إشكالية علاقة المفكر الملتزم بالأحزاب العقيدية
ننقل إلى قراء (العروبة) نتائج بحث قدمته في مؤتمر (العقلانية في الفكر العربي)، الذي نظمته الجمعية الفلسفية الأردنية في عمان: من 27 – 28/ 10/ 2009 تحت عنوان (ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية).
والنتائج جاءت ابتداءً من السؤال التالي: هل هناك تمييز بين المثقف والمفكر في الأحزاب العقيدية؟
وعلى ذلك نحاول أن نجيب:
1-لا تغيير من دون أحزاب عقائدية:
إذا لم تترابط أهداف الفكر الإنساني مع مصالح البشر فسوف يكون فكراً فوقياً لن يُكتب له الاستمرار، فأهمية الفكر إذن أن يحمل إمكانية التطبيق. ومن هنا تنتهي مهمة المُفكِّر لتبدأ مهمة المُفكَّر بهم، أي أصحاب المصلحة في تطبيق الفكر، وأصحاب المصلحة لا يمكنهم أن يصلوا إلى نتائج ملموسة وفعلية إذا لم يتعاونوا وينظموا صفوفهم في حركات جماعية، والحركات الجماعية هي ما تم الاصطلاح عليه بالأحزاب السياسية المنظمة.
فمن أولى بديهيات الحركة الحزبية المنظمة أن تمتلك عقيدة نظرية قابلة للتطبيق، التي هي بلا شك تمثل أهداف الجماعات، وهي تشكل البوصلة التي تساعد تلك الحركات على تصحيح اتجاهاتها كلما ازدادت ضبابية الرؤية أمامها لسبب أو لآخر.
فالعقيدة هي تلك البوصلة في الحزب العقيدي، والمنتسبون إلى الحزب هم الربان الذي يجيد استخدام البوصلة لتصحيح اتجاهات السفينة.
2-لا حزب منظم من دون جناحين، ربان وبحارة، تجمعهما مصلحة واحدة:
إذا كان الحزب سفينة، والعقيدة بوصلة، فوجود الربان والبحارة أمر لازم لا يكتمل وجود السفينة والبوصلة من دونه، فهما جناحان متكاملان، تغرق السفينة إذا فقدت أياً منهما. أما الأمر اللازم الآخر فأن يتوزَّع الجناحان المهمات على قاعدة أنه لا يمكن، واقعياً، أن يكون الجميع ربابنة وبحارة في الوقت عينه، لأن هذا إذا حصل من قبيل التمني النظري والمثالي، إلاَّ أنه لن يكون من قبيل الواقعي.
3-لا حزب عقيدي من دون مثقفين:
إن القاعدة الأساسية لبنية الحزب العقيدي أن يكون المنتسبون إليه من المثقفين، لأنه لا معنى لحزب عقيدي مستند إلى فكر يميزه من دون مثقفين يفقهون أهدافه المعلَّلة أولاً، ويكونوا قادرين على نقل تلك الأهداف بوضوح إلى الآخرين ثانياً.
4-لا حزب عقيدي من دون فكر قابل للتجديد:
كل عقيدة لا تكون قابلة للتجديد ستتحول إلى عقيدة مقدسة، وليست الأحزاب، التي جاءت رداً حديثاً على العقائد الدينية المقدسة، أو العقائد الشوفينية المنغلقة، إلاَّ مشروطة بتجديد عقائدها في عالم يتغير باستمرار.
فباستثناء الأهداف الثابتة للأحزاب، أي الأهداف التي تتوجه إلى مستوى المجتمع العام أو طبقاته، لا يجوز أن تتجمد وسائل الوصول إليها.
5-لا فكر من دون مفكرين، ولا فكراً تجديدياً من دون مفكرين مجددين:
أما الجهة الصالحة للعمل الفكري فهي نخبة من المنتسبين إلى الحزب التي تتميز بالمقدرة على الإنتاج الفكري. والإنتاج المجدد لا يمكن أن يتم:
أ-من دون مقدرة نقدية تتناول القديم وتثبت مدى صلاحيته، في ظرف معين ومكان معين، للاستمرار، فتعمل على إغنائه. أو تثبت تخلفه، كلياً أو جزئياً، عن المتغيرات فتعمل على التجديد في جوانب القصور والتخلف فيه.
ب-من دون مقدرة على وصف البديل الجديد الذي يتناسب مع المتغيرات التي فرضت عملية التجديد.
6-كيف يمكن المحافظة على معادلة التكامل بين مركزية الحزب الفكرية وحرية المفكر الفردية؟
من أجل معالجة هذه الإشكالية نرى أنه لا بدَّ من تحديد المفهوم الرئيسي لطرفيْ الإشكالية:
أ-مركزية الحزب الفكرية، أي المحافظة على الوحدة الفكرية: الوحدة الفكرية، تعني وحدة الأهداف التي يتعاقد عليها المنتمون لحزب واحد من أجل النضال لتحقيقها، وهي من الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر للأحزاب من أجل المحافظة على وحدتها التنظيمية.
بينما الوحدة الفكرية لا تعني عملية تجميد لها، بل تكون مرنة تستوعب التجديد، حتى لا تتحول إلى نصوص مقدسة في عالم متغير يتطلب نسقاً معرفياً يتجدد ليواكب متغيرات الزمان والمكان. بحيث يطرح هذا الجانب إشكالية كيفية المحافظة على الوحدة الفكرية وفي الوقت ذاته إخضاع فكر الحزب لعملية التجديد. وهل عملية التجديد تتناقض مع المحافظة على الوحدة الفكرية في داخل الحزب؟
ب-حرية التفكير نقيض لقدسية النص، أي تجميده. وهذا ينطلق من نسبية الحقيقة. ولأن مبدأ التفكير هو الركيزة الأساسية في التغيير، يصبح حاجة للأحزاب الحديثة. ومن آمن به عليه احترام حرية الفرد في التفكير. ولأن الحرية في التفكير والاعتقاد مبدأ إنساني عام، يصبح من البديهيات أن يكون مبدأً خاصاً تعتمده الأحزاب الحديثة.
ج-بين المركزية الفكرية للحزب، كمؤسسة جمعية، وحرية المفكر كفرد، مساحة من التناقض بين شخصية الجماعة وشخصية الفرد. وإذا سلَّمنا بأن شخصية الجماعة تكون في الغالب من إنتاج الأفراد المتميزين، يتم تكوينها عبر سلسلة من التمثلات والتحولات المتتالية، زمنياً ومكانياً، يمكن للحزب استيعاب ما تنتجه حرية الأفراد فيه من أفكار جديدة، والاستفادة منها. أما الوسيط بين الاثنين فتكون المؤسسة الفكرية، التي يجب أن تكون جاهزة في الوقت المناسب والمخطط له للدراسة والتدقيق، وإعطاء الحكم بالاستفادة من كل إنتاج جديد.
ليست المهمة باليسيرة، وقد لا تكون عسيرة أيضاً. إذ دلَّت التجربة العيانية التي خاضها ياسين الحافظ على ذلك. فكانت يسيرة عندما أقرَّ المؤتمر القومي السادس الاستفادة مما أتى به، ولكنها تحوَّلت إلى مهمة عسيرة عندما وجد حزب البعث العربي الاشتراكي نفسه منقسماً على ذاته بعد أن خرج الحافظ مؤسساً حزباً جديداً على مقاييس ما أنتج. وظلَّت نتائج المؤتمر القومي السادس، في ثوب المنطلقات النظرية، مبهمة المصير والمآل.
وإلى أن تُتاح الفرصة للباحثين الذين قد يهتمون بهذا الجانب، للتعمق فيه ودراسة أسبابه الحقيقية أو ما هو الأقرب إليها، نضع بعض الاحتمالات التي حددت تطور العلاقة بين المفكر والحزب، وسنحسبها عوامل لعبت دوراً في تحديد علاقة ياسين الحافظ بحزب البعث، وهما: المؤسسة التنظيمية، والمؤسسة السياسية.
إننا نحسب بداية أن العوامل التي ترسم مصير العلاقة الإيجابية بين المفكر الملتزم وحزبه تكاد تنحصر بمؤسستين تحددان طبيعة العلاقة بين أعضاء الحزب الواحد بشكل عام، وبين الحزب والمفكرين الملتزمين بشكل خاص، وهما: المؤسسة التنظيمية وهي الأساس الأول، والمؤسسة السياسية إن وُجدت.
أما المؤسسة التنظيمية فهي عامل دائم لأنه لا وجود لحزب من دون مؤسسة تنظيمية تقوده. وأما المؤسسة السياسية فهي ليست شرطاً متحققاً دائماً في حياة الأحزاب، لكن وبحيث إن ياسين الحافظ عايش مرحلة استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سورية بعد ثورة الثامن من آذار من العام 1963، نحسب أن العامل السلطوي يكون قد شكل عاملاً في رسم علاقة المفكر الملتزم بالحزب.
أ-دور المؤسسة التنظيمية:
كما في مؤسسات المجتمع المدني توجد تراتبية هرمية تصنِّف البشر درجات درجات، فالمؤسسة الحزبية تعرف أيضاً تراتبية مماثلة بالشكل. وتلك التراتبية، هنا أو هناك، تُعتبر العامل الذي يشكل مركزاً للتجاذب والتنافس بين أعضاء المؤسسة الواحدة. ويلعب عامل المنافسة، في أحيان كثيرة، دوراً حاداً في مراحل الانتخابات. ومن النادر أن تكون معايير الكفاءة والأهلية القيادية حكماً موضوعياً بين المتنافسين، إنما العلاقات والمواقف الشخصية هي التي تتحكم بمعايير الانتخاب.
في زحمة عامل المنافسة على احتلال المواقع القيادية، غالباً ما يذهب المتميزون بثقافتهم وإنتاجهم الفكري ضحية هذا العامل. وبه تبدأ الخطوة الأولى في رحلة تراكم إشكاليات العلاقة السلبية بين المثقف والمفكر من جهة والمؤسسة الحزبية التي ينتمون إليها من جهة أخرى.
فإذا كانت شريحة المثقفين أوسع بكثير من شريحة المفكرين، وقد يعوِّض بعضهم عن البعض الآخر، فإنه من الصعوبة بمكان أن يتم تعويض الشريحة المفكرة، التي قد تكون محدودة جداً هذا إذا لم تقتصر على أفراد معدودين.
هذا الأمر يطرح جملة من الفرضيات العلاجية، ومن أهمها: طريقة وعينا للديموقراطية وفهمنا لجوانبها النظرية والتطبيقية. من حيث جانبها النظري نفهم أنها وسيلة تتساوى فيها حقوق كل أعضاء المؤسسة الحزبية. لكن على أساس التكافؤ في المميزات، وهذا الأمر يدفع إلى التساؤل: هل هناك تكافؤ بالمؤهلات بين أعضاء الحزب الواحد؟ وهذا ما يستدعي الجواب: واقعياً ليس التكافؤ موجوداً، إذن فالمبدأ الديموقراطي يتم تطبيقه شكلاً. ولكي تتم المقاربة بين النظرية والتطبيق لا بدَّ من تحقيق المساواة الجوهرية في الحق الديموقراطي. فهل من الممكن اقتحام هذه المغامرة؟
نقول مغامرة، وهي فعلاً كذلك، لأنه من الصعوبة بمكان، في الأحزاب العقيدية التي تستند إلى قاعدة واسعة من العمال والفلاحين وصغار الكسبة، أن يتم الاعتراف بطبقية تصنِّف ما بين مفكر ومثقف يمتلك ثقافة معمَّقة، ومثقف آخر أقل عمقاً، وحزبي لا يمتلك من الثقافة إلاَّ شدة إيمانه بشعارات حزبه ومبادئه. فهذا الاعتراف يثير حساسية بين أعضاء المؤسسة الحزبية الواحدة، وقد يذهب ضحيتها المتميزون بثقافتهم بما قد تُلحَق بهم من مواصفات الفوقية والنرجسية، وبها من سهولة التحريض وتأثيراته التي تنتشر بسرعة في وسط حزبي أكثريته من متوسطي الثقافة.
وبذلك لا يمكن القاعدة الواسعة من الشريحة التي لا تمتلك من الثقافة إلاَّ عامل الإيمان، أن تختار بوعي ونضج، فهي ستكون مزاجية بخياراتها حتى في الانتخابات الحزبية.
ولعلنا نبدأ بتحديد العوامل الأولية التي تؤسس لإشكالية العلاقة بين المثقَّف المتعمق، والمفكر المنتج، وبين المؤسسة الحزبية التي ينتميان إليها.
-من خلال النظرة السائدة إلى المثقفين في الأحزاب بعين الريبة، وإلى المفكرين أيضاً، ويتم ذلك بحجة أن ما يأتون به من نظريات التجديد، تكون مشبوهة إلى أن يثبت العكس، بينما الواجب أن يتم التعامل معها بإيجابية إلى أن يثبت العكس.
ولهذا علاقة بمدى عمق الوعي الديموقراطي أو سطحيته من جهة، أو عمق الوعي الثقافي أو سطحيته من جهة أخرى. وهذا الجانب يجد رواجاً في حالات غياب تداول المواقع القيادية بحيث يلعب المتمسكون بمواقعهم واحتكارها دوراً في التحريض والتعبئة ضد كل من يحاول التجديد سواءٌ أكان في مناهج التنظيم ووسائله، أم في مناهج الفكر ووسائله.
يلعب عمق الوعي الديموقراطي من جهة، والقناعة بتداول المواقع القيادية من جهة أخرى دوراً أساسياً في استيعاب رغبة المثقفين والمفكرين بدور لهم في حياة أحزابهم التنظيمية والفكرية. وما يحد من تلك الرغبات هو عمليات الإقصاء التي يمارسها المتسلطون على القيادة التنظيمية.
ب-دور المؤسسة السياسية:
نعني بالمؤسسة السياسية هنا، تلك المؤسسة التي يقودها حزب عقيدي يستطيع الوصول إلى الحكم. ومن هذا التحديد للمصطلح، نرى أنه قد تلعب المؤسسة السياسية دوراً سلبياً آخر على واقع علاقة الحزب مع المفكرين. وفي تغييب الديموقراطية قد تستدرج السلطة شريحة منهم، وتحولهم إلى موظفين للتفكير لحسابها، ينتجون ما يخدم مصالح الشريحة الحاكمة، ويتحولون إلى «مفكري السلطة»، ومن الذين لا يتميزون بحصانة مبدئية، سينحدرون إلى مستوى التملق؛ أو تستثير نقمة البعض الآخر بإبعادهم عن السلطة السياسية لسبب أو لآخر ومن أهمها أنهم يلتزمون الأمانة الفكرية. ومن هذا الواقع أو ذلك تتحول السلطة إلى ميدان آخر للتنافس بين النخب الأكثر ثقافة، الذي يكون في الأغلب الأعم تنافساً غير مشروع، يدفع فيه المثقفون، والمفكرون منهم بشكل خاص، ثمن أمانتهم لنتائج رؤاهم وأبحاثهم الفكرية الموضوعية. أما نتيجة النتائج فتكون خسارة للمفكرين الموضوعيين، سواءٌ أكانت بانحيازهم للسلطة انتهازاً وممالأة على حساب نتائج شروط البحث أو التفكير السليم، أم كان بإقصاء غيرهم، أم بخروج هذا الغير طائعاً، ولكنه حانقاً، فيتحولون إلى منشقين يناهضون أحزابهم الأم.
ج-هل يكون الحل في المؤسسة الفكرية، وكيف؟
المؤسسة الفكرية المعترف باستقلاليتها، هي المؤسسة التي تقوم على قاعدة مبدأ الاعتراف بالحق الديموقرطي واحترامه في حرية التفكير والقول والكتابة.
والمؤسسة الفكرية هي التي تجمع من يتم الاعتراف لهم بالكفاءة والموضوعية بالتفكير. ومن أجل ضمان حياديتهم، يُعطون امتياز البعد عن حالتين اثنتين: التنافس على مواقع القيادة التنظيمية، ومواقع قيادة السلطة.
تضم المؤسسة الفكرية في الحزب الذي لم يصل إلى السلطة، كل المتميزين بالمقدرة على الإنتاج الفكري، ومن النخب المثقفة تثقيفاً عالياً، أي من الذين تعالوا على سلبيات التنافس السلبي، وتوفير مراكز للأبحاث في العلوم الإنسانية لتكون في عهدتهم ورعايتهم.
أما في الحالة التي يصل فيها الحزب للسلطة، ويشكل مركز الثقل فيها، فتضم المؤسسة الفكرية كل من يتميز بالكفاءة الفكرية، والأهلية الموضوعية ليلعبوا الدور ذاته الذي يلعبه المثقفون والمفكرون الملتزمون، وتُخصص لهم الامتيازات والمميزات ذاتها.
ومن أهم مهمات المؤسسة الفكرية رصد الظواهر السلبية في الأداء الفكري والتنظيمي للحزب الذي يلتزمون بخطه، أو لسلطة الحزب، بالخصائص ذاتها المشار إليها أعلاه. فتتشكل منهم هيئات الرقابة والمساءلة والمحاسبة، تحال إليهم تلك الظواهر، سواءٌ أكانت على مستوى التنظيم الحزبي، أم على مستوى الأداء السياسي للسلطة، وتيسِّر أمامهم وسائل الوصول إلى تشخيص سليم لكل الجوانب السلبية التي يحتاج الحزب لعلاج لها، أم تلك التي تحتاجها السلطة السياسية. كما يشكلون هيئات للتحكيم تؤخذ نتائج أحكامهم بعين الاحترام والالتزام.
خاتمة
إن إظهار معالم اليأس وعلاماته أصبحت من سمات ثقافتنا السابقة، والراهنة، وهي التي دفعتنا، أو لا تزال تدفعنا، إلى توجيه الاتهام بالأفلاطونية لكل فكر تسوِّل له نفسه بالاتجاه نحو الأمل، وتعمل على إحباطه وتيئيس صاحبه. فهي سمات لا شك في أنها ترتبط بحالات الإحباط السابقة الناجمة عن سلسلة من الإخفاقات التي ميَّزت تاريخ النظام الرسمي، أو تاريخ الأحزاب العقيدية. وهي بحد ذاتها تحتاج إلى علاج قبل البدء بتقديم حلول لمشاكل الأنظمة الرسمية، والأحزاب العقيدية. والعلاج يبدأ بإعادة جذوة الأمل إلى نفوس المثقفين أولاً لأنهم يشكلون الحلقة الوسيطة بين الفكر والوسط الاجتماعي الذين يعيشون فيه، كما أنه يجب أن يعيشوا لأجله.
يبدأ العلاج في التمييز بين العبثية والإفلاطونية، فالعبثية صفة تلتصق بكل فكر مستحيل، أي كل فكر ناجم عن أحلام أو أضغاث أحلام، أي هي بعيدة عن التحقق جزئياً وكلياً. أما الإفلاطونية فترتبط بقيم إنسانية قد تكون صعبة التحقق،ولكنها ليست مستحيلة. إلاَّ أن تحققها جزئياً هو دليل على أنها ليست مستحيلة، أي ليست عبثية. وكل ما سقناه أعلاه، متحقق جزئياً على الأقل في سلوكات عدد من النماذج البشرية الواقعية المتمثلة في شريحة من المفكرين، وعند عدد من الأحزاب العقيدية. أما فشلها فكان نتيجة عدم الإصرار على إنجاحها وعدم الاستمرار في رعاية تلك التجارب التي حققت نجاحاً جزئياً، وإعطائها فرصاً أكثر لتتسع مساحة نجاحها.
وما تجربة ياسين الحافظ إلاَّ أنموذج يمكن البناء عليها لزيادة مساحة الأمل في إمكان حل إشكالية العلاقة بين المفكر الملتزم بحزب عقيدي، وبين حزبه، والسير بها إلى دائرة الضوء شيئاً فشيئاً، وإنقاذها من دائرة الظلام والتعتيم خطوة خطوة.
وهنا نرى أن معادلة تكوين الأحزاب قائمة على تكامل العلاقة بين الهدف الذي هو الفكر، وموضوع الهدف الذي هو المفكر، فإذا اختل توازن العلاقة بينهما، أي إذا ضعف أحد طرفيه فيؤدي إلى إضعاف الآخر. والمعادلة، كما نتصورها هي الشكل التالي:
إن الحزب هو (هدف وموضوع الهدف) أي (فكر + العامل لتطبيق الفكر)، أما العامل لتطبيق الفكر والسهر على هذا التطبيق فينقسم في تراتبية حزبية تتواصل وتتكامل بين منتج للفكر، ومثقف عميق الثقافة، ومثقف أقل ثقافة، ومؤمن بالفكر.
فالهدف مسألة فكرية نظرية، وموضوع الهدف مسألة نضالية مادية. فلا يمكن لموضوع الهدف أن يستمر من دون وضوح نظري، كما لا يمكن للهدف أن يتحول من موجود بالقوة إلى موجود بالفعل من دون موضوعه النضالي المادي. فثنائية النظر والعمل مسألة واجبة الحضور في خطة الحزب العقيدي. وهنا تلعب الوسيلة التنظيمية في الحزب دوراً أساسياً في مقاربة العلاقة السليمة بين الحزب الذي يعمل على تطبيق الفكر الذي آمن به وبين المفكر الذي التزم بصفوف هذا الحزب قناعة منه بفكره.
فالمسألة النظرية، بالنسبة لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثابتة في التلاقي والتكامل بين الهدف القومي العربي بمضمونه الاشتراكي، والمسألة العملية هو العامل والفلاح وغيرهم من الطبقات المسحوقة من العرب الاشتراكيين.
إن للطرف النظري حاضن والحاضن هو المثقف الواعي القومي العربي الاشتراكي الذي يستند إلى نتائج مهمة المفكر. أما الطرف العملي النضالي، فهو موضوع الهدف، من عمال وفلاحين عرب اشتراكيين. ولكي تضمن الأهداف نجاحها، فعليها أن تحقق وسيلة التكامل المستمر والمتواصل بين طرفيها. وعملية التكامل تقتضي وجوباً وجود من يكون أميناً نظرياً على الأهداف، ووجود من يعمل على ترجمتها على أرض الواقع.
فالتمييز بين طرفيْ المعادلة ليس هدفاً طبقياً داخل الحزب الواحد، وإنما هو تمييز واجب لمصلحة العقيدة التي ترفض أن تبقى في برج عاجي، كما ترفض أن تصل في أحد مراحلها العملية إلى نفق مظلم نتيجة بعدها عن الوضوح النظري.
ومن هنا، إذا كان الطرف العملي في التركيب الحزبي الداخلي، أي الطرف الأقل ثقافة، في طرفيْ معادلة التراتبية الحزبية يمكن توفيره بأسرع من توفير الطرف النظري، أي الطرف الأكثر ثقافة أو أعمقها، وبأعداد أكثر بكثير، فإنه يشكل سبباً يدفعنا إلى الحرص على المحافظة على الأكثر ثقافة أو أعمقها، حيثما يوجد، وتشكيل رؤية واضحة للمحافظة على حالة التوازن في التركيب التنظيمي الداخلي للحزب، بما يجعله متوازناً ومتكاملاً.
وهنا تلعب المؤسسات الحزبية الداخلية، أي المؤسسة التنظيمية، أو المؤسسات المرتبطة بتطبيق فكر الحزب، أي المؤسسات السياسية، دوراً مهماً في المحافظة على التراتبية الحزبية بواقعية، بما يحفظ التوازن الدقيق بين شتى المستويات لتترك كل مستوى تراتبي يقوم بدوره من دون خلق طبقية جديدة تشكل فجوة في العلاقة بينها، تجمعها أخلاقية ثورية تأنف تحويلها إلى درجات من الفوقية والاستعلاء أو ترك مجال للشعور بالدونية. وفي تقديرنا تشكل المؤسسة الفكرية الضامن الواعي الذي يجسر الهوة بين المستويات التراتبية من جهة، ويحفظ استمرار حرية القول والكتابة والبحث والتفكير والإغناء والتجديد للمتميزين من جهة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق