إنتفاضة الجنوب الكبرى في
العراق
لا تراجع إلى الوراء
وإن كانت لكل ثورة ظروف وشروط تندلع بعد
توفرها، فإن ما يحصل منذ أكثر من أسبوع يشير إلى أن ثورة ما تطرق أبواب العراق،
ولكن هذه المرة من جنوبه. ونحن نراقب حركة الشعب العراقي منذ بداية الاحتلال، كنا
لا نتردد بتوقِّع حصول ثورة ضد الاحتلال، لأن أسبابها وُلدت من رحم معاناة
العراقيين بعد الاحتلال. وتزايدت احتمالاتها، خاصة في العام 2012، بعد أن هزم
الشعب العراقي قوات الاحتلال الأميركي، بقيادة طلائعه الثورية المتمثلة بحزب البعث
العربي الاشتراكي، وكل الفصائل الوطنية التي حملت السلاح وأنزلت الخسائر الكبرى
بقوات الاحتلال. وكانت المقاومة تزداد تأثيراً كلما وجدت الحاضنة الشعبية التي
تحميها، وقد وجدتها بين أحضان العراقيين الذين شعروا بالإهانة الكبرى بعد احتلال
أرضهم، خاصة أنهم شعب عريق طالما وقف في وجه كل الغزوات القادمة من الشرق، ابتداء
من الاحتلال الفارسي الذي كان قد وطَّد احتلاله قبل انطلاقة الثورة الإسلامية منذ
1400 سنة، انتهاء بدحر غزوات التتار والمغول التي حاولت كانت تريد إجهاض نتائج
الثورة الإسلامية، وصولاً إلى ثورة العشرين التي كانت سبباً رئيساً في استقلال
العراق فيما بعد.
لقد اعتبرنا أن خمسة عشر عاماً من الاحتلال
الأميركي - الإيراني، فترة زمنية طويلة ربما أسهم في إطالتها أن فئة من العراقيين
كانت تراهن على أن تتحسن الأحوال، وتتحسن ظروف الاحتلال من حال إلى حال. ولكن الآن
أخذت القناعات تتبدل وتتغير.
ربما كانت المرحلة الانتقالية بين احتلال
واحتلال، فترة كان يراهن عليها البعض على أنها قد تحمل سحابات من التغيير، ولكن
عبثاً كان الانتظار، لأن الاحتلال الأميركي بنى عملية سياسية وكَّل بإدارتها كل
الفاسدين والخونة. فلا هم يكترثون للشعور بالوطنية، كما أن مصلحة الشعب تقع خارج
اهتماماتهم، وأما السبب فلأن اللص لا تعني له الوطنية والإنسانية شيئاً أكثر من أن
يستغل موقعه السياسي أو الأمني لممارسة كل أنواع السلب والنهب. وكذلك الاحتلال
الأميركي ووكيله الإيراني لن يستطيعا ممارسة دوريهما بسلخ العراق من موقعه الوطني
والقومي وسرقة ثرواته سوى بواسطة أمثال هؤلاء، الذين لم يتغيَّر نهجهم منذ تم
توكيلهم بإدارة عملية سياسية فاسدة.
ذهبت كل مراهنات البعض سدى، لأن المراهنة
على حصد الرياح بسلال مثقوبة ستكون نتائج الحصاد صفراً، إذ أوغل الاحتلالان
فساداً، كما أوغل وكلاؤهما فساداً أكثر وحوَّلوا العراق إلى مزرعة سائبة تسرح فيها
الثعالب والذئاب من كل أنواع الميليشيات المرتبطة بالاحتلال. ولم يبق من لديه
ذرَّة من ضمير صامداً في أجهزة السلطة، حتى رجال الدين، الذين تحت شعارات حماية
الطائفة عاثوا فساداً، وسرقة ونهباً ودجلاً، فانتفخت جيوبهم بالمال الحرام
والعقارات المصادرة والمسروقة، محميين بطوابير من أفراد الميليشيات التي ارتضت أن
تملأ بطونها برغيف من الخبز، منَّة من الحرامية واللصوص. ولكن لن يدوم خضوعهم
طويلاً، بل سينفلتوا من قيد لقمة العيش عندما تتوافر شروط ثورتهم في وجه أسيادهم؛
ونحسب أن الفرصة قد حانت بانطلاقة الانتفاضة الحالية، وقد تشهد صفوف الميليشيات
انهيارات متتالية، كلما أنسوا إلى جدية الانتفاضة واستمرارها.
يذكرنا ما يحصل اليوم في العراق، بتجربة
الثورة الشعبية التي اندلعت في أوائل العام 2012 في محافظة الأنبار، والتي تم الالتفاف
عليها بإدخال تنظيم داعش، وتشكيل ما سُمِّي بـ(الحشد الشعبي)، والتي بواسطتهما
تمَّ إحباط تلك التجربة؛ والتي كانت من نتائجها تدمير قرى ومدن المنطقة واقتلاع
سكانها من بيوتهم وأرضهم لتضمن عدم اندلاع ثورة أخرى. ونتيجة كل ذلك، خُيِّل
للاحتلالين أنهما أزاحا من دربهما كل عوامل إحباط العملية السياسية؛ ولكن فاتهما
أن مرحلة جديدة من الثورة ستندلع ولكن هذه المرة لن يجدوا وسائل إخمادها، كما
أخمدوا ثورة الأنبار التي وصلت إلى أبواب بغداد. أحبطوها من الشمال والغرب،
فداهمتهم من الجنوب. استطاعوا أن يذبحوها عندما وضعوا جناحاً من جناحيْ العراق في
مواجهة الجناح الآخر.
وأما الآن، وبعد أن استمر وضع العملية
السياسية، وانكشفت الأقنعة عنها.
واستمرت بفسادها وأدواتها.
واستمرت نتائجها المدمرة على الشعب العراقي
في كل أنحاء العراق.
وبعد أن تفاقمت حالات الفقر والبطالة والجوع
والمرض وغياب كل أنواع الخدمات الأساسية.
بعد كل ذلك، نستنتج أن حبل الكذب ظهر قصيراً
عند كل الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه؛ فقد شمل الفساد
والسرقات، وغياب كل ما هو مطلبي، جناحي العراق. فطفح كيل كل العراقيين، ولهذا
نعتقد أن وسائل إحباط الانتفاضة الراهنة التي اندلعت هذه المرة من جنوب العراق
أصبحت ضعيفة، وإذا توفرت فستكون قاصرة جداً عن نوايا قمعها وتهدئتها.
وهنا، نتساءل عن المتغيرات التي تصبُّ
بمصلحة استمرارية الانتفاضة الشعبية في هذه المرحلة، خاصة أنها ما زالت تتتزايد
وتيرتها وتتَّسع:
لقد
كان من عوامل إحباط الانتفاضة الشعبية الكبرى، في العام 2012، التالية:
-ظاهرة تنظيم داعش.
-ظاهرة الحشد الشعبي.
-سيطرة النظام الإيراني على معظم الطيف
المجتمعي في جنوب العراق، تحت ذرائع مذهبية واعدة بتمكين الشيعية السياسية من
إحكام سيطرتها على الدولة ومؤسساتها.
فهل شروط نجاح إيقاف ثورة العام 2012 – 2014، ما زالت
متوفرة في هذه المرحلة؟
-بالنسبة لظاهرة تنظيم داعش، بعد القضاء
عليها، إما بوسائل عسكرية قضت على بنيتها البشرية التحتية، أو بتهريب وإعادة تخزين
قياداتها الرأسية، فيمكن الافتراض بأن النظام الإيراني والاحتلال الأميركي سيعملان
على إعادة إحيائها من جديد. ولكن لن تكون المهمة بهذه السهولة، حيث لن يستطيعا
توفير البنية التحتية البشرية السابقة التي وفراها في العام 2014، وذلك بعد انكشاف
دور كل من النظام الإيراني والمخابرات الأميركية في تأسيسها وتوظيفها لخدمة
مخططاتهما أولاً، وبعد الأثمان الباهظة التي دفعتها الفئة المضلَّلة من أرواح
أفرادها بالالتحاق بها ثانياً. وبعد أن خسرت البيئة الحاضنة لها في مناطق غرب
العراق ثالثاً.
-وبالنسبة لظاهرة الحشد الشعبي، وإذا كان قد
تم توظيفها في محاربة داعش تحت شعارات مذهبية وطائفية، فالتحق بها عشرات الآلاف من
العراقيين المضلَّلين في الجنوب. وطالما أن الانتفاضة الحالية مندلعة في الجنوب،
فيعني ذلك أن الحشد الشعبي فقد أسبابه المذهبية، وسوف يجد نفسه في خندق يقاتل فيه
أبناء منطقته دفاعاً عن حقوقهم في العيش بكرامة، لأن من ينخرط في صفوف الانتفاضة
الحالية هم العراقيون من أقارب وأخوة وأبناء عمومة، وأبناء عشيرة؛ والواقع المرَّ
هو الموقف المتردد الذي سيواجه هذا الحشد بحيث يجد أكثر من سبب للامتناع عن ممارسة
القمع ضد أهله وأبناء عشيرته. ولهذا وإن وضع الاحتلالان الأميركي والإيراني جناحاً
من جناحي العراق في مواجهة الجناح الثاني في انتفاضة 2012 – 2014، فإنهما
لن يستطيعا، أو من المستحيل عليهما الآن معاً أن يضعا الجناح الغربي في مواجهة
الجناح الجنوبي لأكثر من سبب وسبب، وبذلك فقد فقدا قوة التأثير، بل فقدا كل وسيلة
للمناورة في مواجهة الانتفاضة الحالية.
-وأما بالنسبة للتأثير الإيراني، فيظهر أن
البيئة التي كانت حاضنة لذلك التأثير، قد انكشفت أمامها أكاذيب النظام الإيراني،
وأكاذيب عملائه، بالنسبة للوعود التي أغدقوها في تحسين أوضاعهم المعيشية،
وحمايتهم؛ والتي غابت كلياً طوال فترة احتلالهم للعراق؛ بينما العكس هو الذي حصل،
إذ كانت مصالحهم السياسية والأمنية والاقتصادية لها الأولوية باهتمامهم. فالنظام
الإيراني عاث في العراق سرقة ونهباً وتصريفاً للبضائع، بعد توظيفهم لخدمة المشروع
الإيراني في السيطرة على العراق بشكل خاص وعلى أربع عواصم عربية بشكل عام. وكما
تدل وقائع الانتفاضة، أن النظام الإيراني تحول إلى الموقع الأضعف في التأثير على
مجريات الأحداث، وما الهتافات التي تُرفع ضد النظام الإيراني وأدواته في أكثر من
موقع من مواقع الانتفاضة لخير برهان على ذلك.
إنها أسباب تصب في مصلحة استمرار الانتفاضة
المندلعة الآن في معظم محافظات الجنوب، خاصة بعد أن وجدت أصداء لها في بغداد،
والتي يمكنها أن تمتد إلى محافظات الوسط والشمال، بحيث يدل اتساعها واستمرارها أنه
لن يثنيها وعد ولا يرهبها وعيد. وأما السبب فلأن التجارب السابقة في التسويف
والمماطلة والوعود الكاذبة من قبل حكومات (العملية السياسية) وميليشياتها، لن تدع
قادة الانتفاضة يصدقونها، وسوف لن تدع كل من انخرط فيها إلى التصديق أيضاً.
ولأن الشعب العراقي، بكل أطيافه، ومناطقه،
ضاق ذرعاً بالوعود الكاذبة، وضاق ذرعاً بتلفيقات رؤوساء الميليشيات، ورجال الدين،
الذين سرقوا لقمة عيش الشعب بشعارات حماية المذهب الكاذبة.
لقد طفح كيل الشعب، وأصبح موقناً أنه لن
يكسب شيئاً من الانتظار أكثر، وإنه لن يخسر شيئاً من الانتفاضة لأنهم لم يتركوا له
شيئاً يأسف على خسارته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق