حكومة الحريري قبل ولادتها:
ابتزاز ومساومات
كما في كل مناهجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبقى نظام الطائفية السياسية علَّة العلل في حياة لبنان. ومن أخطرها أن هناك تحالفاً مستمراً واستراتيجياً بين أحزابه الطائفية والعلاقة مع الخارج. فلا الخارج يستطيع أن يستخدم لبنان ممراً ومستقراً من دون وجود هكذا نظام، ولا أحزاب السلطة تستطيع أن تستمر في حكمها من دون دعم من الخارج واستقواء به.
وإذا
عدنا لمراجعة حصيلة سنة من عمر الانتفاضة، وإذا كانت أهدافها، بقدرة ساحر، تحوَّلت
إلى أهداف في ظاهرها لأحزاب السلطة الحاكمة. وإذا كانت الأهداف نفسها أصبحت أهداف
المبادرة الفرنسية، التي أرادت أن تظهر نفسها وكأنها قشة الخلاص لإنقاذ للبنانيين.
وإذا عرفنا أن قواعد اللعبة هي ذاتها بين القوى الحاكمة في لبنان، والقوى الخارجية
الطامعة فيه، لعرفنا حقيقة الشد والجذب الذي يحصل الآن في تشكيل حكومة الرئيس
الحريري. ولوصلنا إلى استنتاج أن مبدأ تبادل المصالح بين قوى الداخل وقوى الخارج، يفرض
عملهما معاً من أجل المقاربة في وسائل تشكيل الحكومة أكثر من المباعدة. وهذا ما
تترجمه حركة الرئيس المكلف ووسائله.
لقد
جمع الطرفين تحالف تاريخي أصبح من ثوابت اللعبة في إدارة النظام الطائفي السياسي
في لبنان، وإن هذا التحالف لا يزال صالحاً لتأسيس قواعد الاشتباك بينهما، أو قواعد
التوافق، بحيث لا تتجاوز حدودهما وسائل الابتزاز والمساومات، ويبقى هدف نهب شعب
لبنان وسرقة ثرواته الجامع الأكبر.
امتنعت
أحزاب السلطة الطائفية عن الاعتراف بأحقية الأهداف التي رفعتها الانتفاضة، بل أخذت
أوضاع لبنان وأزماته تزداد حدَّة وتعميقاً، من دون أية بارقة استجابة من تلك
الأحزاب، لا بل كانت تعمل بإصرار على وأد الانتفاضة وأهدافها. وإذا بانفجار مرفأ
بيروت يستحث اهتمام القوى الداخلية والخارجية، ولعلَّها كانت القشة التي فجَّرت البعض
من ضمائر الخارج، فظهرت بوجه المبادرة الفرنسية. أو لعلَّ أهدافها كانت لابتزاز
أحزاب السلطة بعد أن وصلت حدود الأزمات إلى حافة الهاوية، فجاءت لتمدَّ لهم حبل
الإنقاذ تحت شعارات وأهداف رفعتها الانتفاضة منذ سنوات.
في
حينها جاء الرئيس الفرنسي ماكرون، أبو المبادرة وصائغها بتنسيق مع عدد من الدول
البعيدة منها أو القريبة، غاضباً معربداً، مهدِّداً متوعداً، رافعاً أهداف انتفاضة
17 تشرين، عنواناً لمبادرته، وكأنه تحول إلى أحد مؤسسيها. واستدعى أمراء الأحزاب
للمثول بين يديه، والاستماع إليه، ووافقوا على ورقته الإصلاحية، وقد ظهر لاحقاً
أنهم يضمرون وأدها.
جاء
ماكرون ضامراً إنقاذ نظام الطائفية السياسية من الانهيار، وهو العارف أن في إسقاطه،
ستُدفن معه عوامل استقواء أحزاب السلطة بالخارج، ويأتي في المقدمة منه الغرب
الرأسمالي الذي طالما حكَّ على جراح التفتيت والتجزئة، والتي تؤكد أنه ما كان يمكن
للغرب الرأسمالي، وغيره من أنظمة الشرق الطائفية، أن يجد له قاعدة في لبنان يضمن
لها الاستقرار فيه لو لم يجد كل منها قاعدة طائفية يزعم أنها تحميها.
وما
كان انصياع أمراء الطوائف وإذعانهم بالحضور إلى قصر الصنوبر، لو لم يدركوا أن
تمردهم على الخارج سيعود عليهم بالخسارة، لأنهم لو قطعوا تلك العلاقات لما وجدوا
من يحميهم من غضب الشعب اللبناني.
ولأن الداخل والخارج يعرف قواعد اللعبة التي
يعطي كل من أطرافها عوامل القوة للآخر. فقوى الداخل تدرك تماماً حاجة الخارج لها.
والخارج يدرك حاجته لقواعد ثابتة في أنظمة الطائفية السياسية، تحمي تدخله وتشرعنه.
فقد عرف كل منهما حاجة الآخر إليه فدخلا بوابة التفاوض لفك النزاع بينهما بوسائل
ابتزاز أحدهما للآخر، ولذلك فُتحت بوابة المساومات لتقسيم الذبيحة اللبنانية.
كان
انصياع أحزاب السلطة الطائفية إلى أوامر ماكرون وإذعانها لأوامره من قبيل منع قطع
شعرة معاوية بينهما. وعرفت تلك الأحزاب أنه بغير موافقتها والاستجابة إلى شروطها،
أو على الأقل لبعضها، لا يمكن تمرير أية مبادرة خارجية، فقد أخذت تعرقل مبادرة
ماكرون، وهذا ما أثبتت الوقائع اللاحقة صحته.
وعن
هذا، فقد أسقطت قوى الداخل تكليف مصطفى أديب، الذي كان يحظى برضى وقبول واحتضان من
قبل فرنسا وحلفائها. أسقطوها لأنها تلغي أدوارهم. وبذلك راح وعد ماكرون ووعيده
هباء منثوراً. وبدلاً من تنفيذ وعيده، فقد أُغرقت مبادرته في متاهات أمراء الطوائف
من جديد.
ولأن
الدول الخارجية، الرأسمالية العالمية منها أو الطائفية الإقليمية، تعرف مدى فعالية
المساومات، على قاعدة (إذا لم يكن كله، فجُلُّه). أطلق الرئيس الفرنسي أرنباً
جديداً من فنون الرأسمالية السحرية، فكان الرئيس سعد الحريري هو ذلك الأرنب رهاناً
منها على أنه قد يكون الحل الوسط. خاصة وأنه المجرَّب بإدارة ملفات المساومات بين
أحزاب السلطة الطائفية، خاصة إنه ليس بمصلحته أن يفتح بوابات المساءلة والمحاسبة
عن جرائم الماضي.
لقد
كانت بداية تكليف الحريري تحمل مظاهر الرضوخ الواضح لأحزاب السلطة الطائفية على
الرغم من إعلانه الشكلي بأنه سيُحدث طفرة نوعية في تشكيل الوزارة، خاصة ظهوره وكأنه
يوقِّع على بياض لشروط انتفاضة 17 تشرين وأهدافها. ومن أجل الضغط عليه من قبل أحزاب
السلطة التي بغير مصلحتها أن تسمح بتمرير أية حكومة بغير تمثيلهم بشكل مباشر، أو
عبر ملائكتهم من التكنوقراط لحماية جرائمهم السابقة، فقد دخل معهم في متاهة
المساومات مرة أخرى، مستجدياً رضاها من أجل الحصول على أصواتها في جلسة إعطاء
الثقة.
وأدرك
المتابعون أن مشهد تشكيل الحكومات الذي كان سائداً قبل 17 تشرين، يتكرر من جديد ولكن
بألوان ظاهرية خادعة لمن لا يتعمَّق بأهدافها. ولم يدرك الجميع أن الحريري،
بالتوافق مع أصحاب المبادرة الفرنسية يُعيد إنتاج (حكومة الوحدة الوطنية) التي
طالما ارتكبت أحزاب السلطة الجرائم باسمها. فكأن (يا إنتفاضة لا رحنا ولا جينا).
إن
تشكيل حكومة تكنوقراط، التي أصرَّ الحريري على تسميتها، ليس أكثر من غلاف براق لمضمون
موبوء بالطائفية، موسوم برضى أمراء الطوائف وموافقتهم، وهم لن يوافقوا على حكومة
مستقلة تحضر مصنعاً لإنتاج آلاف القيود التي ستدخلهم أقفاص السجون على ما ارتكبوه
من جرائم، أو ستغلُّ أيديهم عن سرقات جديدة وجرائم جديدة بالفساد.
إن
الفساد السابق، أو وسائل الفساد اللاحق، هو ما تُعدُّ له الحكومة القادمة، ولذلك
ستحصد حكومة الحريري أصواتاً تعطيها الثقة.
كما
أن حكومة، كمثل الحكومة التي ستحصل على الثقة، ستحصد تواقيع الدول الخارجية وستنال
ثقتهم أيضاً طالما أنها ستعطيهم ثمناً لموافقاتهم شيكاً مضموناً لتوفير شروط
السلامة لمصالحهم.
بين
هذه وتلك من الاحتمالات، نحسب أن لبنان قادم على مرحلة تعيد فيها أحزاب السلطة
تجديد شكلها الخارجي، من دون أن تمس مثقال ذرة من مكتسباتهم. فهي ستحميهم من غضب
الشعب الذي تتعلَّق أنظاره برفع شبح الجوع الذي ستوفره صناديق النقد الدولية و مما
ستوفره بعض الهبات التي ستقدمها بعض الأنظمة الرسمية.
ولكي
لا يتم تمرير حكومة جديدة تثورن قراراتها بالشكل، وتشرعن واقع الفساد والنهب
بالجوهر. ولكي لا تتلهى جماهير الشعب الجائعة بفتات جديد من ثروات بلدهم، على
الانتفاضة أن تبقى العين الساهرة على مصالح أكثر الطبقات الشعبية المنهوبة الحقوق،
من خلال مأسسة هيئاتها الرقابية للكشف عن وجوه المحتالين، والقانونية لملاحقة كل
قضايا الفساد السابقة، وكذلك اللاحقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق