مصادرة حق الدولة في عقد الاتفاقيات مع دول خارجية
والمحافظة على وحدة المؤسسات الأمنية
المفهوم الثالث من مفاهيم شاذة في معاجم الأنظمة الطائفية السياسية
من الواضح أن
الاتفاقيات المعترف بها دولياً ووطنياً يجب أن تحصل بين دولة ودولة، ولكن في نظام
الطائفية السياسية راحت تعقد بين طائفة ودولة. أو أحياناً كثيرة بين ميليشيا
ودولة. وعن ذلك تنص الدساتير والقوانين على أنه من حق الدولة، ممثلة
بمؤسساتها الدستورية، عقد الاتفاقيات والمواثيق مع الدول الأخرى. ومن حقها أيضاً
أن تعقد المعاهدات الدفاعية مع أية دولة تريد. ومن حقها أيضاً أن تعلن حالة الحرب
أو حالة السلم.
وباختصار على
الدولة الوطنية أن تحدد السياسة الخارجية من جهة، وسياسة السلم والحرب من جهة
أخرى، والقيام بواجب المحافظة على الأمن الداخلي بقواها الأمنية الموحدة من جهة
ثالثة.
أولاً: الاتفاقيات الدولية:
وعن الاتفاقيات
الدولية، سنعرض النصوص والتشريعات ذات العلاقة في لبنان من زاويتين: من زاية
نظرية، ومن زاوية الأمر الواقع.
1-من الزاوية النظرية، في لبنان حصرت المادة 52 من الدستور اللبناني،
عقد المعاهدات الدولية برئيس الجمهورية وإبرامها
بالاتفاق مع رئيس الحكومة، بعد موافقة مجلس الوزراء. أما المعاهدات التي تنطوي على
شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها
سنة فسنة، فلا يمكن ابرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب. وقد حصرت أيضاً الفقرة 5
من المادة 65، بمجلس الوزراء، شؤون الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات
والمعاهدات الدولية.
2-ومن زاوية الأمر الواقع: كما ثبتتها أعراف المتصرفية الأولى، منذ أكثر من قرن
ونصف القرن، واستناداً إلى الاعتراف لكل دول أجنبية بفرض وصايتها على طائفة من
طوائف لبنان، وهذا يجيز ضمناً لكل طائفة بالاستقواء بدولة خارجية. فقد تحوَّلت
الأعراف إلى تشريعات ليس لها قوة القانون بل لها قوة الأمر الواقع. وغنيٌّ عن
البيان أن قوة الأمر الواقع سمح للموارنة أن يستقووا بفرنسا أيام الانتداب الفرنسي.
وأن يستقووا بأميركا لاحقاً. وأن يستقوي السنة بمصر والسعودية. وهذا أدَّى لاحقاً
إلى أن يستقوي بعض الشيعة بإيران بعد انتصار (الثورة الإسلامية) فيه في العام 1979.
وإن
كان الدستور الذي وُضع في عهد الانتداب الفرنسي، في العام 1926، قد أشار إلى مسألة التوزيع
الطائفي للمواقع السياسية باعتبارها مؤقتة، فقد تحوَّل المؤقت إلى ما يشبه قانوناً
للأمر الواقع. واستمر رفض الطوائف اللبنانية إلغاء ذلك (المؤقت)، حتى عندما نص
تعديل الدستور في مؤتمر الطائف، في العام 1989، إلى ضرورة الإلغاء.
لقد
كان من تأثيرات هذا الواقع الذي فرضته أحزاب السلطة الطائفية، والذي لا تزال تفرضه
لحماية مكاسبها، أن البعض منها عمَّق العلاقات مع الخارج إلى الدرجة التي أرتقت
إلى عقد اتفاقيات معها على شتى الصعد، وكان ما أخذ يمارسه حزب الله من أبرزها
وأكثرها صدماً للبنية الوطنية في لبنان. فقد أعلن أنه امتداد أيديولوجي لنظام
ولاية الفقيه، ولم يخف أهدافه في أن يصبح جزءًا منها. وتطورت العلاقات ابتداء من
أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، لتبدأ بالإعداد العقيدي، وتدريب المجموعات
عسكرياً ودعوياً. وقد بلغت أقصى درجاتها في السنوات العشر الأولى من القرن الواحد
والعشرين. بحيث أصبح الحديث عن هذا المستوى قد بلغ حداً عالياً ليس من الصراحة
فحسب، بل من المباهاة والفخر أيضاً. وفي تلك المرحلة، وخاصة بعد العام 2006، أصبح
الحديث عن دولة حزب الله داخل الدولة اللبنانية، أمراً معترفاً به، إلى أن بلغ
حدوده القصوى في أن يستطيع الحزب مع عدد قليل من حلفائه أن يشكل حكومة اكتسبت
مواصفات الحكومة التي يسيطر عليها الحزب.
إذن،
من تأثيرات استفادة حزب الله من مظلة النظام الطائفي السياسي في لبنان، أنها بلغت
الذروة، عندما عقد اتفاقيات من جانب واحد مع كل من النظام السوري والنظام
الإيراني، كان من خلالها يحصل على الأسلحة والأموال الكافية التي تجعله أقوى أحزاب
السلطة في لبنان على الإطلاق. وامتلك من فائض القوة الداخلية ما جعله يمتلك قرار
الحرب والسلم مع العدو الصهيوني، يؤقتهما بما يتناسب مع ظروف الصراع بين النظام
الإيراني وكل من أميركا والأنظمة العربية المتضررة من تغوُّل نظام الملالي ومشروعه
في السيطرة على الوطن العربي. وفائض القوة أيضاً جعله مؤهلاً للتدخل في الشؤون
السورية والعراقية واليمنية واللبنانية والفلسطينية. وقد مارس سياسة خارجية تصب
بكاملها في مصلحة النظامين المذكورين، وقد كان البوق العالي في بث روح العداوة ضد
أخصامهما العرب والدوليين. ولعلَّ الأزمة الاقتصادية التي بلغت ذروتها في النصف
الأول من العام 2020، آخذين بالاعتبار فساد نظام الطائفية السياسية، كانت بفعل
إثارة العداوات التي أيقظها حزب الله على المستوى العربي والدولي، من أهم أسباب
رفع يد المساعدة العربية والدولية عن لبنان. وهي ما أدَّت إلى انهيار الاقتصاد
اللبناني بالكامل.
ثانياً: انتقال حق
الدولة اللبنانية وواجبها في المحافظة على الأمن الداخلي إلى حق للميليشيات.
حصرت المادة
65، الفقرة 2، من الدستور بمجلس الوزراء، السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على أعمال
كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية بلا استثناء.
ودائماً، وكما هي العادة في لبنان في وجود ثغرة كبيرة بين
الجانب النظري في القوانين وبين أسباب الامتناع أو الاحتيال في تطبيقها. نصوص
للقوانين تصلح لبناء دولة تقوم بواجباتها كما هي الدولة الحديثة، فاستعانتنا بنص
الدستور اللبناني لتعريف واجبات الدولة بالنسبة للأمن الداخلي، ليس أكثر من نعي
لتلك النصوص التي تغتالها نصوص الميليشيات الطائفية ودورها في تهديد السلم الأهلي
كلما اهتزت قواعد المحاصصة التي أرسى قواعدها أمراء الطوائف، أو إذا أراد احدها أن
يعيد تأسيسها من جديد كلما امتلك عوامل قوة جديدة يريد الاستفادة منها في تحسين
شروط هيمنته على الطوائف الأخرى. ولأن حزب الله امتلك من أسباب القوة في عهد
الدخول السوري في لبنان ما لم تمتلكه الطوائف الأخرى، أخذ يميل باتجاه تصحيح قواعد
المحاصصة لتصب في مصلحته، والأكثر خطورة من كل ذلك، أنه وضع كل ما أكتسبه من عوامل
القوة في خدمة مشروع ولاية الفقيه التوسعية على حساب الوطن العربي، وهذا الأمر فرض
عداوات دولية وعربية للبنان، أخذت تلقي بأثقالها الشديدة الوطأة على اللبنانيين.
وإذا ما أضفنا إلى هذا الواقع ما نتج من آثار سلبية جراء
الحرب الأهلية التي ابتدأت في العام 1975، على تكوين الأمر الواقع في لبنان. فقد
جاء اتفاق الطائف، في العام 1989، برعاية سورية وعربية كانت على توافق معه، هذا
بالإضافة إلى استمرار الرعاية الأميركية لذلك الاتفاق، فقد وصل رؤساء الميليشيات
الطائفية التي شاركت بالحرب إلى المشاركة ببناء السلطة بعد اتفاق الطائف. هذا
علماً أن رؤساء الميليشيات احتلوا المقاعدة السياسية، واحتل مساعدوهم المقاعد
الإدارية في المؤسسات الرسمية، وجزء من الميليشيات العسكرية أصبحت جزءاً من مؤسستي
الجيش والأمن الداخلي، هذا ناهيك عن أجهزة المخابرات الرسمية على شتى مستوياتها
واختصاصاتها، وأما الجزء الباقي من تلك الميليشيات فقد خضع لنظام مساعدتهم مالياً
من صناديق أحزابهم الطائفية. وبمثل هذا الواقع ما لا تستطيع الميليشيات من الوصول
إلىه بواسطة السلطة الرسمية، فهي تمتلك الاحتياطي الكافي من تلك الميلشيات المسلحة
من دون مظاهر، تستخدمها الأحزاب الطائفية في تنفيذ فرض سلطتها ضد كل خارج عن
إرادتها.
إنه بلا شك أمن داخلي هش، تستطيع أية ميليشيا أن تهدده. فوحدة
الجيش والأجهزة الأمنية رهن بقرار أمراء الطوائف، فهم بستطيعون تقويضها عندما
تتناقض مصالحهم. وأصبح قرار السلم الأهلي أو الحرب الأهلية ملك أيديهم.
وماذا عن
العراق في ظل الاحتلال؟
وأما في
العراق، ولأن الاحتلال الأميركي فرض دستوراً يضمن مصالحه. وعلى الرغم من أن بعض
مواده تنص على مفاهيم وطنية في ظواهرها إلاَّ أنها استنتسابية في بواطنها ولا
تُعتبر مقياساً لمحاسبة الميليشيات على أساسها، بل علاجها يقتضي اقتلاع عملية
الاحتلال من أساسها وتحرير العراق من الاحتلال، الذي يعني تحريره من التبعية
للخارج، وتخليصه من مرض النقص في المناعة الوطنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق