نحو
تأسيس مفهوم للبعد الإيماني
في
فكر حزب البعث العربي الاشتراكي
(الحلقة الثالثة)
موقع البعد الإيماني في نصوص
المؤتمرات القومية:
ثالثاً: موقع البعد
الإيماني في نصوص المؤتمرات القومية:
1-لا تقترب
مقررات المؤتمرات القومية من ملامسة المسألة الدينية بأكثر من نقد للمذهبيات
الدينية، والإشارة إلى دورها السلبي في تفتيت المجتمع القومي الواحد.
ولم تتراجع مؤتمرات الحزب المتلاحقة عن أي
من هذه الاتجاهات، وإنما على العكس تماماً، فقد كانت الدعوة منصبةً دائماً على
تعميق أطراف المثلث الذي ذكرناه(القومية، الاشتراكية، سيادة الشعب)، مما يشير
بمقدار ما يعنينا إلى تجذير متزايد لعلمنة النظرية البعثية وتوفير مقدماتها
وشروطها وأسبابها. فقد أشار بيان المؤتمر الثاني، في 6-9 نيسان عام 1950، إلى أن «على
الحزب أن يزداد شدة في محاربة الرأسمالية والإقطاعية والرجعية وأن يدعو الجماهير
العربية إلى التمسك بالاشتراكية العربية وبالاتجاه التقدمي».
وتوالت بياناته، قبل الوصول إلى السلطة، تحذر من
خطر استغلال الدين من قبل الرجعيين وحلفائهم «فالحزب حرب على الطائفية والقطرية
والعشائرية» على حد تعبير بيانه
الصادر في 23 أيلول 1959. كذلك دعا المؤتمر الرابع، في آب عام 1960، وفي توصيته
الرابعة إلى ما يلي: «يعتبر المؤتمر
القومي الرابع الرجعية الدينية إحدى المخاطر الأساسية التي تهدد الانطلاقة
التقدمية في المرحلة الحاضرة، ولذلك يوصي القيادة القومية:
أ- علمانية الحزب، خاصة في الأقطار العربية
التي تشوِّه فيها الطائفية العمل السياسي.
بـ- إبراز التناقضات بين مصالح الفئات
الرجعية المتاجرة بالدين ومصالح الجماهير الشعبية.. ».
وتشير التوصية التاسعة إلى علمانية الحزب
بالاسم والتحديد كما يلي: «وجدت القيادة بعد دراسة الوضع في لبنان أن الفكرة
العربية تقترن في أذهان جزء من أبناء الشعب بالطائفية الإسلامية والتبعية
للجمهورية العربية المتحدة، لذلك تقرر أن أفضل سبيل لتوضيح فكرتنا القومية هو شرح
وإبراز مفهومها التقدمي العلماني... وعلى ذلك سيكون نضالنا في هذه المرحلة
مُركَّزاً حول تأكيد علمانية حركتنا ومضمونها الاشتراكي لاستقطاب قاعدة شعبية لا
طائفية من كل فئات الشعب وطبقاته».
واستمرت مواقف المؤتمرات
القومية على هذا النحو، وصولاً إلى المؤتمر القومي الثاني عشر الذي انعقد في أواخر
العام 1992م، عندما لم يقترب من الإشارة إلى البعد الإيماني الديني بأكثر من
اعتبار الدين ظاهرة روحية مواكبة لحياة البشر، واعتنى كالمؤتمرات السابقة بمعالجة
مخاطر الظاهرة الطائفية والمذهبية، ولكنه أفرد لها دراسة خاصة، عالج فيهاخطورة
الظاهرة الدينية السياسية تحت عنوان (الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية الدينية).ولتميزه
بتفصيل الأسس التي يبني عليها موقفه من البعد الإيماني سنولي تحليل نصوصه عناية
مستقلة:
2- البعد الإيماني في نصوص المؤتمر القومي الثاني عشر:
في
مقدمة الوثيقة تحت عنوان (الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية الدينية) حدد
المؤتمرالقومي الثاني عشر،مفهومه للبعد الإيماني في
فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، واعتبار الحزب متميزاً بمواقفه التالية:
1-(نظرته العميقة إلى الدين، كحقيقة أساسية خالدة في حياة
البشر).
2-(دور الإسلام الثوري الحضاري الإنساني المتجدد في حياة
العرب والمسلمين).
3-(الوحدة العضوية المصيرية بين العروبة والإسلام).
4-(إبرازه للأبعاد الروحية للقومية العربية، الأمر الذي
يفتقر إليه الفكر القومي العربي والمفاهيم الثورية التحررية والتقدمية المعاصرة).
واستناداً إلى هذه الأسس، ميَّز فكر الحزب بين (الظاهرة
الدينية) و(الظاهرة الدينية السياسية). فالظاهرة الدينية، كما ورد
في الوثيقة المذكورة، غالباً ما تبرز في ظروف القهر والخيبة والقنوط (كوارث
طبيعية، الحروب، الأزمات القومية..)، والتي يكون فيها البشر عاجزين، وفق ما هو
متاح لهم من وسائل، عن مواجهة تلك الظروف. وتتفاقم الخيبة عندما تعجز القوى الحزبية
أو الحاكمة، التي تقود المجتمع عن ابتكار حلول للأزمات بطرق علمية ومقنعة. فتنتكس
حركة الجماهير. ومن أجل استنباط تلك الحلول تغتنم الحركات الدينية السياسية فرصة
الفراغ في الثقافة الشعبية فتصوِّر لهم الحلول بالعودة (إلى الماضي لتستنسخه لا
لتستلهمه، .. بتطوير ما هو حديث وملائم للعصر.. وهكذا تتحول الظاهرة الدينية إلى
نوع من الشعوذة السياسية والدينية معاً). وبدلاً من أن تكون الظاهرة الدينية
عاملاً إيجابياً في تحفيز المجتمع نحو البناء الصحيح، تحوله حركات الإسلام السياسي
إلى عامل سلبي تستغله من أجل أهدافها الاستراتيجية في الدعوة إلى إعادة بناء
الدولة الدينية.
وفي
المقابل، عندما تتوغل الحركات الدينية السياسية في إظهار أوجه العداء ضد الدعوات
العصرية التي تنشط لتطوير المجتمع، يغرق الكثيرون ممن يعتنقون الفكر المعاصر،
وخاصة ممن يعملون من أجل بناء الدولة المدنية، في خطأ سلبي مماثل عندما يهاجمون
الدين، ويحمِّلون الفكر الديني وزر الأخطاء التي تقع فيها الحركات الدينية السياسية.
ولمنع
حركات التجديد من الانزلاق في متاهات الصراع الفكري السلبي مع الحركات الأصولية
السلفية، ولكي لا تُسقط أخطاء تلك الحركات على الظاهرة الدينية، دعا الحزب منذ
البداية إلى وضع الدين في موقعه الروحي الفلسفي باعتبار الدين حاجة روحية لكل
البشر منذ بدء التكوين وحتى الآن، إي نظر إلى الدين نظرة عميقة، واعتبره (حقيقة
أساسية خالدة في حياة البشر). واعتبارها خالدة، في أنها كانت ظاهرة شاملة لكل
المجتمعات منذ القدم.
ولأنها
استمرت حتى الآن، ولأنها ستبقى كذلك، كون الإنسان لا يمكنه أن يتخلى عن إشكالية
التفتيش عن مصيره بعد الموت، أي بعد موت الجسد، بما يعتبره الفكر الفلسفي ثنائية
(الروح والجسد) أي أن تكوين الإنسان ليس مادياً كله، ولا روحياً كله، بل جمع في
تكوينه بين الروح والجسد. لذلك دعا إلى احترام النزعة الدينية عند البشر.
ولأن
مواطني الدولة المدنية متعددو الانتماءات الدينية، اعتبر في دستوره (أن حرية
الاعتقاد مقدَّسة ودعا الدولة إلى حمايتها).
وأما
اعتباره الدعوات الدينية ذات الأهداف السياسية تمثل خطورة على الدولة القومية،
فلأنها تمتاز بخاصيتين:
-الأولى: أنها تدعو إلى بناء دولة دينية على أسس تجربة ما
قبل خمسة عشر قرناً مضت، وعلى مقاييس تشريعاتها، على مبدأ ما يعتبره دعاة تلك
الحركات (أن في الإسلام حل لكل مشاكل الإنسان في كل زمان ومكان)، أي بما
عبَّر عنه مؤسس البعث كاشفاً الرجعيين والانتهازيين والنفعيين الذين يريدون أن
يجعلوا من الإسلام: «جراباً يسع كل شئ، ومعملاً ينتج شتى المركبات والأدوية....
».
-الثانية: أنها تعتبر الإسلام هوية للدولة بكل تشريعاته
وقوانينه، وفيها الكثير مما يعتبره المنتسبون لأديان أخرى أنهم مواطنون من الدرجة
الثانية، يحق للمواطن المسلم ما لا يحق لغيره من مواطني الدولة من الأديان الأخرى.
درءًا
لهذه الإشكالية حصر المؤتمر القومي نظرته إلى الإسلام بدوره (الثوري الحضاري
الإنساني)، ولكنه الإسلام (المتجدد في حياة العرب والمسلمين). وبذلك
رفض أن تتدخل الدولة القومية في الجانب الإيديولوجي للأديان، ومنع رجال الدين من
التدخل في شؤون الدولة.
واستطراداً
حول تلك العلاقة، بين العروبة والإسلام، عندما يعترف المؤتمر القومي بـ(الوحدة
العضوية المصيرية بين العروبة والإسلام)، فهو يأخذ الجانب الثوري الحضاري
المتجدد، أي الجانب التاريخي في تلك الوحدة العضوية بما يمثله الإسلام من ثورة
كبرى وحَّدت ثقافة (الشعوب والقبائل) بالدعوة الإسلامية، وهي كدعوة دينية روحية
شكَّلت حافزاً كبيراً، في زمانها ومكانها، لتحرير الأرض العربية من نفوذ وسيطرة
أكبر إمبراطوريتين في تلك المرحلة، وهما: الإمبراطورية الفارسية، وإمبرطورية
الروم.
ولكي
يضمن سلامة وموضوعية مبادئه، في نظرته إلى الدين، ونظرته إلى علاقة العروبة
بالإسلام، ونظرته لأسس الدولة القومية، يضع الحل الاستراتيجي القائل بإبراز
الأبعاد (الروحية للقومية العربية). وهي الأبعاد التي ستشكل الركيزة
الأساسية في نظرة البعث للدين عامة، والإسلام خاصة. ولهذا اعتبر في دستور الحزب أن
(القومية حقيقة خالدة، وأن الشعور القومي شعور مقدس)، وبهذا يمكننا اعتبار
ما جاء في دستور الحزب مبدأً ثابتاً، وكل ما عداه مبادئ متغيِّرة تصب في خدمة
الثابت المحوري.
ولأجل
ذلك أعلن صدام حسين، منذ السبعينيات من القرن العشرين، بأن الحزب يحترم الإيمان
الديني، ولكن من دون أن يكون الحزب حزباً دينياً، كما أنه لن يتبنى الإلحاد.
فالحزب مع الدين ولكنه ضد تسييس الدين. وإذا كان الحزب يدعو إلى احترام المعتقدات
الدينية لكنه يرفض قيام دولة دينية، بل يصر على قيام دولة مدنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق