الاثنين، مايو 25، 2020

الحلقة الأولى من عرض كتاب الردة في الإسلام (1/ 6)


الحلقة الأولى (1/ 6)
الفصــل الأول :
إعتنـاق الإسلام بين الحـوار والإكراه 


إن إشكالية أي طريق يؤدي إلى اعتناق الإسلام، أبالحوار هي أم بالإكراه، ابتدأت منذ السنوات الأولى لانطلاقة الدعوة الإسلامية. وهذا ما ناقشه الباحث في الفصل الأول، وفيه قام بتحليل النصوص والظروف التي رافقتها، مستفيداً من المنهج الذي يقضي بدراسة الظاهرة في مكانها وظرفها الزمني.
يُمهِّد الباحث للفصل الأول، بالكشف عن استنكار ابن كثير (774 هـ/1373م)، لمبدأ الإكراه، قائلاً: «عجب ربّك من قوم يُقادون إلى الجنّة في السلاسل»؛ يعني الأسارى الذين يُقدَم بهم إلى بلاد الإسلام في الوَثاق والأغلال والقيود والكبول، ثم بعد ذلك يُسلِمون،  وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنّة. أو أنهم يضمرون الكفر، أو النفاق، خوفاً على رقابهم من القطع؛ أو يدفعون الجزية وهم صاغرون. وهذا يطرح إشكالية الدعوة إلى الإسلام: هل بالحوار أم بالإكراه؟
وعن ذلك، يعرض الباحث إشكالية التوفيق بين النصين الواردين في القرآن: )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(، والتي اعتبر الفقهاء أنها نُسِخَت بآيـة )أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(.
مستنداً إلى إجماع الفقهاء المسلمين على صحة نسخ آيات القتال لآيات الحوار، لعدة أسباب منها، أن الأولى نزلت في المرحلة المكية، حيث لم يكن للنبي قوة يستند إليها، ولكنه عندما حاز عليها في مرحلة المدنية، أُذن للمسلمين بأن يدعو للإسلام بالقوة.
مستنداً إلى تلك التناقضات النقلية، يقوم الباحث بمناقشتها في نهاية المقطع الأول، بحجج نقلية وعقلية، ومن أهم الحجج النقلية أن بعض آيات الحوار نزلت بعد آيات الأمر بالقتال. كمثل آية )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي( (البقرة: من الآية256) وهي آية مدنية. وكذلك آية ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ (المائدة: من الآية105). وهي آية مدنية أيضاً.
واعتبر أن مسألة نبذ الإكراه، أي حرية اختيار الدين، كما جاء في آية (لا إكراه في الدين)، تعبِّر عن قيمة إنسانية مطلقة. ولكن إذا اضطر المشترع لاستخدام القوة، فإنما يكون لحماية حرية اعتقاد من يعتقد به، وليس لإكراه من لا يعتقد به لتغيير معتقداته الخاصة. ولذلك  لن تصبح الحالة الخاصة قاعدة ناسخة، والمفهوم القيمي شاذّاً منسوخاً .                   
يخصص الباحث المقطع الثاني تحت عنوان (الدعوة للإسلام بالقتال) للبحث وتوثيق غزوات الرسول في السنوات التسع التي سبقت غزوة مكة. التي بها استكمل الرسول إخضاع الجزيرة العربية تحت لواء الدعوة الإسلامية. وهدف الباحث من ذلك، لعلَّه يجد فيها أصولاً للدعوة إلى الإسلام بالقتال. فوجد أن هناك ظروفاً شتى ساعدت على التأسيس لها، ومن أهمها أن دعوته بالحوار وجدت صداً لها خاصة من قريش التي آذته، وآذت أنصاره، فهاجر إلى المدينة حينما استجاب له أنصار من أهلها. ويستشهد الباحث بتحليل لطه حسين، يقول فيه: (إن الهجرة إلى المدينة جعل النزاع بين النبي وقريش يرتفع من مستوى النزاع الديني إلى مستوى النزاع السياسي والاقتصادي والديني، أي على السياسة في الحجاز،  والطرق التجارية بين مكة وبين البلاد التي كانت ترحل قريش إليها بتجارتها في الشتاء والصيف). وهذا يعني أن نص الدعوة للقتال لم تكن لأسباب دينية، بل تحولت إلى أسباب سياسية واقتصادية، وهما عاملان ضروريان لكل من المسلمين وغيرهم.
ويستطرد الباحث في تأصيل غلبة استخدام عامل القوة في الدعوة إلى الإسلام، فيقول: (وإذا أضفنا عامل المتاعب الاقتصادية التي عانى منها المهاجرون،  الذين شكَّلوا عبئاً اقتصادياً على الأنصار أيضاً؛ ولأن قبائل الجزيرة العربية كانت تستند إلى أسلوب الغزو كمصدر أساسي في كسب معيشتها، تتضح ساعتئذ،  أهمية استخدام أسلوب القوة والقتال الذي أخذ الرسول يُعِدُّ نفسه لها،  ويُعِدُّ المسلمين للقيام بأعبائها). فكانت أول آية نزلت بالإذن له بالحرب،  بعد سنة على مقدمه إلى المدينة: )أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ // الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ( (الحج: 39: ومن الآية40). وهذا هو السبب الذي أغرى الفقهاء المسلمون بالإجماع على أن آيات القتال نسخت آيات الحوار.
ولفت الباحث في نهاية المقطع بالإشارة إلى حجّـة الـوداع: التي جاء فيها: «إني قد بلّغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبداً،  أمراً بيّناً،  كتاب الله وسنّة نبيّه تعلمنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم،  وإن المسلمين أخوة». والأمر البالغ الأهمية هو أن بعض الروايات، تستبدل نص « سنّة نبيه»، بنص آخر وهو « وأهل بيتي ».
ولأن هذا النص سيلعب دوراً بالغ السلبية لاحقاً على وحدة الجماعة الإسلامية، وهو محور أساسي من محاور الصراعات المذهبية، فقد أجَّل الباحث معالجته إلى الفصول التالية.
وأما عن إشكالية الدعوة للإسلام بالحوار أو القتال، فهذا ما ناقشه الباحث في المقطع الثالث، وعمل على نقضه بالقواعد العقلية. واعتبر أن: (القتال متغيّر مرحلي في الدعوة إلى الإسلام).
    ولأنه بحث إشكالية الحوار في المقطع الأول، خصص الباحث إشكالية القتال في هذا المقطع. وفيه عرض آراء الفقهاء من شتى التيارات الإسلامية. ووثَّق الآيات القرآنية التي تحض على القتال، وحصرها بأربعة أسباب: للدفاع عن الإسلام وقتال الظالمين. وقتال أهل البغي. وللدفاع عن النفس. و قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية.
وحول هذا الجانب، فقد أجاز وسيلة القتال بعض من فقهاء المذاهب، بشرط أن يأمر به معصوم حتى لا يخرج عن الهدف منه. وحصره البعض منهم بأمرين لا ثالث لهما: إما السيف وإما الإسلام.
وناقش الباحث بأدلة عقلية تلك الإشكالية: (من الموضوعية أن يكون استخدام القتال والقوة مشروطاً. كأن يكون هذا الاستخدام ضد من يعمل على منع تطبيق القيم الأخلاقية والاجتماعية المطلقة؛ أو لمنع الإكراه لأنه من القيم المطلقة التي لها علاقة بمفهوم الحرية). ولأن (القوة والقتال هما أسلوبان لحماية المثل العليا،  فالأحرى بهما أن يتوجّها إلى حماية حرية المعتقد،). ولذلك، يخلص الباحث إلى النتيجة التالية: (إن منع الإكراه في الدين هو أصل قيمي ثابت،  ديني وأخلاقي واجتماعي؛ بينما استخدام القوة لنشر الدعوة الإسلامية هو فرع مرحلي متغيّر؛ فلا يمكن -والحال كذلك- أن ينسخ الفرع المرحلي المتغيّرَ الأصل القيمي الثابت).
وفي المقطع الرابع، يؤصِّل الباحث لمعاني الردة، والذي جاء تحت عنوان (الـردّة سيف مسلّط على رقاب المسلمين). وقال: إن الآية )ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر )، كانت الآية الأولى التي نزلت حول الردّة،  وكان سبب نزولها واضحاً في الزمان والمكان والظرف المحيط بها، ومحدودية الهدف منها. وهي تعود إلى ملابسات سرية عبد الله بن جحش في السنة الثانية للهجرة. 
ينقل الباحث موجز وقائع الرواية: خالف عبد الله بن جحش الاتفاق الذي وافق عليه الرسول مع قبائل مكة، بتحريم القتال في الأشهر الحرم. وهاجم قافلة لتجار من قريش وغنم ما فيها. فاتهمه الرسول، وقال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام). وكادت تقع فتنة بين المسلمين لأن أصحاب السرية، قالوا: (ما نبرح حتى تنزل توبتنا). ودرءًا للفتنة نزلت آية: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير). وكذلك نزول آيات تتناول أحكام الردة، وذلك تحذيراً من أي فتنة تحصل بين المسلمين. وكانت بدايتها آية )وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ(.
وتوقَّف الباحث عند مختلف التأويلات والتفسيرات التي دارت من حولها،  آخذاً بعين الاهتمام شواهد من معظم الاتجاهات،  على صعيد الفرق والمذاهب والعصور. ويتوِّج المقطع باستنتاجاته.
ومن بعدها نقل الباحث بإسهاب مفهوم الردة لغوياً وفقهياً، ونقل آراء مختلف المدارس الفقهية في أحكامها. تلك الأحكام التي قضت بقتل المرتد، وجاء فيه: (لم تكن عقوبة القتل للمرتد عن الإسلامّ محل خلاف بين الفقهاء المسلمين،  وإنما ذهبوا في الشروط التي تجيز القتل مذاهب شتّى... أما عقوبة الرِدَّة فتطبّق على المسلمين من دون غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى). ويخلص إلى نتيجة أن موضوع الردة هي الإشكالية التي رافقت التاريخ الإسلامي، والتي شكَّلت سبباً استندت إليه الفرق والمذاهب الإسلامية في صراعاتها التي تواصلت حتى الآن.
وزاد طين المؤسسات الفقهية بلَّة، ليس فقط إشكالية مبدأ الردة فحسب، بل تلك الأحاديث التي نُسبت للرسول، ولعلَّ من أهمها: حديث الفرقـة الناجيـة من النار. لينهي الباحث هذا المقطع، بالتساؤل: ما هي تأثيراتها على مستقبل الإسلام بعد وفاة الرسول ؟
فيرى أن معاقبة المرتد عن الإسلام كانت من الغايات الأساسية للمحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. أما حديث افتراق الأمة الإسلامية،  فهو دليل على أنه مكتوب على الإسلام أن يتفرّق ولا يتوحّد،  وهو يتناقض مع مبدأ الردة،  الذي من غايات تطبيقه الرئيسة المحافظة على وحدة الإسلام. لذا سوف نرى أن هذا الحديث سوف يؤسس لتنافس حاد بين المسلمين،  فتكثر الفـرق والملل،  وسوف تعمل كل واحدة منها على إبراز جوانب إيمانها من جهة،  ونقد الفرق الأخرى وتبيان بدعها وضلالاتها بقصد تكفيرها من جهة أخرى. وسيكون هذا موضوع فصل كامل من هذا الكتاب.
ويختم الباحث الفصل الأول، بأن قتل المرتد أو أية عقوبة أخرى، لم يكن سببها دينياً، لأن المبدأ القرآني ثابت يتلخَّص بآية لا إكراه في الدين، بل كان سببها أمنياً فُرض في وقت كان لا يزال فيه الإسلام طري العود. وكان الارتداد عن الإسلام، يعني اختراقاً لأمن الدولة الفتية. وهو ما يشبه حالة الطوارئ التي تعلنها الدول الحديثة في هذا العصر. ويتم إلغاؤها عندما تنتهي الحالة الأمنية الاستثنائية  التي فرضتها.

ليست هناك تعليقات: