في
ذكرى وفاة مؤسس البعث
تبقى
الثوابت القومية هاجساً لأعدائها
في 30 حزيران 3017
قبل أن يُسقط الغرب الأوروبي الإمبراطورية
العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كان قد أضمر للحؤول دون قيام وحدة سياسية بين
المكونات العربية التي كانت خاضعة لتلك الإمبراطورية. وقد جاء ذلك في مقررات مؤتمر
كامبل بانرمان الذي شاركت فيه معظم الدول الأوروبية. ومن أهم ما جاء في تلك المقررات،
اعتبار البحر الأبيض المتوسط الشريان الحيوي للاستعمار، ولكن الإشكالية فيه هو
أنه (يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية شعب واحد تتوفر له وحدة
التاريخ
والدين واللسان). لذلك قرر المجتمعون: (إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة
متأخرة). و(حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية). و(محاربة
أي توجه وحدوي فيها). وفي تلك المقررات أشهرت الدول الاستعمارية العداء المطلق ضد الأمة
العربية.
وكان قد سبق هذا الإعلان بعض المفكرين العرب
بالدعوة إلى القومية العربية، وإن بصيغ مختلفة تتراوح بين طلب الاستقلال الذاتي للعرب
في ظل حكم الإمبراطورية الإسلامية، وبين الدعوة إلى الاستقلال الكامل. وبينما كانت
الدعوة ما تزال في طور تكوينها النظري، تأسست الأحزاب الشيوعية العربية، والمناداة
بقيام الدولة الشيوعية ذات الأبعاد الأممية، والتي كانت في موقع العداء للقومية،
إلى أن استدركت خطأها وقامت بتصحيحه منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين. وتأسست
بعدها حركة الإخوان المسلمين وهدفها إحياء الخلافة الإسلامية ذات الأبعاد الأممية
التي تشهر العداء للقومية العربية أيضاً. ولكنها ظلَّت مستمرة في عدائها حتى الوقت
الراهن.
تلك هي البيئة السياسية التي عاصرها ميشيل
عفلق. والتي كان عليه أن يواجه ثالوثاً يكنُّ العداء للقومية العربية، ويحول دون
قيام وحدة عربية. وظل الحال كذلك إلى أن أطلق أول نداء باعتبار الشعور القومي
مقدساً، ومن قيام دولة عربية موحدة هدفاً ثابتاً. وبعد تأسيس الحزب في العام 1947
يكون ميشيل عفلق قد نزل بالقومية من برجها النظري إلى ميدانها السياسي والعملي. وأصبحت
أكثر وضوحاً بعد ربطها بهدفيْ الحرية والاشتراكية، كأهداف سياسية واقتصادية
واجتماعية تعبِّر عن مصلحة الجماهير الشعبية. وكان إعلان تأسيس الحزب، يشكل ثورة
قومية عربية بكل معاني الثورة. وتلك ثورة ستبقى مستمرة طالما أنها تقاوم مشاريع
الاستعمار والصهيونية من جهة، وطالما أنها تعبِّر عن طموحات الشعب العربي في
الوحدة والحرية والاشتراكية من جهة أخرى. ولأن هذين الشرطين ثابتين فهي لن تنزل
دون سقفيهما.
فمنذ ذلك التاريخ ابتدأت المواجهة بين المشاريع
المعادية للقومية كطرف أول، ومشروع البعث القومي الذي يرى في النظرية القومية
خلاصاً للشعب العربي كطرف ثاني. فأصبح البعث، وفكره، المطلوب الرقم واحد لكل القوى
والتيارات والحركات المعادية للفكر القومي العربي، ويأتي في المقدمة منها التحالف
الأميركي الصهيوني، الذي يلقى تجاوباً ومشاركة من مشروعيْ تفريس الوطن العربي أو
تتريكه، وسوف تبقى القوى الإقليمية، في نظرنا، في موقع العداء للعرب ما لم تقلعا
عن أحلامهما الإمبراطورية العنصرية.
وإذا كانت المواجهة بين المشروعين قد ابتدأت
فعلياً منذ أواخر النصف الأول من القرن العشرين، فإنها شهدت أعلى سقوفها حدة في
العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، إذ أنها بعد إسقاط النظام الناصري
وإلحاق مصر بعجلة الاستعمار والصهيونية في السبعينيات من القرن العشرين، قام
التحالف المذكور بإسقاط النظام الوطني في العراق في العام 2003، من أجل إسقاط أي
أمل في الوحدة العربية. ولذلك كان القرار الأول، بعد احتلال العراق، هو اجتثاث
فلسفة حزب البعث، فانتصرت له حركات الإسلام السياسي، وتحالفت مع الاحتلال الأميركي
من أجل ذلك.
وإشهاراً للمواجهة مع المقررات الاستعمارية
والصهيونية، نعتبر أن النضال من أجل القومية العربية ووحدة الأمة العربية يشكل
الثابت الأول، الذي لا يجوز النزول تحت سقفه أو الصعود فوق هذا السقف. وهذا مرتبط
ارتباطاً وثيقاً بأولوية تحرير فلسطين والعراق من الاحتلال، لأنهما احتُلاَّ لمنع
قيام الوحدة العربية. ومن بعده تأتي الثوابت الأخرى في الحرية والاشتراكية
لتكسبانه صفاته الشعبية، التي من دونها لن يرتقي الفكر القومي إلى مصاف الضامن لحقوق
الشعب العربي بكل فئاته وشرائحه وأعراقه.
ففي الذكرى السنوية لوفاة مؤسس البعث، يجدِّد
البعثيون ولاءهم لثوابت حزبهم من دون نقصان. وليس أكثر دلالة على ذلك من أننا نجد
الاستعمار وحليفته الصهيونية العالمية تعمل على تشجيع كل النزعات الانفصالية
القطرية أو ما دون القطرية، وكذلك على التحالف مع كل النزعات الدينية العابرة
للقطرية والقومية معاً ممن يقفون موقف العداء من العروبة، ويعتبرون استمرارها بمثابة
عدوها الذي يحول دون أطماعها في تشكيل أنظمتها.
وإذا كانت الأمة العربية، الآن، تمر في أكثر
مراحلها خطورة، فلأنها تواجه مخاطر تفتيت وحدة الأقطار إلى خلايا ودويلات طائفية،
لإعادة تجميعها في دويلات دينية تفصل بينها (حدود الدم)، وتغرق أبناء الوطن الواحد
في صراعات طائفية حول ما تزعمه كل واحدة من حركات الإسلام السياسي أنه من مقدساتها
التي تدافع عنها ضد مقدسات الآخرين. ولذلك ستبقى حدود تلك الدويلات مضمَّخة بالدم.
يتلهى بعض العرب بقتل بعضهم الآخر، بينما القوى المعادية تستفرد بسرقة ثرواتهم،
والسطو على سيادتهم. وهذا ما نصَّت عليه مقررات بانرمان منذ أكثر من قرن، كما نصت
عليه مقررات مشروع الشرق الأوسط الجديد منذ أكثر من ثلاثين سنةً.
وإذا كان بناء الدولة القومية المدنية الحديثة
يشكل الهدف الأساس للأمة العربية، ولكي يرتقي إلى مستوى التعبير عن مصلحة الشعب العربي،
فقد كان على البعث أن يناضل على جبهتين معاً، وهما: بناء الدولة التي تهتم بحقوق
الشعب، وحمايتها من أطماع الخارج الاستعماري – الصهيوني، ومن
كل من له أطماع فيها، ومن أهمها دول الإقليم المجاور جغرافياً للوطن العربي، إيران
وتركيا. وكان الموقف الإيراني هو الأشدها عدوانية وإصراراً.
وعن هذين الهدفين تشكل أقطار الوطن العربي
ساحة ساخنة في الصراع بين الشعب والأنظمة من جهة، وبين الأمة كلها ضد القوى
المعادية لها من جهة أخرى. وهي تتعرض الآن إلى مؤامرة التقسيم والتفتيت والتجهيل
والأمية، كما نصت عليها مقررات بانرمان، ومقررات مشروع الشرق الأوسط الجديد. وما
كان تنفيذ تلك المقررات ميسوراً لو لم يُنتهك الأمن القومي العربي بدءاً من احتلال
العراق. ولن يعود الاستقرار إلى منطقتنا إلاَّ بسد اختراقات هذا الأمن. كما لن
يكون ميسوراً أي إصلاح، في الأقطار الملتهبة، إلاَّ بمنع التقسيم وإقفال بوابات
الفراغ الأمني المفتوحة على مصراعيها. ومن أجل تحقيق ذلك، وللدفاع عن القومية
العربية، علينا أن نعتبر قبل كل شيء أن المحافظة على الأمن القومي يجب أن يحتل
المرتبة الأولى باهتمام كل العرب.
فاختراق الأمن القومي العربي ليس له هوية
طبقية، ولا هوية دينية، ولا هوية قطرية، ولا هوية تقدمية أو رجعية، فاختراقه من أي
جهة أتى، وفي أي قطر بدأ، هو اختراق لأمن الجميع من دون استثناء. وإذا لم يعمل
العرب بشكل موحد لحماية أمنهم من الاختراق الخارجي، فإن وحدة الأقطار التي لم تسقط
حتى الآن في مواجهة الهجمة الراهنة، فستكون مهددة بالسقوط في أية لحظة طالما ظلَّ
كل قطر عربي يعمل على دفع الأذى عن نفسه بمنظار قطري وليس بمنظار قومي.
وتأسيساً على ذلك، ولأن الأمة العربية
مستهدفة كلها بالأساس، ولأن إسقاط عوامل الأمن القومي هو أحد الوسائل لاستلاب
الأمة العربية أمنها واختراقه، نجد أن لا أولوية الآن تسبق أولوية سد الثغرات التي
تم اختراقها في جدار هذا الأمن.
فأين العرب الآن مما يجري؟
إن أمن أقطار الأمة العربية قاطبة مكشوف
أمام الغزوين الدولي والإقليمي، وإن كان بنسب متفاوتة من الخطورة. وكان احتلال العراق
تشريعاً لأبوابه أمام كل أنواع التدخل الخارجي، ومن أهمه التدخل الأميركي – الصهيوني – الإيراني، لذا
شكل بوابة لاختراق أمن كل الأقطار العربية بكل تصنيفاتها. وما تعاني منه بعض
الأقطار، وخاصة الخليجية، لهو الدرس الأكثر وضوحاً لما جاء أعلاه. وما التهديدات
الأميركية لبعض دول الإقليم، بعد طول ود وتنسيق وتحالف وثيق، سوى درس آخر على دول
الإقليم المجاور للوطن العربي أن تتَّعظ منه، وأن تتأكد من أن اختراق أمن العرب من
قبل الدول الكبرى، كان تمهيداً لاختراق أمن دول الإقليم المجاورة له. ألم يحصل هذا
مع تركيا؟ وألم يحصل هذا مع إيران؟
لكل ذلك نعتبر إن اختراق أمن قطر عربي واحد هو
اختراق للأمن القومي العربي كله. واختراق الأمن القومي العربي هو اختراق للأمن
الإقليمي، وبناء عليه فإن دول الإقليم مدعوة إلى العودة إلى رشدها، بأن لا تنجرف
في الاسترخاء أمام التحالف مع الدول الكبرى بأبعد من تلك التي تقضي بتبادل المصالح
على قاعدة التكافؤ، وعلى قاعدة اعتبار خرق الأمن القومي لجاراتها سيكون مرحلة أولى
يسبق اختراق أمنها القومي.
مسألتان مترابطتان: اختراق الأمن القومي
العربي هدف ثابت من أهداف الاستعمار والصهيونية، يتم تجزئته مرحلياً في اختراق أمن
قطر، ثم يليه اختراق أمن قطر آخر، لتكون النتيجة اختراق شامل وكامل لاختراق الأمن
القومي العربي. وهذا يقتضي أولاً وقبل أي شيء آخر أن لا تتم تجزئة المحافظة عليه، أي
أن يستقوي قطر ما بقوة خارجية لمساعدته على تحصين أمنه، ظناً منه أن رأسه سينجو من
القطع.
والأمر ينطبق على دول الإقليم، التي إذا لم
تدرك مدى خطورة المشروع الأميركي، وإذا ظلت متمسكة بأحلامها بأن تكون شريكة في
تقسيم الكعكة العربية، عليها أن تقلع عن تلك الأحلام، وتعود إلى رشدها، باعتبار
انكشاف الأمن القومي العربي هو انكشاف لأمنها بالذات، ولن يطول الأمر كثيراً،
لأنها ستتذوق السم الذي أسهمت في طبخه للأمة العربية بالتحالف والتنسيق مع المخطط
الأميركي – الصهيوني.
وإذا كانت بعض الأنظمة الرسمية العربية قد
أدركت، ولو متأخرة، تلك الحقائق، فعليها أن تتمسك بتحصين الأمن القومي العربي بشكل
شامل، وليس أمنها القطري فقط. وعليها أن لا تسترخي قبل أن تصل مع كل الدول المعنية
إلى قرارات حاسمة وواضحة في وضع حد نهائي لكل الاختراقات من دون استثناء، ويأتي في
المقدمة منها مرحلياً، قطع دابر الاختراقات الإيرانية في العراق أولاً على طريق
تحصين أمنها القومي ضد كل القوى الأخرى، وفي المقدمة منها الاختراقات المخابراتية
للولايات المتحدة الأميركية.
وإذا كانت دول الإقليم لم تتعظَّ حتى الآن،
وإذا لم تدرك أن تحصين الأمن القومي العربي هو تحصين لأمنها، فلتنتظر احتراق
أصابعها عاجلاً أم آجلاً من غضب الشعب العربي، وعلى رأسها غضب المقاومة الوطنية
العراقية التي أعلنت عن ذلك منذ انطلاقتها في العام 2003. وما ينطبق على دول
الإقليم، ينطبق أيضاً على كل الدول الكبرى الطامعة بأرض العرب وثرواتهم. ولكل
هؤلاء، أن يدركوا بأن الحزب الذي أقسم منذ تأسيسه على أن تبقى أرض العرب للعرب،
وثروات العرب للعرب، وأن لا حل يصب في مصلحة العرب إلاَّ الإيمان بعروبتهم، بأنه
لن يترك تلك الأرض ممراً لمؤامراتهم، ولن يدعها مستقراً لهم. وما الدرس الذي لقنته
مقاومة البعث في العراق لكل من تآمر على احتلاله، سوى البرهان الواضح والكافي لهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق