التيار القومي العربي:
الحل في بناء نظرية قومية
عربية
كتاب (في سبيل
علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)
مقطع من (الفصل
الخامس: مظاهر تأسيس الفكر القومي العربي)
نشأة التيار القومي العربي وتكوينه
تعود
نشأة التيار القومي العربي إلى أواسط القرن19م؛ وجاءت مترافقة مع أكثر من مؤثر
داخلي وخارجي، ومن أهمها: الانحطاط الفكري، والظلم الاجتماعي، والتخلف الثقافي
والتعليمي، والنهب الاقتصادي، كعوامل داخلية. وانتشار الليبرالية السياسية تحت
تأثير الفكر الوافد من الغرب، كمؤثر خارجي. و إذا ما أضيفت إليها عوامل اللاعدالة التي مورست بحق العرب غير المسلمين،
وبتفكك الدولة العثمانية وضعفها، واقتطاع أجزاء منها، ووضعها تحت السيطرة
الأوروبية المباشرة، فإنها تقودنا إلى
تفسير ما أخذ يتولد من اتجاهات جديدة على صعيد الساحة الإسلامية، بشكل عام، وعلى صعيد
الساحة العربية بشكل خاص.
من
خلال هذه الظروف، أخذت تبرز على الساحة اتجاهات إصلاحية من داخل الدولة، و اتجاهات
انفصالية عنها. لكن السلطة العثمانية، وبدافع من الخوف، وقفت، منذ خلافة السلطان
عبد الحميد، ضد تيار النخبة الإسلامية الإصلاحية، وحرَّضت الطبقة العامة ضد
أقطابها ودعواتها([1]).
لكن
وإن وقفت الدولة في وجه حركة الإصلاح عامة، فإن الأكثرية من علماء الدين المسلمين
وقفت في وجه الدعوات الإصلاحية الليبرالية. فكان التَّشبه بالغرب، بالنسبة لهؤلاء
العلماء، دلالة على التغريب، بينما كان الإصلاح يعني لليبراليين العرب: التنافس
والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، وفصل الدين عن السياسة([2]).
وبالإجمال
مرَّ تيار الدعوة للقومية العربية، بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى:
مرحلة التنوير:
التنوير لغوياً مصدره النور أي الضياء، وأنار الشيء
أي أضاءه، والتنوير: الإنارة([3]).
فمن أضاء مكاناً يلفُّه الظلام يستطيع أن
يراه واضحاً. فالعرب «كانوا يشعرون دوماً أنهم عرب»([4]).
لكن عروبتهم كانت جزءاً من إسلاميتهم؛ وهم يحسبون أن قوتهم تكمن في وحدتهم
الإسلامية، لكنه لما تبيَّن مقدار الضعف الذي أُصيبت به الوحدوية الإسلامية، اعتقد
بعض النخبويين العرب، أن هناك وحدوية قومية، يمكن أن توفِّر وجود القوة
المفقودة؛ فبرزت المسألة القومية من المكان المظلم الذي كانت موضوعة فيه إلى
المكان المضيء بعد إنارته.
أخذت
النخب العربية عن الفكر الغربي مسألة أهمية الفكرة القومية، وليست مسألة اكتشاف
القومية العربية. فهم، كما نحسب، أخذوا وسائل فكرية غربية للإضاءة والانارة
لتساعدهم على رؤية ما هو موجود في الظلمة، ولهذا كان الفكر القومي الوافد من
الغرب، هو إحدى الوسائل التي أضاءت للعرب،
الغارقين في مشاكل المرجعية الإسلامية الوحيدة، على أن هناك مرجعيات أخرى يلفها
الظلام، والقومية العربية هي من أهمها، ويمكنها أن تشكَّل حلاً لما يعانون منه.
فمن
داخل هذا المجال نبتت فئة من علماء الدين المتنورين، الذين تأثروا بالغرب، مثل عبد
الرحمن الكواكبي (1271-1320هـ/1854-1902م)، و الشيخ طاهر الجزائري، وقد تأثر الأول
بآراء بطرس البستاني، المسيحي، الداعية إلى علمانية الدولة، خاصة مسألة فصل الدين
عن الدولة ([5]).
فالكواكبي لعب دوراً بارزاً في الدعوة إلى هذه النظرية.
شكَّلت،
حينذاك، نظرية فصل الدين عن الدولة، والدعوة إلى الرابطة القومية، أساساً بديلاً
للرابطة الدينية أو مكمل لها، وأصبحت
المحور الذي أثار اهتمام مفكرين كثيرين من مسيحيين ومسلمين، بين مؤيد لها ومعارض.
وعلى الرغم من غلبة التيار الذي عارضها، وأكثرية رواده من المسلمين، شقت طريقها
إلى عقول عدد من المفكرين النخبة، مثل خالد الخطيب في العشرينات من هذا القرن،
وأنطون سعادة (1322-1368هـ/1904-1949م)، في الثلاثينات منه([6]).
ولموقع
الكواكبي الديني، أصبحت أفكاره في غاية من الأهمية في مرحلة حصر فيها
المسلمون اهتمامهم في داخل هدف الجامعة
الإسلامية. فالكواكبي دعا إلى نزع الخلافة من الأتراك وإعادتها إلى العرب. وكانت
تعابيره حول القومية العربية واضحة، وفكرته عن القومية لم تكن إلاَّ بمثابة عودة
من المرحلة المسكونية (الأممية) إلى المرحلة القومية([7]).
كان
للعلماء تأثير في ولادة تيار تجديدي، أخذ ينتشر في أوساط المثقفين المسيحيين،
وخاصة في حلب. دعا هذا التيار إلى حكم ديمقراطي يتساوى فيه الجميع، ويفصل الدين عن
السياسة ويقوم على العلم الحديث، ونادى بالقومية العربية، وانتقلت تأثيراته، في
مستهل القرن20م، إلى الأوساط المسلمة المثقفة ([8]).
لم
يتأثر انتشار الفكر القومي، بالانتماء الديني، و إن تأثيراته كانت تنتقل من مفكر
مسيحي إلى مفكر مسلم وبالعكس؛ على أنه
حصلت تمايزات في داخل التيار كانت المؤثرات فيها تعود إلى خصوصيات المناطق
العربية.
ففي بلاد الشام والعراق، الخاضعَين
للاحتلال العثماني، كان التيار الليبرالي قومياً عربياً مناهضاً، بدرجة أولى،
للاحتلال العثماني الذي حكم باسم الجامعة الإسلامية([9]).
أما
في وادي النيل، ومصر بشكل خاص، فقد اختلف مظهره عنه في بلاد الشام، لأن مصر
كانت رازحة تحت الاحتلال البريطاني، منذ العام (1300هـ/1882م)، لذا اتخذ التيار
فيها مظهراً وطنياً مصرياً مناهضاً للاستعمار. ولأن الدولة العثمانية لم تكن عدواً
مباشراً، استفادت الحركة الوطنية المصرية من تياري: الجامعة الإسلامية والجامعة
العثمانية، لتسعير القتال ضد الاحتلال البريطاني ([10]).
وقبل ذلك استفادت من العقيدة الإسلامية (عروبة الخلافة)، بوجهها القومي، لتفجير
أول ثورة وطنية شعبية في وجه العثمانيين، فكانت ثورة عرابي التي اندلعت في العام
(1298هـ/1881 م) ([11]).
أما
سكان المغرب العربي، فكانوا، يؤمنون بالأمة العربية ذات الأقطار المتعددة،
أو بأسرة عربية واحدة، ولم يكن القول بوجود أمة عربية واحدة يبدو متناقضاً مع
الاعتراف بالوطنيات الخاصة، وكثيرون من الوطنيين المغاربة كانوا لا يترددون في
استخدام عبارة الأمة العربية إلى جانب الأمة التونسية أو الجزائرية أو المغربية ([12]).
المرحلة الثانيـة:
مرحلة التنظير:
بعد
انهيار المرجعية الإسلامية العثمانية أخذت فئة من داخل النخب العربية تفتش عن
منطلقات نظرية للفكرة القومية، في سبيل بناء نظرية عربية في الفكر القومي؛ لذا تمَّ التركيز، في تلك المرحلة، على
اللغة كرابطة قومية إنسانية، وعلى التاريخ كتوأم لها أو مضمونها الحي. فقد حاول
بعضهم بناء نظرية قومية عربية على أساس اللغة و التاريخ ([13]).
فساطع
الحصري هو أول من أعطى للفكرة القومية العربية، مفهوم الأمة العربية، مضموناً
حديثاً، وواضحاً، ومتميزاً عن مفهوم الجماعة الدينية؛ لذلك ركَّز على عوامل: اللغة
و الثقافة و التاريخ بالدرجة الأولى، ثم حسب أن الحدود السياسية موروثاً
استعمارياً، فرفض أن يعترف بأن الأقطار العربية تؤلف دولاً قومية متمايزة ([14]).
جاءت
أهمية فكر الحصري، كمفكر قومي، من خلال تجسيده لمرحلة أكثر نضجاً ووعياً في تطور
الفكر القومي العربي ([15]).
لكنه، متأثراً بموقعه التربوي، حسب أنه يكفي لتحقيق الوحدة العربية أن تتم وحدة
الثقافة والتعليم، ولهذا فإن بثَّ الإيمان بالفكرة القومية العربية في النفوس،
ومقارعة خصومها بالحجج الفكرية، يكفيان لترسيخ الإيمان بفكرة الوحدة العربية وتحقيقها
أيضاً. ولأنه لم يعط السياسة (من تنظيم وحركات وتفاعلات اجتماعية طبقية )،
والتطورات الاقتصادية، حقها في هذا الميدان، عُدَّ أنه أحد النواقص الأساسية في فكره... ([16]).
ولأننا نحسب أن الاتجاهات الفكرية الفردية، هي
حلقات متصلة ببعضها البعض؛ ولأنه ليست هناك اتجاهات فكرية متكاملة، داخل إطار
الزمان والمكان المحدودين، فإن الفكر القومي عند ساطع الحصري، يُعدُّ حلقة أساسية
جاءت لتملأ مع غيرها من الاتجاهات الأخرى، مساحة الفراغ في تلك المرحلة
الانتقالية، على طريق تحديد مسألة الهوية للأمة.
-المرحلة الثالثة: مرحلة التأسيس الفكري-
السياسي أو الانتقال من النخبوية إلى الشعبية:
كانت بنية
الجمعيات، التي تأسَّست بعد العام 1908م، تعتمد على أبناء «الأُسر المحترمة» ذات
الموقع الاجتماعي والاقتصادي المتميز في المجتمع، السبب الذي أبقى الفكرة القومية
بعيدة عن الجماهير الشعبية و مشاغلها اليومية، وبقيت الجمعيات أسيرة تلك النخبة،
عمادها بعض الأعيان والمثقفين وطلاب التخصص العالي في الخارج، وبعض النواب،
والضباط العرب في الجيش العثماني ([17]).
حتى
ما قبل العام 1936م، كانت الأحزاب السياسية غائبة، لذا تولَّت الزعامات السياسية قيادة التيار الوحدوي؛ وكانت أعمدتها
تقوم على كبار الملاكين والبورجوازية الناشئة على الرغم من أن سلطات الانتداب
استطاعت اجتذاب قسم كبير منها ([18]).
لم
تستطع الأحزاب السياسية القومية والوطنية، باستثناء الأحزاب الشيوعية، أن تتجاوز
دائرة النخبة، في الفكر والتنظيم، إلى أن تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي الذي
استطاع أن يحقق قفزة في هذا المجال؛ فصعد بالفكر القومي من مرحلة النظرية-
النخبوية إلى المستوى السياسي الشعبي من جهة، وكسر حلقة التسوير التنظيمي حول
النخبة، ليفسح في المجال أمام الطبقات المسحوقة في المجتمع لتشكل القاعدة التنظيمية
الأساسية للحزب من جهة أخرى.
كان
ميشيل عفلق من أبرز مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي. فماذا يمثل هذا الحزب في
سياق مراحل تطور الفكر القومي العربي؟([19]).
يقول
الياس فرح، في معرض تحليله لنصوص كتبها ميشيل عفلق قبل إعلان تأسيس الحزب:
«إن المرحلة الجديدة التي دخلتها النهضة
المعاصرة، تحتاج إلى ذهنية جديدة، وفهم جديد، ونظرة جديدة إلى الواقع العربي،
وبالتالي إلى منهج جديد»([20]).
نشأ
الفكر القومي، بشكل عام، وحزب البعث العربي الاشتراكي، بشكل خاص: في بيئة تطلعت
فيها الحركات السياسية إلى تأسيس هوية جديدة لأمة عربية تعوَّدت
أن تحيا تحت سقف مرجعية إسلامية،
مهما كانت الممارسات التي يقوم بها النظام الذي يحميها.
في
مساحة الفراغ تلك، انتاب الحركات السياسية والدينية نوع من حمى التنافس، كل منها
كانت تعمل على بناء اتجاهاتها من جهة، وتتنافس مع الحركات الأخرى على قاعدة كشف الثغرات
عند منافساتها من جهة أخرى.
كان
الفكر القومي، قبل الخمسينات من القرن20م، يساجل ثلاثة أطراف تكِنُّ له العداء
الصريح التام، وهي: الاستعمار، والسلفية الدينية الداعية إلى جامعة إسلامية وخلافة
جديدة، والأحزاب الشيوعية العربية.
أما بالنسبة إلى الاستعمار، في عدائه السافر للفكر
القومي العربي، فقد ترجم عداءه باتفاقية سايكس-بيكو التقسيمية، التي تكرِّس التجزئة وتعمِّقها،
وتخنق الحريات وتكبتها. لكن الحركة القومية واجهته بإلهاب الشعور القومي، وترسيخ
حملة من الشعارات والمفاهيم في نفوس الشباب العربي بواسطة اللغة- التاريخ، ذات
الطاقة التعبيرية العاطفية الهائلة؛ وكان من أهم الذين عملوا على بناء نظرية عربية
على أساس اللغة-التاريخ هو ساطع الحصري ([21]).عَدَّ
الفكر القومي، أن الاستعمار هو المعرقل لوحدة الأمة، لذا فقد جاء في دستور حزب
البعث العربي الاشتراكي، الذي اقرَّ في 7 نيسان 1947م، أن «الاستعمار وكل ما يمت
إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة»([22]).
ولذلك أقرَّ الحزب في استراتيجيته مبدأ النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن
العربي تحريراً مطلقاً كاملاً([23]).
أما السلفية الدينية التي تحسب أن الرابطة الدينية هي أساس
استراتيجيتها، والجامعة الإسلامية هي مرجعيتها السياسية الوحدوية، فكانت تمثِّل
الطرف النقيض للفكر القومي الذي يَعِدُّ أن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة
القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنيين وانصهارهم في بوتقة
واحدة...»([24])،
وإن الوحدة العربية هي مرجعيته السياسية الوحدوية، فـ «الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ»([25])،
وهو «هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال
طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط
الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط»([26]).
لم
يؤثِّر التناقض الحاصل بين المرجعيتين: الدينية-الإسلامية والقومية العربية، على
الموقف الإيجابي الذي اتخذه حزب البعث من الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص.
ظهر
البعث «كحركة روحية بالدرجة الأولى»، ولكي تصيب نجاحاً في «تحقيق الانقلاب العربي
الشامل" كان لا بد من توافر عدد من الشروط، ويأتي في مقدمتها الإيمان، ولهذا
السبب كان "الإيمان الديني يشكل حيِّزاً بارزاً في الأيديولوجيا البعثية»([27]).
وُجِّهت
للبعث انتقادات من مواقع شتى حول موقفه من الإسلام، لكن تلك المواقف لم تُصِب الهدف،
ترى فهمية شرف الدين «أن الأيديولوجيا القومية بقيت أسيرة للتذبذب الأيديولوجي، الذي لم يدفع بها نحو الوضوح النظري الذي تفترضه
المرحلة ]بل اختارت الطريق الثالث[... فالطريق الثالث
يرفض الرأسمالية ولا يقبل الشيوعية... يتسابق هذا الرفض مع الدعوة الأيديولوجية
للعودة إلى الإسلام كحل نهائي لمشاكل كل العالم...كل ذلك في علاقة وثيقة مع
المفاهيم الغيبية والعودة إلى الروحانيات... التي ترتدي حتماً أشكال البعث
الإسلامي... وهكذا أدى رفض المادية إلى ميتافيزيقية ذات صدى ديني. أما البعث، بعث
الأمة، فهو استعادة لزمن النبوة، وعصر الأنوار العربي»([28]).
ويرى جوزف الياس، أن البعث حدَّد موقعه من القومية
والدين، فوجد أن لا تعارض بينهما. فالبعث رأى في الدين الثورة الكبرى في تاريخ
العرب، وهو «جزء من تراثها ورسالتها المستمرة، والأمة العربية أمة مؤمنة، دون أن
يعني إيمانها إنشاء (الدولة الدينية)، وذروة الاتصال بين القومية والدين تتجلى في
الصلة الحميمة بين الدولة والإسلام»([29]).
فبين من نظر إلى موقف البعث من الدين من زاوية
تكتيكية تخدم حركة النضال في المرحلة التي نشأ فيها، وبين من يرى أنه يصب في
المواقف الغيبية والعودة إلى الروحانيات، وبين من يرى أنه يتجلَّى في الصلة
الحميمة بين العروبة والإسلام، نرى أن نعود إلى النصوص الواردة عند عفلق، وفي
وثائق الحزب.
لكل
أمة ماض، وماضي الأمة تاريخها، وفي تاريخ الأمم محطات مضيئة ومحطات مظلمة، هنا
يقول عفلق، إن «أكبر كتاب عن الأبطال القدماء ليس تلك الصحائف الصفراء التي يحميها
المؤرخون الشيوخ، بل هو وجود من يضارع أولئك الأبطال في البطولة ويتابع سيرتهم»([30]).
ولهذا، فإن «العبرة كل العبرة [هي، إذاً]،
في حاضر الشعب لا في ماضيه، لأن الحاضر
إذا كان قوياً يسهل عليه الانتفاع بقوة الماضي»([31]).
فالدين،
بشكل عام، هو الركن الأساسي في «نظرة الانسان إلى الكون»([32])،
وللإسلام، كثقافة، موقعه في التاريخ الفكري والسياسي والنضالي للأمة العربية، وله
تأثيراته الثقافية العميقة في المجتمع العربي، فالإسلام هو جزء من الماضي، وهو
«حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى،
له مكانته الخاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها»([33]).
فالمسألة
الدينية ليست عرضية في التاريخ العربي، بل هي من أبرز المسائل في المجتمع العربي
الحديث، والديني ليس شيئاً ثانوياً مصطنعاً في حياة الأمم ([34])،
فهو موجود في صميم القضية العربية وفي ضمير المواطن العربي ([35]).
فمفهوم
البعث للدين، بشكل عام، وللإسلام بشكل خاص، هو غير المفهوم السلفي له؛ ففي
الإسلام كتراث، في مفهوم البعث، محطات
مضيئة يجب أن تُقرأ من جديد حيث أن «قراءة جديدة للإسلام كشفت لنا عن حقائق أساسية
في روح شعبنا ونفسيته، وأضاءت لنا طريق العمل الثوري»([36]).
فالمرحلة التي تعيشها الأمة العربية تحت هيمنة الاستعمار، وفي ظل التجزئة
المفروضة، وتشتت الاتجاهات الفكرية والسياسية للعرب، تقتضي درجة قصوى من حرارة
النضال، شبيهة بالموقف الذي كان عليه النبي العربي محمد (ص) عندما كان يرى فيه
عَرَبَ الجزيرة منقسمين إلى قبائل متناحرة، يتعرضون فيه لاعتداءات متواصلة من
الفرس والروم؛ تتعدد اتجاهاتهم، كما تتعدد أصنامهم التي يعبدون؛ فلم تكن غير حرارة
النضال التي تميز بها محمد (ص)، وحذا حذوه من اقتنع بدعوته. فالإسلام من هذا المنظار تجربة حية، قرأها العرب
والمسلمون منذ مئات السنين، وترنموا بها «لكنهم لا يفهمونها لأن فهمها يقتضي درجة
من غليان النفس قصوى»([37]).
فالقومية
العربية، على عكس السلفية الدينية الجامدة، «تستوعب التراث القديم المتنوع...
وتتفاعل مع الحضارة الإنسانية»([38]).
والتفاعل الحضاري، أي بمعنى عدم الوقوف عند الماضي، يَعِدُّه البعث نقطة انطلاق «نبدأ فيها حياة جديدة، نملؤها بكل
المثل الإنسانية التي توحي بها أو تدفع إليها تجربتنا المعاصرة»([39]).
فالتجربة
المعاصرة، بمعنى المرحلة الجديدة «يجب أن تبدأ، وأن تظهر فيها الأمة العربية على
مستوى جديد غير المستوى السلبي الذي كانت عليه في الماضي... مرحلة جديدة تقف فيها
أمتنا لتواجه مصيرها وجهاً لوجه»([40]).
وهي بحد ذاتها، لا تتخلى عن التراث الإيجابي، مواكبة لروح العصر، «الذي نعيش فيه، عصر المذاهب الاجتماعية والاقتصادية،
وفي جو الروح العربية الأصيلة»([41]).
أما مواكبة روح العصر، فلأن التراث الإنساني، تراث متصاعد في تقدميته، وأما تخلي
الأمة عن تراثها، فلأنها «لا تستطيع أن تلبس ثياباً مستعارة»([42]).
رأى
البعث الإسلام من جوانب عدة: إضافة إلى أن الدين منهج من مناهج نظرة الإنسان إلى
الكون، فإنه يشكل جزءا أساسياً من التراث التاريخي العربي، روحياً و سياسياً
واجتماعياً، وفيه إضاءات نضالية مهمة يمكن للعرب أن ينيروا بها درب الكفاح في وجه
الاطماع الخارجية. لكن الجوهر الذي يكتسبه الدين من خلال دوره في تنمية الجوانب
الروحية والخلقية عند الإنسان، شيء، واستخدامه كعامل للتجزئة والتفتيت شيء آخر.
فالإسلام
ليس عقيدة جامدة سلفية يتم تردادها وحفظ أصولها، بل هو تراث له جوانبه المضيئة في
زوايا التاريخ العربي، لا يمكن الاستفادة منها، إلاَّ بتمثل تجربته الثورية
النضالية. فإذا كان البعث قد أدخل الدين إلى الحياة القومية، إلاَّ أنه لم يجعل من
مهمته مهمة دينية ([43])،
لأن «الرابطة القومية، هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية، التي تكفل
الانسجام بين المواطنين، وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية
والطائفية والقبلية والعرقية والاقليمية»([44]).
فالمرجعية
القومية الوحدوية، هي المرجعية الوحيدة التي يلتزم بها حزب البعث، والترجمة
العملية لهذه المرجعية تتم في إطار نظام
سياسي وحدوي عربي، يجمع شمل العرب كلهم في دولة مستقلة واحدة، بعد تحرير الوطن
العربي من الاستعمار، وتحرير المجتمع العربي من كل الفساد اللاحق بحياة العرب
الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ([45]).
كما أن كل «نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية في أجزائها ومجموعها لا تصدر عن هذه
المسلَّمة (وحدة الأمة العربية)، تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة»([46]).
وإذا كان لا بد من النضال القطري، تحت ظروف التجزئة المفروضة على الأمة، فيجب «أن
يقترن نضال كل قطر، في سبيل مشاكله الخاصة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
والفكرية، بفكر الوحدة والنضال من أجلها»([47]).
ومن أجل تحقيق الوحدة السياسية ثمَّة شروط استراتيجية:
- أن ينصبَّ التفكير أولاً
على الوحدة الروحية، أي الهوية القومية، وهذا شرط أولي مهم في ظل الشرذمة الفكرية،
التي لم تتوصل معها الاتجاهات الفكرية العربية إلى الاتفاق حول هذه الهوية/
المرجعية الوحدوية. فهناك الاتجاهات الأممية الشيوعية، والاتجاهات الأممية
الإسلامية، والاتجاهات القطرية الوطنية. يأتي التأكيد على أولوية الوحدة الروحية
«لأن الوحدة المفقودة هي الوحدة القومية وليست الوحدة السياسية، ولأن الوحدة
السياسية نتيجة»([48]).
- أن
يستمرَّ النضال ضد الاستعمار حتى تحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً([49]).
- وأن تتم محاربة العصبيات
المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والقطرية([50]).
بعد
أن حدَّد البعث علاقة القومية بالدين/ العروبة بالإسلام، رافضاً أن تكون الجامعة
الإسلامية، مرجعية وحدوية دينية وسياسية للأمة العربية، لأنه أحلَّ مكانها
المرجعية الوحدوية القومية، وهدفها بناء نظام سياسي عربي وحدوي، قام بخطوة أخرى،
عندما أعطى للمسألة القومية محتواها الاجتماعي، وربط النضال القومي/ الوحدوي،
بالاشتراكية، كمبدأ اقتصادي - اجتماعي، يحقق المساواة بين جميع المواطنين ويمنع
استغلال جهد الآخرين([51]).
إضافة
إلى كل ذلك نزل البعث بالنظرية إلى الواقع، ولهذا أصبح الحزب «ليس الحزب/ النظرية
بل الحزب/ الفكرة والنضال»([52]).
بالإجمال،
كان موقف البعث من الإسلام، متميزاً عن تيارين: أحدهما يقف على اليمين (تيار
الجامعة الإسلامية)، الذي يفسِّر الكون
بكل جوانبه على أساس منهج ديني- ماورائي، أما الآخر فيقف على اليسار (الأممية
الشيوعية)، الذي يفسِّر الكون، بكل جوانبه، على أساس منهج مادي (المادية-
الجدلية).
فتيار
الجامعة الإسلامية برؤية معظم رواده السلفيين يريد أن يقطع الإسلام عن إمكانية
تواصله مع الحاضر والمستقبل، وهو يقف رافضاً لكل حالة تجديدية في الفكر.
أما
الدعوة الشيوعية فقد جنحت باتجاه الالحاد، برؤيتها المادية في تفسير الكون، ورفضت
ليس الإسلام فحسب، وإنما الدين، أيضاً، بشكل عام.
أما
البعث، فقد دعا إلى تكامل زوايا التاريخ في داخل علاقة جدلية بين التراث والمعاصرة
، والى التمييز بين الماورائي في الدين، كرؤية فلسفية، وبين تطور التاريخ بصورة
جدلية. فهو لما اعترف بدور للدين في المجتمع، فإنما ميَّزه عن النزعات الطائفية
والمذهبية. وبدلاً من أن يكون الماضي
والحاضر فيه متساويين، كما يحسب السلفيون، أراد البعث أن يتفاعل الماضي (التراث)
والحاضر (المعاصرة) في الأمة، لكي «يكون تذكرها لماضيها ووعيها لحاضرها حافزاً
مزدوجاً لها للنهوض»([53]).
إن موقف البعث من الإسلام (الإيمان) لا علاقة له
بالتكتيك السياسي المرحلي، ولا بالاستراتيجي (الماورائي الغيبي) السلفي الجامد.
ولم يكن موقفه محدَّداً نتيجة لدراسات أكاديمية، إلاَّ أنه موقف موضوعي ونتائجه
علمية، إذا ما وُضع على طاولة منهج الدراسات الاجتماعية.فمنهج الدراسات
الاجتماعية، يدرس الحالة بجانبيها الستاتيكي والديناميكي.
فالدين
حسب المفهوم الستاتيكي للحالة الاجتماعية، هو حاجة فلسفية لها علاقة بتفسير الكون.
أما في حالته الديناميكية، فهو جزء من التاريخ الذي تنتمي إليه الأمة العربية، و
لا يمكن دراسة التاريخ العربي من دون أن
نرى للإسلام بصمة في كل تفاصيله. ولما كان من غير الموضوعية العلمية أن تقوم
الدراسات بإلغاء جزء من التاريخ، حتى لو كان مظلماً، تحت حجة أنه مظلم، فما هو
الموقف، من الأجزاء الأساسية فيه، خاصة وأن فيها كثيراً من المحطات المضيئة ؟
على
هذا الأساس يمكن التمييز، دائماً، بين منهجين في دراسة الدين:
- النظرة السلفية- الدينية،
التي تفسِّر الكون على أساس من الجمود المنهجي، وعلى قاعدة أن ما هو مرسوم في
الماضي والحاضر هو من صنع إلهي لا يجوز مسه.
-النظرة العلمية التي تفسِّر
التاريخ على قاعدة تطوره بشكل متصاعد.
فاستناداً
إلى ذلك تمَّيز موقف البعث من الدين بما يلي:
-إن الدين هو حاجة روحية
إنسانية، وهو حاجة فلسفية لتفسير الكون.
-وهو حالة ثقافية اجتماعية
تاريخية، ضرورية لروح المرحلة وروح العصر معاً.
أما
بالشبة للمساجلة بين الأحزاب الشيوعية العربية والفكر القومي، فقد استعارت هذه
الأحزاب من الفكر الأوروبي،
الماركسية تحديداً، نظريات جاهزة كانت
وليدة الواقع الأوروبي، خاصة في مسألتي الدين والقومية؛ وتقيدت بتلك النظريات لكي
تطبقها على الواقع العربي، ولهذا وقعت في منزلقات عديدة.
إن
مسألتي الدين والقومية هما أشد ما يتميز به المجتمع العربي: فالأول هو جزء أساسي
من التراث الحضاري للأمة، أما الثانية ففيها تكمن الحوافز الوحدوية كشرط ضروري
ولازم لمقاومة الموجات الاستعمارية الخارجية.
عبَّر
عفلق عن موقف التيار القومي من الحركة الشيوعية بما يلي: «إن تأثيرات النظرية الشيوعية
ستبقى سلبية على القومية العربية ما لم تعبِّر هذه القومية عن نفسها بنظرية علمية
متماسكة قابلة لأن تتحقق في العمل المنظم»([54]).
ولأن
للحركة الشيوعية، مكاناً سابقاً في هذا البحث وسوف يكون لها مكان لاحق فيه، سنكتفي
بالإشارة إلى أن الحركة الشيوعية العربية قد أخطأت في موقفها السلبي من أهم مفصلين
أسهما في تكوين شخصية الأمة، وهما: الدين والقومية.
كانت
الاتجاهات النخبوية السابقة للبعث قد ركَّزت على ضرورة استخدام الشعور القومي في
التعبئة السياسية والفكرية؛ وعملت في مرحلة لاحقة على التنظير الفكري. لكن في
مرحلة البعث، اتخذت النظرية عمقها السياسي والاجتماعي عندما حدد أهداف القومية
العربية بشعارات ثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية، مقتنعاً أن مضامينها العامة
تستجيب للحاجات الأساسية للمجتمع العربي.
ولأن
أية نظرية لا تكتسب معنى حقيقياً إلاَّ عندما تُفصَّل في خطة عملية، فقد أنزل البعث النظرية القومية من برج نخبويتها إلى متناول الطبقات
الشعبية، بما تضمنته من قوانين اجتماعية تصب في مصلحة تلك الطبقات من جهة، والعمل
على تنظيمها في أطر حزبية لتنخرط مباشرة في ساحة النضال من أجلها من جهة أخرى.
كانت
رؤية البعث في أن «الأمة العربية متحققة في كل مكان يوجد فيه نضال»([55])؛
دعوة دفعت بالنخبة، التي توافقت على المبادئ النظرية- الفكرية والسياسية
والاجتماعية- إلى إعلان تأسيس الحزب في 7 نيسان/ أبريل 1947م.
وسواءٌ
أصاب حزب البعث العربي الاشتراكي، أو أخطأ، في بعض تفاصيل أو زوايا القضايا المطروحة
كأهداف، فحسبه أنه بنى اتجاهات أساسية، فكرية وسياسية واجتماعية وتنظيمية، على ما
صِيغ قبل نشوئه من حقائق. فهو قد حدَّد مبادئ قوانين عامة للبيئة التي نشأ فيها،
والتي يمكن تعميقها وتطويرها؛ ونزل
بالنظرية من التجريد إلى الواقع، ولهذا أصبح «ليس الحزب/ النظرية، بل الحزب/
الفكرة والنضال»([56]).
([19])
أسس ميشيل عفلق (1330-1410هـ/1912-1989م)، حزب
البعث الحربي الاشتراكي في 7 نيسان/ ابريل 1947م، وانبثقت أفكاره عن تصور
مشترك عند نخبة من المثقفين؛ توافقت، بعد مراحل تمهيدية استمرت سنوات، على
المنطلقات النظرية، الفكرية والسياسية، التي صيغت في دستور للحزب وأعلنت بتاريخ
تأسيسه. وإذا تركزت شواهدنا على نصوص مأخوذة عن ميشيل عفلق، فلأنه، بالإضافة إلى
تميزه في الفكر القومي، كان يعبِّر بدقة عن العقل الجمعي للحزب.
هناك تعليق واحد:
الاستاذ حسن المعطاء
لا نستطيع القراءة بسبب كثرة ::
(((((الأول بآراء بطرس البستاني، المسيحي، الداعية إلى علمانية الدولة، خاصة مسألة فصل الدين عن الدولة ([5]). فالكواكبي لعب دوراً بارزاً في الدعوة إلى هذه النظرية.
شكَّلت، حينذاك، نظرية فصل الدين عن الدولة، والدعوة إلى الرابطة القومية، أساساً بديلاً للرابطة الدينية أو مكمل لها، وأصبحت المحور الذي أثار اهتمام مفكرين كثيرين من مسيحيين ومسلمين، بين مؤيد لها ومعارض. وعلى الرغم من غلبة التيار الذي عارضها، وأكثرية رواده من المسلمين، شقت طريقها إلى عقول عدد من المفكرين النخبة، مثل خالد الخطيب في العشرينات من هذا القرن، وأنطون سعادة (1322-1368هـ/1904-1949م)، في الثلاثينات منه([6]).
ولموقع الكواكبي الديني، أصبحت أفكاره في غاية من الأهمية في مرحلة حصر فيها المسلمون اهتمامهم في داخل هدف الجامعة الإسلامية. فالكواكبي دعا إلى نزع الخلافة من الأتراك وإعادتها إلى العرب. وكانت تعابيره حول القومية العربية واضحة، وفكرته عن القومية لم تكن إلاَّ بمثابة عودة من المرحلة المسكونية (الأممية) إلى المرحلة القومية([7]).
كان للعلماء تأثير في ولادة تيار تجديدي، أخذ ينتشر في أوساط المثقفين المسيحيين، وخاصة في حلب. دعا هذا التيار إلى حكم ديمقراطي يتساوى فيه الجميع، ويفصل الدين عن السياسة ويقوم على العلم الحديث، ونادى بالقومية العربية، وانتقلت تأثيراته، في مستهل القرن20م، إلى الأوساط المسلمة المثقفة ([8]).
لم يتأثر انتشار الفكر القومي، بالانتماء الديني، و إن تأثيراته كانت تنتقل من مفكر مسيحي إلى مفكر مسلم)))))) )
حاول تصليح الامور ولكم جزيل الشكر ؟؟.؟
قاريء
إرسال تعليق