الجمعة، ديسمبر 28، 2018

السودان الثورة الناعمة في مواجهات ساخنة


السودان الثورة الناعمة في مواجهات ساخنة

في 28/ 12/ 2018   حسن خليل غريب
إذا كان (الربيع العربي)، على غاية من الغموض. والمتابع لأحداثه منذ بدايته في أواخر العام 2010، وأوائل العام 2011، لوجد مئة ثغرة وثغرة، شوَّهت أهدافه ووسائله، وسرقت نضالات الشعب، فإن ما يجري في السودان منذ أواخر العام 2018، ليجد أن الوضوح سيد الموقف، ولذلك لن نطلق عليها انتفاضة وحسب، بل هي الثورة الأكثر شفافية من بين ما عرفته ساحات الوطن العربي حتى الآن.
منذ سنوات، كانت حركة (الإجماع الوطني السوداني)، بأهدافها التي أتلف فيها مجموعة من الأحزاب والتنظيمات والشخصيات الوطنية، تحفر بهدوء ومن دون ملل لتحفيز الشعب من أجل الانتفاضة للمطالبة بحقوقه المهدورة.
وفي المقابل، كان النظام السوداني، يقابل الحراك من دون اكتراث بأهميته، متعاملاً معه على قاعدة أنه سحابة صيف في السماء سوف تبددها أقل نسمة من الهواء. ولذلك استرخى، وتمادى بإقفال أذنيه، وتغطية عينيه، ولجم لسانه، ظناً منه أن هذا الأسلوب سيقود القائمين على الحراك إلى اليأس، فيستسلم القائمون به، ويعودون إلى بيوتهم، خالين الوفاض.
ويظهر أن الأنظمة الرسمية العربية أتقنت فن تجاهل حقوق الشعب ظناً منها أن الشعوب تستكين إلى الأمر الواقع، وتخدرها الوعود الفارغة. وبين هذه الحال وتلك، تخشى قوة الأنظمة الخشنة وتخاف منها، خاصة أن الأنظمة غيَّرت عقيدة أجهزتها العسكرية والأمنية من دورها في حماية المواطنين إلى وظيفة قمعهم وترهيبهم، واعتبرت أن أي مطالب بحقوقه، فهو إما أنه مهدد للسلم الأهلي من دون أن يدري، أو أنه مدفوع من قبل قوى متآمرة على النظام. ولعلَّه يقصد بالقوى المتآمرة إما استعمارية أو صهيونية.
بين استمرارية الحراك، على قلة القائمين به، وعدم اكتراث النظام، نستذكر المثل القائل: (نقطة الماء المستمرة تحفر عمق الصخرة). ولذلك كان صبر قادة الحراك في السودان لافتاً، فهم لم ييأسوا، ولم يستكينوا، ولم يخشوا إهمال النظام ولم ترهبهم قوته الخشنة، بل قابلوها بالقوة الناعمة. فاستمروا سنوات عديدة، يغذون شعلة الانتفاضة وهم يراهنون على أنها ستكبر بمرور الزمن. وهكذا استمروا بالحفر، كمن يفتشوا عن إبرة في كومة من القش. وهم مقتنعون أنهم سيجدونها، ليس في قش النظام، ولكن في جبل الجماهير المقهورة المسلوبة حقوقها. وراح قادة الحراك وقواه الطليعية يدفعون ثمناً لذلك من حرية هذا القائد أو ذاك. هذا الناشط أو ذاك. فواجهوا آلة الاعتقال بكل صبر وحكمة، وطول جلد وشجاعة.
وأخيراً، وفي الأيام القليلة الماضية، نجحت مراهنات قيادة الحراك بعد أن فاض الاحتقان الشعبي عن حده المتوقع. فأخذ الحراك يتَّسع وينتشر، ويتنقل من شارع إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى. فإذا به يتحول من حراك ناعم محدود العدد، إلى انتفاضة عارمة، فتحولت من انتفاضة عشرية أو مئوية أو ألوفية إلى ثورة مليونية عندما امتلأت شوارع معظم مدن السودان بملايين الجائعين والمرضى والعاطلين عن العمل، والذين أكلت منهم البطالة والجوع الشيء الكثير، حتى فقدان نقطة الماء.
من هذا المشهد الأخير، يمكننا قراءة المشهد السوداني قراءة أولية متأنية. ومن وجهة نظرنا نرى ما يلي:
-أولاً: وضوح الأهداف والوسائل هو ما يميِّز ثورة السودان الآن. ويمكننا تلخيصها بالآتي:
1-الأهداف تمثِّل مطالب شعبية لا شك بشموليتها كل الجماهير المسحوقة لأن من وضعتها قيادة منبتها شعبي، تعاني ما يعانيه الشعب من شظف العيش. ولهذا فقد شخَّصتها تشخيصاً دقيقاً تلامس حاجة الجماهير السودانية.
2-وسائلها تعتمد على الجماهير وقوة إيمانها وشعورها بالحيف اللاحق بها. ومن أهم كل ذلك هو أن قيادات الحراك كانت واعية بعمق ومسؤولية لما آلت إليه نتائج الانتفاضات التي سبقتها عندما رهنت مصيرها بطلب المساعدات من الخارج وقبلتها من دون حساب لما تشوب تلك المساعدات من نوايا ومصالح.
-ثانياً: مصداقية القيادات التي تشكل البوصلة لتوجيه الحراك الشعبي وتحول دون انحرافه عن أهدافه:
1-قيادة الحراك تنتسب إلى بيئة ثورية ثقافتها معمَّقة وواعية، سواءٌ اكانت قيادات حزبية، أو تجمعات من أصول فلاحية وعمالية، أو شخصيات مثقفة ثقافة ثورية رهنت نضالها من أجل الجماهير الكادحة.
2-نزول القيادات إلى الشارع لتختلط بين الجماهير، وتدفع تماماً ما تدفعه من أثمان أقلها الاعتقال، وهي مؤمنة بأنها قد تدفع حياتها ثمناً لمواقفها وحركتها. وبالفعل تعرَّضت معظم القيادات إلى الاعتقال.
-ثالثاً: استمرارية الانتفاضة الثورية على الرغم من كل مظاهر الوحشية التي تمارسها الأجهزة النظامية.
إلى هنا، نراهن على أن ما يجري في السودان هو ثورة ناعمة تنخرط فيها الجماهير الشعبية، تواجه وسائل ساخنة يستخدمها النظام من أجل ضربها وإجهاضها. وإنها بمواصفاتها تنذر بالاستمرار حتى تحقيق أهدافها.



ليست هناك تعليقات: