عرض كتاب (الردة في الإسلام)
الحلقة الثالثة (3/ 6)
الفصــل الثـالث:
إفـتراق الأمـة سيـاسياً
سالت،
في
هذه الصراعات، الدماء الغزيرة، وأُزهِقَت أرواح عشرات الألوف من المسلمين؛
ولم يسجل العهد الأموي انتصاراً حاسماً على أطراف المعارضة. وأما الأطراف التي
كانت موالية لعلي خاصة وبني هاشم عامة، فاستمرت بالعمل السري، وقد نجحت بالفعل في عملها.
فمنذ
العهد الأموي، والعباسي، تحوَّلت الشورى/ البيعة/ الاستخلاف/ شورى نخبة النخبة/
بيعة الأمر الواقع، إلى مُلكٍ عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء
بطريقة ما يُسمَّى بالعهد. ولم يكن من سلاح-لدى السلطة والمعارضة- أمضى من سلاح
النص الديني. حيث عكفت شتى التيارات على النص لتستفيد منه في معاركها،
ولما
لم يكن النص شافياً في أمور كثيرة، أكثرت التيارات من انتحال النصوص تارة،
وكانت
تارة أخرى تؤولها وتفسرها، آخذة مصالحها وأهواءها مقياساً للانتحال
والتأويل والتفسير. وهذا ما كان يؤدي إلى استمرار الصراع وتعميقه.
وفي
المقابل أدَّت الحرب السياسية - الدينية، وبالتالي حركة
الفتوحات الإسلامية الواسعة، خدمات جُلَّى للحركة العلمية في تلك
المرحلة، فبلغت أوجها في العصر
العباسي، لأن خزائن الحضارات الأخرى انفتحت أمام الحاجة العقلية والفكرية
للنخب الإسلامية من عرب وغيرهم، ومن هنا استفادت حركة الصراع الديني - السياسي من
نتاج هذا الانفتاح، وشملت الاستفادة المعارضة والسلطة على حد سواء.
وفي
ظل الانفتاح على الفكر الآخر اندفع العقل العربي-الإسلامي، في إنتاج عقولٍ
عربية - إسلامية منفتحة، التي بدورها أخذت تتطلَّع إلى النص الديني
بانفتاح وحرية وواقعية. وفي ظلها انطلقت حركة العقل المتكون الناشئ من دوائر الشك
بحثاً عن اليقين لكن على قاعدة التوفيق بين العقل والنقل، بشكل متواز ومتوافق مع
النص، أحياناً؛ ومفترق عنه أحياناً أخرى. وهنا انفتحت آفاق صراع جديدة
بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين؛ إلا أن العقل لم يستطع
الصمود طويلاً، خاصة وأن أصحاب النقل رموا -بحماية من
السلطة السياسية- بكل ثقلهم في الصراع من جهة، ولأن الأمة
أُصيبت بالتفتت والضعف السياسيين من جهة أخرى؛ فتغيَّرت اتجاهات السلطة إلى مناحٍ
أخرى… فماتت هي
وتقهقر معها دور العقل.
وبعد
هذا التمهيد، الذي يختصر ما رمى إليه الباحث في الفصل الثاني، يقدم عرضاً توثيقياً
لكل من المرحلتين الأموية والعباسية.
ففي
المقطع الأول استعرض الباحث تاريخ العصـر الأمـوي: (41-132هـ=661-750)، وأشار
إلى أن تلك الصراعات كانت متشابكة بين معظم أطرافها، إذ اختلط
الصراع الأموي-الشيعي، بالصراع الشيعي - الزبيري،
بالأموي
-الخوارجي، بالخوارجي - الشيعي، بالخوارجي - الزبيري. وقد عبَّرت رواية
نقلها الباحث أصدق تعبير عن واقع الحال في تلك المرحلة، إذ قال بعضهم بعد أن وصل
رأس مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان بن الحكم، الخليفة الأموي: «لقد رأيت
في هذا الموضع عجباً! رأيت رأس الحسين [شيعي] بين يدي عبيد الله بن
زياد [أموي]. ورأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار [شيعي].
ورأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير [زبيري]. ورأيت رأس مصعب
بين يديك». وعلى الرغم من ذلك، فقد وثَّق الباحث، أنواع الصراعات، بالتالي:
(الصراع-الفتنـة الأموي-الشيعي) و( الصـراع - الفتنـة الزبيري – الشيعي)،
و(الصـراع - الفتنـة الزبيري-الخوارجي)، و(الصـراع-الفتنة
الأموي-الزبيري)، و(الصراع-الفتنـة الخوارجي-الأمـوي).
وفي مقطع
تحت عنوان (المتغيِّرات على الصعيد السياسي-الدينـي) نقل الباحث ما قاله طه حسين عنه:
«فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهر الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين
[الدين والسياسة] في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني».
وإلى جانب الصراعات السياسية شهدت المرحلة (تأسيس
فكر ديني إسلامي يُدعِّم التطلعات السياسية. ونشأت إلى جانب ذلك فرق تستند إلى
النص الديني في مواكبتها لتطور الصراعات - الفتن؛ لكنها لم تكن فريقاً مقاتلاً،
وهي:
-فرقـة القدريـة: التي تستند إلى مبدأ حرية
الاختيار. كما أنها تتضمن بعداً سياسياً يطال حكم الأمويين. وفيها دعوة إلى الثورة
عليهم واقتلاع ظلمهم.
-فرقة الجبرية: التي تقول إن الإنسان مجبور
على أعماله، فهو لا قدرة له ولا اختيار. وإنما يخلق الله أفعاله. فكانت
أفكار الجبرية سلاحاً دينياً في يد الأمويين للدفاع عن مواقعهم السياسية. فإنما
الخلافة التي وصلت إليهم كانت أمراً من الله لا يد لهم فيه.
-فرقـة المعتزلـة: قالت بأن مرتكب الكبيرة
في منزلة بين المنزلتين، مخالفة بذلك رأي الخوارج الذين قالوا إنه
كافر. وحكم المرجئة بأنه مؤمن، إذ جعلوا الإيمان مجرد الاعتقاد الداخلي،
وليس
الإقرار باللسان أو الأعمال جزء من الإيمان. والمنزلة بين المنزلتين -حسب
المعتزلة- أي في مرتبة وسط بين المؤمن والكافر؛ فليس هو، إذاً،
بالمؤمن ولا بالكافر.
وفي المقطع الثاني يستعرض الباحث ما حصل من أحداث
في العصـر العبــاسي (132-656هـ=750-1258م). الذي ابتدأ بـ(الصـراع
الأمـوي-الأمـوي)، وإسقاطه بواسطة (تحالف المعارضة العباسي-الشيعي)، وصولاً إلى
تسجيل (كيف اختُتِمَ العصر الأموي، وابتدأ العصر العباسي). وفيه يسجٍّل
بالتفصيل (الصراعـات-الفتن في العصر العباسي)، وقد عبَّر عنها بالقول: (تتابعت
أحداث الصراعات في الدولة العباسية، منذ نشأتها حتى زوالها. وكانت هذه الأحداث،
كمثيلاتها
في العصرين الراشدي والأموي، دموية؛ إذ كانت تسقط فيها الضحايا بالمئات،
وأحياناً بالآلاف، وأحياناً أخرى بعشرات الآلاف).
ويشير
إلى صعوبات البحث في تلك المرحلة قائلاً: إن المتتبع لتلك الأحداث،
خاصة
على صعيد إنجاز بحث محدود في حجم كتاب، على قاعدة المنهج المعرفي الاجتماعى،
الذي
يستند إلى وصف الحدث وتحليله في سياقه التاريخي، سوف يُرهَق من تجميع تلك الأحداث،
لشدَّة
تزاحمها وكثرتها. ويكفي أن نعرف أن العهد العباسي امتدَّ إلى مئات من السنين؛ حيث
إن الأحداث الدامية قد غطَّت تلك السنين كافة. وفي سبيل إنجاز هذا العمل،
قمنا
بجهد لم نكن نشعر به في بحثنا في العصور السابقة، بينما كان يميز
أحداث العصر العباسي، اتساع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية
(من الصين شرقاً، حتى جنوب فرنسا غرباً) من جهة، واتساع
الأحداث، وكثرتها، وتعددها من جهة ثانية. وتنوع أسباب الأحداث:
من دينية فرقية، إلى سياسية، إلى طبقية،
فعرقية… وكانت كلها
تستند إلى النص الديني. وإذا ما استثنينا الصراعات التي كانت تحصل على ثغور الدولة
الإسلامية -بين المسلمين وبين الدول المحيطة- وهي ليست من اهتمامات بحثنا،
يبقى
حجم الصراع كبيراً جداً، وأكثر من ملفت للنظر كونه كان يحصل بين
أبناء الدولة الواحدة ذات الدين الواحد.
ولكي
يتجاوز تلك المصاعب، أوضح الباحث أنه اعتمد منهجية للبحث -حول أحداث العصر- تقوم
على أسلوب تكثيف الحدث التاريخي من دون تجريده من المعطيات التي تُحدِث أثراً في
إحساس القارئ ووجدانه من جهة، والابتعاد عن أسلوب الكتاب المدرسي،
الذي
يُجرِّد الأحداث التاريخية من لباسها الحسي الإنساني من جهة ثانية؛ والابتعاد عن
أسلوب السرد القصصي التاريخي، الذي يُغرِق في التفصيلات المثيرة من جهة ثالثة.
وبهذا المنهج استعرض الباحث، في هذا المقطع تاريخ (الصراعات-الفتن العباسية-العباسية)،
و(الصراع-الفتنة بين الخلفاء وبين أعمدة سلطتهم).
ولكي
لا نغرق القارئ بتفصيلات يقول عنها الباحث أنه (إذا ما قمنا بفتح كتب التراث
لشعرنا بأنفاسنا تنقطع ونحن ننتظر السنة التي لا نقرأ فيها عن حدوث فتنة أو أكثر،
فتنة تذهب ضحاياها
بالآلاف؛ فتنقطع الأنفاس ولا تجد محطة تستريح فيها من متابعة أخبار الفتن والقتل
والسبي وقطع الأيدي والأرجل والرؤوس. فلا يهنأ بال خليفة أو وزير أو عامل على مصر
من الأمصار إذا لم يتوَّج انتصاراته بالرؤوس المقطوعة، والأرجل
المبتورة، والبطون المبقورة...
اقتتل
الأخ مع أخيه، والعم مع ابن الأخ، وابن العم مع ابن العم...
اقتتل
الخليفة مع وزرائه، وتآمر الوزراء على الوزراء...
اقتتل
الخليفة مع عماله على الأمصار، واقتتل العمال مع العمال...
اقتتل
الخليفة مع الثائرين على ظلمه، واقتتل الثوار مع الثوار...
نهب
الخليفة جميع الموارد، ووزعها على قصوره وأهله وحاشيته...
ونهب
الوزراء -الواسطة بين الناهب والمنهوب- وأُتخموا...
نهب
العمال على الأمصار -أداة القمع المباشر- وتربعوا على عروش من الجماجم المجبولة
بالدم والعرق...
كان
الشعب يستجيب لأية دعوة تظهر في الأفق، لأنه كان يحسب أن الخلاص فيها،
ولكن...
كان
سيف الخليفة هم جنوده، لأن الأرزاق كانت بين يديه ينعم عليهم منها.
جنود كانوا من العرب في البداية، فلما خشي منهم استبدلهم بالفرس،
فاستغاث
من شرورهم... فاستبدلهم بالترك فأذلُّوه...
كانت ضحايا الخليفة من العرب،
فأصبحت منهم ومن الفرس،
ثم منهم ومن الترك... واستمر
الحال على هذا المنوال إلى أن أصبح الخليفة ضحية بأيدي المماليك والأتراك...
كان
سيف السلطان (جنوده) وضحاياه من طينة واحدة: من الراكضين وراء لقمة العيش...
فاقتتل الراكض مع الراكض، والجائع مع الجائع...
استقوى
أمراء الجيوش، وأفرزوا نخبة من العسكريين، أخذت تتحكم
بالقرار. ولأنهم سيف الخليفة شعروا بقوة تأثيرهم وسلطتهم ، فأصبحوا سيفاً مسلطاً على رقبة سلطانهم؛ فأصبح
الخليفة واجهة للنخبة العسكرية، تحكم بشرعيته الدينية؛ إلا أن شرعيته كانت
وهمية لا أساس لها، إلا ما توهَّم به العامة،
أو
ما شُبِّه لهم من فتاوى فقهاء السلاطين...
ضاعت
الخلافة...وأصبحت الغاية امتلاكاً للسلطة بأي غطاء ، أو أي ستار،
في
سبيل امتلاك المال... وأصبحت الخلافة، التي أرادها المسلمون أداة لفرض الشريعة
السماوية في سبيل خير البشر، عبئاً على الشريعة وعلى البشر معاً.
حسب
البعض أن الحل لن يكون إلا في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي
هي أحسن؛ وحسب البعض الآخر أن الحل لن يكون إلا في الخروج على سلطة الظالم،
والقتال
في سبيل فرض سلطة العادل.
وهنا
سوف سنعدد عناوين عامة من النماذج التي تنقل الكلمات إلى واقع واضح. فقد حصل
الصراع بين السلطة وبين أصحاب الأهواء السياسية والفرقية والطبقية والعرقية. والصراع
بين السلطة وبين الخارجين عليها في الأطراف، والصــراع بين السلطـة
والخرَّميـة. وصـراع السلطة مع المسلمين العرب. والصراعـات-الفتنـة
العبـاسيـة-الشيعيـة. والشيعـة وأسلـوب المواجهـة المسلحـة. والحركات الشيعيـة في
الأطراف: في المدينة ومكة واليمن والكوفة ونشأة لدعوة الإسماعيلية والدعوة
القرمطية. وعلاقـة الدعـوة الإسماعيليـة بالدولة الفاطميـة. وقيام الدويلات
الحمدانية والبويهية ودولة الحشاشين والمرابطين والموحدين والفاطميين.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق