إشكاليات والتباسات في « التجربة العراقية »
بحث قُدِّم في مؤتمر عُقد في مدينة صور / لبنان في شهر حزيران من العام 2003
قسَّمت بحثي إلى مقدمة تتناول مشكلة العلاقة بين التفكير الفلسفي والتفكير الإيديولوجي والخبري. ثم قمت بعرض مكثَّف للإشكاليات التي تمظهرت من خلال التجربة العراقية. وأنهيته بعدد من النتائج.
كثرة من المثقفين والمفكرين تمارس وظيفتها الإخبارية أو الإيديولوجية في متابعة مسار الأحداث، وقلة منهم تعطي للعقل الفلسفي المجرد دوراً في تقييم ما يحصل تقييماً موضوعياً. فبين العقلين الفلسفي والإيديولوجي تتكامل وسائل المعرفة ومن خلال التكامل بين العقلين تتراكم مفاهيمنا العامة حول عدد من الظواهر السياسية والثقافية.
فإذا كان العقل الإيديولوجي أداة للدفاع عن الذات، لكنه يجب أن لا تغيب عن الإيديولوجيين حقيقة حاجتهم إلى عقل موضوعي مجرُّد، وهو الوحيد الذي يصوِّب أمامهم ما يعبر عنه المثل الشائع »وعين الحب عن كل عيب كليلة«.
لم نعط في حركتنا الثقافية اهتماماً إلاَّ لنقد الأنظمة والأحزاب السياسية، وحتى الأحزاب السياسية حالت مواقفها الإيديولوجية عن رؤية الحقيقة الموضوعية.
جاء، في بحثي، نداء إلى أصحاب العقل الموضوعي، مفكرين ومثقفين، يدعوهم إلى أن يقوموا بدورهم، على صعيد توسيع دائرتهم، لتنتشر أكثر فتشعُّ أكثر، على صعيد الاهتمام في مناقشة المفاهيم الأساسية التي توجِّه المسارات السياسية والإيديولوجية. والسبب في دعوتي هذه يستند إلى أن التراكم المعرفي في الخطاب العربي على شتى مستوياته الخبرية والإيديولوجية والسياسية لن يحتل موقعه المداوي للأمراض إذا لم يتحول إلى تراكم في تحديد المفاهيم العامة.
ومن خلال التجربة العراقية، وجَّهت في بحثي النظر إلى عدد من الإشكاليات والالتباسات التي لم تستفد الحركة الفكرية العربية منها من خلال دراستها بموضوعية واستنتاج تعريفات حولها بما يسهم في تراكم الثروة الفكرية التي تقي المعرفة الخبرية والإيديولوجية من الوقوع في التناقضات.
من تلك الإشكاليات والالتباسات قمت بعرض أربع إشكاليات، يتفرَّع من إحداها التباسات ثلاثة، وهي الواردة تحت الأسئلة الموجهة إلى المفكرين العرب ومثقفيهم:
-الإشكالية الأولى:
موقع القضية العراقية من الدائرة القومية: هل يقف المثقف والمفكر العربي منها وكأنها قضية قطرية؟ هل على المفكر أو المثقف العربي أو الملتزم بحزب سياسي عربي، أن يقف على الحياد من تلك المسألة، لأنها قضية قطرية عراقية أولاً، أو لأنها ثانياً تجربة خاصة بتيار حزبي قاد تلك التجربة بمفرده؟
-الإشكالية الثانية:
تولَّدت من الحروب التي خاضها العراق عدة من الإلتباسات، وهي مثار جدل ونقاش. وقد نتج عنها عدة من الالتباسات، وهي:
الالتباس الأول: تحديد الأولويات في الانتماء: هل هو للوطن أم للدين والمذهب؟
الالتباس الثاني: تحديد الأولويات الوطنية والقومية النضالية: بمعنى أنه إذا تعددت المهمات في مرحلة زمنية واحدة على أن يكون أحد طرفيها الصراع مع القوى الخارجية، ينتج عنها ثنائيات (الوطني – الطبقي) و(الوطني – الديموقراطي)…
الالتباس الثالث: شرعية القوى المعارضة المحلية من خلال اتكائها على الخارج المعادي، أو استقوائها به.
إن تحديد وتوحيد مفاهيم عامة حول تلك الالتباسات، التي تمظهرت في التجربة العراقية، يفرض تحديد مفهوم موحَّد حول مسألة الخيانة الوطنية والقومية. وهذا ما يؤدي، أيضاً، إلى توحيد هذا المفهوم على المستوى القومي العام.
الإشكالية الثالثة:
انحياز العقل الإيديولوجي إلى تأييد تجربة ونقد تجربة أخرى، فمن غير الجائز أن يصنِّف المفكر والمثقف الموضوعي التجارب والظواهر إلى مسكوت عنها وأخرى خاضعة للنقد والتجريح. فمن واجبات العقل المعرفي الفلسفي أن يُخضع كل التجارب والمشاريع إلى غربال النقد الموضوعي.
الإشكالية الرابعة:
تحديد موقع المساس بالسيادة الوطنية في معادلة موازين القوى في أثناء الصراع مع الخارج: إذ تمظهرت هذه الإشكالية في انقسام المثقفين العرب إلى تيارين رئيسين، وهما:
التيار الأول ويمثِّله الليبراليون الذين، بذريعة التعقل والحكمة، بسبب اختلال موازين القوى، يدعون إلى الامتناع عن خوض الصراعات مع قوى العدوان تحت طائلة الاتهام بالرومانسية أحياناً وبالسوريالية أحياناً أخرى. أما التيار الثاني: فهو الذي يعمل من أجل الدفاع عن السيادة الوطنية، كقيمة إنسانية عليا، مهما بلغت التضحيات.
من نتائج البحث
قد يتساءل البعض عن غياب أجوبتي الكاملة عن حلول لتلك الإشكاليات. إلاَّ أنني أوضح أن مجرَّد إبرازها هو جزء من الجواب المطلوب، أما الجزء الآخر فله علاقة بحوار جدي وجاد، على المثقفين أن يولوه الاهتمام الكافي.
دعوت المفكرين العرب ومثقفيهم إلى الحوار حول المسائل التالية:
أولاً: حسم الالتباس بين الولاء للوطن والولاء للدين أو المذهب. من خلال بحث العلاقة بين شعاريْ الدولة الدينية والقومية، أي بما له علاقة في تحديد أولوية الانتماء للدين أو للوطن، أو شرعية تصدير الثورة على أنموذج الدولة الدينية الأممية المفتوحة الحدود.
ثانياً: ترتيب الأولويات في النضال في الحالة التي تواجه فيه الشعوب عدةَ أهداف في آن واحد. كمثل ثنائية النضال الوطني والطبقي، وثنائية النضال الوطني والديموقراطي.
ولأن ثنائية (الوطني – الديموقراطي) كانت من أبرز القضايا التي شاع الجدل حولها في القضية العراقية، رأيت أن البحث في مسألة الديموقراطية هو هم عربي عام، وليس هماً عراقياً خاصاً. وأن وضع تحديدات واضحة حول المسألة الديموقراطية هي مهمة ملحَّة. ويمكن بحثها استناداً إلى بعض العناوين الإشكاليات التالية:
أ-لأن زوايا النظر إلى الديموقراطية متعددة بتعدد الحركات الإيديولوجية. ولأن جماهير الشعب لم تكتسب –حتى الآن- ثقافة ديموقراطية تجعل ممارستها لها ممارسة سليمة، نرى أن توحيد زاوية الرؤية للوعي والفعل الديموقراطي مدخل ضروري يترافق مع محاكمة تطبيق الأنظمة الرسمية والأحزاب السياسية للديموقراطية.
ب-إن إشكالية الديموقراطية –على الصعيد النظري- إشكالية أساسية. فهناك الديموقراطية الليبرالية الغربية، والديموقراطية عند الأحزاب المعاصرة، والديموقراطية عند التيارات السياسية الدينية.
ج-هل الاستناد إلى الخارج المعادي، والاتكاء عليه في تصدير الثورة يكتسب شرعية ديموقراطية؟
هذا المزيج المتعدد من المفاهيم الديموقراطية، يدفع إلى القول بأن شعار الديموقراطية السائد هو شعار عائم وغائم، وبالتالي غير متَّفق عليه. وغياب الحسم في شتى جوانبه يؤدي إلى الالتباس في تحديد مفهوم ثابت لتعريف الخيانة الوطنية.
والسلام عليكم
نص البحث كاملاً
إشكاليات والتباسات في التجربة العربية العراقية
تحتل التجربة العراقية جزءًا مهماً في التجربة العربية في هذه المرحلة لأنها تمثل جانباً رئيساً في الصراع المباشر بين المشروعين النهضوي العربي ومشروع قوى التحالف الإمبريالي الصهيوني.وهي الآن تمثل أكبر القضايا القومية العربية الموضوعة أمام الفكر العربي. لقد أشارت بعض الدلائل، قبل العدوان على العراق وبعد احتلاله، أن بعض المفكرين العرب وبعض المثقفين استقالوا من مهمتهم وأوكلوها إلى السياسيين، أو أنهم تقمَّصوا دور السياسيين، لذلك لم ينجحوا في دورهم كمفكرين من جانب وعجزوا عن أن يلعبوا دور السياسي وحذقه من جانب آخر.
من أهم التحديات التي تواجه العرب، منذ أوائل القرن العشرين وصولاً إلى هذه المرحلة، هي أن يؤسسوا الفكر الذي يصوِّب الاتجاهات السياسية، على أن تكون تلك الأسس مستندة إلى قضاياهم الرئيسة بما يتلاءم بين صفاتها الإنسانية العامة، وخصوصياتها الوطنية والقومية. ونرى أنه لا يمكن أن يقوم بعبء المعالجة إلاَّ المفكرون العرب.
آن للعرب أن يضعوا قضاياهم فوق منخل الفكر وأن يأخذوا من مهمات السياسة حتى ولو القسط الضئيل. وعلى المفكرين العرب أن يأخذوا دورهم المنتج، وليس المستهلك، الفاعل وليس المنفعل، لأن السياسة إذا لم تستند إلى الفكر تسلك طريق التيه فتتخبط فتنحرف بالقرار إلى مهالك التسطيح وردود الأفعال، فتنعكس سلباً على أصحاب القرار السياسي. والأهم من هذا كله تنعكس سلباً على تكوين الوعي المعرفي لجماهير الشعب.
لقد وقعت شريحة واسعة من المفكرين العرب، وأخرى من المثقفين الليبراليين، فريسة سائغة بين عاملين راحا يركبّان صورة الوضع العربي الراهن بما يتلاءم مع مصالحهما، وهذان العاملان هما: السياسي العربي، بما فيه النظام السياسي العربي، من جهة، وقوى التحالف الاستعماري الصهيوني من جهة أخرى.
أما العامل الأول، فراح يتلطّى أعضاؤه تحت ذرائع الحكمة والواقعية في النظر إلى الاختلال الحاصل في موازين القوى المادية، وخاصة العسكرية منها، لكي يبرِّر دعوته في إقناع الحركات والقوى التحررية إلى الاستجابة لشروط قوى المشروع المعادي.
أما العامل الثاني فقد مثَّلته قوى التحالف الأميركي البريطاني الصهيوني وراحت تروِّج، إعلامياً وفكرياً، ذرائعها لكي تبرِّر عدوانها على العراق، فأعمت بعض البصائر العربية عن رؤية حقيقة ما يقف وراء دخان تلك الذرائع التي لم تصدقها حتى شعوب دول العدوان ومعظم تياراتهم الفكرية والسياسية. أما نحن فصدقنا كل تلك الذرائع وانطلت الخديعة حتى على بعض التيارات الفكرية والسياسية والثقافية العربية.
فإذا كان من غير المفيد أن نخاطب الأنظمة العربية، التي وقعت أكثريتها الساحقة في فخ الخداع الأمبريالي الصهيوني، أو تلك التي ارتبطت مصالحها الطبقية مع قوى التحالف المذكور، نرى أنه من الأساسي في مهمتنا أن نخاطب المفكرين والمثقفين العرب لأنهم هم وليس غيرهم يتحملون مسؤولية القراءة الموضوعية والهادفة للإشكاليات العديدة التي وضعتها القضية العراقية أمام العقل العربي.
كان من الأهمية بمكان، في نظر قوى العدوان، أن يقف العرب على الحياد في صراعهم مع العراق، لكن البعض الأكبر منهم قدَّم خدمة لها أكثر بكثير مما كانت تطلب، وتمظهرت تلك الخدمة عندما ساوت تلك الأوساط بين إدانة المعتدي والمعتدى عليه. ووصل الأمر بالبعض الآخر إلى تحميل المعتدى عليه، الذي هو العراق، كل مسؤولية ما حصل.
خرج البعض الأكبر من النخب والأنظمة العربية بدون الحصول على نتيجة عندما أسقطت قوى العدوان تجربة العراق النهضوية التي هي من أهم تجارب العرب المعاصرة، ففرح ذلك البعض بإسقاط النظام السياسي في العراق، فهللوا وهتفوا بحياة الديموقراطية المنتصرة، ولكنهم لم يكترثوا لسقوط المنطقة العربية بأكملها تحت سيطرة قوى العدوان العسكرية والأمنية، وسيطرتها السياسية التي تفوق خطورة أكثر معالم اللاديموقراطية التي ينتهجها النظام السياسي العربي. ولذلك دفع العرب ثمناً باهظاً من أجل الهتاف للديموقراطية الغائبة، فلم يحصلوا على الديموقراطية وهم أيضاً لم يمنعوا العدوان من تحقيق أهدافه.
تحت خديعة الحق في الديموقراطية، أسدت ما تسمى بالمعارضة العراقية خدمة كبرى في صياغة تلك الذرائع عندما حملت قميص الديموقراطية وراحت تولول منتحبة ناعية، ووقفت على أبواب قوى العدوان طالبة العون، أو فلنقل إن قوى العدوان التقطت تلك الفرصة الثمينة لتحتضن قوى المعارضة التي هي الوحيدة التي مثَّلت حصان طروادة للتخطيط للعدوان على الأمة العربية انطلاقاً من البوابة العراقية.
التقطت قوى العدوان ذرائع ما تُسمَّى بالمعارضة العراقية، وراحت تضخمها، وهي بعملها ذاك كانت تلامس بعض عواطف المزاج الشعبي العربي من جهة، وتستثير حمية المزاج الشعبي الغربي من جهة أخرى.
ماذا دفع العرب عندما صدَّقوا تضخيم أجهزة قوى العدوان الإعلامية الغربية ادعاءات المعارضة العراقية؟ وماذا دفعوا عندما أعمت بصائرهم دخان الذرائع الغربية؟
لقد دفع العرب بتصديقهم لكل تلك الادعاءات ثمناً باهظاً إذ راحوا يؤمنون التغطية والتعمية على أهداف العدوان. وكانت المسألة الديموقراطية سراباً انساقت وراء التفتيش عنه نخب من المثقفين العرب. فساووا بين العمل من أجل الديموقراطية التي زعموا أنها نُحِرت في العراق، والعمل من أجل مواجهة العدوان.
كان دور بعض المفكرين العرب، في معالجة قضايا أمتهم العربية، دور المنفعل بالرؤية السياسية، فتحولوا إلى سياسيين، ولم يرتقوا بالسياسة إلى مستوى الفكر.
ما هي أهم مظاهر العقل العربي الراهن التي أسَّست لحالة من التضليل على الحقائق الفكرية، وأنتجت خطاباً سياسياً قاصراً عن رؤيتها بواقعية ومسؤولية؟
من أهم صفات العقل العربي، في المرحلة الراهنة، أنه تحوَّل إلى عقل سياسي إيديولوجي إخباري خطابي. وللأسف الشديد لم يتكوَّن، حتى الآن، العقل العربي المستند إلى رؤية عميقة، والرؤية العميقة تستند إلى تاريخية الظاهرة وخصوصياتها وإنسانيتها ومقاساتها الرؤيوية الإنسانية العامة، وهو ما نطلق عليها التحول باتجاه العقل الفلسفي.
لقد تساوى، في عصر تحول الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، كل العرب المتابعون لوسائل الإعلام في ملاحقة الخبر في اللحظة التي تحصل فيه الحادثة. وفي مثل هذا التساوي تتولَّد الصعوبات الأكثر أمام العقل العربي، لأنه في ظل هذا التساوي تتعادل العقول في المقدرة على اكتساب الخبر، ولكنها لا تتساوى في المقدرة على الاستنتاج والرؤية السليمة. وقد تتساوى شتى مستويات المثقفين، فتتحوَّل اللعبة المعرفية إلى ميدان التنافس بديلاً للتكامل.
في ظل تلك المعادلة يتكون العقل الإيديولوجي، فتنتصب متاريس الحوار والجدل والدفاع المتعصب الهادف إلى إثبات هذه المقولة السياسية أو تلك. فيشطح العقل العربي تجاه التعصب، فتتكاثر نقاط الافتراق وتتنامى وتصبح هي البديل عن الرؤية الفكرية العميقة. فيتكاثر الخلاف حول تحديد دروب خلاص الأمة بتعدد العقول الإيديولوجية والسياسية والإخبارية والخطابية…
إن من أهم مثالب تلك العقول أنها تتسابق على اكتساب الخبر ومتابعة آخر الخطابات لتبرير وجهة نظر وتدعيمها على حساب الحقيقة. والسبب أنها لا تتساوى في مستوى نقد الخبر وتمحيصه ومعرفة صدقه أو كذبه.
لأن العقل العربي الراهن يرتضي أن يتجمد عند هذا المستوى فهو يتحول إلى عقل مرتبط بالخبر والواقعة من دون أن يربطهما بتاريخيتهما وتطورهما الفكري. وبالتالي ربطه بأغراضه وأهدافه.
يصبح الخبر مقياساً لا بُدَّ منه لوضع الاستنتاجات ولكن قد يكون الخبر مضلِّلاً لأنه صِيغ لإحداث تأثيرات تخدم مصلحة منتجه. فيأتي تصديق الخبر على الرغم من ضعفه لتحقيق الغرض الإيديولوجي. وبمثل هذا المنهج تحوَّلت، حتى تلك الوقائع الجديدة التي تفرضها القوى المعادية للأمة، إلى مصدر أساسي نبني عليه الاستنتاجات فنستند إليها في وضع الأهداف السياسية. وهذا يفسر السبب الذي يلهث فيه العرب وراء كل مشروع جديد يأتيهم من الخارج خوفاً من أن يتم تغييره بأسوأ منه. وهل القضية الفلسطينية والمشاريع التي وُضعت كحلول لها –منذ أكثر من خمسين عاماً- إلاَّ دليل أكيد على صحة ما نقول؟
أما شريحة واسعة من المثقفين العرب فقد ضاق صدرهم، وهو يتَّسع ضيقاً باستمرار، من المنهج الفكري لأنه يتحول –كما يحسبون- إلى مستوى من التجريد النظري الذي يجرِّد التحليل من حيويته الخبرية والسياسية والإيديولوجية والخطابية، وهذا ما لا يروق لهم. ليس هذا المظهر مما نستهجن منه، والسبب هو أن النمط العقلي العربي، اليوم، حتى عند المنتسبين إلى أحزاب وحركات سياسية، يمتلك ردَّة الفعل تلك وأصبح أسيراً لصفاته الخبرية والخطابية.
إذا كان الخبر والخطاب من أهم المصادر التي يستند إليها المفكر في التحليل والتعمق فوظيفته عند المفكر يجب أن تختلف عن وظيفته عند المثقف.
قد لا يكون المثقف قادراً على التمييز بين صدق الخبر أو كذبه، وهو قد لا يمتلك الرؤية والمقدرة على القيام بمثل تلك المهمة، وإذا كان من غير الممكن مساءلة المثقف عن تقصيره، فإن من الواجب محاسبة المفكر على أدنى تقصير في هذا المجال.
أما كيف نرى نحن معالجة القضية العراقية في ظل الواقع الذي يتمظهر فيه واقع المفكرين العرب ومثقفيهم؟
إن معالجة القضية العراقية، بتاريخيتها وراهنيتها، هي من أهم التحديات التي تواجه العقل العربي بكل مواقعه التي يحتلها المفكرون والمثقفون من غير الملتزمين بتيارات وأحزاب منظمة، والملتزمون بالتيارات السياسية والحزبية أيضاً.
احتلَّت القضية العراقية تلك المساحة الواسعة من الاهتمام العربي والعالمي، ولكن بما استثارته وأظهرته من إشكاليات والتباسات كان لا بُدَّ من وضعها أمام هذا المؤتمر الذي يشارك فيه عدد من المفكرين والمثقفين. ونحن إذ نضعها أمامكم فإنما لكي تأخذ حيزاً من الاهتمام في هذا اللقاء، على أمل أن لا تكون المحطة اليتيمة التي تهتم بقضية من هذا الحجم، بل إن اتساع المسائل التي تثيرها تصل إلى حجم مرحلة تاريخية يتحدد فيها مصير الأمة العربية لعشرات السنين إذا لم تمتد إلى قرون.
من أهم الإشكاليات / الالتباسات التي أثارتها القضية العراقية، وهي ليست بالطبع نهائية فقد يُمسك آخرون من المهتمين بأكثر منها:
من أهم التحديات التي تواجه الفكر العربي السياسي، والتي تقع مهمة وضع أسسها وتوضيحها، هي الموازين التي نكيل بها الحقوق بشكل عام والحقوق العربية بشكل خاص. فإذا كان مثال القضية الفلسطينية هي الأكثر وضوحاً، إلاَّ أنها تدل بشكل قاطع على الضرورة في توضيح ملابسات الإشكالية السياسية التي تثيرها، وبالتالي توضيح ملابساتها الفكرية الإنسانية العامة.
تلك الإشكالية تتمظهر في منطقين ومعادلتين، وهما:إمكانية تجزئة الحق، أي بتغليب المرحلي على الثابت، ورفض تلك الإمكانية. وهذا يقود إلى وضع معادلتين سياسيتين، وهما:
-بما أن الحق خاضع لمنطق الأقوى على الأضعف أن يأخذ من حقه ما يجود به القوي، ويتهم أصحاب تلك المعادلة الآخرين، إذا ما ناضلوا لاستعادة الحق كاملاً، بالرومانسية تارة، وبالسوريالية تارة أخرى.
-أما المعادلة الأخرى، فتربط منطق الحق مع السيادة والحق في تقرير المصير الوطني، وبالتالي له ارتباط بما صحَّت تسميته، في التاريخ الحديث والمعاصر، بالكرامة الوطنية والقومية.
ولأن الكرامة الوطنية، وهي ذات قيمة إنسانية ثبتتها مرحلة القوميات والوطنيات، ليست كذلك عند تيار عربي مثقف، ترافقت بعدد من الالتباسات والملابسات، وأصبحت مصدراً للجدل السطحي عند هذا التيار المثقف أو ذاك.
بين تلكما المعادلتين توزَّع المثقفون العرب إلى واقعيين وحكماء، وإلى محافظين على منطق أن الحق ليس خاضعاً لموازين القوى المادية.
من موقع الخلاف حول الإشكالية التي تولَّدت عن القضية الفلسطينية، والتي لم يستطع المفكرون العرب ومثقفوهم أن يحسموا الجدل من حولها، انعكست سلبيات فقدان الحسم على النظر إلى القضية العراقية.
لقد غابت عن أذهان تيار لا يستهان به من المفكرين العرب، ومن المثقفين، ومن التيارات السياسية والحزبية، معانى القيمة الإنسانية التي تكتسبها مسألة السيادة الوطنية أو القومية، وبالتالي معاني الكرامة الوطنية والقومية. ومن تلك الالتباسات غير المحسومة في الفكر العربي السياسي اندفعوا إلى إلصاق التهم بالذين يقاتلون من أجل تلك الكرامة بالرومانسية والسوريالية.
ولو كانت تلك المعادلة قد تعرضَّت للحسم الفكري منذ ظهور القضية الفلسطينية لما كانت قد انعكست سلباً على النظر في القضية العراقية.
إن أول خطأ نود الإشارة إليه، أي الخطأ الذي وقع فيه بعض المثقفين والمفكرين العرب، هو أنهم اتَّخذوا مواقف مندِّدة بالنظام السياسي في العراق. وقاموا بتحديد مواقفهم استناداً إلى شهادات المعارضة العراقية. ولما كان من بديهيات الأمور أمام العقل الموضوعي أن يستند إلى شهادات موثوقة، سقطت مصداقية تلك الشهادات عندما تأكدت لا وطنية أطرافها. وتمظهرت تلك اللاوطنية بأنها استقوت بالقوى المعتدية على الأمة العربية وعلى العراق أولاً، وبأنها عادت إلى وطنها العراق على دبابة الاحتلال الأجنبي ثانياً، وأنها الآن تأتمر بأوامر قوى الاحتلال ثالثاً.
وهكذا يترتَّب على النظر إلى القضايا الوطنية والقومية بمنظار الغرض السياسي، وليس بالمنظار الفكري المجرد والموضوعي، سلبيات وسلبيات لا يمكن تعدادها، الكثير من القصور والأخطاء في النظر إلى كل قضية وطنية قطرية عربية. وهذا ما حصل بالفعل من أخطاء في النظر السياسي إلى القضية العراقية، ومنها تمظهرت عدة من الإشكاليات والالتباسات. ومن أهمها:
-الإشكالية الأولى:
أين موقع القضية العراقية من الدائرة القومية؟ هل يقف المثقف والمفكر العربي منها وكأنها قضية قطرية؟ هل على المفكر أو المثقف أو الملتزم بحزب سياسي عربي، أن يقف على الحياد من تلك المسألة، لأنها قضية قطرية عراقية أولاً، أو لأنها تجربة خاصة لتيار حزبي استفرد بقيادة تلك التجربة؟ وأين موقعها من الاهتمام الفكري والسياسي، الملتزم أو غيره؟ هل هي مجرد قضية إيديولوجية بعثية؟ وهل غير البعثيين هم من غير الملزمين أن يتحملوا وزر نتائجها؟ وهل تتم محاكمة التجربة بردة فعل إيديولوجية؟ وهل التجربة البعثية على صعيد الفكر والسياسة، في الدائرة الديموقراطية، إلاَّ إحدى التجارب التي تخوضها شريحة واسعة من العرب؟
-الإشكالية الثانية:
لقد تولَّدت من الحروب التي خاضها العراق عدة من الإلتباسات، وهي مثار جدل ونقاش، وكثير من الاتهام. ولكنها –حتى الآن- لم تخضع للمعالجة بعيداً عن الخبرية والخطابية والإيديولوجية والغرضية السياسية، ومن أهم تلك الالتباسات أمسكنا بالتالية منها:
-الالتباس الأول: تحديد الأولويات في الانتماء عند العراقي. هل ولاء العراقي الوطني له الأولوية أم ولاؤه الديني والمذهبي؟([1]).
] لقد قمنا بتحديد هذه الإشكالية مما أفرزته الحرب العراقية الإيرانية التي امتدَّت ثماني سنوات (1980م – 1988م). ومن تلك الحرب خرج عشرات الآلاف من العراقيين الشيعة من وطنهم والتجأوا إلى إيران وشكَّلوا هناك ما يُسمَّى بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. وأنشأ المجلس فيلقاً عسكرياً من المعارضين الشيعة العراقيين. وكانت من أولويات مهمته أن يستعين بإيران لتحرير العراق من النظام السياسي الذي يقوده حزب البعث العربي الاشتراكي.
استكمل المجلس الأعلى المذكور خطواته بالتنسيق مع محور قوى العدوان الإمبريالي – الصهيوني –قبل العدوان على العراق وبعده (20 آذار / مارس من العام 2003م). [.
في ظل التحول الحديث من الدولة الأممية الدينية إلى الدولة القومية أصبح من مهمات الحركة الفكرية أن تضع تعريفات جديدة للتمييز بين الخيانة الوطنية والقومية وخيانة الدين أو المذهب.
-الالتباس الثاني: تحديد الأولويات الوطنية والقومية النضالية. يفرض هذا الالتباس نفسه إذا تعددت المهمات والتحديات: الصراع مع القوى الخارجية، وضرورات التغيير الداخلي على شتى مستوياته. وفي هذا الإطار أُثيرت الأولويات في الترابط بين المسألتين الوطنية والديموقراطية([2]).
] مثَّل هذا التيار مجموعة من المثقفين العرب. وقد صدر عن بعض تجمعاتهم في لبنان والبحرين… بيانات سياسية، وقَّعوها قبل العدوان على العراق، بأشهر قليلة.
وهناك مثال آخر، وهو التحالف الكردي، الذي شكَّله الأكراد العراقيون في شمال العراق، والذي –تحت ذريعة غياب وحقوق الأكراد- قام بالتحالف مع محور قوى العدوان الأمبريالي – الصهيوني. والسكوت عنه يسمح بتثبيت معادلات جديدة في المفاهيم الوطنية والقومية. [.
وحول مسألة الوطنية نرى أنه ثابت لا يمكن التفريط به، والسبب هو أن ضياع الوطن –بشتى جوانبه- ضياع لكل شيء. أما الديموقراطية فهي من الوسائل التي تجعل الوطن أكثر جمالاً وتقدماً، وهي لا تعني شيئاً بضياعه.
لا تعني تلك المفاضلة في الأولوية انحيازاً ضد الديموقراطية، وإنما هي دعوة للمحافظة على وطن لن نستطيع أن نمارس الديموقراطية بدون وجوده.
- الالتباس الثالث: شرعية اتكاء المعارضة المحلية على الخارج، وخاصة القوى المعادية، في سبيل فرض متغيرات داخلية. وهذا يفرض تحديد مضامين مسألة الخيانة الوطنية والقومية([3]).
] هنا، نشير إلى شتى أطياف من أطلقوا على أنفسهم المعارضة العراقية في خارج العراق، ومن ضمنهم التيارات العلمانية والمذهبية وأصحاب المصالح الخاصة. ويمكن متابعة ملفاتهم في شتى وسائل الإعلام. وقد قامت كل تلك التيارات بعقد مؤتمرات وندوات وأصدرت بيانات، على أراضي دول العدوان، وبتمويل منها، وإشراف عليها، وعلى قراراتها. ومن أهم تلك القوى، هي التالية: الحزب الديموقراطي الكردستاني – الحزب الوطني الكردستاني – المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق – التيار الدستوري الملكي – المؤتمر الوطني العراقي (بقيادة أحمد الجلبي). [.
الإشكالية الثالثة:
إذا كان من الجائز أن ينحاز العقل الإيديولوجي إلى تجربة وينتقد تجربة أخرى، فمن غير الجائز أن يصنِّف المفكر التجارب والظواهر إلى مسكوت عنها وأخرى خاضعة للنقد والتجريح. فمن واجبات حقل العقل المعرفي الفلسفي أن يُخضع كل التجارب والمشاريع إلى غربال النقد الموضوعي.
الإشكالية الرابعة:
إن دور المفكر العربي ووظيفته هما من المسائل التي أثارتها ظاهرة انقسام المثقفين العرب ومفكريهم إلى تيارين أو أكثر، ومن أبرزها:
التيار الأول ويمثِّله الليبراليون الذين يتميزون بدعوتهم العرب إلى الواقعية تحت عناوين التعقل والحكمة في خوض الصراعات مع قوى العدوان القادمة من الخارج. وهم يتَّهمون التيار الآخر بالرومانسية أحياناً وبالسوريالية أحياناً أخرى.
أما التيار الثاني: فهو الذي يعمل من أجل المحافظة على قيمة إنسانية عليا، وهي قيمة السيادة الوطنية.
يأتي حسم الخيارات حول مسارات الصراع مع قوى العدوان القادم من الخارج من أهم الإشكاليات التي على حركة الفكر العربي أن تجيب عليها.
من نتائج البحث
إننا نقترح على المفكرين العرب أولاً، وعلى المثقفين العرب ثانياً، أن يعملوا لوضع تحديدات تتميَّز بأكثر ما يمكن من الوضوح للمسائل / الإشكاليات التالية:
أولاً: إن بوابة الدخول إلى حسم الالتباس بين الولاء للوطن أو الولاء للدين أو المذهب، تمر من خلال بحث العلاقة بين الدولة الدينية والدولة القومية العلمانية. والإجابة حول التساؤلات التالية:
-هل انتقال البشرية إلى عصر الدول القومية كبديل للدول الدينية كان انتقالاً طبيعياً في الوطن العربي؟
-وهل يتناسب هذا الانتقال مع متغيرات العصر على المستوى العالمي؟
-وهل واكب التغيير الفكري والثقافي، على مستوى النُخب الفكرية ومستوى الجماهير الشعبية، ذلك التغيير؟
نحن نرى أن التغيير قد طال البُنى السياسية، لكنه لم يلامس –حتى الآن- البُنى الفكرية والثقافية. والسبب في هذا، أن البُنى السياسية والسلطوية في واد والحركة الفكرية العربية في وادٍ آخر. فإذا ما أصبح الانتقال السياسي انتقالاً قسرياً، أي انتقال من ثقافة الدولة الدينية إلى ثقافة الدولة القومية العلمانية، سوف يتعثَّر هذا الانتقال. وهو، في الوقت ذاته، ليس دليل عافية وصحة، فممتلك ثقافة الدولة الدينية لن تتقبَّل ثقافة الدولة القومية العلمانية بسهولة، هذا إذا لم يرفضها ويقاومها، لأنه لن يرى حلاً إلاَّ بالعودة إلى الوراء على الرغم من استحالته.
ثانياً: طبيعة العلاقة بين مهمات المفكرين والمثقفين المتعددة للأهداف الفكرية والسياسية، وخاصة منها ترتيب الأولويات في النضال في الحالة التي تواجههم فيه عدة أهداف في آن واحد. كمثل ثنائية النضال الوطني والطبقي، وثنائية النضال الوطني والديموقراطي.
ففي قضية فلسطين، تاريخياً، لعبت هذه الثنائية دوراً رئيساً بين دعاة الدفاع عن السيادة الوطنية الفلسطينية، ودعاة الدفاع عن أهمية بناء دولة يهودية على جزء من الأرض العربية، لأن بناة تلك الدولة يتميَّزون بالوعيين الطبقي والديموقراطي.
أما في العراق فقد كان شعار النضال من أجل الديموقراطية، الذي رفعه العدوانيون، جذَّاباً لشريحة واسعة من المثقفين العرب.فهم تعاطفوا مع رافعيه من العراقيين على الرغم من ثبوت غياب المصداقية في ادعاءاتهم.
ولأن شرائح من المفكرين والمثقفين العرب قد انفعلوا بشهادات غير الموثوق بهم.
ولأن وسائل الخداع الأميركية قد ضللتهم بإعلانها إعادة الديموقراطية للعراق تغطية لأهدافها الحقيقية.
ولأن المفكرين والمثقفين العرب امتنعوا عن استقصاء شهادة رعاة التجربة العراقية، وهم بذلك منعوا الحق الديموقراطي عن طرف أساسي في القضية.
ولأنه أصبح من الثابت أن أهداف احتلال العراق، عند المعارضين العراقيين وقوى العدوان معاً، كانت لكل الأسباب باستثناء إعادة الديموقراطية إلى العراق.
ولأن العراق كان يمثِّل طليعة لبناء مشروع نهضوي عربي في شتى المجالات.
نرى ما يلي:
إن البحث في مسألة الديموقراطية هو هم عربي عام، وليس هماً عراقياً خاصاً. ومن هذه الزاوية تفرض المسألة الديموقراطية نفسها على المفكرين العرب ليبذلوا جهداً فكرياً من أهم وظائفه وضع تحديدات واضحة حول المسألة الديموقراطية. وهنا نقترح بعض العناوين الإشكاليات:
أ-هل تسبق محاكمة تطبيق الأنظمة السياسية للديموقراطية الوعي الشعبي لها؟ وهل تسبق تلك المحاكمة مسألة الاتفاق حول مفهوم محدد للديموقراطية بين شتى التيارات الفكرية والسياسية العربية؟
ب- هل المسألة الديموقراطية وصفة جاهزة؟ وهل تتفق التيارات السياسية التحررية حول مفهوم واحد لها؟ وهل هناك اتفاق حول مفهوم التطبيق الديموقراطي داخل الأحزاب التي تتبنى مبدأ الديموقراطية؟
ج-إن إشكالية الديموقراطية –على الصعيد النظري- إشكالية أساسية.
-فهناك الديموقراطية الليبرالية الغربية، وتمثلها ديموقراطية الطبقات الاجتماعية، فمضمونها عند الطبقة الرأسمالية هي غيرها عند الطبقات الفقيرة.
-والديموقراطية عند الأحزاب التحررية ليست محور توحد وتوحيد: فهناك ديموقراطية الحزب القائد، وديموقراطية الطبقة الواحدة كمثل ديكتاتورية الطبقة العاملة…
-والديموقراطية عند التيارات السياسية الدينية تستند إلى التكليف الإلهي الشرعي.
هذا المزيج المتعدد من المفاهيم الديموقراطية، يدفع إلى القول بأن شعار الديموقراطية السائد هو شعار عائم وغائم، وبالتالي غير متَّفق عليه. فكل يستند إلى مفهومه الخاص والنسبي ليحاكم الآخرين على أساسه. كما يقود هذا الواقع في تعددية المفاهيم حول الديموقراطية، إلى تهافت حجج كل من يحاكم هذا النظام العربي أو ذاك، ويحاكم هذا التيار السياسي أو ذاك، لأنه عندما يحاكمه فإنما يفعل ذلك من زوايا خاصة تتحكَّم بها الاتجاهات التعصبية الإيديولوجية.
يتحمَّل المفكرون العرب وحدهم مسؤولية إزالة الالتباس حول هذه القواعد النسبية. كما أنه مهمة من أهم مهمات الحركات السياسية والحزبية العربية.
-الأول: مبدأ تصدير الثورة إلى العراق، وهو المبدأ الذي عملت على هديه إيران تحت قيادة مبدأ »ولاية الفقيه« الذي رفعه آية الله الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية الشيعية في إيران في شهر شباط / فبراير من العام 1979م. ونتيجة لهذا المبدأ تأسست تيارات من المعارضة الدينية والمذهبية في العراق، واستعانت بالخارج الإيراني لإسقاط النظام السياسي في العراق باللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، ونتيجة لهذا الالتباس لم تتورَّع هذه الشريحة من المعارضة عن التحالف مع العدوان الأميركي البريطاني الصهيوني في سبيل تحقيق الأغراض نفسها التي شرَّعت لنفسها التحالف مع الظهير المذهبي أو الديني الإيراني.
-الثاني: مبدأ ما سُمِّي بتحرير العراق من ديكتاتورية النظام السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. وقادت الولايات المتحدة الأميركية تحالفاً كانت من نتائحه احتلال العراق في العشرين من آذار / مارس من العام 2003م. وعلى أساس هذا المبدأ تأسست تيارات من المعارضة العلمانية العراقية، وقامت بالاستعانة مع الخارج الأميركي البريطاني الصهيوني، لتصدير الثورة للعراق. وقد حققَّت تلك الشرائح من المعارضة أغراض التحالف العدواني، وهي تدَّعي العمل من أجل إصلاح سياسي في العراق بمساعدة القوى الخارجية العدوانية التي عقدت تحالفاً معها. [.
ولَّدت هذه الإشكالية الالتباس بين الوطنية والخيانة الوطنية. وبناء على تحديد موقف فكري منها تتحدد عدة من الأحكام على عدة من شرائح المعارضة العراقية. ومن خلالها يتأسس مبدأ إنساني عام من تلك الإشكالية.
رابعاً: تأتي إزالة إشكالية العلاقة وتحديدها بدقة، بين شعاريْ الدولة الدينية والقومية من جانب، وإزالة الالتباس الحاصل في المفاهيم الأساسية للمسألة الديموقراطية من جانب آخر، على رأس مهمات المفكرين العرب.
إن نتائج تلك التحديدات لا بُدَّ من أن تقود إلى اتخاذ مواقف سياسية واضحة من دون لبس أو غموض، وسوف تكون أكثر موضوعية وعلمية مما هو سائد الآن. وسوف تكون تلك التحديدات أكثر صلاحية للاستفادة منها في كل التجارب اللاحقة.
***
([1]) لقد قمنا بتحديد هذه الإشكالية مما أفرزته الحرب العراقية الإيرانية التي امتدَّت ثماني سنوات (1980م – 1988م). ومن تلك الحرب خرج عشرات الآلاف من العراقيين الشيعة من وطنهم والتجأوا إلى إيران وشكَّلوا هناك ما يُسمَّى بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. وأنشأ المجلس فيلقاً عسكرياً من المعارضين الشيعة العراقيين. وكانت من أولويات مهمته أن يستعين بالقدرات الإيرانية لتحرير العراق من النظام السياسي الذي يقوده حزب البعث العربي الاشتراكي.
استكمل المجلس الأعلى المذكور خطواته بالتنسيق مع محور قوى العدوان الإمبريالي – الصهيوني –قبل العدوان على العراق وبعده (20 آذار / مارس من العام 2003م).
([2]) مثَّل هذا التيار مجموعة من المثقفين العرب. وقد صدر عن بعض تجمعاتهم في لبنان والبحرين… بيانات سياسية، وقَّعوها قبل العدوان على العراق، بأشهر قليلة. وهناك مثال آخر، وهو التحالف الكردي، الذي شكَّله الأكراد العراقيون في شمال العراق، والذي –تحت ذريعة غياب وحقوق الأكراد- قام بالتحالف مع محور قوى العدوان الأمبريالي – الصهيوني. والسكوت عنه يسمح بتثبيت معادلات جديدة في المفاهيم الوطنية والقومية.
([3]) هنا، نشير إلى شتى أطياف من أطلقوا على أنفسهم المعارضة العراقية في خارج العراق، ومن ضمنهم التيارات العلمانية والمذهبية وأصحاب المصالح الخاصة. ويمكن متابعة ملفاتهم في شتى وسائل الإعلام. وقد قامت كل تلك التيارات بعقد مؤتمرات وندوات وأصدرت بيانات، على أراضي دول العدوان، وبتمويل منها، وإشراف عليها، وعلى قراراتها. ومن أهم تلك القوى، هي التالية: الحزب الديموقراطي الكردستاني – الحزب الوطني الكردستاني – المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق – التيار الدستوري الملكي – المؤتمر الوطني العراقي (بقيادة أحمد الجلبي).
-الأول: مبدأ تصدير الثورة إلى العراق، وهو المبدأ الذي عملت على هديه إيران تحت قيادة مبدأ »ولاية الفقيه« الذي رفعه آية الله الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية الشيعية في إيران في شهر شباط / فبراير من العام 1979م. ونتيجة لهذا المبدأ تأسست تيارات من المعارضة الدينية والمذهبية في العراق، واستعانت بالخارج الإيراني لإسقاط النظام السياسي في العراق باللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، ونتيجة لهذا الالتباس لم تتورَّع هذه الشريحة من المعارضة عن التحالف مع العدوان الأميركي البريطاني الصهيوني في سبيل تحقيق الأغراض نفسها التي شرَّعت لنفسها التحالف مع الظهير المذهبي أو الديني الإيراني.
-الثاني: مبدأ ما سُمِّي بتحرير العراق من ديكتاتورية النظام السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. وقادت الولايات المتحدة الأميركية تحالفاً كانت من نتائحه احتلال العراق في العشرين من آذار / مارس من العام 2003م. وعلى أساس هذا المبدأ تأسست تيارات من المعارضة العلمانية العراقية، وقامت بالاستعانة مع الخارج الأميركي البريطاني الصهيوني، لتصدير الثورة للعراق. وقد حققَّت تلك الشرائح من المعارضة أغراض التحالف العدواني، وهي تدَّعي العمل من أجل إصلاح سياسي في العراق بمساعدة القوى الخارجية العدوانية التي عقدت تحالفاً معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق