلة
فإذا كانت أهداف الأنظمة الرسمية المحافظة على بقائها
بالسلطة على الرغم من تعسفها وديكتاتوريتها، فإن أهداف المعارضة الداخلية تتلخص
بإسقاط النظام الرسمي من أجل تأسيس نظام يعيد للشعب حقوقه، ويحرص على تحسين أوضاعه
الاجتماعية والصحية والاقتصادية، وهذا يعني أنه على النظام والمعارضة أن يحرصا على
البنى التحتية من التخريب، والمحافظة على ثروات الوطن من السرقة والنهب، ومنع كل
ما يؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي بين مكونات المجتمع الوطني. ولكننا لو قمنا باستعراض
نتائج الحروب الداخلية في كل الأقطار حتى الآن، لوجدنا أن ما دفعته من خسائر في
الأرواح والثروات، لا حصر لها. وقد تفوق التصور إذا استمرت تلك الحروب. فاستمرار
الحرب إذن لا يصلح أن يشكل وسيلة سليمة للحصول على حقوق الشعب، لأن حقوقه ليست
معزولة عن الثروات المادية ولا عن الوحدة المجتمعية لأبناء الوطن الواحد. وهذا ما
يقتضي أن يضع الطرفان حداً للحرب الداخلية، لأنها بدلاً من أن تشكل وسيلة سياسية
للحصول على الحقوق الشعبية، فإن نتائجها لن تُبقي في الدولة ما يمكن الخلاف عليه
بين النظام والشعب.
أهداف القوى الخارجية من استمرار الحروب
ولذلك يُطرح التساؤل التالي: ما دامت النتائج هي كذلك،
فلماذا الاستمرار فيها؟ وما هي الأهداف من وراء استمرارها؟ ومن هو الطرف الذي يضخ
الوقود على النيران لتزداد اشتعالاً؟
إجابة على ذلك، وإذا كانت الحرب، كأداة سياسية داخلية، فقدت
أهدافها، فإذن هناك من له مصلحة باستمرارها غير مكترث بما تلحقه من تدمير وتفتيت. وإذا
عرفنا أن استمرار الحروب التدميرية لا يمكن أن يُقدم عليها النظام على الرغم من
تعسفه لأنه لن يُبذِّر بمصلحة النخب الحاكمة، والشعب لن يُبذِّر بثروات هي ملكه،
فالتبذير فيها خسارة محققة لهما معاً. وهنا نتساءل: طالما أن النظر إلى هذه
المعادلة هي نظرة واقعية، فاستمرار الحروب ليست بمصلحة النظام ولا مصلحة الشعب،
فمن هي الجهة التي تعمل على استمرارها؟
لأن تغذية الحرب واستمرارها تتشكل من إمكانيات بشرية
ومادية وتسليحية، ولأن الشعب لا يملك تلك الإمكانيات، ولأن القوى الخارجية هي التي
توفِّر مستلزماتها، فلا يمكن إلاَّ أن تتوجه أصابع الاتهام للقوى الخارجية، لأنها
ليست جمعية خيرية تقدم خدماتها مجاناً لمصلحة الشعوب. وهذا ما يفسِّر مشاركة تلك
القوى، ويفسِّر واقع مصادرة قرار النظام والمعارضة ووضعها بين أيدي هذا الطرف
الدولي أو الإقليمي أو ذاك. فهي التي توقِّت استئناف القتال، وهي التي توقِّت
مواعيد إيقاف إطلاق النار، وهي التي تُعدُّ مسارح المفاوضات السياسية، وهي التي
تأمر باستئنافها وبإيقافها.
ولأن القوى الخارجية لها مصالح من خلال تغذية نيران
الحروب الداخلية حتى تحصل على حصة من نتائجها، سواء أكان على حساب النظام أم كان
على حساب المعارضة، وباختصار تكون على حساب الدولة كلها، شعباً ونظاماً.
ولأن تلك الخيرات المرتقبة ستفوق بملايين المرات أكثر
مما تتكبده تلك القوى من مساعدات تقدمها للأطراف الداخلية المتحاربة، هذا ناهيك عن
أن القوى الخارجية تقاتل بأدوات داخلية ولا تدفع دماً من أبناء جلدتها من جهة، كما
أنها تقاتل بمرتزقة ومأجورين، أو بمأفونين أصوليين من جهة أخرى.
وطالما أن الأمر الواقع هو كما صورناه، فلتطل الحروب إلى
سنوات بل إلى أجيال. هكذا هي استراتيجيات القوى الخارجية المشاركة للأطراف الداخلية،
وهذه الحقيقة هي التي أعلنتها الإدارة الأميركية منذ أن وصل اليمين الأميركي
المتطرف إلى قيادة الولايات المتحدة الأميركية. واستطراداً، فقد راجت استراتيجية
(الفوضى الخلاَّقة) التي بواسطتها ستنقل أميركا دول المنطقة إلى وضع جديد لا علاقة
له بالوضع القائم. ويقابل تلك الاستراتيجية ما يشابهها في بروتوكولات حكماء صهيون.
وهنا نسمي نوعين من وسائل إطالة أمد الحرب، تحت خيمة استراتيجية
(الفوضى الخلاَّقة)، وهما:
-النوع
الأول: ويشمل الأنظمة العربية التي استطاعت القوى الاستعمارية
أن تسقطها، ولكنها عجزت عن اجتثاث روح المقاومة فيها، كما عجزت عن تطبيق مخطط
تقسيمها، كما حصل في العراق. وللوصول إلى هذا الغرض، تعمل القوى الخارجية، أميركا
وإيران، على إبقاء الحروب فيها مستمرة بصيغة أو بأخرى حتى تضمن اجتثاث إرادة
المقاومة فيه من جهة، أو حتى تنضج ظروف تقسيمه من جهة أخرى. وهذا ما يساعدنا على
تفسير أبعاد معارك المدن في الرمادي والفلوجة، والموصل. ولأن أهداف التحالف
الأميركي – الإيراني، ليس تحرير تلك
المدن من داعش، كما يزعمون، بل استمرار الفوضى التي تحت دخان معاركها يستمر
التحالف المذكور بسرقة ثروات العراق من جهة، وتمهيد أرضية المجتمع العراقي لرفض
المقاومة والاستسلام للتقسيم من جهة أخرى. وما يحصل في العراق يحصل ما يشبهه في
ليبيا، حيث سيطرت القوى الخارجية على مصادر النفط. وطالما أصبح النفط الليبي تحت
إدارة تلك القوى، فليستمر الاقتتال إلى ما شاء المتنافسون في الداخل أن يقتتلوا طمعاً
بالاستيلاء على السلطة. وستبقى الحروب فيها مستمرة إلى أن ينضج مخطط تقسيمها.
-النوع
الثاني: وتشمل الدول العربية التي للقوى الخارجية أطماع في
إخضاعها كلياً لإرادتها، أو لضمان حصة لها في قرارها السيادي أو في ثرواتها، كما
يحصل في سورية، فمن مصلحة تلك القوى أن تستمر الحروب الداخلية إلى أن تحقق أغراضها،
وهذا ما تفسره معارك المدن النقالة بين معظم المدن السورية، التي هي في تقديرنا لن
تحسم النتائج لصالح أحد أطراف القوى الداخلية، أو أحد أطراف القوى الخارجية، بل هي
لعب في الوقت الضائع سيظل مستمراً طالما لم تحصل أميركا على حصة لها في سورية، أو
حتى تطمئن روسيا على سلامة مصالحها عبرها خاصة أنها ظلت ساحتها اليتيمة في منطقة
(المياه الدافئة). وما المبادرات السياسية التي تُطرح من وقت لآخر، ومنها اتفاقيات
وقف إطلاق النار، أو الدعوة إلى مؤتمرات سياسية في جنيف وغيرها، وهي كلها ليست الوصول
إلى حلول جدية في المفهوم الأميركي، بل للمراهنة على الوقت لعلَّها تحصل على حصتها،
وستبقى في موقع الهجوم على أرض ليست أرضها. بينما روسيا ستبقى في موقع الدفاع عن
حصة نظيفة لها، وهي لن تفرِّط بآخر أوراقها مهما بلغ الثمن.
الحرب في اليمن ذات أبعاد تحررية
فإذا كان استمرار الحروب على ساحات الوطن العربي الأخرى،
يهدف إلى تطويعها وتطبيعها وفرض مشاريع الخارج بعد أن تمَّت مصادرة إرادة الشعب
العربي في تغيير أنظمته السياسية، فإن الصراع في اليمن، منذ استيلاء الحوثيين على
السلطة، له أهداف أخرى تدور بين المحافظة على عروبته، أو إلحاقه بالمشروع الإيراني
الإمبراطوري. وبهذا يُعتبر الدور الخليجي في اليمن، ضمن تلك الأهداف، دوراً
استراتيجياً وقائياً من أجل حماية الأمن القومي العربي من جنوب الوطن، تكتمل
أهدافه في تحرير العراق من الاحتلال الأميركي – الإيراني، بحيث يتم إقفال بوابة الوطن الشرقية، لأن
إبقاءها مفتوحة سيشكِّل المنفذ الأكثر إيذاء للأمن القومي العربي من معظم البوابات
الأخرى.
إعادة النظر في مفاهيم الحروب المستمرة دلالات
وأبعاداً
وفي جميع تلك الأحوال ستبقى الحروب مستمرة، على قاعدة
مبدأ (الفوضى الخلاقة)، حتى ولو تمَّ تدمير البنى والمرافق العامة، إلى أن تصل
القوى الخارجية إلى مرحلة الاطمئنان على مصالحها.
عن ذلك صرَّح أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، منذ
تشكيل (التحالف الدولي للحرب ضد الإرهاب)، أن محاربة الإرهاب قد تطول لوقت طويل.
لقد بشَّرنا بطول المعركة طبعاً لأن جنوده لن يدفعوا بتلك الحروب دماً. صرَّح بذلك
في الوقت الذي وصل إلى البيت الأبيض على وقع وعوده بإخراج الجش الأميركي بالسرعة
الممكنة من نيران جهنم العراق. بينما هو الآن يقوم بحربه بالواسطة فلن يكون بعجلة
من أمره مهما استعرت نيران الحروب ومهما طال أمدها.
فالحرب في العراق الدائرة ضد ما يزعمون أنه الإرهاب في
محافظات الأنبار ونينوى، تأتي ضمن استراتيجة إطالة الحرب طالما لم يستطيعوا تدجين
المقاومة العراقية التي ترفض الإحتلال بكل وجوهه، وبكل أدواته. فهم وإن حرروا
الرمادي والفلوجة، وبعدهما الموصل، كما يزعمون. وطالما بقي تأثير للمقاومة
العراقية سيخلقون داعش من جديد باسمها الحالي، أو باسم جديد آخر، وذلك لكي يختلقوا
مبررات إطالة أمد الحرب، طالما لم تستقر الأمور كلياً لمصلحتهم.
وما يصح على العراق يصح أيضاً على الساحة السورية، وإن
كان لأغراض أخرى، ومن أهمها إما الحصول على كامل الحصة فيها، أو على الأقل الحصول
على حصة فيها كوتد جحا لإبقاء الطرف الروسي في حالة إرباك دائم، ولمنعه من أن يبقى
اللاعب الوحيد على تلك الساحة كما كان في السابق. ولكي يبقى في موقع الدفاع وليس
الهجوم، خاصة وأن روسيا حصلت على حصة لها في التركة الأميركية في كل من السعودية
وتركيا بعد تعكير صفو علاقاتهما مع أميركا.
وكما أن أرضنا وثرواتنا وأبناءنا ودماءنا تتعرَّض
للتدمير، فإن أميركا، راعية الإرهاب الأولى، تعاني من ندوب ونقاط ضعف كبيرة، وخاصة
مع حلفائها التقليديين، وهذا سيؤثر في توسيع الفتق في علاقات أميركا مع دول
العالم، فالنتيجة أن دورها في إشعال الحروب يميل باتجاه الفشل أمام إصرار العرب
على تحصين جدران أمنهم القومي، حتى ولو كانت محاولاتهم تسير ببطء شديد لا يتناسب
مع آلام الشعب العربي وشدة آلامه ومعاناته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق