من
خديعة إلى أخرى، يتعرَّض لها النظام العربي الرسمي، ما يكاد يبتلع طُعم الخديعة
السابقة كالسمكة، ويعلق بالسنارة، حتى ينسى ويعلق بسنارة خديعة أخرى. وهكذا هو حال
النظام العربي الرسمي الآن الغارق حتى أذنيه وهو يلاحق خديعة دونالد ترامب بعد أن
انتهت خديعة سلفه أوباما. والخديعة الآن هي مسرحية الاشتباك الظاهر بين أميركا
وإيران، التي علَّقها دونالد ترامب بسنارته التي يصطاد بها ثروات الأنظمة العربية
الرسمية الأكثر ثراء في الوطن العربي.
كان
من أهم المواقف التي اتخذتها دول الخليج العربي في مواجهة أوباما أنها رفضت خديعته
التي أعلنها، في أعقاب الاتفاق النووي الذي وقعه مع إيران في العام 2015، والتي
يدعو فيها تلك الدول إلى اعتبار الاتفاق النووي مع إيران يشكل حماية لأمنها.
حينذاك كان رفض النظام الرسمي الخليجي للاتفاق موقفاً نوعياً. وازدادت قيمة ذلك
الرفض بعد أن تمردت تلك الأنظمة على وعد إدارة أوباما ووعيدها، واستمرت في رفضها،
طالما ظلَّت للنظام الإيراني أنياب تعمل تقطيعاً في الأمن القومي العربي.
راح
أوباما، وجاء دونالد ترامب، وظلَّت مشكلة حماية الأمن القومي العربي المشكلة
الرئيسية، وخلافاً لاستراتيجية إدارة أوباما بتوقيع الاتفاق المذكور، فقد دعت
إدارة دونالد ترامب إلى إلغائه لأنه، كما تزعم، يهدد أمن حلفائها العرب. وكاد
النظام العربي الرسمي لدول الخليج يسترخي على وعود دونالد ترامب، وينام على وسادة
من الحرير. وظلَّت خديعة دونالد ترامب تنطلي على تلك الأنظمة، وغيرها، حتى عندما
زار المملكة العربية السعودية، ووقَّع معها اتفاقيات اقتصادية وعسكرية بلغت مئات
المليارات من الدولارات. وراحت بواطن الخديعة تتكشف شيئاً فشيئاً خاصة عندما بشِّر
الأميركيين أن حمايته لأصدقائه أخذت تدر على الشعب الأميركي لبناً وعسلاً. ومن
بعدها توعَّد النظام الإيراني معلناً حرباً عليه لإخضاعه لشروط الإدارة الأميركية،
معلناً أنه على استعداد لحماية تلك الأنظمة ولكن مقابل بدل مادي.
وتمادى
ترامب، الرئيس الأميركي، بالكشف عن خديعته أكثر فأكثر، بعد إعادة تجميله
لـ(العملية السياسية) في العراق، وإعادة تقسيم النفوذ مع النظام الإيراني، عاد
ليكرر أن على الدول الغنية في الخليج أن تدفع ثمناً لحمايتها؛ واستتبعه تصريح لولي
العهد السعودي قائلاً: إننا ندفع ثمناً للأسلحة التي نشتريها من أميركا.
أولاً،
وقبل أي شيء آخر، نعتبر أن العلَّة ليست في القرارات الأميركية، بل العلة في
الأنظمة العربية الرسمية التي كانت ترضخ للأملاءات والأوامر؛ ولكنها لم تلجأ يوماً
ما لاعتبار أمنها مسؤولية عربية قبل كل شيء. فالعرب لديهم المال الذي لا يشتري
السلاح فحسب، بل الذي يؤسس لصناعة عسكرية أيضاً، يكفيهم شر الارتهان للدول
الخارجية. والعرب لديهم الطاقة البشرية الكافية والمؤهلة لتأسيس جيوش تستطيع
مواجهة أي عدوان خارجي. والعرب لديهم العدد البشري الهائل الكفيل بدفع كل مصانع
العالم إلى استجداء اتفاق اقتصادي معهم. ولديهم حرية الحركة في اختيار أي دولة
خارجية، خاصة من الدول الكبرى، لعقد كل أشكال الاتفاقيات العادلة كبديل لأميركا
وغير أميركا. وإن شعباً يمتلك كل تلك المؤهلات والإمكانيات من العار عليه أن
يستجدي قوة خارجية لحمايته.
إن
العبرة في مرحلة الستينيات من القرن العشرين، عندما كان النظام العربي الرسمي،
بشتى أشكاله وألوانه، يحتل موقع القوة تحت خيمة الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية
والعسكرية، وفي مؤسسات القمة العربية وجامعة الدول العربية؛ وهي كانت المرحلة
الذهبية بغض النظر عن النواقص والثغرات، فإن العرب كانوا يجلسون بثقة على مقاعدهم
في الأمم المتحدة، بينما كانت دول العالم، ومنها الدول الكبرى، تستجدي بناء علاقات
معهم.
والعبرة
كذلك، كانت في معركة التصدي لنظام ولاية الفقيه في إيران في عدوانه على العراق
طوال ثماني سنوات، لم يستطع فيها ليس تحقيق أي اختراق في جدران العراق فحسب، بل
خرج مسموماً جريحاً يجر أذيال الهزيمة أيضاً.
وإذا
كنا نسجِّل فضيلة لأنظمة الخليج الرسمية، فإنما نستذكر الدعم الذي كانت تقدمه
للعراق في صد العدوان الإيراني أولاً، وثانياً مواقفها الرافضة لإملاءات أوباما
بعد العام 2015، أي بعد وعده ووعيده لهم إثر توقيعه الاتفاق النووي الإيراني.
فإننا
نسجل لغير صالحهم في هذه المرحلة، هو أنهم وقعوا في حبائل أخاديع دونالد ترامب،
الذي زعم يوماً أنه سيحميهم من شرور النظام الإيراني، فسجَّل صورياً برقيات
التهديد والوعيد للنظام الإيراني، التي تبيَّن أنها ليست من أجل عيون العرب عامة،
ودول الخليج خاصة، بل من أجل تغيير شروط التوافق التي سبقت احتلال العراق، والتي
أخلَّ بها النظام الإيراني بعد العام 2011.
وكما
أننا نسجِّل لغير صالحهم، هو أنهم فور توقيع الاتفاقيات المجزية لأميركا مع دونالد
ترامب، فقد لجأت تلك الأنظمة، مطمئنة للخداع الأميركي، إلى عقد لقاءات مع عدد من
القوى السياسية والدينية العراقية وبعض الفصائل الميليشياوية، وخرجت باتفاقيات
معها، وهي تحسب أن فرصتها لإثبات وجودها في العراق قد حانت، ويمكن أن يكون مدخلها
ما قامت به. وخُيِّل إليها بأن مواجهة العدوان الإيراني على الأمن القومي العربي
قد باتت قيد التنفيذ.
بين
الوقوع في شراك خديعة ترامب، وشراك التحالف مع قوى عراقية لا يُؤتمن لعهودها. فقد
أخطأت التقدير والحسابات، والتي من أهمها، أنها:
-لم
تفكر أن أحلام التاجر الأميركي تبيح له استخدام أسلوب المزايدة والمناقصة، كما
تبيح له أن يمسك بكل سوق تتاح له وهو على غير استعداد للتفريط بها، لأنه في المنهج
التجاري لا قيم أخلاقية بل قيم الربح المالي. ولأن النظام الإيراني شريك للإدارة
الأميركية في أقذر الصفقات عندما قاما باحتلال العراق، وتقاسما ثرواته، وعندما
تشاركا في مؤامرة (الشرق الأوسط الجديد). ولعلَّها تكتشف الخديعة في التسوية
الأخيرة في العراق بإعادة تجميل وجه (العملية السياسية)، التي جدَّد فيها التحالف
الأميركي – الإيراني
نفسه، وأُعيد إنتاجه بقواعد جديدة للتوافق بين المصالح.
-لم
تحسب يوم بدأت بعقد اتفاقيات مع من عقدتها من العراقيين، أن من خان العراق من
العراقيين لن تكون عقودهم مع دول الخليج العربي بمنجاة عن الخيانة أيضاً. ولعلَّها
تعلمت درساً مما جرى من تسويات ومساومات، بموافقة ومباركة ممن استأنست بهم أنظمة
الخليج من قوى وشخصيات وأمراء ميليشيات خيراً ونفعاً. فإذا بهم قد نكصوا على
أعقابهم، مدبرين، يقبِّلون أيادي من يعرف كيف يمسك برقابهم، ولعلَّ وعد التحالف
الأميركي – الإيراني لهم
بالسكوت عن جرائمهم، وسرقاتهم، وفسادهم، نقاط قوة لا تملكها أنظمة دول الخليج
الرسمية. وهل من غرق بوحول الخيانة لوطنه، ووحول السرقة والفساد وتكديس عائداتها،
يمكنه أن يكون صادقاً لوعوده، وفياً لعهوده؟
وإذا
كان من واجب الأنظمة العربية أن تتعلَّم من الأخطاء التي وقعت فيها، خاصة فيما
يتعلَّق بالأمن القومي العربي، فهي التالية:
-الأول: اعتبار الأمن
القومي العربي وحدة لا تتجزأ. والتاريخ علَّمنا أن أكثر المراحل خطورة كان احتلال
العراق، ومن بعده كرَّت سبحة الاختراقات، ولم تهدأ حتى الآن.
-الثاني: تغييب حقوق
الجماهير، وإهمالها، والاعتماد على مؤسسات القمع الأمني. وهي ثغرة نفذت منها كل
القوى، أفراداً وجماعات، التي هاجرت إلى الغرب، ووقعت في قبضة أجهزة المخابرات،
والتي تمَّ تسويقها كمعارضة، وجرى تشريعها منزَّهة عن لوثة الخيانة، ومعها جرى
تشريع وسائل الخيانة. فكانت (المعارضات المهاجرة) كحصان طروادة التي استغلت حاجة
الجماهير، وزجَّتها في تخريب أوطانها؛
وأصبحت أدوات بأيدي الخارج، تدفع الثمن مرتين: مرة نتيجة تغييب حقوقها من قبل
الأنظمة الرسمية. ومرة ثانية المشاركة بتخريب أوطانها عندما وقعت ضحية في أيدي من
زعموا أنهم (معارضة).
-الثالث: حروب الأنظمة
الرسمية العربية البينية التي كانت أشد وطأة وتخريباً للأمن القومي العربي من وطأة
التدخل الخارجي، بحيث شكَّلت بوابة تسللت منها القوى الدولية والإقليمية للعبث
بالوطن العربي ككل؛ وعزفت على وتر تمزيق العرب، ووضعت بعضهم في مواجهة البعض
الآخر، فدفعوا الثمن الهائل من تدمير دولهم، واقتتال أبنائهم، وتخريب العرى
الاجتماعية التي كانت تربطهم. وهذا ما أدى إلى نجاح المخططات الخارجية على قواعد
مناهج ما عُرف بقواعد الحرب الخامسة، والتي تنص على أن دول الخارج بدلاً من
استخدام الجيوش النظامية في غزو الدول الأخرى، تضع أبناء الدولة الواحدة ليواجه
البعض منهم البعض الآخر؛ ووحدهم يدفعون الدم والمال. وأما الخارج فيوفر الدم
والمال أيضاً.
-الرابع: أن
يُدرك النظام الرسمي الخليجي، ويعي أن تجربته في مواجهة إدارة أوباما، أرغمت إدارة
ترامب على الاعتراف بأخطاء أميركا، وعليها أن ترغمها الآن بأنها هي التي تُخطئ،
وإذا أرادت أن تصحح أخطاءها، فعليها أن تساعد في قطع أيادي شر نظام ولاية الفقيه.
وغير ذلك فإن التعاون والتنسيق العربي هو الكفيل بقطع أصابع الجميع. كما على
النظام نفسه أن يتعلَّم من توافقاته مع من خان وطنه من العراقيين، ويقطع علاقاته
معها، وأن يمد يده إلى من أثبت من العراقيين حرصه على حماية الأمن القومي العربي
بصدق وإخلاص.
-الخامس: من يبيع
الحماية عليه أن يشكل خلايا وتحالفات لزعزعة الأمن، ولهذا تحالفت أميركا مع النظام
الإيراني لكي يلعب دور الفزَّعة للعرب، كما أنها أسهمت في تأسيس داعش كفزَّاعة لهم
أيضاً.
-السادس: وإلى أن تقتنع
الأنظمة القادرة مالياً بأن في مقدورها أن تعتمد على أنفسها في إنتاج السلعة
العسكرية وسلع الاستهلاك المتنوع، أن تقوم بتنويع سلة تحالفاتها الدولية
واتفاقياتها ومعرفة خطأ وضع بيضها في سلة قوة دولية واحدة ووحيدة.
وعلى
الأنظمة الرسمية والقوى السياسية والأحزاب العقائدية التي تناضل من أجل خلاص
الأمة، والخروج من وصاية من يزعمون أنهم يوفرون للعرب حماية لهم، أن يخرجوا من تلك
الأوهام، لأن القوى الخارجية، إقليمية ودولية، لن تحمي أحداً بل هي تحمي مصالحها
أولاً وأخيراً. وإذا كانت تفعل ذلك، فإنما لقاء أثمان باهظة، وهي حماية مصطنعة،
وأما حماية الأمن القومي العربي فلن تكون بالإيجار، بل لا يجوز استيرادها
بالإيجار.
وأخيراً،
نناشد الجميع، أنظمة وجماهير، وأحزاباً شعبية، أن يتعلموا من دروس الماضي بشكل
عام، ودروس ما بعد احتلال العراق بشكل خاص لأن دروسها ما تزال ماثلة في ذاكرة
الجميع. فهل يمكننا أن نقلع عن منهج (حماية بالإيجار)؟ وهل يمكننا أن نعد العدة
لتطبيق منهج (الحماية الذاتية) أي حماية الأمن الذي يشارك فيه النظام العربي
الرسمي، والقوى القومية، ورفض أية وصاية خارجية؟
وليكن
شعارنا لا للأمن المستورد من دول الإقليم، ولا للأمن الأميركي المستورد بواسطة
دونالد ترامب أو غيره من رؤوساء أميركا، قديماً وراهناً ومستقبلاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق