-->
-->
المسألة
الشرقية
تأصيل
تاريخي
مستندين إلى نصوص مستلة من كتاب (في سبيل
علاقة سليمة بين العروبة والإسلام) لمؤلفه حسن خليل غريب، سنقدم للقارئ الكريم
رؤيتنا لمصطلحات ومفاهيم ثلاثة، وهي: المسألة الشرقية، والعلمانية، والديموقراطية،
في إطارها التاريخي والفكري. وهذه النصوص هي مقاطع متسلسلة من الفصل الرابع للكتاب
المذكور.
لعلَّ في إعادة نشر هذه المقاطع فائدة للقارئ
الكريم، خاصة وأن هذه المفاهيم أصبحت على علاقة وثيقة مع المرحلة الراهنة، سواءٌ
فيما له علاقة بالحراك الشعبي العربي الذي يعمُّ معظم أقطار الوطن العربي من ناحية،
أم كان في توضيح مصير هذه المفاهيم مع وصول حركات الإسلام السياسي إلى أكثر أنظمة
الحكم من ناحية أخرى. لذا سننشرها تباعاً وعلى مراحل ثلاث. كما ونلفت نظر القارئ
الكريم الذي يودُّ متابعة المفاهيم الثلاث، في سياقاتها التاريخية والمعرفية أن
يعود إلى كتابنا المذكور والذي نشرناه في معظم وسائل الأنترنت، وبشكل خاص في مدونة
العروبة.
وهنا سنبدأ بنشر المقاطع ذات العلاقة:
1-المسألة الشرقية وتأصيلها تاريخياً.
2-المسألة الديموقرطية في ميزان الحركات
الإسلامية.
3-المسألة العلمانية في ميزان الحركات
الإسلامية.
وهذا هو النص الحرفي لموضوع (المسألة الشرقية وتأصيلها تاريخياً):
I-الثـوابت السياسية-الاقتصادية الدولية
تبادلت الدولة العربية-الإسلامية والدول الأوروبية الأدوار
الحضارية: تخلّفت الأولى وتقدمت الثانية. واقع جديد انصرفت فيه تلك الدول، لأغراض
تجارية ودينية، إلى التفتيش عن أسواق جديدة أو تأمين طرق للمواصلات، فكانت بلادنا، لموقعها الوسط بين
قارات ثلاث، ولأنها موطن للأماكن المقدسة، محطة للأنظار والأطماع .
شهدت المنطقة العربية، منذ الحروب الصليبية، موجات متتالية من
المد والجزر؛ تارة كان الصليبيون ينتصرون فيستقرون، وتارة أخرى كانوا ينهزمون
فيرحلون. لكن أعبن الأطماع الأوروبية لم تتوقف عن
النظر إلى هذه المنطقة، حيث كانت بريطانيا قد ضمنت مصالحها بتأمين ممر لها
إلى الهند.
أصبحت هذه الأطماع من الثوابت
السياسية-التاريخية التي طبعت تاريخ الصراع بين مختلف القوى حول منطقتنا. ومرَّت
بعدة مراحل تاريخية، تنوع فيها الصراع بين المتنافسين الأوروبيين واتَّسع، لكنه
استمر فصولاً دون كلل أو ملل.
نقسم هذه المراحل التاريخية إلى ثلاث :
-الأولى : امتدت منذ
أوائل القرن 17م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وعرفت بالمسألة الشرقية، وهي
مرحلة الصراع الروسي-العثماني-الأوروبي للاستيلاء على المنطقة.
-الثانية
: اتفاقية سايكس-بيكو. امتدت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي مرحلة
تثبيت السيطرة الإمبريالية القديمة برأسيها الأساسيين بريطانيا وفرنسا.
-الثالثة:
امتدَّت من أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى المرحلة المعاصرة، وهي مرحلة الحرب
الباردة بين القطبين الدوليين الجديدين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد
السوفياتي، التي تميزت، وما زالت، بأرجحية السيطرة الأميركية.
1-المسألة الشرقية: استقر المقام للإمبراطورية البريطانية في
معظم أرجاء العالم، حفاظاً على
مصالحها التجارية، منذ أوائل القرن17م. لهذا السبب كانت تعمل ضد أية مشاريع تقوم
بها أو تفكر فيها أية دولة أخرى يكون
القصد منها مزاحمة المصالح البريطانية في المنطقة.
فالمسألة الشرقية مصطلح عام يطلق على
العلاقات السياسية بين بعض الدول الأوروبية وبين السلطنة العثمانية إبان القرنين
18و19م وأوائل القرن20م. حينذاك ساد كل من انكلترا وبروسيا الخوف من نتائج التوسع
الروسي بعد الحرب التركية الروسية، في القرن18م، إذ رأت بربطانيا في هذا التوسع
تهديداً لمصالحها الكبيرة في الهند .
لم تكن روسيا الدولة الوحيدة التي كانت تهدِّد المصالح
البريطانية، وإنما كانت كل حركة تتم على طريق إسقاط السلطنة العثمانية، الضعيفة في
تلك الحقبة، تشكل تهديداً لتلك المصالح؛ حتى إن حركة محمد علي باشا، والي مصر في
النصف الأول من القرن19م، دفعت بخصوم الأمس، من الدول الأوروبية، لكي يقفوا متَّحدين
في وجهه لمنعه من الاستفادة من مكاسبه الحربية. لكن مطالبة قيصر روسيا بحق حماية
الرعايا المسيحيين في تركيا، في ذلك الوقت، أعاد الصراع إلى نقطة البداية ([1]).
وللحفاظ على مصالحها، ضمن الواقع القائم حينذاك، قامت كل من
بريطانيا وإيطاليا، مدعومتان من معظم الدول الأوربية، إلى عقد اتفاقيات في العام 1887م،
كان من أهم أهدافها المحافظة على الواقع القائم آنذاك في منطقة البحر الأبيض
المتوسط - بحر إيجة - البحر الأسود، للحيلولة دون إقدام تركيا على التنازل عن
مواقعها في البلقان والمنطقة العربية لصالح روسيا وفرنسا ([2]).
لم تشهد تلك المرحلة تحالفات دائمة أو خصومات دائمة، إنما كانت
المصالح هي التي تفرض توقيت التحالفات والخصومات. لهذا، وفي الوقت الذي كانت فيه
السلطنة العثمانية تذعن لمصالح الدولة الأقوى، لم تعمل هذه الدولة أو تلك على
إسقاط حكم السلطنة إنما كانت تدافع عنها أحياناً لمنع إسقاطها. لكن استمرار
الصراعات الدولية حول تحقيق مكاسب في المنطقة من خلال السلطنة العثمانية، على قاعدة الاتفاقيات، لم
تبق بدون أفق منظور، إلى أن بلغت حدة المنافسة الاستعمارية بين الدول الأوروبية،
لكسب المزيد من المستعمرات، حداً دفع بها إلى الانقسام إلى معسكرين: التحالف
الثلاثي المكوّن من ألمانيا والنمسا - هنغاريا و إيطاليا، و الحلف الثلاثي
المكَّون من فرنسا وروسيا وبريطانيا، إلى أن وصلت حالة الاحتقان إلى الحد الذي
أدَّى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى في العام 1914م، فانحازت فيها تركيا إلى
جانب ألمانيا، والولايات المتحدة الأميركية إلى جانب الطرف الآخر، وكانت من
نتائجها انتصار دول الحلفاء، بريطانبا وفرنسا وروسيا ([3]).
تميَّزت تلك المرحلة، وفي سياق المسألة الشرقية، بأربعة أحداث
مهمة، أسهمت في توضيح الاستراتيجية الامبريالية في المنطقة، وهي :-مسألة الأماكن
المقدسة.- حفر قناة السويس .- اكتشاف البترول .- بداية تمظهر الحركة القومية
العربية.
أ-الاماكن المقدسة:
على
الرغم من أهمية طرق المواصلات، إلاَّ أنها لم تكن هي التي قررت مصير الشرق (منذ
أواسط القرن19م). إنما الذي قرر مصيره مسألة أخرى كان الباب العالي يحسبها تافهة،
و لكنها قدَّمت إلى الدول الأوروبية ذريعة لفرض سيطرتها على الشرق، هي مسألة
الأماكن المقدسة الشهيرة. كانت القدس التي يقدِّسها النصارى، منذ الحروب الصليبية،
مُلكاً مشتركاً للطوائف النصرانية الست: اللاتين، الروم الأرثوذكس، الأرمن،
السريان، الأقباط، الأحباش. كانت الكنيسة الأرثوذكسية أسمى تلك الكنائس رتبة
بوصفها ممثلة لعشرة ملايين من رعايا السلطان أولاً، وبفضل رعاية روسيا لها
ثانياً . أما رجال الأكليروس اللاتين فكانوا
يتمتعون بحماية وزارة الخارجية الفرنسية. وأما روسيا فقد استطاعت أن تؤثِّر
على الباب العالي وتحصل منه على بعض التنازلات لصالح الروم الأرثوذكس، مما أدّى
إلى نشوب حرب بين روسيا والباب العالي، تدخَّلت فيها بريطانيا وفرنسا إلى جانب
الطرف الثاني، و تُوِّجت هذه الحرب
بمعاهدة للصلح في العام 1856م، نال فيها المسيحيون العرب عدداً من الامتيازات، وكرَّست
شرعية التدخل الأجنبي في شؤون الدولة العثمانية ([4]).
ب - فتح قناة السويس: استطاع فرديناند دي
ليسبس الفرنسي، أن يحصل، في 30 تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1845م على امتياز لشق ممر مائي بين البحر الأبيض المتوسط
والبحر الأحمر، عُرِف بقناة السويس. فشكَّل هذا العمل انقلاباً تاريخياً في مسألة
طرق المواصلات الدولية، وبشكل خاص على المصالح التجارية البريطانية حيث كانت تسيطر
على مستعمرات واسعة في القارة الآسيوية وأهمها الهند. وعلى الرغم من أن بريطانيا
اشترت، فيما بعد، أسهم مصر في الشركة،
إلاَّ أنها كانت الفتيل الذي أشعل، بصورة غير مباشرة، نيران الحرب العالمية الأولى([5]).
ج - اكتشاف البترول: لم تكن مسألة النفط،
كقضية استراتيجية في الاقتصاد العالمي، قد أخذت بعد دورها الحقيقي في تلك المرحلة،
وإنما أخذت تنبعث رائحتها حينما تمَّ اكتشاف النفط في إيران منذ العام 1908م. ومع
أنها لم تظهر أهميتها التي تستحقها، لكنها بدأت تأخذ أبعادها الحقيقية حينما دخلت
في دائرة الحسابات الاقتصادية منذ أواخر تلك المرحلة.
د-بداية تمظهر الحركة القومية العربية : أثارت الحركة
العسكرية السياسية التي بدأها محمد علي باشا، في النصف الأول من القرن 19م، انتباه
الدول الأوروبية، حينما احتلَّ فلسطين ولبنان وسوريا، وأخذت قواته تهدِّد بلاد
الأناضول، مما دفعها إلى الوقوف صفاً واحداً ضد هذا الخطر الذي لم يكن محسوباً .
ثم جاءت الحركة الأدبية والفكرية القومية الجديدة، بمظاهرها
التي أخذت تتضح من خلال إنشاء الجمعيات والمنتديات وتأسيس الصحافة، وبمضامينها
التحررية، لكي تزيد المخاوف الإمبريالية أيضاً .
شكَّل هذان السببان الدافع الأساسي لكل من بريطانيا وفرنسا
لصياغة اتفاقية سايكس - بيكو، وإلى إعطاء أولوية لأهداف تفتيت المنطقة، والتي
لأجلها أعطى البريطانيون لليهود وعداً بإنشاء وطن قومي يهودي على أرض فلسطين.
كان من أهم نتائج المرحلة أربعة مسائل :
اثنتان منهما، معاهدة سابكس - بيكو ووعد بلفور، كان لهما تأثير بالغ على مستقبل
المنطقة العربية بشكل مباشر.
الأولى: معاهدة
سايكس - بيكو: وهي المعاهدة التي وقَّعها، سراً، المندوب السامي
البريطاني في المشرق العربي وزميله الفرنسي، في القاهرة في 16 أيار/مايو 1916م،
وهي الاتفاقية التي حدَّدت مستقبل الولايات العربية في السلطنة العثمانية، وشكَّلت
الأساس الفعال لخطة تمزيق المشرق العربي، و الحيلولة دون نيل العرب لأمانيهم
القومية المشروعة في الوحدة والاستقلال([6]).
الثانية : وعد
بلفور: وهي الرسالة التي وجهها بلفور، وزير خارجية
بريطانيا، إلى الصهيونية في الثاني من تشرين الثاني /نوفمبر من العام 1917م، والتي
وعد فيها اليهود بإعطائهم وطناً قومياً في فلسطين؛ و يمثل هذا الوعد تنفيذاً لمهمات الغزو الاستيطاني، ومن أهم
أهدافه زرع كيان يهودي استيطاني في فلسطين ليكون حاجزاً بين مصر والمشرق العربي،
ويشكِّل قلعة أمامية ضد التحرر والوحدة العربية، وهي استكمال للسياسة التي بدأها
بالمرستون، رئيس وزراء بريطانيا، منذ العام 1839م ([7]).
جاءت المعاهدة، والوعد أيضاً، لكي يشكِّلا الجانب الأساسي في
الاستراتيجية البريطانية والفرنسية تجاه الشرق الأوسط، إذ أنه لنجاح حماية المصالح
الأوروبية فيه، لا بد من فصل الجزء الأفريقي عن الجزء الآسيوي لشعب عربي واحد،
وذلك بإقامة حاجز بشري قوي غريب على الجسر
الذي يربط بين القارتين، وهذا
بالذات هو مضمون تقرير خبراء الاستعمار المقدَّم إلى وزراة الخارجية البريطانية ([8]).
أما المسألتان الثالثة والرابعة، فسوف نشاهد تأثيرهما، لاحقاً،
على مستقبل العالم بشكل عام ومستقبل المنطقة العربية بشكل خاص ،وهما :
الثالثة : انتصار الثورة
البلشفية في روسيا، وظهور أول دولة اشتراكية في العالم والتي أعلنت
في تشرين الثاني /نوفمبر 1917م .
الرابعة : بداية بروز الولايات المتحدة الأميركية، كدولة كبرى، من خلال مشاركتها في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول الحلفاء، وهي الدولة التي انضمت إلى
منظومة الدول الغربية الرأسمالية.
لكن المسألة الشرقية، خاصة بعد مرحلة
الاحتكاك والتواصل بين حضارة الغرب الأوروبي وبين النخبة العربية، كان لها تأثيرات
وانعكاسات أحدثت صحوة فكرية/سياسية جديدة، زرعت بذوراً نهضوية بعد سبات وسكون
طويلين في الحياة الحضارية العربية، على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية
والاقتصادية.
ففي مواجهة المرحلة السلبية، أخذت بذور
التناقض الفكري والاجتماعي والسياسي تولد من رحم المعاناة الطويلة المتمثلة بإرادة الشعب التوَّاق إلى الاستقلال
السياسي، والتحرر من الهبمنة
والارتهان للخارج، هذه البذور كانت قومية الاتجاهات. هذه المسألة، على الرغم من
علاقتها الجدلية مع أسباب ونتائج الارتهان للخارج، سوف نخصِّص لها حيِّزاً خاصاً
في هذا الفصل.
2- السيطرة الامبريالية الأوروبية على المنطقة
(1920-1945م) :
بعد الحرب العالمية الأولى، وتنفيذاً لاتفاقية سايكس - بيكو، جُزِّئت
المنطقة العربية إلى كيانات سياسية ضمن حدود مرسومة سلفاً، وَضعت على أساسها،
بريطانيا وفرنسا، يدهما بشكل انتداب مباشر عليها.
وفي ظل هذا الواقع الجديد، حيث خضعت هذه المنطقة للامبريالية
القديمة بشكل مباشر، كانت الدولتان الناشئتان: الولايات المتحدة الأميركية
والاتحاد السوفياتي، المشاركتان في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا
وفرنسا، موافقتان على الوجود المباشر لحليفتيهما في المنطقة العربية.
كان التسليم بدور كل من بريطانيا وفرنسا في منطقة الشرق الأوسط،
مرحلياً وانتقالياً، التي سوف تخضع لمتغيرات جذرية، لاحقاً.
في سياق تلك المرحلة، أمسك القرار الدولي -الامبريالي، بوجهه
القديم، بشكل مباشر، سياسياً واقتصادياً، بالوضع في منطقة الشرق الأوسط. لقد تمَّ
ذلك في الوقت الذي كانت فيه الامبريالية الجديدة ترتضي لنفسها دور الشريك
الاقتصادي، انتظاراً للانتقال إلى مرحلة جديدة عندما تصبح الظروف مؤاتية لها .
أما الطرف الآخر، ألمانيا وحلفاؤها، فبعد الهزيمة التي لحقت بها
في نهاية الحرب العالمية الأولى، أخذت تبني ذاتها من جديد تمهيداً لحرب الثأر
القادمة بزعامة النازية الهتلرية؛ وكان هذا الاستعداد، بالإضافة إلى مضامينه التوسعية
والسيطرة والنزعة العرقية، نتيجة لحالة الاذلال التي فُرِضَت عليها في أعقاب الحرب
العالمية الأولى.
وأما الطرف السوفياتي، الذي كان منشغلاً بتأسيس دولته الجديدة،
فكان يمر بمرحلة لم يحسم فيها خياراته السياسية الدولية، قبل ترتيب الوضع الداخلي
لبيته .
برزت في تلك المرحلة، على الرغم من قصر مسافتها الزمنية، أي
المسافة التي تفصل بين نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1918م، وبداية الحرب
العالمية الثانية في العام 1939م، مظاهر عدد من القضايا الدوليِة والاقليمية، على
الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت استمراراً لما قبلها وتمهيداً لما
بعدها، ومن أبرز نتائجها ما يلي :
أ- تنفيذ
التجزئة السياسية للشرق الأوسط حسب نصوص اتفاتية سايكس - بيكو، توزَّعت كل من
بريطانيا وفرنسا إدارة حصتها من الأرض تحت صفة السلطة المنتدبة. فكانت حصة
بريطانيا انتداباً على العراق وشرق الأردن وفلسطين ، أما حصة فرنسا فكانت كل من
سوريا ولبنان. كان تنفيذ تلك الاتفاقبة الأساس الأول الفعَّال في تمزيق المشرق
العربي؛ و تمَّ في سياق تطبيقها، بدايةً للوفاء، تنفيذ وعد بلفور في السماح لموجات
الهجرة اليهودية بالتدفق باتجاه فلسطين .
لم تكتف الدول المنتدية بتقاسم المناطق بعد تجزئتها وحسب، وإنما
استكملت سياسة التجزئة بمزيد من التمزيق السياسي - الجغرافي من جهة، أو بواسطة
الضم والجمع من جهة أخرى، حسبما تقتضيه مصلحتها الاقتصادية أيضاً. لهذا اعتمد
الانتداب الفرنسي مبدأ الفصل السياسي بين
مناطق سوريا وتجزئتها إلى سلسلة من الدويلات الضعيفة على قاعدة تركيز أغلبية
طائفية في كل دويلة. كما اعتمد مبدأ الضم والجمع، في لبنان الكبير، بحيث
ضُمَّت إلى جبل لبنان /المتصرفية القديمة،
أقضية أخرى لكي تعزز الهيمنة الاقتصادية لبعض قطاعات المسيحيين ([9]).
بمثل هذا الاجراء، ضمنت فرنسا مصالحها
بإضعاف الطوائف التي تحسب أنها تشكل مصدر خطر على وجودها إذا ما فكرت هذه الطوائف
بأي اتجاه سياسي توحيدي فيما بينها، كما أنها ضمنت قوةً وسيطرةً للطوائف التي تحسب
أنها تؤيدها.
كانت، إذاً، اتجاهات
السياسة الامبريالية ومظاهرها ووقائعها تنصب على ضرورة تكريس التجزئة القومية،
وغرس جسم غريب ني قلب المنطقة، وتعزيز التجزئة القطرية بتعميق الاتجاهات الطائفية.
ب - إحكام السيطرة على طرق المواصلات الدولية، والسيطرة على الأسواق لتصريف السلع
الأوروبية واستغلال المواد الخام ووضعها ني خدمة صناعتها.
برز دور النفط، في هذه المرحلة، كسلعة استراتيجبة، وأخذ يجذب
إليه اهتمام الدول الصناعية منذ أن بدأت الشركات الأجنبية تستخرجه بكميات تجارية
في العراق، منذ العام1927م، ولحقت السعودية فالبحرين، وازداد نادي الدول العربية
التي تنتجه في الأربعينات من القرن 20م ([10]).
في موازاة هذه المتغيرات الدولية والاقليمية كانت حركة العداء
للهيمنة الامبريالية، وضد الصهيونية،
تنشط وتشق طريقها في داخل العديد من الاتجاهات الفكرية والسياسية، بمظاهرها
المؤسساتية كإنشاء الأحزاب السياسية والقيام بالحركات الجماهيرية الرافضة، بشتى
الأساليب والوسائل .
صحيح أن تلك المرحلة، شهدت تعايش الدول الكبرى في المنطقة
العربية، لكنها كانت خطوة على طريق الانتقال من مرحلة التعايش إلى مرحلة الوراثة.
كان فيها كل من الاتحاد السوفياتي
والولايات المتحدة الأميركية يعذُّ نفسه للحلول مكان بريطانيا وفرنسا .
فعلى صعيد الولايات المتحدة
الأميركية
كانت استهدافات سياستها الاستراتيجية
تخضع لمبدأين: التسليم بنظام السلام الأوروبي في الشرق الأوسط، كخطوة
انتقالية لترسيم سياستها الخاصة في المنطقة. لهذا السبب قبلت، بل وأسهمت، في عملية
إعادة تقسيم العالم بين الامبراطوريات الأوروبية المنتصرة، كما صكتها معاهدة فرساي
في العام 1920م. وقبلت في هذا الإطار النظام البريطاني - الفرنسي في الشرق
الأوسط كما حددته معاهدة سايكس – بيكو([11]).
لكن هذا التسليم «ترافق مع عاملين يمسَّان البنية التحتية الحقيقية لهذه
الاستراتيجية السياسية : المصالح الاقتصادية (النفط أساساً ) والأبعاد
الأيديولوجية الأميركية الداخلية وتأثيراتها على صياغة الاستراتيجية الأوروبية
(العلاقات مع اليهود والحركة الصهيونية)»([12]).
كانت مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية
محطة أساسية لإنضاج سياسة الاقتحام الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط ، ولهذا فإنها
ضمنت لنفسها حقاً بالاشتراك بعملية التنقيب عن النفط منذ العام (1921م)، إلى أن
تكرس هذا الحق في 31 تموز/يوليو 1928م، بعد توقيع اتفاقية الخط الأحمر، التي ضمنت
فيها الشركات الأميركية المساواة في استغلال النفط والتنقيب عنه في جميع أراضي
الدولة العثمانية السابقة، فبلغت حصتها ، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية 18 %
من مجموع احتياطي البترول المكتشف في الشرق الأوسط، وأكثر من ثلث الانتاج ([13]).
وبسبب العلاقات مع الحركة الصهيونية، وبإلحاح من بريطانيا
ومساعي يهود أميركا، أصدر مجلسا الشيوخ و
النواب الأميركيين، في 11 أيلول /سبتمبر
1922م، قراراً يتضمن العطف الأميركي على إقامة وطن قَومي لليهود في فلسطين([14]).
وباختصار، اعترفت السياسة الأميركية في تلك
المرحلة، بالنظام الأوروبي تجاه الشرق الأوسط في الوقت الذي ضمنت فيه مصالحها
الاقتصادية.
أما على صعيد الاتحاد السوفياتي:
فقد انصرف، منذ انتصار الثورة البلشفية وانتهاء الحرب العالمية الأولى، زعماء
الثورة إلى حمايتها، خاصة وأنها كانت لا تزال طرية العود.لم تستقر السلطة في
البداية بسبب الصراع الذي كان يحصل بين هؤلاء الزعماء، إلى أن تمكن ستالين من
تصفية خصومه، ووضع نصب عينيه ضرورة المرور بمرحلة "تنفس" قبل الانتقال إلى خطوة جديدة . وفي تلك المرحلة
استطاع الاتحاد السوفياقي أن يؤسس قوة عسكرية
ضخمة فاجأت الخصمين : ألمانيا والحلفاء معاً ([15]).
لم تلعب روسيا القيصرية دوراً مؤثراً في تاريخ المنطقة العربية
قبل الحرب العالمية الأولى. فكان هذا الغياب واقعاً على الرغم من توفر النية
والطموح، الذي لم يستطع القياصرة تحقيقه أيام السلطنة العثمانية التي كانت تسيطر
على المساحة الجغرافية الفاصلة بين روسيا وبين المشرق العربي، وفي ظل سيطرة النفوذ
الغربي على هذه المنطقة بعد أن أصبحت السلطنة العثمانية ضعيفة، ساعد النفوذ الغربي
تركيا على منع مطامع روسيا، وغاب هذا الدور في عصر الثورة البلشفية، أيضاً، بعد
الحرب العالمية الأولى لسببين :
أولهما: التناقض
الحاصل بين العالمين، العربي والسوفياتي، فالأول هو عالم شديد الإيمان والتدين،
أما الثاني فيحكمه نظام شيوعي ملحد .
أما ثانيهما
: فقد كان محكوماً بالأوضاع الداخلية التي كان يعيشها الاتحاد السوفياتي بعد
نهاية الحرب. وقد يكون من الأسباب الأخرى ظهور طلائع الأحزاب الشيوعية في المشرق
العربي، والتي يكون الزعماء السوفيات قد
بنوا عليها آمالاً في بناء موطيء قدم للشيوعية العالمية ([16]).
فالذي حال، إذاً، دون تحقيق المطامع القيصرية في الوصول إلى
المشرق العربي، كان حاجزاً من الدول المحيطة بها، التي تحمل المطامع ذاتها . أما
بعد عصر الثورة البلشفية، فقد حملت تلك الثورة أسبابها الأيديولوجية في التوسع
للوصول إلى العالم لتحريره من النظام الرأسمالي السائد. و إذا كانت تلك المرحلة قد
شهدت نمو بذور الصراع الشيوعي - الرأسمالي ، إلاَّ أن هذا الصراع سوف يبلغ آماده
الواضحة في المراحل اللاحقة ([17]).
في الوقت الذي كانت فيه الامبريالية القديمة تستفرد بمنطقتنا،
تقتسم فيه المصالح الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية؛ وكانت ألمانيا قد
خرجت منهزمة من الحرب العالمية الأولى، وأخذت تحضِّر نفسها، من جديد لخوض حرب
تستعيد فيها كرامتها، بقيت أوروبا مجزأة بين معسكرين اثنين :
- معسكر الحلفاء وضمَّ
بريطانيا وفرنسا مدعومتين من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي .
- ومعسكر المحور ويضم
ألمانيا وإيطاليا مدعومتين من اليابان .
كانت دول الحلفاء تعمل على هضم الفريسة الكبرى التي حصلت عليها
بعد الحرب العالمية الأولى، بينما كانت ألمانيا تطوِّر قدراتها العسكرية بشكل سريع
ومخيف، إلى أن انفجرت الحرب العالمية الثانية، منذ العام 1939م، فأدت نتائجها إلى
بزوغ فجر مرحلة جديدة رسمت الخطوط الكبرى للسياسة العالمية بشكل عام ولمنطقتنا
بشكل خاص.
3- الانتقال من
مرحلة تعايش الدول الكبرى إلى مرحلة الوراثة من قبل الامبريالية الجديدة .
ابتدأت تلك المرحلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، و مازالت
مستمرة حتى المرحلة المعاصرة. منذ ذلك الحين خرجت الولايات المتحدة الأميركية
كزعيم مسلَّم به في العالم الغربىِ، خاصة بعد أن ورثت ممتلكات كل من بربطانيا
وفرنسا في الشرق الأوسط ، وساعدتهما على إعادة بناء ما هدمته الحرب بواسطة القروض
ومشروع مارشال وبرامج الأمن المتبادل، ثم تشكيل الحلف الأطلسي. في تلك الظروف باتت
زعامتها لنظام الشرق الأوسط مسألة تسلُّم وتسليم مع بريطانيا وفرنسا، وهذه العملية
ستتم نهائياً في أعقاب حرب السويس من العام 1956م.
تميزت هذه المرحلة بالانتقال من مرحلة تعايش
الدول الكبرى في منطقتنا إلى مرحلة انتقال وراثة التركة إلى الأميركيين، أي
الانتقال من نفوذ الامبريالية القديمة إلى نفوذ الامبريالية الجديدة.
في المرحلة السابقة، الفاصلة بين
الحربين العالميتين الأولى و الثانية، كانت أميركا قد رسمت الخطوط العريضة لاستراتيجيتها
في المنطقة العربية، إذ أنها كانت قد أقرَّت، بالوقائع والنتائج التي أفرزتها
الحرب العالمية الأولى:
- بصلاحية مبدأ
التجزئة الجغرافية والسياسبة لمنطقة الشرق الأوسط حسب اتفاقية سايكس -بيكو.
-بالاعتراف بوعد بلفور
التي أسهمت بالعمل على تنفيذ مضمونه .
- بجوهر المسألة الشرقية التي
دفعت بالاستعمار القديم إلى
استبعاد روسيا القيصرية، ثم روسيا الثورة البلشفية، عن المشاركة في السيطرة على
منطقة الشرق الأوسط.
وبعد الحرب العالمية الثانية اندفعت الامبريالية الجديدة في
سياسة الاستئثار بالمنطقة، بينما اندفعت الثورة البلشفية - الشيوعية للدخول إليها،
فأصبحت القوتان الجديدتان في مواجهة بعضهما البعض، فسادت بينهما مرحلة الحرب
الباردة التي كانت الميزة الرئيسة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية .
أما اتفاقية سايكس - بيكو فأصبحت واقعاً فُرض بقوة الوجود
المباشر للقوتين البريطانية والفرنسية، وبدعم سياسي أميركي، وعدم اكثراث سوفياتي.
أما وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي على أرض فلسطين، فقد حصل
إقرار أميركي فيه، خاصة بعد نجاح اليهود الاميركيين في تحويل قضية فلسطين إلى قضية
داخلية أميركية، على مستوى المصالح السياسية والانتخابية المباشرة منذ العام
1922م؛ حينئذ أخذت الولايات المتحدة تطالب بالإسراع في إقامة الدولة اليهودية وفتح
أبواب الهجرة إليها منذ العام 1941م، في الوقت الذي أخذت فيه بريطانيا تتلكأ
بالقيام بمهماتها وتحديد موجات الهجرة اليهودية بفعل ضغط الثورات الفلسطينية. و
أصبحت السياسية الأميركية واضحة تماماً ومعنية بشكل مباشر بها، منذ 26 أيار/مايو
1943م. وفي العام 1944م ، أعطى روزفلت ([18])،
الرئيس الأميركي الراحل، أول ضمانات لليهود بأنه «حين يراد التوصل إلى قرارات
مستقبلية، فإن العدالة الكاملة ستكون إلى جانب أولئك الذين يسعون إلى إقامة وطن
قومي يهودي»([19]).
وقد أشار خليفته ترومان([20])
في12 نيسان /أبريل 1945م إلى أن عليه «أن يستجيب لمئات آلاف المتحمسين لنجاح
الحركة الصهيونية، لأنه ليس لدي مئات من العرب كناخبين»([21]).
وأخيراً فقد أعلنت الولايات المتحدة في 11 تشرين الأول /أكتوبر 1947م عن تأييدها
لتقسيم فلسطين ([22]).
كان للاتحاد السوفياتي دور بارز أيضاً في تأييد إنشاء وطن قومي
لليهود في فلسطين. وعلى الرغم من أن السياسة السوفياتية إزاء هذه المسألة كانت
محفوفة بالغموض والتقلب الناجمين عن حيرتها في أين تقع مصالحها في المنطقة، إلاَّ
أن وزارة الخارجية السوفياتية، بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تميل إلى
الاعتقاد أن المستوطنين اليهود في فلسطين يمثِّلون أكثر الشعوب تقدمية، وإن مصلحة
الاتحاد السوفياتي أن يدعمهم هم وليس الحكومات العربية الرجعية. لذلك كان الاتحاد
السوفياتي أول دولة اعترفت بإسرائيل العام 1948 ([23]).
أما بالنسبة لكل من بريطانيا وفرنسا فقد خرجتا في أعقاب الحرب
العالمية الثانية، ضعيفتين منهكتين من جهة، وبفعل الاندفاع الأميركي باتجاه
المنطقة، وبفعل ضغطه عليهما من جهة أخرى، دفعهما إلى الانكفاء قسراً عن المنطقة.
وعلى الرغم من دخولهما في حلف سياسي-عسكري-استراتيجي مع أميركا، وبسبب من حرصهما
على المحافظة على ما بقي لهما من مصالح فيها، فإنهما أصبحتا ملحقتين منفعلتين
بالسياسة الأميركية. وقد تكرس خروجهما نهائياً في أعقاب حرب السويس. لكن بقي
يشدهما إليها تراث تاريخي طويل من المصالح ، يعود عمره إلى ولادة المسألة الشرقية
في أوائل القرن السابع عشر.
أدَّى انكفاء بريطانيا وفرنسا إلى دخول أميركا وروسيا إلى المنطقة، وكان لكل منهما دور
متميِّز عن دور الأخرى:
أ- الدور
الأميركي: طبيعته، نتائجه، انعكاساته: كان الشرق الأوسط اكثر
المناطق أهمية في نظر الاستعمار القديم، واستمر بالمحافظة على أهميته في نظر
الولايات المتحدة الأميركية للأسباب التالية:
-
واقع المنطقة الحضاري والتاريخي والجغرافي.
- مركزها المهم لعقد
المواصلات الدولية البحرية والبرية والجوية.
رُسمت الخطوط الاستراتيجية للسياسة الأميركية مع وصول هاري
ترومان إلى الرئاسة، وبرز معه نظام دولي جديد، إذ أعلن، في آذار/مارس 1947م، مبدأه
الذي حدَّد السياسة الأميركية في اتجاهين اثنين: «مواصلة خلق الفراغ في النظام
البريطاني - الفرنسي في الشرق الأوسط، ومنع الاتحاد السوفياتي من المشاركة في ملء
هذا الفراغ». وقد ارتضت بريطانيا نتائج طبيعة النظام الدولي الجديد، وأدركت ضعف
مقاومتها للاتجاهات الأميركية فانصبَّ اهتمامها على السعي للحفاظ على ما تبقَّى من
مصالحها في الشرق الأوسط عبر المشاركة في بنيته داخل إطار الزعامة الأميركية ([25]).
ابتدأ الغزو الأميركي للمنطقة على قاعدة الخطوط الاستراتيجية
التي حددها الرئيس ترومان، إذ إنه منذ العام 1953م، تابع الرئيس أبزنهاور([26])
سياسة سلفه، الذي شجعه على ضرورة النجاح في استلام مقادير الأمور في منطقة الشرق
الأوسط، لكي تأخذ أميركا مكانها ودورها العالمي اللائق بها، وقال له: «لم أكن
أتصور أن الرئيس الأميركي يملك مثل هذا القدر من القوة غير المسبوق في التاريخ.
يظهر أن لديه من السلطة أكثر مما كان للإسكندر الأكبر، ولقيصر ولجنكيزخان،
ولنابليون…كلهم مجتمعين !»([27]).
بعد أن تحقق مبدأ
الاستراتيجية الأميركية الأول في خلق فراغ
في النظام البريطاني - الفرنسي، في أعقاب حرب السويس العام 1956، أعلن أيزنهاور في
5 كانون الثاني/ يناير من العام 1957،
استكمالاً للخط الاستراتيجي، مبدأه القائم على الأسس التالية:
-
أن تقوم القوات الأميركية بحماية أية دولة تتعرض لعدوان مسلح من دولة تابعة لنفوذ
الشيوعية الدولية .
- أن
تقوم الولايات المتحدة الأميركية بمساعدة حليفاتها من دول المنطقة، على تعضبد
قوتها الاقتصادية.
- أن
تقوم، أيضاً، بمنح المساعدات العسكرية لكل الدول التي تطلب ذلك([28]).
فإذا
كان مبدأ أيزنهاور قد ركَّز على تحصين حلفاء أميركا ضد الغزو الشيوعي، فإن خلفه
الرئيس جونسون([29])
أعلن مبدأه في 23 أيار/مايو1962م، و من أهم مضامينه الدعوة إلى غزو الشيوعية في
عقر دارها، حيث دعا فيه إلى الاتصال بمعظم الدول الاشتراكية وبناء علاقات وثيقة
معها وكان القصد منها:
- إضعاف تماسك المعسكر
الاشتراكي .
- بناء جسور تجارية متنوعة مع
أوروبا الشرقية
- توفير برامج
مساعدات اقتصادية يحدد مستواها مدى تبعية البلد للشيوعية، والموقف السياسي من
الدول الغربية .
- احتمال تدخل أميركي مباشر
ضد حركات الاستقلال ذات الأيديولوجيات الشيوعية ([30]).
أخيراً، وبعد أن استقرت
المرحلة، منذ أوائل الخمسينات، على استئثار أميركي بتركة حليفتيها، بريطانيا
وفرنسا، في المنطقة، استمرَّت الاستراتيجية الأميركية بثباتها المعروف، وعلى
كاهلها الجانب الاستراتيجي الآخر هو منع الاتحاد السوفياتي من المشاركة في التركة
أو ملء الفراغ؛ وأخذت تعمل بجدية ومثابرة مستمرة، تارة تصيب نتائج إيجابية وتارة
أخرى نتائج سلبية بسبب من المتغيرات التي دخلت في حياة المنطقة، وعلى رأسها تأسيس
البنى الفكرية والسياسية للحركة القومية العربية. لكن أميركا بلغت مستوى متقدماً
في درجة امساكها بالمنطقة بعد هزيمة الخامس من حزيران /يونيو 1967م، وكان من أهم
أسبابها أن البنى والمؤسسات السياسية الحزبية والرسمية لم تستطع ردم الفارق الكبير
في التوازن بينها وبين الدولة الصهيونية التي أغرقتها الامبريالية الأميركية
بوسائل الدعم العسكري المتقدم .
كان
الخامس من حزيران /يونيو 1967م ، مفصلاً تاريخياً في حياة منطقتنا سوف تستمر
نتائجه الكارثية على مستوى الأداء العربي النظامي، والحركة التحررية العربية.
في
سياق هذا التطور المهم الذي فرضته المتغيرات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية،
واندفاعة الولايات المتحدة الأميركية إلى احتلال موقع الصدارة والقرار، والمساهمة
بشكل مباشر فيما حصل، أين كانت مواقع الاتحاد السوفياتي، نظاماً أيديولوجياً
وسياسياً، في مواجهة النظام الرأسمالي الامبريالي الأميركي ؟
ب – الدور السوفياتي:
طبيعته، نتائجه، انعكاساته: إذا كانت المراحل الأولى لتطلعات روسيا القيصرية
تركزت على حاجتها في الوصول إلى المياه الدافئة، وحال دون وصولها الطوق المحيط بها
من الدول الأخرى. و إذا كانت المرحلة الثانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى قد
دفعت روسيا الشيوعية إلى الانشغال بأوضاعها الداخلية واهتمامها بإنجاح ثورتها
الوليدة، إلاَّ أنها بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قد حققت نتيجتين مهمتين:
- تركيز أوضاعها الداخلية بما
جعلها مطمئنة على مصير الثورة .
- تطوير
إمكانياتها الاقتصادية والعسكربة التي وضعتها في كفة متوازية مع طاقات وإمكانيات
الولايات المتحدة الأميركية .
تمخَّضت
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عن القضاء على النظام العالمي الأوروبي وعلى
القوى التي كانت تمنع روسيا القيصرية من تحقيق أحلامها؛ وهذا بحد ذاته، بالنسبة
للسوفيات، يُعَدُّ نهاية للكابح القديم الذي كان يمنعها من الوصول إلى المنطقة.
لكن
وقبل أن تتضح اتجاهات وخطط الاتحاد السوفياتي تجاه المنطقة، كانت الولايات المتحدة
الأميركية تعدُّ نفسها لملء الفراغ الأوروبي فيها.
بعد
الثورة البلشفية أصبح للاتحاد السوفياتي أسباب أيديولوجية تدفعه للدخول إلى هذه المنطقة،
ومن أهمها تحرير الدول الضعيفة والمستعمَرَة من استعباد النظام الرأسمالي. لكن
الأميركيين، كما يدّعون، لم يكن أمامهم مجال واسع للوقوف موقف المتفرِّج أمام
الهجمة الشيوعية التي يحسبون أنها دعوة «امبريالية» ديكتاتورية تتعارض مع دعوتهم
للديمقراطية؛ وكانوا يرون أن واجبهم
يحتِّم عليهم ليس تحقيق الديمقراطية في بلادهم وحسب وإنما نشرها في العالم أيضاً،
ومنع الديكتاتورية الشيوعية من تحقيق أغراضها([31]).
لهذا
، بعد وفاة ستالين([32])،
كانت موسكو قد بدأت تتطلع إلى الخارج كدولة كبرى، أي أنها أقرَّت التعامل مع الدول
غير الشيوعية في العالم على أساس «دولة مع دولة» بصرف النظر عن طبيعة النظام
القائم .
فكلما
كانت العلاقات العربية، بدءاً من مصر، تزداد تدهوراً مع دول الاستعمار القديم، منذ
أوائل الخمسينيات، كانت تزداد ودَّاً مع الاتحاد السوفياتي. وكان أشد ما أخاف
الدول العربية، ذات الأنظمة التقدمية، هو تبنِّي كل من بريطانيا والولايات المتحدة حلف بغداد الذي كان الهدف الرئيس
منه تطويق الحركة الشيوعية كما روَّج له مؤسسوه، إلا أنه كان مُوَجهاً بالأساس ضد
الأنظمة العربية التقدمية في ذلك الحين، وهو السبب الذي اندفع معه هؤلاء باتجاه
الاتحاد السوفياتي، وكان للعدوان الثلاثي على مصر، في العام 1956م، التأثير نفسه.
لكن العلاقات العربية - السوفياتية، لم تشهد شكلاً ايجابياً أو سلبياً ثابتاً.
-
كانت تمر بمراحل إيجابية عندما كان يستخدم المعسكر الغربي، وبشكل خاص الأميركي
منه، سياسة تطويق للأنظمة العربية التقدمية بأحلاف من الدول الرجعية مثل حلف بغداد
.
-
وكانت تمر بمراحل سلبية عندما كان الاتحاد السوفياتي يميل في تحالفه-كما يحسب- إلى
أنظمة تقدمية، دون أخرى. كان ذلك يتم في
الوقت الذي لم تكن فيه تلك الانظمة، في حينه، موحَّدة الاتجاهات الفكرية والسياسية،
كما حصل مثلاً عند تأييد الاتحاد السوفياتي للعراق، مباشرة بعد ثورة 14 تموز/يوليو
1958م ([33])،
حينما سيطر الشيوعيون العراقيون على نظام الثورة؛ أو عندما يرهن الاتحاد السوفياتي
علاقاته مع عدد من الانظمة العربية مقابل تحسين معاملتها للشيوعيين العرب، على
الرغم من مواقفهم السياسية التي كانت تتناقض مع الاتجاهات القومية.
جاءت
نتائج مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليست بزوال دول وولادة أخرى فحسب،
وإنما لأن تلك الولادة أيضاً ترافقَت مع التطورات التكنولوجية، بشكل خاص على
الصعيد العسكري، التي أدخلت إلى برامج القوة العسكرية أسلحة التدمير الشامل وأهمها
الطاقة النووية .
دخل
العالم في دائرة امتلاك أسلحة الرعب، وشهدت المرحلة تسابقاً محموماً للمحافظة على
التوازن في امتلاكها. ولخطورة الصدام العسكري في ظل الأسلحة التدميرية، وبسبب من
تقسيم العالم إلى معسكرين: الحلف الأطلسي وحلف وارسو، توصَّل كل من المعسكرين إلى
اتفاق غير معلن بالامتناع عن اللجوء إلى استخدام القوة. ولهذا ساد العالم سياسة
الحرب الباردة، حيث كان كل طرف يخوض حروبه بالواسطة في ذروة صراعهما للسيطرة على
دول المشرق العربي، وسائر دول العالم الثالث النامية. وقد كان لكل منهما ثوابته
السياسية:
- فالثوابت الأمبركية تتلخص
في استمرار السيطرة على آبار النفط، والهيمنة السياسية والاقتصادية على دول
المنطقة، وحماية الكيان الصهوني في فلسطين .
- أما الثوابت السوفياتية
فتعمل على إيجاد مناطق نفوذ لها لأسباب اقتصادية وسياسية من جهة، ولتصدير
الأيديولوجية الشيوعية من جهة أخرى.
فشكَّلت
منطقة الشرق الأوسط ملعباً أساسياً لكل من القوتين.
ج - الطابع الأيديولوجي
للمرحلة وانعكاساته على الصعيد القومي
العربي: انعكست المتغيرات العالمية واقعاً جديداً على الانظمة القطرية
في العالم العربي، إذ انقسمت إلى تيارين: أحدهما تقدمي يضمُّ الانظمة العربية التي
حصلت فيها انقلابات عسكرية، أو ثورات كردة فعل على الهزيمة العسكرية التي أدت إلى
ولادة الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين في العام 1948م؛ أما الثاني فهو محور
الانظمة العربية الرجعية المرتَهَنة، بشكل أو بآخر، لإرادة الدول الرأسمالية.
- على الصعيد العالمي : ولادة نظام عالمي جديد لاعباه الأساسيان: نظام
رأسمالي /امبريالي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ومن أهم أهدافه،كما
يدَّعي، محاربة الشيوعية كنظام ديكتاتوري ملحد، والمحافظة على نشر النظام
الديمقراطي. أما اللاعب الثاني فهو نظام شيوعي اشتراكي، يتزعمه الاتحاد
السوفياتي، ومن أهم أهدافه،كما يحسب، هو تحرير دول العالم الثالث من الهيمنة
الرأسمالية، وتحقيق المرحلة الأممية الشيوعية وتحقيق العدالة الاجتماعية
والاقتصادية .
أدخلت
التأثيرات الدولية، بثوابتها الاستراتيجية الفكرية والسياسية والاقتصادية، المشرق
العربي في دائرة المتغيرات الفكرية والأيديولوجية والسياسية، التي بقيت، بشكل
نسبي، منفعلة بالعوامل الدولية، خاصة الأميركية منها. لكن العلاقات العربية –
الأميركية، أو العربية – السوفيتية، لم تكن إيجابية أو سلبية بشكل مطلق. فكانت هزيمة العرب في حزيران /يونيو من العام 1967، مفصلاًً
تاريخياً، أدَّت إلى تحولات زادت فيها زاوية الانحياز النظامي العربي إلى جانب
أميركا، والى تباعد سوفياتي عربي لم يبلغ درجة الافتراق النهائي.
وفي
ظل حرارة المتغيرات الدولية التي سوف تكون ثوابت المستقبل ، لم تكن المنطقة
العربية تمرُّ في حالة ركود وسكون؛ لكنها، وإن كانت تعيش بمرحلة انفعال بما يحصل
حولها، كانت تواكب المرحلة بحركة فكرية وأيديولوجية وسياسية ناشطة. ويأتي في
أولويات أهدافها الخروج من دائرة الانفعال والهيمنة والسيطرة والابتزاز الدولية، كخطوة
على طريق التحرر الكامل .
و
إذا كنا سوف نعالج هذه الحركة في بحث مستقل مكمل للمقدمات التي تناولت العوامل
الدولية، فليس معنى ذلك أنها كانت منفصلة عنها، إنما كانت تعيش في قلبها وعقلها؛
وهي لم تكن في دائرة الانفعال الكامل، بل استطاعت أن تنتقل من مراحل التمظهر إلى
مرحلة المؤسسات، أحزاباً وأنظمة، تؤثر في مجرى الأحداث الإقليمية والعالمية. وهي
وإن لم تصل إلى مستوى تحقيق استقلاليتها وامتلاك المقدرة على تغيير المواقع، إلاَّ
أنها كانت تنمو وتترعرع باستمرار سائرة في
الخط التصاعدي. فما هي، إذاً، العوامل الإقليمية/القومية/الوطنية التي ترافقت مع
العوامل الدولية ؟
(2) صالح ،
نجيب : تاريخ
العرب
السياسي : (1856-1956م ): دار
إقرأ: بيروت : 1985:ط 1: ص 9 . في كلمة ألقاها في حفل استقبال فرديناند دي ليسبس
في مجمع اللغة الفرنسية العام 1859م ، قال أرنست رينان: «لقد كان بوسفوراً واحداً
كافياً لإثقال العالم بالهموم، حتى أتيت انت فصنعت بوسفوراً ثانياً أشد خطراً من البوسفور الأول، لأنه سوف يكون سبيل
الاتصال بين جميع البحار الكبرى على هذا الكوكب. فإذا نشأ نزاع هنا أو هناك، فسوف
يكون هذا البوسفور الجديد هدفاً لتصارع جميع دول العالم في سبيل السيطرة عليه. لقد
حدَّدت بعملك هذا مواقع المعارك الكبرى في المستقبل!...».
([10])
صالح ، نجيب : م .س : ص 371. - استطاعت دول الخليج العربي أن تصدِّر النفط ني التواريخ التالية: البحرين
: 1938- السعودية : 1938- الكويت : 1946- قطر : 1947- مسقط
وعمان : 1949- أبو ظبي : 1958 .
وبسبب تنافس الدول الكبرى حول النفط،
خاصة بين أميركا ربريطانيا، وتدليلاً على بروز أهميته في تلك المرحلة، فقد حرص
روزفلت -الرئيس الأميركي الراحل- على لقاء
العاهل السعودي في مصر في العام 1945م، وهو عائد إلى بلاده من
مؤتمر يالطا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق