إذا مات زعيهم
يتفرَّق اللصوص ويقتتلون
لكل
عصابة رئيس، ورئيس العصابة هو محركهم وعقلهم المدبِّر، وبالتالي هو العامل اللاحم
بينهم. وما يجمع اللصوص، زعيماً وأفراداً، هو المنفعة الذاتية التي ما إن تفشل أو
تزول لسبب أو لآخر ينفرط عقد العصابة. وهذا السيناريو هو السائد الآن في العراق.
السيناريو الذي تدور حلقاته بين العراقيين ولصوص المغارة.
غزا
العراق رئيس اللصوص الأميركي، كرمز للصوصية الإدارة الأميركية، وجمع من حوله
مجموعات من (المعارضة العراقية) التي اتَّصف كل من شارك منها الاحتلال بالخيانة
لوطنه، وما تميَّز به من خصال المنفعة الذاتية القائمة على الخديعة وحب السلطة
واستغلالها للمنفعة الخاصة.
لص
يتفق مع لص، وكل منهما رفع شعارات القيم العليا، كما يُدسُّ السم بالعسل. وزعموا
أنهم يعملون لتخليص العراق من (الديكتاتورية) وتنصيب (الديموقراطية) مكانها. كما
زعموا أنهم يعملون على تغيير نمط الضيق بالعيش وتوفير ظروفه الكريمة للعراقيين.
إلاَّ أن حقيقة الأمر تؤكد أن لصوص المغارة احتلوا العراق وكان هدفهم الأول، من
بين أهدافهم الكثيرة، أن ينال كل منهم حصته من الغنيمة. فاحتكر زعيم العصابة
استخراج النفط، خاصة أنه وعد الأميركيين بلذة طعمه. ووعد اللصوص العراقيين من
الذين باعوا شرفهم باحتلال كراسي السمسرة والصفقات في مؤسسات الدولة وخاصة تنصيبهم
على كراسي الحكم الأساسية. وتمادى زعيم العصابة وعملاؤه بجرائمهم. وكان من المخطط
له أن يستمروا لولا أن قطعت عليهم المقاومة العراقية حبل اغتصاب العراق واستباحته
بشتى الاتجاهات. ونجحت بقطع رأس الاحتلال الأم. ولما هرب لائذاً بالسلامة، دبَّ
الخلاف بين عملائه، كما تؤكد الأمر وسائل الإعلام، واقتتلوا على توزيع الحصص وتحسين
شروطها. وراح البعض منهم يكيل الاتهامات للآخر، ويهدده بكشف أوراق السرقات
المستورة، فيبادله الآخر باتهامات مماثلة. وبمثل هذا الواقع يصح المثل (انثقب دفُّ
اللصوص فتفرقوا).
هذا
هو المشهد العراقي الآن: خرج الاحتلال لائذاً بالسلامة، وهو يراهن واهماً على
عملائه من جهة، وبقي العملاء من جهة أخرى في حيرة من أمرهم، متقاتلين ومختصمين،
فاقدين هيبة من كان يأمرهم فيأتمرون.
وهنا
نتساءل: أي مسار سيسلك المشهد العراقي في المستقبل القريب؟
مات زعيم اللصوص، ولم يخلفه أحد غيره. (إن
الزعيم مات ولم يحيا الزعيم). فإلى أين المسار والمصير؟ نقول هذا ونحن موقنون بإن
من يراهن على وراثة سلفه فسيلقى المصير ذاته.
لن
نستند، في تحليلنا للجواب لمعرفة مسار الأوضاع ومصيرها في العراق، إلى قصة أكل
الدهر عليها وشرب، بل نستند إلى تحليل علمي من أهم مبادئه، (لا جماعة مترابطة من
دون رأس يحسم القرار إذا ما اختلف أفرادها وأطرافها). ومن الطبيعي أن الرأس قد
قُطِع، ولاذ بسلامة ما بقي له من جنود. وهذا يؤدي إلى نتيجة واحدة هو أن يقتتل
الأفراد على من يكون الرأس، أي من يقود العصابة؟
ولأن
القيادة تعني، بمفهوم اللصوص، الحصول على حصة أكبر، فهل سيتنازل بعضهم لبعض؟ هنا
نشك بأن اتفاقاً سريعاً ينتظر على الأبواب. وحتى لو تكاثرت المبادرات، فهي تُسمعنا
(قرقعة لا طحناً)، أما السبب فلأن أصحاب المبادرات هم من أفراد العصابة، وتعني
مبادرتهم أن لا ينفرط عقدها، فانفراط العقد يعني خسارة للجميع.
طالما
انتهت ثنائية (المقاومة – الاحتلال)،
وطالما ظلت صورة الواقع على ما وصفناه، وهي لن تتغير بتجميل من هنا أو تجميل من
هناك، نرجِّح أن صورة الأيام القادمة في العراق لا يمكن أن تكون واضحة إلاَّ من
خلال رؤية المرحلة على قاعدة ثنائية (الحاكم – والمحكوم)، وهي تُبنى على قاعدة العلاقة بين
مسألتين، وهما: نظام حاكم، وشعب محكوم.
وعن
ذلك نرى أن مرحلة التحرير الوطني قد انتهت بانتهاء الاحتلال الأميركي. وباستثناء
مواجهة الاحتلال الإيراني، نعتبر بأن مرحلة جديدة قد ابتدأت وهي مرحلة الثورة
الشعبية المطلبية التي لا يمكن أن تنتهي إلاَّ بإسقاط نظام العمالة الذي تمثل
(حكومة المالكي) أهم رموزها. وما يحدونا إلى تحديد طبيعة المرحلة القادمة على ما
قمنا بتحديده، أسباب وعوامل، من أهمها أن علاقة هذا النظام مع الشعب العراقي هي
علاقة تناقض شديد، لأنه ليس نظاماً عرف تكوينه على أساس خدمة الشعب، بل قام على
أساس سرقة الشعب بكل حقوقه، وهو غير قابل للإصلاح، وهذا يعني أنه غير قابل للحياة.
إن
واقع النظام الحاكم، ومهما كان تصورنا عن مدى سوئه، فلن يكون أوضح عندنا أكثر من
وضوحه عند الشعب العراقي، ومن كان لديه دفاع عنه فليرشدنا.
أما
واقع الشعب المحكوم فهو من السوء أيضاً بما لا يمكن تصويره.
إن
الخلل الكبير في العلاقة بين الحاكم والمحكوم بدأ يُنتج ثورة مطلبية ملموسة
الأهداف، وبيِّنة المسار، منذ أشهر. ولم يبد في الأفق، ومن المستحيل أن يبدو، أي
أمل، لصعوبة تصحيح منهج اللصوصية وتحويله إلى منهج الشرف.
لقد
بدأت أزمة النظام، أي أزمة (العملية السياسية) من الداخل بقوة لافتة فاجأت الكثير
ممن كانوا يراهنون على بقائها على قيد الحياة ولو لأشهر. بدأت الأزمة حادة بين
أطرافها وهي من النوع الذي لا تلتئم جروحه بعد أن كال كل طرف للآخر أكثر الاتهامات
حدة. ونحن نحسب أنه إذا ما هدأت الصراعات بين تياراتهم لسبب أو لآخر، ومنها أن
يحفظ كل منهم ماء وجه الآخر، فلأن تسوية ما ستتم بين اللصوص وليس بين الشرفاء.
وستكون تلك التسوية على حساب تصحيح العلاقة بين الحكم والشعب. والتسوية بينهم تعني
أنهم اتفقوا على استمرار النهب والسرقة والفساد. وتلك تسوية لن يفرح بها الشعب
العراقي لأنه يجيد فهم أصول التمثيل بين اللصوص. وهذا واقع لن يجد فيه الشعب
العراقي ما يُطفئ جذوة ثورته أو على الأقل تخفيف درجة حرارتها.
إن
الكرة الآن في ملعب الوطنيين، وفي المقدمة منهم أصحاب (عملية المقاومة) الذين
قطعوا أهم شوط في تحرير العراق بطردهم الاحتلال، ولم يبق لديهم أكثر من تقويض
(العملية السياسية)، وهذه المهمة لا تتطلب الجهد ذاته الذي بذلوه في إنجاز المرحلة
الأولى. ولثقتنا الكبيرة بهم، فهم كانوا على مقدار قامة الوطن الذي بذلوا كل ما
يمتلكون من أجل تحريره، لذلك فهم لقادرون على تقويض عملية الاحتلال السياسية لأنها
أصبحت أكثر ضعفاً، ولأن الشعب العراقي يقف إلى جانب المقاومة. هو واقف إلى جانبها،
ومن لم يقف حتى الآن، سيكون مدفوعاً إلى الوقوف، وهل هناك من دافع أهم من دافع شعب
قتله الظمأ على الرغم من امتلاكه ماء دجلة والفرات، وقتله الجوع على الرغم من
امتلاكه الثروة النفطية الأكبر في المنطقة؟
من
وقف إلى جانب المقاومة فليس هناك ما يدفعه إلى التراجع عن موقفه، بل هناك الكثير
من الأسباب التي تعمل على تعميق خياره. ومن لم يقف حتى الآن، فهناك الكثير من
الدوافع التي ستدعوه إلى الوقوف. حتى من أرغمته ظروف التقاط لقمة الخبز المر في
مرحلة الاحتلال، فإنه بعد زواله، سيكون أكثر شوقاً لتحرير نفسه من ذلك السجن لأنه
يتأكد يوماً بعد آخر أن تحصيل لقمة العيش الكريم أصبح في متناوله، ولذلك سيعمل على
تقريبه ما استطاع، وهو يدري أن فساد (عملية الاحتلال السياسية) كانت تشكل أحد أهم
أسباب تجويعه وتعطيشه، وهو من أجل استرداد لقمته الشرعية لن يجد حلاً لتسريع
الحلول الأكثر جذرية من دعم تقويض تلك العملية وقبرها في أقرب فرصة. وستجد
المقاومة العراقية، التي تعمل على إنهاء آخر ملامح الاحتلال، البنية التحتية لتلك
الشريحة بين الجنود ورجال الشرطة والأمن الداخلي وحتى من بين أفراد الميلشيات
الطائفية التي ما انتسبوا إليها إلاَّ في سبيل راتب هزيل أو حماية من الفلتان
الأمني.
وكذلك،
هناك الكثير من التيارات السياسية، ممن لم تكن قواعدها تدرك أن الاحتلال سيزول
بمثل تلك السرعة، ستنتظر الشريحة الأكبر منهم على أرصفة استقبال التغيير القادم
الذي أصبح على الأبواب، هذا إذا لم تشارك فيه مشاركة فعَّالة.
وأخيراً،
إن من كان يشك بأن الاحتلال لن يزول، فهذا هو قد زال. ومن يشك بأن العملية
السياسية لن تموت نقول إنها تسير على طريق الاحتضار من داخلها، ويكفي أن نعيد
استذكار المثل الذي يقول: (إذا اختلف اللصوص ظهرت المسروقات). وهذه
المسروقات تنكشف على ألسنتهم هذه المرة. فراجعوا تراشقهم بالتهم لتدركوا أن
عمليتهم السياسية تنهار من داخلها، ولا يعوزها إلاَّ هزة شعبية توديها في حفرة
الهلاك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق