الوطنية والقومية
وجهة نظر في توضيح الحدود بين المصطلحات
في 11/ 3/ 2010
تعريف الوطنية
لا يمكن وجود شعب أو حضارة من دون وجود بقعة من الأرض/ إقليم/ وطن، وإن «مفهوم الوطن له علاقة بالأرض/الإقليم وهو إحدى الأسس الرئيسة للعلاقات الإنسانية... فالعلاقات الأولى بين الإنسان والبيئة الجغرافية ذات سمة سحرية ودينية. لكن ليس معنى ذلك أن هذه العلاقة، بين الإنسان والبيئة، كان في واقع المجتمعات القديمة فحسب، وإنما التمثلات الجماعية التي يكوِّنها الناس الحاليون عن «بلدهم الأم» وعن «وطنهم»… لها (أيضاً) سمة سحرية دينية بارزة جداً ([1]).
من خلال تعريفنا للوطن كأرض تسكنها مجموعة من الناس، نستنتج أن هذه المجموعة تكونت أساساً عبر عقود طويلة من الزمن اكتسبت فيه ثقافتها الخاصة التي تحفظ وحدتها على شتى الصعد. وبفعل التجربة الطويلة فقد أصبحت معنية، أفراداً وجماعة، بالدفاع عنها على شتى الصعد العسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهنا تبدأ المسألة القومية تأخذ أبعادها وخصوصياتها.
فالوطن إذن هو أرض يسكنها قوم، يتحدرون بداية من علاقات قرابية تشد تعاونهم وتآزرهم، وبمرور الزمن، تتباعد العلاقات القرابية لتحل بين أبناء القوم علاقات التآزر الاجتماعي. وما يشد القوم إلى أرضهم هو شعورهم القومي كرابط بالأرض التي توفر لهم الاستقرار. ولتنظيم حاجات أفرادها تصوغ الجماعة القومية القوانين والتشريعات التي تنظم حياتها الداخلية، وإليها تستند مفاهيم السيادة، وهي ما تُعرَف بحاجة الدفاع عن حدود الوطن كأرض. وعن ثقافتها الخاصة كتعبير عن خصوصياتها. فالوطن والقوم، إذن، ثنائية متحدة. واستطراداً تُعتبر الوطنية والقومية مصطلحان لمفهوم واحد. فالوطن هو أرض والقومية هي شعور بالانتماء لهذه الأرض.
ومن هذا المنطلق، ولأن النظرية القومية ذات نشأة أوروبية، لم تميِّز اللغات الأوروبية بين مفهوميْ (الوطنية) و(القومية) بل أعطتهما مصطلحاً لغوياً واحداً، وهو (nation)، و(national).
التباس بين مفهوميْ المصطلحين في التداول الثقافي العربي
وبالعكس من ذلك، فقد وقع التباس بين المصطلحين في اللغة العربية، كما وقع هذا الالتباس في التداول السياسي، وكذلك في الخطاب الإيديولوجي.
وللنظر بهذه المسألة ولضرورة الحسم بين حدود المصطلحات، لا بد من استقراء الكيفية التي تكوَّنت فيها النظرية القومية في أوروبا. وبدوره سيشكل مدخلاً منهجياً يساعدنا على تفسير الالتباس الحاصل بين المصطلحين في الثقافة العربية.
وراء صعود الفكرة القومية في أوروبا دوافع سيادية واقتصادية
لقد كان الخوف من طغيان جماعة قومية على أخرى من أهم الأسباب التي أسهمت في تكوين الفكرة القومية. وهذا الأمر كان سائداً في العهود القديمة التي تعود إلى قرون سحيقة في التاريخ، عندما كانت النزعة الإمبراطورية، أي توسع جماعة على جماعة أخرى، تشكل استراتيجية للشعوب القوية. وتعتبر الإمبراطوريات اليونانية والرومانية والفارسية والمغولية وغيرها أمثلة حسية على تلك الحالة.
والنزعة الإمبراطورية تعبِّر عن نزعة شعب من الشعوب في تصدير مفاهيمه الحضارية إلى شعوب أخرى، إذ يعتبر نفسه متفوقاً عليها. وهو إذا ما استأنس بامتلاكه مقومات القوة العسكرية يقوم بغزو غيره من الشعوب. وتحت ذريعة تصدير حضارته تكمن مطامعه الاقتصادية، إذ بالغزو والاستيلاء على المزيد من الشعوب والأراضي تزداد موارد الغزاة وثرواتهم. وفي مقابل ذلك لم يحصل غزو إمبراطوري من دون مقاومة أو مواجهة تعد لها الشعوب التي وقع فعل الغزو عليها.
لقد لحقت نزعة التوسع الإمبراطوري حتى بالدعوات الدينية السماوية، ولكن تحت ذريعة نشر الدين، وتطبيق تشريعاته التي كانت تعتبر بمثابة أوامر إلهية. وهذا ما حصل في تجربة الكنيسة المسيحية في أوروبا مثلاً. فالكنيسة لم تستخدم الغزو العسكري، وإنما استخدمت قوة الدين وتأثيراته الروحية على الشعوب. وعندما بسطت الكنيسة سلطتها، انطلاقاً من روما، رافقت تلك السلطة نزعة الهيمنة والاستغلال الاقتصادي. وهذا ما يميز تاريخ السلطة الكنسية، لباباوية روما، في علاقاتها مع الشعوب الأوروبية، حينما كانت تبسط سلطتها على كل أنحاء أوروبا(*).
نزعة الكنيسة إلى امتلاك السلطة الزمنية والدينية أثارت ردود فعل قومية
تاريخياً، كانت الكنيسة، في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، ترفض الفكرة الرومانية القائلة بأن الدين خاضع للدولة؛ وترى في عبادة الإمبراطور نوعاً من الشرك وعبادة الأصنام؛ فأمرت أتباعها أن يرفضوا هذه الشعائر مهما يلحقهم من الأذى بسبب هذا الرفض. ولهذا اتُهِمت الكنيسة المسيحية بالسعي لقلب نظام الحكم. وعلى الرغم من ذلك فقد انتصرت الكنيسة وبسطت سلطانها الديني والزمني على الشعوب الأوروبية. فأصبح البابا، ممثل الله على الأرض، وأعلنت الكنيسة أنه يجب أن تكون لها السيادة العليا والسلطان الأعظم على المسيحيين-حكاماً كانوا أم محكومين- إي في شؤون الدين والأخلاق، إن لم يكن في جميع الشؤون([2]).
يثبت تاريخ نشأتها أن الكنيسة عندما طغت على الشعوب المسيحية بدأ التململ يتزايد من تلك الهيمنة. وقاد الملوك والأباطرة المسيحيين صراعاً ضد سلطة البابا في روما. وهذا الأمر أدى إلى صراع طويل ومرير بين الكنيسة ومناوئيها من المسيحيين أنفسهم. وشمل الطرف المناوئ كلاً من الملوك والفلاسفة وحتى رجال الدين المسيحيين كل حسب انتمائه العرقي والمناطقي.
أما الملوك فقد كانوا يناهضون سلطة الكنيسة لأنها كانت تجردهم من امتيازات السلطة على الشعب، ومن حرية التصرف بعائدات المملكة. وكانوا يمثلون رموزاً للحكم، ولكنهم لا يكتسبون شرعيتهم إلاّ باعتراف الكنيسة بهم. بينما إيرادات المملكة الاقتصادية كانت تعود إلى جيوب باباوية روما. وهذا لم يكن ليحوز على رضى الملوك وقبولهم.
وعن دور الفلسفة في أوروبا، فقد كان من المحتَّم أن تُثير نهضة الفلسفة، في القرن11م، معارضة النُسَّاك الذين يرون أن الحياة المسيحية المؤسَّسّة على الإيمان تقتضي جهداً مستمراً نحو الكمال. وإن تبرير العقيدة بحجج العقل إنما هو إسراف غير مفيد لوقت ثمين؛ ولذا فمن الأفضل أن يُبحث، عند تأمل الكتاب المقدَّس، عن غذاء أخلاقي معنوي يغذِّي الروح([3]).
لكن عندما بدأت المعرفة تنتشر في الحقول العلمية لم تعد القضية، في القرن16م، في نظر الفلاسفة الأوروبيين قضية كثلكة ضد بروتستانتية، بل قضية المسيحية نفسها([4]). فانخرط الفلاسفة في نقد الفكر الديني عموماً. وفي نقد استئثار الكنيسة بالسلطتين الدينية والدنيوية.
وعن الفلاسفة، كأمثلة، وليس للحصر، فقد ظهر، في النصف الأول من القرن14م، عدد من الفلاسفة، الذين أسهموا في معركة الإصلاح السياسي؛ ومنهم بيير ديبوا، الذي دعا إلى تجريد البابوية من كل أملاكها الدنيوية وسلطانها الزمني، ودعا حكام أوروبا إلى رفض الخضوع لسلطان البابا؛ ودعا إلى انفصال الكنيسة الفرنسية عن روما، وتخضع للسلطة الزمنية الفرنسية، وللقانون الفرنسي. وعن ذلك يقول ديورانت: «ليس من شك في أن ديبوا من زمرة المشتغلين بالشريعة، الذين كانوا يطمحون إلى ألا يقوم رجال الدين بتوجيه سياسة الحكومة. وقد فاز في معركته، ونحن نجني اليوم ثمار انتصاره»([5]).
وعن رجال الدين، في ألمانيا مثلاً، فقد كانوا متدينين مخلصين للعقيدة؛ وكان منهم الزهَّاد الأوغسطينيون أشد الرهبان حماسة للإصلاح الديني، وهم الطائفة التي اختار مارتن لوثر(الألماني الجنسية) أن ينتمي إليها عندما قرَّر أن يصبح راهباً. وهم أنفسهم شكوا من ثراء البطاركة المنغمسين في النعيم الدنيوي. وكان الاتهام الموجه إلى الإيطاليين أنهم يستنزفون دماء الهيئة الكهنوتية بسلب الذهب. فانضمَّ بعض الرهبان والقساوسة إلى حملة الهجوم ضد الترف الذي يعيش فيه كبار رجال الدين([6]).
وكان الحدث الأهم في عصر النهضة هو نشر الإنجيل باللغة القومية. وكان السبَّاق إلى هذا العمل هو مارتن لوثر، الذي ترجم الكتاب المقدَّس إلى اللغة الألمانية؛ فجعل لغة مشتركة للشعب الألماني. وكذلك تمَّ نشره باللغة المحلية في إنجلترا([7]).
ونتيجة لكل ذلك، وأياً تكن أسباب وأهداف وقوف الملوك والفلاسفة ورجال الدين في وجه باباوية روما والكنيسة المسيحية، فقد أسهمت حركتهم بإعلاء شأن السيادة الوطنية لبلدانهم، ومنها شقَّت الفكرة القومية طريقها نحو الظهور، لتصبح في عصرنا الراهن قانون العصر الذي يحدد علاقات الدول بعضها مع البعض الآخر.
نتيجة الصراع بين أممية الكنيسة وحق الشعوب في تقرير مصيرها:
نشأة القوميات في أوروبا
كان هدف تحرير الشعوب الأوروبية من سلطة الكنيسة مطلباً شمل الملوك والأباطرة والإقطاعيين والبورجوازيين والفلاسفة ورجال دين. وبعد القضاء على سلطة الكنيسة، تم بناء الدولة في أوروبا على قواعد قومية. فكانت هي المرة الأولى التي عرف فيها العالم الخطوة الأولى التي بدأ منها عصر بناء الدولة القومية الحديثة. ومن أجل الدفاع عنها قاومت الدول الأوروبية، فيما بعد، كل توسع إمبراطوري آخر، ابتداء من النزعة النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، مروراً بالنزعة النازية في أواسط القرن العشرين، انتهاء بالأممية الماركسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1990.
القومية العربية مفهوم حديث
يشق طريقه باتجاه بناء كيان سياسي وطني موحد
وإن كان الإسلام يشكل أهم عوامل التكوين القومي العربي، فإن تكوين القومية العربية مرَّ بسلسلة من التحولات التاريخية الطويلة، لعلَّ بدايتها تعود إلى مراحل سحيقة قبل ظهور الدعوة الإسلامية. وتلك التحولات كانت ذات أسباب جغرافية واقتصادية وثقافية ودينية، وكان من أهمها وحدة المصير نتيجة وحدة المعاناة.
فعلى صعيد الحضارة، تعود إلى وحدة التفاعل بين حضارات بلاد ما بين النهرين ذات الستة آلاف عام وأكثر، وحضارة بلاد نهر النيل التي تكوَّنت عبر آلاف السنين. وظهرت أهم معالم تلك الحضارة بصور عديدة، من أهمها ثلاث:
-الأولى: نشأة الأديان السماوية عبر آلاف السنين من تفاعل عوامل المعرفة وتراكمها بين مختلف المجموعات البشرية التي عاشت في هذه المنطقة، التي مثَّل طوفان نوح واحداً من وجوهها، بحيث رست سفينته، كما أثبتت الحفريات الحديثة، على سفوح جبال آرارات شمال منطقة ما بين النهرين، كما أن الحفريات السومرية أثبتت أيضاً أن أول ملامح الفكر الديني السماوي نشأت هناك. وبمقارنة بعض نصوص تلك الحفريات مع نصوص الكتب المقدسة يدل على وجود نقل حرفي لبعض التعاليم الدينية السماوية عن تلك النصوص. هذا ولا ننسى أن الدعوة الموسوية شكَّلت حقلاً مشتركاً ما بين التاريخ الفرعوني في مصر مع تاريخ الديانة الموسوية التي تكوَّن مصدرها الأول في قصر الفرعون وانتقلت إلى أرض فلسطين.
-الثانية: الغزوات الداخلية التي كانت تنطلق من بلاد ما بين النهرين نحو بلاد الشام وصولاً إلى فلسطين ومصر. والتي بعضها اتجه من مصر نحو بلاد الشام. وهنا لا ننسى الرحلات التي ربطت ما بين الساحل اللبناني وساحل تونس، والتي كان من أهمها بناء مدينة قرطاجة في تونس على أيدي التجار الفينيقيين القادمين من مدينة صور اللبنانية.
-الثالثة: الغزوات الخارجية التي عاشت فيها المنطقة تحت حكم إمبراطوريات آتية من أوروبا، ومن أهمها إمبراطورية الإسكندر المقدوني، والإمبراطورية الرومانية. وهنا لا ننسى التمدد الفارسي الذي خضعت له المنطقة أيضاً. وبفعل تلك الغزوات كانت وحدة المصير هي التي ربطت شعوب المنطقة طوال تلك الفترة، وازدادت تلك الوحدة بتأثير المعاناة الواحدة من الغزوات الإمبراطورية.
ما بين هذا العامل أو ذاك، فقد شكَّلت شبه الجزيرة العربية محطة تجارية مهمة بين الشرق الإفريقي والغرب الآسيوي. ولا ننسى تأثير الرحلات التجارية التي شارك بها محمد بن عبد الله، في التأسيس لنبوته، والتي لعبت فيها شخصيات ثلاث المحور الرئيسي في التمهيد لها، وهم: راهب بحيرا في الشام، والقس ورقة بن نوفل المسيحي في مكة، وابنة عمه السيدة خديجة بنت خويلد التي تزَّوجت بمحمد قبل مرحلة الدعوة. وهذا يدل على وجود عاملين أساسيين: عامل التواصل الجغرافي بين شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام من جهة، وعامل التواصل الثقافي الذي اتخذ وجهاً دينياً واقتصادياً من جهة أخرى.
وبفعل الدعوة المحمدية، استطاع عرب شبه الجزيرة العربية أن يوسعوا نفوذهم إلى المناطق المجاورة من دون جهد كبير. فتم فتح بلاد الشام وتحريرها من الإمبراطورية البيزنطية، في غضون أربعة أعوام (634 – 638). وثلاثة أعوام لفتح العراق وتحريره من الفرس (633 – 637). وفتح مصر وتحريرها من الرومان في أقل من سنتين (639 – 640).
وعلى مدى زمني امتد لقرون طويلة، تبدَّلت فيها هوية الخليفة، وانتقلت فيها الخلافة إلى المسلمين من غير العرب، وتتابع على حكم الإمبراطورية الإسلامية سلاطين من المماليك والأتراك، وتوسَّع الفتح الإسلامي إلى بلاد كانت بالأصل غير غربية، فتعرَّب بعضها بعد أن أسلمت وانصهرت شعوبها بالثقافة العربية الإسلامية، واستعصت شعوب أخرى على التعريب والأسلمة. وهذا كان له تأثيره في مصائر الشعوب التي كانت تعد من رعايا الإمبراطورية الإسلامية، وأنتجت حالة فرز جديدة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى، فذهب كل شعب إلى تشكيل كيان سياسي قومي له خصوصياته. وانشغل كل جزء منها في بناء نظام قومي سياسي، باستثناء الشعوب التي تعرَّبت طوال قرون عديدة من الانصهار بالثقافة العربية الإسلامية فقد مُنعت من الحصول على وحدتها القومية على أرض وطنية.
وبناء على هذه الصيغة من التكوين التاريخي، كان من الواقعي، وأسوة بشعوب الإمبراطورية الإسلامية المنهارة، أن تبني تلك الأقاليم كيانها السياسي الموحد بعد أن انصهرت في تكوين قومي عربي تاريخي. ولكن ما حال دون ذلك، هو القرار الذي اتخذته الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بتسوير تلك الأقاليم بحدود جغرافية مصطنعة، لأنه كان من أهم أهدافها، بالحؤول دون توحيدها، منع حصولها على أي قوة قد تشكل خطراً على مصالح تلك الدول. ولا تزال الدول الغربية، ذات النهج الرأسمالي الاستعماري تخشى من وحدة الأقطار العربية السياسية خاصة بعد تجربة انتشار المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فاستبدلت استراتيجيتها القائمة على التقسيم الجغرافي حسب اتفاقية سايكس بيكو، وراحت في المرحلة الراهنة تعمل على تطبيق استراتيجية التقسيم الطائفي حسب مشروع الشرق الأوسط الجديد. وهي لكل هذه الأسباب لا تقف في صف العداء ضد أي وحدة سياسية عربية فحسب، بل تعمل من أجل إلغاء أي اتجاه وحدوي فكري أو سياسي نظري أيضاً. فاجتثاث الفكر القومي العربي يتقدم أهدافها ومخططاتها، ولأنها باجتثاثه تضمن غياب الأصل الفكري النظري للهدف السياسي الوحدوي، خاصة أنه يشكل البوصلة لأي تيار فكري سياسي وحدوي.
القومية العربية إطار فكري مكتمل الشروط النظرية
ومن حق العرب أن يتوحدوا في نظام سياسي موحَّد
ولأن عامل الشعور القومي موجود بين سكان الأقطار العربية، ويتأكد وجوده بكل مقوماته الجغرافية والثقافية والحضارية والاقتصادية والعسكرية والمصيرية، بل أصبح وجوده حاجة تقتضيها مصلحة تلك الأقطار، كان لا بُدَّ من استخدام المصطلح (القومية العربية) بشكل شامل ليدل على هوية سكان الأرض العربية بحدودها الجغرافية المعروفة، من المحيط إلى الخليج. وهذا يعني أن الشعب العربي له أرض وطنية، هي الأرض العربية، لكنها لم تتحول حتى الآن إلى كيان نظام سياسي بالفعل لأسباب أشرنا إلى أهمها. وهذا ما يقتضي استخدام مصطلح الوطن العربي لشعب عربي واحد، لا شك بإحساسه بشعور قومي واحد تكون عبر قرون من الزمن، وأرض عربية واحدة تمتلك مقومات التكامل الاقتصادي والجغرافي.
وانطلاقاً من ثنائية (الوطن كأرض– والقومية كشعور) نجد أن الشعور القومي أصبح متحققاً، ومنتشراً بين العرب من المحيط إلى الخليج، بينما صنوه الآخر من الثنائية (الوطن كأرض) لم يتحقق بعد في نظام سياسي وحدوي. فقد أدى عدم اكتمال حدَّيْ الثنائية (الوطن – القومية) إلى التباس في الثقافة العربية والخطاب الإيديولوجي العربي وأخذ ينتشر ويزداد التباساً. وكان الالتباس يحصل من تسمية أجزاء الوطن العربي، التي لم تتوحَّد حتى الآن، أوطاناً (لبنانية، سورية، مصرية...). فتغلَّب إطلاق مصطلح الوطنية القطرية على مصطلح الوطنية القومية. وراج الخطأ الشائع وهيمن على الخطاب العربي السياسي والثقافي والإيديولوجي.
وقد أسهم في حصول هذا الالتباس عاملان، وهما:
1-عامل التغريب الثقافي الذي يعمل على نشره وتعميقه كل القوى الرأسمالية والاستعمارية على قاعدتيْ اتفاقية سايكس بيكو ومشروع الشرق الأوسط الجديد، كما يسهم في الترويج له وتعميقه كل التيارات الدينية السياسية لأنه يتناقض أيضاً مع مشاريعها الدينية السياسية الأممية.
2-عامل الثقافة الليبرالية المتأثرة بعامل التغريب الثقافي، والتي تنتشر في بعض الأقطار العربية، وهي تلك التي انبهرت بنتائج التغيير الحاصل في الحضارة الغربية، وهي لا تهتم بكل العوامل التي تثبت أن الأقطار العربية تشكل جزءاً قطرياً من كلٍّ قومي عربي.
نتائج الدراسة
كل مصطلح وطني أو قومي أو ديني
يشكل صفة لموصوف واحد هو (العروبة)
حيث إن هوية التجمعات في الأقطار/ الأقاليم عربية، فالقومية هي عربية. وحيث إن الأرض التي تعيش عليها تلك التجمعات توفر لسكانها كل شروط الحماية والسيادة والتكامل الاقتصادي والأمني، فإن الأرض عربية، واستطراداً فالوطن هو عربي.
وقياساً على ذلك، وباتحاد شطريْ الثنائية يصبح استخدام (الوطن العربي) هو الاستخدام الصحيح. واستخدام مصطلحات كمثل (الوطن اللبناني) أو (الوطن السوري)، يصبح كمن يستعير اسم الكل ليطلقه على الجزء، وهو قد أصبح من الأخطاء الشائعة. بحيث إن الالتباس بين حدود المصطلحات أتى من خلط استخدام الوطنية للتعبير عن النزعة القطرية، والقومية للتعبير عن النزعة القومية، وباستخدام مصطلح الإسلامية ازداد الالتباس واستفحل. وكل تيار من تيارات الثقافة العربية، من أصحاب النزعات (الليبرالية القطرية، والأمميات الدينية والمادية، والقومية العربية) راح يعمم مصطلحاته التي تخدم إديولوجيته. ومما زادها أيضاً، أنه تحت الحاجة لتوحيد الجهود في مواجهة الاحتلال الأجنبي، سادت وسائل التوفيق بين شتى تلك النزعات، فراحت القوى تعمم مصطلحات جبهوية تجمع الصفات الوطنية مع القومية مع الإسلامية. وهنا وقع الجميع في ثغرة تعميم مصطلحات لا تصمد أمام أي محاكمة موضوعية، أقلها التشكيك، الذي توضحه الأسئلة التالية:
-هل الوطني القطري، هو غير القومي العربي؟
-وهل الإسلامي هو غير الوطني القطري، وغير القومي العربي؟
-وهل أصحاب النزعات الإيديولوجية، على شتى تصنيفاتهم، هم من غير العرب؟
ويكفي جواباً على كل ذلك: إن الوطني القطري هو عربي لأنه لم يسهم في معركة التحرر العربي قطري من غير العرب.
وإن الإسلامي هو عربي، لأنه لم يسهم في معركة التحرر العربي، مسلم من غير العرب.
وأخيراً ندعو كل من يسهم في نشر الوعي القومي إلى الإسهام في ورشة التقريب بين حدود المصطلحات، على قاعدة أن الوطني هو عربي، والإسلامي ليس غير عربي، والمسيحي هو من العرب أيضاً. وإن كل إنجاز تحرري، سواءٌ أتمَّ بصيغة وصف قطري أم وصف قومي أم وصف إسلامي، أم وصف مسيحي، فهو سيصب في بحر المصلحة العربية في كل أقطار الأمة العربية. وبالتالي فإن الوطنية والقومية والإسلامية والمسيحية... هي صفات لموصوف واحد، والموصوف الواحد هو (العروبة).
(*) لمزيد من التفاصيل، راجع الفصل الخامس من كتابنا (الردة في الإسلام): دار الكنوز الأدبية في بيروت. والمنشور على مدونة (العروبة) وعنوانها هو التالي: (www.al-ourouba.blogspot.com).
بريدك الإلكتروني والمزيد أثناء تنقلك. احصل على Windows Live Hotmail مجانًا. اشترك الآن.
هناك تعليق واحد:
تحياتي ايها الرفيقُ المُمترس على حدود العروبة تُسيِّجُها بجفونك
"فقرة مقتبسة من صلب المقال"
(( فذهب كل شعب إلى تشكيل كيان سياسي قومي له خصوصياته. وانشغل كل جزء منها في بناء نظام قومي سياسي، باستثناء الشعوب التي تعرَّبت طوال قرون عديدة من الانصهار بالثقافة العربية الإسلامية فقد مُنعت من الحصول على وحدتها القومية على أرض وطنية.
وبناء على هذه الصيغة من التكوين التاريخي، كان من الواقعي، وأسوة بشعوب الإمبراطورية الإسلامية المنهارة، أن تبني تلك الأقاليم كيانها السياسي الموحد بعد أن انصهرت في تكوين قومي عربي تاريخي. ولكن ما حال دون ذلك، هو القرار الذي اتخذته الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بتسوير تلك الأقاليم بحدود جغرافية مصطنعة، لأنه كان من أهم أهدافها، بالحؤول دون توحيدها، منع حصولها على أي قوة قد تشكل خطراً على مصالح تلك الدول. ولا تزال الدول الغربية00000،)) انتهى الاقتباس.
رفيقي العزيز
لماذا لم تعمل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى على تقسيم تركيا او تقسيم ايران بل بالعكس سمحت لهم باقامة دولتهم القومية وزيادة على ذلك اعطت تركيا((المهزومة)) لواء الاسكندرونة و سمحت لايران باحتلال الاحواز العربية
السؤال : هل الخوف من ان تشكل الامة العربية خطراً ضد مصالح الدول المنتصرة فقط كما ورد في الاقتباس اذا كان ذلك لماذا لم تخف هذة الدول من وحدة ايران او وحدة تركيا
ام ان هناك اسباب اخرى خفية وراء هذا الحقد على العرب والعروبة؟؟
إرسال تعليق