الظاهرة الدينية بين نار الحرب وجنة السلام
أجوبة صادمة على أسئلة ممنوعة
(الحلقة الرابعة)
رابعاً: رؤية
عملية في تهذيب المعرفة الدينية
لافتين إلى أهمية المستوى
الخطير الذي تتميز به الثقافة الشعبية من حالة الانفعال الشديد، حالة الانفعال تلك
تقود الحالات الشعبية إلى المزيد من الوقوع في الحفر التي تعدها أجهزة المخابرات
الصهيونية والغربية التي تعمل على إبقاء حالة الاحتقان الطائفي على درجات عليا من
الغليان. ومن هذا نعتبر أن غياب ترشيد الثقافة الدينية يشكل سبباً مهماً في تعميق
الشروخ الطائفية بين مكونات المجتمع العربي أو الإسلامي، والتي تصل إلى الحدود
التي يعجز فيها العقلاء عن مداواتها.
وإنه في كل مرة تظهر فيها
وسائل الاستفزاز التي تمارسها أجهزة المخابرات الصهيونية، تتم مواجهتها بحملات
عارمة من الاحتجاج الإعلامية والتظاهرات وتوقيع العرائض، وتنعكس رداً ليس على تلك
الوسائل بأكثر منها أنها تنعكس سلباً على علاقات المواطنة داخل المجتمع العربي،
وتعيد المواطن من جديد إلى التحصن وراء طائفته أو دينه. ولكن هل يمكننا أن نطرح
فرضيات لحلول نواجه بها تلك الحملات المخابراتية؟
ماذا لو تجاهلنا تلك
الظواهر، ولم نردَّ عليها؟
ولأن وسائل التحربض
الشاذَّة عن السياق العام للتربية الروحية في الغرب، ذات أهداف تحريضية
واستفزازية، ولكنها ليست لغاية دينية، بل لغايات مخابراتية تنشد التحريض والتعبئة
في مجتمعاتنا المؤهلة لردود فعل غير مدروسة، تؤدي إلى المزيد من التخندق الطائفي.
ولأنها محدودة في المجتمع
الغربي، نتساءل: ماذا لو قمنا بتجاهلها مرة تلو المرة؟
وبتجاهلها، يتم إبطال
الأهداف والنوايا المفصودة من ورائها؛ وبإبطال مفاعيل هذا السلاح، سيبطل استخدامه.
يقول البعض إنه علينا أن
(ننصر الله)، و(ننصر مقدساتنا)، و(ننصر رموزنا الدينية). متناسين أن الله ليس
بحاجة إلى نصرة أحد. ومقدساتنا ورموزنا طالما هي على حق، فإن حسن الحق فيها هو
الذي ينصرها، وليس الصراخ والتظاهر.
وعن ذلك، ولأن وسائل الشتم
والسباب والتحقير، هي ما تحظره كل القوانين في العالم، فيمكن المؤسسات المعنية،
دينية أو رسمية مدنية، أن ترفع الدعاوى القضائية إلى الدول المعنية ضد الأفراد أو
المؤسسات الموجودة على أراضي تلك الدول، أي تلك المؤسسات أو الأفراد الذي يمارسون
الوسائل المنافية للقانون والأخلاق.
وأما كيف يمكن ترشيد
الثقافة الدينية وتهذيبها؟
1-رؤية في أسس ووسائل تهذيب التربية الروحية:
كل هذه المثالب التي
يتَّسم بها المستوى الثقافي لبعض رجال الدين، كما يتَّسم بها مستوى الثقافة
الروحية وضحالتها عند الأكثرية العظمى من مجتمعاتنا، تدعونا إلى تحميل المسؤولية
للأجهزة الرقابية في الدولة المدنية، وكذلك تحميل المسؤولية إلى المؤسسات الدينية،
ولا نستثني من المسؤولية كل الأحزاب والحركات العلمانية، خاصة تلك التي اعتبرت أن
من ثوابتها الوقوف في وجه بناء الدولة الدينية، والتبشير بالدولة المدنية.
أ-وأما عن الدولة الوطنية المدنية وأجهزتها الرقابية، ومناهج التربية
والتعليم:
فنرى
أن عليها العناية بمجموعة من الثوابت التربوية، ومن أهمها:
-اعتبار
التربية الوطنية التي تشدُّ لحمة المواطنين وعلاقاتهم لها الأولوية على أي إرشاد
آخر. وإن بناء علاقات تقضي بأن يسبق الدفاع عن الوطن كل علاقة أخرى، فالوطن للجميع
حسب المفاهيم السياسية الحديثة خاصة تلك التي أثبتت التجارب نجاعتها. ومحاربة أية
نزعة، ومنها النزعات الدينية والمذهبية، التي تعتبر أن الدفاع عن الدين وعن المذهب
يسبق أي دفاع آخر. وعلى الدولة أن تحاسب المواطن، أو المؤسسات، التي لا تلتزم
بالثوابت الوطنية. ولهذا السبب تُعتبر أنظمة المحاصصات الطائفية من أخطر أنواع
الأنظمة حتى ولو جُمِّلت بأكثر أنواع المساحيق الديموقراطية، لأن بها تصبح
الديموقراطية مطيَّة لأغراض ومصالح النخب الطائفية، مضافاً إليها دعم رجال الدين
المذهبيين للنخب السياسية الذي يضفي دعمهم في كثير من الأحيان كثيراً من القدسية
على وظيفة رجل السياسة.
-أن
تلعب دوراً في وضع أسس لمناهج تربوية تعنى بتربية أخلاقية لا تستند إلى مسألة خلاص
الأنفس بعد الموت، ليس بترغيب بالجنة ولا ترهيب من النار، بل إلى تربية تحض على
الخير لصفاته الإنسانية الحميدة. وتنهى عن الشر لصفاته الخبيثة.
-أن
تترك الإرشاد الديني لرجاله، وذلك التزاماً بقواعد المواطنة وثوابتها. وهذا ما
سنقوم بتفصيله في الفقرة التالية.
بـ-وأما عن المؤسسات
الدينية، فنعتبر أن من أهم مهماتها
التالية:
-بداية، أن تلتزم
بالاعتراف للآخر بحق الاعتقاد الديني. وإذا عُقدت مؤتمرات التقريب بين الأديان
والمذاهب، فمن الأولى إعلان المؤتمرين على إلغاء مبادئ التكفير. وإلزام المرشدين
بالامتناع عن محاسبة الأديان الأخرى، والابتعاد عن كل ما يسيء إلى هذا المبدأ
ويتناقض معه تحت طائلة الحسم والحزم في مساءلة كل من يشذُّ عن هذا المبدأ.
-الإعلان عن حظر فتاوى
التكفير تحت طائلة الخضوع للمحاسبة أمام المؤسسات الدينية أو مؤسسات الدولة
المدنية. وأن يستتبع هذا بالإشراف على إصدار الكتب الدينية، واتخاذ إجراءات منع
نشر تلك الكتب، ما لم تحظ بموافقة المؤسسات الدينية الرأسية.
-إعداد المرشدين الدينيين،
ليس الذين يتقنون قواعد الفقه الديني لأديانهم، بل إلى جانب هذا أن يكتسبوا ثقافة
الأديان والمذاهب الأخرى، وكذلك إلى اختصاصات علمية في العلوم الإنسانية، كالفلسفة
وعلم النفس والاجتماع...
جـ-وأما عن الأحزاب العلمانية، والمؤسسات الأهلية، والجمعيات الثقافية،
فينتهي
دورها بالنسبة للتبشير بالإيمان الديني، عند حدود الاعتراف بحرية الاعتقاد، وليس
الخوض بشكل هذا الإيمان أو لونه أو رائحته. لأن مسألة الإشارة إلى الإيمان الديني
وضرورة الحضِّ عليه، هو تجاوز لمهمة تلك المؤسسات. فإلزام أفراد أي مؤسسة منها
بها، سيفتح الباب واسعاً أمام سلسلة من الإشكاليات التي تعرف كيف تبدأ، ولكنها لن
تعرف متى تنتهي. ولهذا حتى قضية الإلزام بالإيمان بالله على أهميتها ليس في
الأديان السماوية فحسب، بل لمكانتها العميقة في الفكر الإنساني أيضاً، سيفتح
البوابة أمام إشكالية تحديد طريق معرفته أو الوصول إليه؟ هل هو عن طريق اليهودية
أم المسيحية أم الإسلام؟ وإذا كان مثلاً عن طريق المسيحية فحسب أي كهنوت سيكون؟
وإذا كان عن طريق الإسلام، فحسب أي فقه سيكون؟
وهنا
لا يمكن الركون إلى بعض المعالجات التي تقول: (نحن مع الإسلام الصحيح)، أو (نحن مع
المسيحية الصحيحة)، لأن هذه ليست معالجات موضوعية، بل هي تزيد المشكلة تعقيداً.
وإذا عرفنا أن الإسلام تفرَّع إلى مئات الفرق والمذاهب. وإذا عرفنا أن المسيحية
تفرَّعت إلى عشرات الفرق والمذاهب. والأمر كذلك، كانت كل فرقة أو كل مذهب يعتبر
أنه يمثل الإسلام الصحيح، أو يمثل المسيحية الصحيحة. وإذا دخلت الأحزاب في هذه
المتاهة فإنها تقود نفسها إلى الغرق بما غرقت به الفرق الدينية في الإسلام
والمسيحية. وأما الحل فيكمن في أن تنأى الأحزاب الوطنية العلمانية بنفسها عن
الدخول إلى الإيمان بالله من بوابة التفتيش عن أفضل طرق الإيمان به، ويكفيها أن
تعترف بحرية الاعتقاد أولاً، وبفصل الدين عن السياسة ثانياً، وأن تمنع المنتسبين
إلى الأديان والمذاهب من التحريض والتعبئة ضد الأديان الأخرى أو المذاهب الأخرى.
وبغير
ذلك، ستنفتح بوابات الإشكاليات على مصراعيها، وستعود بالبشرية إلى خط البداية التي
انطلقت منها الأديان السماوية، خاصة عندما تجاوزت رسالاتها بتعميق القيم الإنسانية
العليا، وانجرَّت إلى متاهات تكفير بعضها البعض الآخر. ولذلك فإن الغرق بإعادة
التفتيش عن هوية للإيمان الروحي، أو العمل على حصر هذا الإيمان بطريق واحد، سيتجدد
الخلاف وتعود موجات التكفير إلى ما كانت عليه قبل انتشار أفكار الدولة المدنية.
2-تعميق ثقافة
الدولة الوطنية المدنية الحديثة:
لم تكن فكرة قيام الدولة
المدنية سوى استجابة لحاجة المجتمعات للعوامل التي تجمعها ولا تفرقها؛ ولهذا كانت
مبنية على أساس (فصل الدين عن الدولة) على خلاف ما كانت تقوم عليه الدولة الدينية.
علماً أن الدولة الدينية، بعد التجارب التي مرَّت بها الشعوب، أصيبت بالفشل، سواءٌ
أكانت دولة مسيحية أم كانت دولة إسلامية. بينما أثبتت تجارب الشعوب، في التاريخين
الحديث والمعاصر، أن الدولة المدنية استطاعت أن تلغي عوامل التفرقة والتفتيت
الديني والمذهبي، كما أن تعزِِّز عوامل الوحدة بين أبناء المجتمع الواحد المتعدد
الانتماءات الدينية والمذهبية. فهي تركت مسألة الاعتقاد الديني للحرية الفردية،
بحيث يختار المواطن طريق خلاص نفسه بعد الموت من دون تدخل الدولة فيه. فالاعتقاد
الديني كان سبباً أساسياً في تمزيق المجتمع المدني الواحد في ظل الدولة الدينية
لأنها كانت تتدخَّل في تحديده، وتحاكم من لا يلتزم به وتحكم عليه بالردة أو
بالهرطقة. وعن ذلك، فقد عانت أوروبا من محاكم التفتيش؛ كما عانى الشرق العربي من
محاكم الاستتابة.
إن هذه الحقائق تشكل سبباً
كافياً وضرورياً لرفض قيام إعادة تأسيس الدولة الدينية، والبديل منه الدعوة لبناء
الدولة على أسس مدنية.
ألا يكفي أن نعود للتذكير
بالحالة الغربية التي اتخذت مسار العلمنة فغابت ظواهر الحروب الدينية واستتب السلم
الأهلي بين أبناء المجتمع الواحد، فانصرفوا إلى تطوير وسائل التنمية الاقتصادية
والاجتماعية والبشرية من أجل توفير كل وسائل العيش الكريم؟
وألا يكفي برهاناً على ذلك
أن الحالة الشرقية الإسلامية، خاصة بعد الانتشار الكبير لظواهر التيارات الدينية
السياسية، تؤكد انتشار الحروب الدينية بشكل يحاكي التجارب الأليمة السابقة،
ويتفوَّق عليها بشراستها، ودمويتها، ووحشيتها؟
وإذا كانت الدولة المدنية
تشكل شبكة الخلاص للبشر قبل الموت، فلنترك إشكالية خلاص أنفسهم بعد الموت للخيارات
الفردية. وحيث أكَّدت التجارب المعاشة أن الأديان السماوية بدلاً من أن تشكل خشبة
للخلاص قبل الموت وبعده، فقد حوَّلتها التيارات السياسية الدينية، بإصرارها على
إعدة إحياء الدولة الدينية، إلى نقمة تأكل أخضر البشر ويباسهم، وتغدق عليهم الآلام
والمآسي، بديلاً لمظاهر السعادة والفرح.
وإن الأمرَّ من كل ذلك،
وحيثما سادت مناهج الأنظمة السياسية الدينية، أو أنظمة الطائفية السياسية، نجد أن
طبقات النخبة في تلك الطوائف والأديان هي المستفيدة منها بحيث تُتخَم بشتى مظاهر
الغنى واليسر، بينما الطبقات الفقيرة هي التي تدفع الثمن فتعاني من الفقر والمرض
والحرمان وشدَّة العسر. وبين هذا وذاك تجد معظم رجال الدين، ماعدا القلة منهم،
يمالئون زعماء الطوائف ويقفون إلى جانبهم يفتون لهم متناسين أن واجبهم هو العمل من
أجل الفقراء والمساكين، والوقوف في وجه الطغاة الذين تمتلئ جيوبهم وتنتفخ على حساب
الجائع والمريض والفقير.
وهنا، لا نرى حاجة للتفصيل
بما على الدولة المدنية أن تقوم به، لأن تجارب الدول هي أكثر من أن تُحصى وتُعدّ؛
وإذ نتوقف عند هذا الحد، فإنما نترك التفصيل للاختصاصيين من التكنوقراط
والأكاديميين، فهم الأجدر والأكثر كفاءة في رسم صورة واقعية لما يجب أن تكون عليه
الدولة المدنية العادلة. وهنا، لا يفوتنا التمييز بين الأكاديمي الملتزم بمصلحة
المجتمع عن الأكاديمي الملتزم بمصلحة الطبقة الحاكمة. وذلك كالتمييز بين رجال
الدين الذين اختاروا الوقوف إلى جانب الحاكم، أو أولئك الذين يستغلون الدين لمآرب
سياسية أو مشاريع دينية سياسية، وبين رجال
الدين الذين اختاروا الوقوف إلى جانب الأكثرية العظمى الفقيرة من المجتمع، وأقلعوا
عن الحلم بإعادة تأسيس دولة دينية أثبتت فشلها عبر التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق