دراسة عن المسألتين الديموقراطية والعلمانية
(الحلقة الرابعة)
ثالثاً: الديموقراطية وتلازمها مع العلمانية
إذا كانت
التشريعات الدينية تستند إلى أصول نصوص مقدَّسة ناطقة باسم الله، يعني أنها
تشريعات إلهية مطلقة، كما يصفها رجال الدين، فلا يجوز للبشر أن يتدخلوا فيها، وأن لا
يجتهدوا فيها لأنهم بذلك يخالفون الأوامر الإلهية. ولأن لكل دين، سماوياً أكان أم
كان غير سماوي، له نصوصه المقدسة. ولأن معظم المجتمعات على مستوى الدولة الواحدة
متعددة الانتماءات الدينية، بل إن التعددية وصلت إلى داخل التجمعات البشرية الصغرى
على مستوى المدينة أو الحي أو الشارع أو حتى المبنى السكني الواحد، وهذا يعني أن
تداخل المقدسات المتناقضة يقود إلى أن تقوم كل عائلة بمفردها ببناء دولتها الدينية
لكي تحافظ على مقدساتها الخاصة. هذا غني عن القول يقود إلى ما يشبه ليس تفتيت
الكتلة إلى ذرات، بل تفتيت الذرات إلى أقل منها، الأمر الذي يؤدي إلى ما يشبه
التفجير النووي في داخل المجتمع الأكبر، فكيف يكون الحال إذا حصل هذا التفجير في
داخل الكتل الأصغر؟
من البديهي
القول باستحالة بناء الدول على قواعد وأسس الفكر الديني وتشريعاته. وهنا، لا بُدَّ
من اللجوء إلى المفاهيم الوضعية والاستعانة بها من أجل بناء دولة موحدَّة التي لن
تتم سوى بتوحيد التشريعات التي تساوي وتعدل بين شتى مكونات المجتمع مهما كان
عددها، ومهما بلغ حجم كتلة هذا المكون أو ذاك.
من أجل التفتيش
عن حل لتلك المعضلة، وإذا رحنا نفتش في ذاكرة الفكر الإنساني وفي تجارب البشرية
الحديثة والمعاصرة، فلن نجد حتى الآن من حل آخر غير الاستفادة من الفكر العلماني،
وتجارب الدول التي طبَّقت العلمانية. ولأننا لن نلجأ للتفتيش عن مفهوم للعلمانية
لأنه كتب الكثير عنها، بل نختصرها بإيجاز أصبح منتشراً، وهي أن العلمانية هي نتاج
الفكر السياسي الإنساني الذي يفصل وظيفة رجل الدين عن وظيفة رجل السياسة، أي فصل
الدين عن الدولة، بمعنى الاعتراف بالدين من دون إقحامه في الميدان السياسي. وفصل
وظيفة رجل السياسة عن وظيفة رجل الدين. وباختصار لكل منهما حقله الذي يعنى بشؤونه.
وبما يعنينا الكتابة عنه هنا، وبما تقتضيه أصول الدراسة المعنونة بالبحث عن
الديموقراطية، ستقتصر على توضيح العلاقة بين الديموقراطية والعلمانية.
من بديهيات
القول، وبعد أن بحثنا عن مفهوم الديموقراطية في ميزان الفكر الديني، ووصلنا إلى
نتيجة أن الفكر الديني، بما هو فكر مقدَّس، لا يعترف بالفكر الديموقراطي أكثر من
حرية الاجتهاد التي لن تقبل من أي كان إذا لم يكن منتسباً للمؤسسة الدينية، أو إذا
لم يكن معترفاً به منها. ففي الدولة الدينية لا مكان للديموقراطية على الإطلاق،
لأنه كما يزعم رجال الدين، لا يجوز أن تستوي أحكام الله مع أحكام البشر. ومهما قام
رجال الدين أو فقهاؤه بتزويق معنى الشورى أو تجميله، فلا يجوز أن ينوب نصان أو
أكثر عن عشرات الآلاف من الأبحاث والدراسات والرؤى الفكرية لمئات السنين. ولأن
الديموقراطية نتاج الفكر الوضعي، كيف نراه بمنظار العلمانية ذات النتاج الوضعي
أيضاً؟
بنتيجة كل
الأبحاث والدراسات وجدنا أن تعسف الفكر الديني أدى إلى إنتاج فكر جديد بعيد عن
التعسف والإكراه، وهو الفكر العلماني الوضعي. وإذا كنا نبغي الوصول إلى مبدأ
العدالة والمساواة بين كل مكونات المجتمع الدينية بالحقوق والواجبات في تشريعات
موحدة، ففي النظام العلماني سنجد الحل. ولكن، المساواة بين مكونات المجتمع الدينية
قد لا تحقق المساواة بين طبقات المجتمع. عدالة هنا، واعتداء هناك. وهذه إشكالية من
إشكاليات العلاقة بين الديموقراطية والعلمانية. فكيف ننظر إلى تلك العلاقة؟
-أولاً: أصبح من المحتم القول إن الديموقراطية والفكر
الديني خطان متوزايان ولن يلتقيا.
-ثانياً: أصبح من الواضح القول إن الديموقراطية والعلمانية
خطان يلتقيان في نقاط، وقد يفترقان في نقاط أخرى. وإن نقاط الالتقاء تتلخص بحرية
اختيار الشعب للدستور الذي يوحِّد، الذي على أساسه تتم صياغة القوانين والتشريعات
التي تخضع لها وترتضيها مكونات المجتمع الدينية على اختلاف مشاربها. وأما نقاط
الافتراق فقد تكون ماثلة بعامل تعسف السلطة بحق الطبقات الاجتماعية، ولأن لهذا بحث
آخر، نوجز نتائج هذا الجزء من الدراسة بالقول: إذا كان معنى التلازم لغوياً (تلازم
الشَّيئان، أي تَعلَّقا تعلُّقاً لا انفكاك فيه)، فإن مفهوم الديموقراطية
متلازم مع مفهوم العلمانية، إذ لا وجود لديموقراطية خارج النظام العلماني، إذا غاب
هذا النظام تغيب الديموقراطية. وأما إشكاليات العلاقة في الجوانب الأخرى فلن تفسد
لتلازمية العلاقة بينهما ودَّاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق