المسألة
الديموقرطية في ميزان الحركات الإسلامية.
مستندين إلى نصوص مستلة من كتاب (في سبيل
علاقة سليمة بين العروبة والإسلام) لمؤلفه حسن خليل غريب، سنقدم للقارئ الكريم
رؤيتنا لمصطلحات ومفاهيم ثلاثة، وهي: المسألة الشرقية، والعلمانية، والديموقراطية،
في إطارها التاريخي والفكري. وهذه النصوص هي مقاطع متسلسلة من الفصل الرابع للكتاب
المذكور.
لعلَّ في إعادة نشر هذه المقاطع فائدة للقارئ
الكريم، خاصة وأن هذه المفاهيم أصبحت على علاقة وثيقة مع المرحلة الراهنة، سواءٌ
فيما له علاقة بالحراك الشعبي العربي الذي يعمُّ معظم أقطار الوطن العربي من
ناحية، أم كان في توضيح مصير هذه المفاهيم مع وصول حركات الإسلام السياسي إلى أكثر
أنظمة الحكم من ناحية أخرى. لذا سننشرها تباعاً وعلى مراحل ثلاث. كما ونلفت نظر
القارئ الكريم الذي يودُّ متابعة المفاهيم الثلاث، في سياقاتها التاريخية
والمعرفية أن يعود إلى كتابنا المذكور والذي نشرناه في معظم وسائل الأنترنت، وبشكل
خاص في مدونة العروبة.
وهنا سنبدأ بنشر المقاطع ذات العلاقة:
1-المسألة الشرقية وتأصيلها تاريخياً.
2-المسألة الديموقرطية في ميزان الحركات
الإسلامية.
3-المسألة العلمانية في ميزان الحركات الإسلامية.
وهذا
هو النص الحرفي لموضوع
(الديموقراطية
في ميزان الإيديولوجيا الإسلامية):
ج-
الديمقراطية نظرية سياسية وضعية تنظم علاقة الحاكم والمحكوم في مجتمعات الإثنيات
الدينية:
الديموقراطية تعبير غربي، فهي: نظام سياسي- اجتماعي، يقيم العلاقة بين أفراد
المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في صنع
التشريعات التي تنظم الحياة العامة. أما أساس هذه النظرة فيعود إلى المبدأ القائل
بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية، وبالتالي فإن الحكومة مسؤولة أمام ممثلي
المواطنين وهي رهن إرادتهم([1]).
بداية،
اعتمدت المجتمعات الغربية أنظمة الحكم المطلق من خلال مبدأ الحق الإلهي لمدة طويلة
من الزمن. أما انبثاق النظام الديموقراطي فقد جاء نتيجة عملية تدريجية تمخَّضت عن
الصراع الاجتماعي بين الطبقات الحاكمة: الدولة والكنيسة، الملك والنبلاء
الإقطاعيون. وقد تزامن تزايد اجتماع ممثلي الطبقات مع نهاية نظام الإقطاع وبروز
أفكار جديدة مثل حكم القانون، ثم النظام الدستوري في بريطانيا، والحق الطبيعي
والمساواة السياسية والعقد الاجتماعي والحرية في فرنسا والولايات المتحدة
الأميركية، والتي أدت إلى نشوب الثورة الفرنسية وثورة حرب الاستقلال الأميركي ([2]).
لكن
«تشعُّب مقومات المعنى العام للديموقراطية، وتعدد النظريات بشأنها، علاوة على تميز
أنواعها، وتعدد أنظمتها، والاختلاف حول غاياتها، ومحاولة تطبيقها في مجتمعات ذات
قيم وتكوينات اجتماعية وتاريخية مختلفة، يجعل مسألة نمط ديموقراطي دقيق وثابت
مسألة غير واردة عملياً»([3]).
وبالإجمال
فإن الديموقراطية، في التقاليد الغربية، تعني «أن إرادة الشعب ذات حرة لا تتقيد
مطلقاً بقيود خارجة عنها، سيدة نفسها، ولا تسأل أمام سلطة غير سلطتها»([4]).
ولأن
الديموقراطية، كمفهوم سياسي- اجتماعي، من نتاج وضعي من جهة، ولأنها من نتاج الفكر
الغربي من جهة أخرى، ولأن لها علاقة بالعلمانية كمفهوم سياسي وضعي من جهة ثالثة،
انقسمت المواقف النخبوية العربية والإسلامية من حولها، كل من منطلقاته الخاصة، لذا
تميزت مواقف العلمانيين تجاهها عن مواقف الإسلاميين.
فإذا
حسبنا أن النخب السياسية والثقافية، قد آمنت بأهمية الإرادة الشعبية، وتبنت المبدأ
الديمقراطي كأساس لنظام الحكم السياسي، فقد راحت تفتش عن النمط الديموقراطي الذي
يتناسب مع واقعنا السياسي والاجتماعي وقيمنا الحضارية والفكرية.
أما
اتجاهات السلفيين الإسلاميين فسارت في خط معاكس. وكانت لهذه الاتجاهات علاقة وثيقة
بالنص الديني؛ وهي إشكالية طالما تناقضت مواقف المسلمين من حولها؛ ويكفينا الإشارة
إلى إشكالية الجبر والاختيار التي كانت سبباً في نشأة فرقتي القدرية والجبرية منذ
بدايات العصور الإسلامية، بعد وفاة الرسول مباشرة. انقسمت، منذ ذلك الوقت، المواقف
حول أعمال الإنسان: هل هو مخيَّر أم مسيَّر ؟ وقد استطاعت كل فرقة أن تجد في آيات
القرآن ما يدعِّم وجهة نظرها.
لم
تكن أهداف الجدل حول هذا الموضوع ذات أهداف سياسية، وإنما كانت ذات أهداف دينية،
تريد أن تحدِّد مسؤولية المخلوق عن أفعاله أمام الله عز وجل. إلا أنه كانت من بعض
نتائج الجدل الديني الذي كان يحصل حول تلك المسألتين: الجبر والاختيار، أن السياسي
كان يعمل على الاستفادة من القائلين بالجبرية لصالح تثبيت سلطته وتغليفها بمبدأ
الحق الإلهي. ولأن النظام السياسي الإسلامي كان منظوراً إليه كحاجة ملازمة لسيادة الدعوة
الإسلامية، ولأن المجتمع الذي كان خاضعاً لذلك النظام لم يكن يهتم بحقوقه السياسية
تهيباً من المسلَّمات الدينية التي كانت تحمي السلطة، لم يتخط العلماء المسلمون،
في كلمهم عن الحرية، دائرة مضمونها الديني.
ولأن
أصل العقيدة الإسلامية يستند إلى الكتاب والسنة، وهي عند المسلم أوامر إلهية لا
يمكن القياس إلاَّ عليها، ولأن بعض المذاهب الإسلامية ألزمت أتباعها بطاعة (الإمام المعصوم، وأولي
الأمر...)، لم يشعر المسلمون أنهم بحاجة للنظر في مسألة الحرية من جانبها السياسي.
ولماذا يتصور المسلم أن له دوراً في الرأي ما دام النص من جهة والفقيه من جهة
أخرى، يُعَدَّان شرطان كفائيان في الوصول إلى معرفة مختلف شؤون الدين والدنيا، أي أن مصادر المعرفة
تلك، هي التي تحدد للمسلم خطواته الدينية والسياسية بكل تفاصيلها ([5]).
فمن
كان يمتلك معرفة ذات مصدر إلهي، لا يمكن أن يتسلل إليها الخطأ، فهل يستبدلها بما
هو وضعي من صنع البشر ؟
حددت
هذه المعادلة خطى بعض الإسلاميين في رسم اتجاهاتهم في مسألتي الحرية
والديموقراطية. وفيما يلي سوف نعرض لبعض تلك الاتجاهات:
«إن الأساس الذي جاء به
الإسلام يقضي بأن يكون المسلم عبداً لله تعالى. وأعظم مكرمة وأكرم صفة يتصف بها
المسلم أن يكون عبداً لله تعالى... ومن كمال العبودية أن يطيع العبد أوامر
المعبود. وصفة العبودية هذه تتنافى مع ممارسة السيادة دون ضغط أو إكراه، فالإنسان
المؤمن بالله يلتزم لأوامره... وإن ممارسة الإرادة في أحكام التخيير، وإن كان يبدو
فيها الحرية في العمل... فإنما هي إجازة من الله سبحانه للإنسان بالفعل أو الترك
(و).... إنما هي تفضل (منه)... أما الحرية فإنما تعني اتِّباع الهوى وإشباع
الرغبة...»([6]).
فالحرية
والديموقراطية «لها معنى محدد... يتناقض مع الإسلام تناقضاً بيناً لاختلاف المصدر
بينهما على الأقل. فمصدر الديموقراطية والحرية العقل، ومصدر الشريعة الوحي، ويكفي
هذا لنبذهما وإبعادهما من أذهان المسلمين»([7]).
«فالديموقراطية جعلت السيادة
للشعب وجعلت مجموعة من الناس تضع التشريعات لتنظيم علاقات الناس فيما بينهم، فمصدر
التشريع في الإسلام هو الوحي وليس الناس... والحرية تترك للفرد أن يحكِّم هواه
ومقاييسه النفعية وما يشبع جوعاته الجسدية... وهذا مناقض لعبودية الإنسان لله
تعالى والتزامه بما يرتضيه...»([8]).
ولأن الديموقراطية
والدستور ونظام رئاسة الجمهورية هي تشريعات وضعية من صنع البشر أولاً، ومن صنع
الدولة الغربية ثانياً، فإن للإسلام موقفاً متميزاً منها كلها:
-«إن الإسلام يعتبر مفهوم
الديموقراطية مفهوم كفر، ويعتبر جميع ما يبنى عليه من دساتير وأحكام دساتير، كفر
وأحكام كفر، لأنها كلها غير منبثقة عن العقيدة الإسلامية ولا مأخوذة من كتاب الله
ولا من سُنَّة رسوله، وإنما هي تشريعات البشر»([9]).
ولهذا
فإن نظام الحكم في الإسلام ليس نظاماً جمهورياً، يُنتخب رئيسه من قبل الشعب لمدة
معينة، ويملك حق عزله، كما أن الرئيس مقيَّد برأي الشعب وعليه أن يأخذ بما يشرِّعه
نواب الشعب لأن التشريع من حقه؛ فشكل
الحكم في الإسلام هو على خلاف ذلك «فهو نظام الخلافة، أو الإمامة الذي ينصب فيه
الخليفة أو الإمام، بمبايعة أهل العقد من الأمة، على أن يحكمهم بكتاب الله وسنة
رسوله، وليست له مدة محدودة… ولا تملك الأمة حق عزله»([10]).
فالحرية «التي تطلق اليوم هي من أنظمة الديموقراطية الغربية. وهي تعنى حرية
العقيدة، والحرية السياسية، والحرية الاقتصادية، والحرية الشخصية، وجميع هذه
الحريات تتناقض مع الإسلام، لأن المسلم مقيد بالأحكام الشرعية، في عقيدته، فمن
يرتد يقتل، ومقيَّد في سلوكه السياسي، وفي سلوكه الشخصي، ومقيَّد في الملكية
وحيازتها وإنفاقها بالأحكام الشرعية»([11]).
وعلى الرغم من أن بعض الإسلاميين حاولوا أن يوفقوا
بين الشورى والديموقراطية، انبري بعض السلفيين من علماء المسلمين ليقول بأن الشورى
ليست هي الديموقراطية، ففي معرض تفسيره للآية ]وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[ (آل عمران: من الآية159)، يقول: «ليست واردة في اتجاه الأخذ
بالرأي الذي توافق عليه الأكثرية في الشورى، وإن كان الحق في جانب الأقلية، ولذلك
اتجهت الآية الكريمة إلى النبي محمد (ص) لتطلب منه إمضاء الرأي، بعد المشاورة،
سواء كان على وفق الشورى، أو على خلافه»([12]).
لكن
يرى علماء مسلمون آخرون غير هذا الرأي، إذ يحسب بعضهم أن نتيجة الشورى ملزمة
للحاكم حتى لو خالفت رأيه «وإذا اختلف الحاكم مع المجلس في رأي فعليه أن يحاول
إقناعه أولاً... فإذا لم يقتنع المجلس فعليه تنفيذ رأيهم لا رأيه الشخصي، لأن رأي
الجماعة أصوب من رأي الفرد دائماً»([13]).
لقد
انقسم الإسلاميون في موضوع الشورى إلى رأيين، قال بعضهم بأنها مُلزِمة، أما البعض
الآخر فعدَّها مُعلِمة، ولكل منهما أسانيده من الكتاب والسنة وسلوك الصحابة. لكن
البعض يرجح رأي الفريق القائل بأن الشورى مُلزِمة لأن أدلته سلمت من الاعتراضات
الكثيرة ([14]).
فهذا البعض يستند في ترجيحه إلى أن «الاختيار من الأمة هو مقتضى الأمر بالتشاور في
قوله تعالى: ]وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ[ (الشورى: من الآية38)، ]وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْر[ (آل عمران: من الآية159)، إذ المقصود بـ (أمرهم) و(الأمر) هو جميع
الأمور العالقة المتعلقة بالمصالح العامة في المجتمع، وأهم هذه الأمور بالطبع-
رئاسة الدولة- فإذا كانت الأمة محرومة من حق الاختيار فماذا تملك؟ وماذا يتبقى لها
بعد ذلك؟»([15]).
أما
من حيث العلاقة بين الشورى والديموقراطية؛ فقد وجد البعض، الذي يرى أن
الديموقراطية ليست حكراً على التيارات الأخرى، أن هناك ديموقراطية إسلامية تقوم
على «عناصر ثلاثة لا انفصال بينها من أجل تحقيق ما تدعو إليه من حقوق الإنسان: وهي
المساواة، والمسؤولية الفردية، والشورى الدستورية، وهي مقيَّدة بمفهوم الطاعة لله
وللرسول ولأولي الأمر من المسلمين»([16]).
فإن
حاول البعض أن يعمل على المقاربة بين
مصطلحات الشورى والديموقراطية والحرية، فإنه لم يخرج بالجوهر عن الفهم السلفي
لمضامين هذه المصطلحات.
وفي
ظل الرؤى المتعددة ينبري مفكر إسلامي آخر ليقول إن العلاقة بين الشورى
والديموقراطية ليست علاقة عداء: «فالرؤية الإسلامية للشورى ليست مناقضة
للديموقراطية، وليست مطابقة لها». فبينهما مساحة اتفاق لأن «الشورى تعطي السلطة
للأمة، والديموقراطية أيضاً تعطي السلطة للأمة»، وبينهما أيضاً مساحة افتراق من
حيث أن الديموقراطية تعطي «السيادة للقانون الطبيعي، فإن الشورى تعطي السيادة
للشريعة». ولأنه لسنا نحن- كما يحسب- بصدد تطبيق الشريعة، وهذه قضية أصبحت غير
واردة في المجتمعات الإسلامية، ولأن التحدي الأساسي، الآن، هو تحدي الاستغلال
والتبعية، ولأن شعار الديموقراطية يجمع إسلاميين وغير إسلاميين، فإنه يرى ضرورة فك
الاشتباك بين الديموقراطية والشورى، أي بين القانون الوضعي والشريعة([17]).
وبالإجمال
كما يرى باحث آخر، «نحن أمام توجهات رافضة للفكرة الديموقراطية، إلاَّ أنها ليست
كتلة واحدة، تتفاوت في تسويقها: الرفض أو التحفظ حيال هذه الفكرة أو القبول
المشروط أو المقيَّد. وضمن ذلك جميعه سنرى توجهاً نظرياً رافضاً الفكرة...وفق تصور
يظنه ثابتاً كامناً في الفكرة الديموقراطية، وتوجهاً آخر يرى أننا لسنا بحاجة إلى
تلك الفكرة، لأننا نملك فكرة بديلة وهي (الشورى). وتوجهاً (يرفضها) لارتباطها
بفكرة العلمانية سيئة السمعة... وتوجهاً يسوِّغ رفضه إياها لعدم اتفاقه مع بعض
الأفكار التفصيلية التي تتضمنها... وتوجهاً يرفض ذلك لبعض ممارسات في الغرب ترتبط
بمضمون للحرية قد يتعلق بمضامين الإباحية... وتوجهاً يرفض الممارسات الشكلية
والمظهرية من جانب النظم السياسية العربية ... بدعوى الديموقراطية التي تغلف عناصر
الاستبداد الدفين... وتوجهاً يؤسِّس رفضه وتحفّظه على ضرورة إثبات فكرة الشريعة كأولوية»([18]).
ولأن موضوع الديموقراطية
شأن سياسي له علاقة بقضية حساسة عند الإسلاميين، متمثلة بوضعهم أمام اختيار حاسم:
إما الشريعة كأمر إلهي، وإما القوانين الوضعية كأمر بشري، فإنهم ولحسابات عقيدية
سوف يبقون في داخل دائرة الرفض للديموقراطية مثلما أصبحوا في داخل دائرة الرفض
للعلمانية قبلها. ولأن مبادئ الشريعة الإسلامية لا تلزم غير المسلمين، دفاعاً منهم
عن مبدأ المساواة في الحقوق؛ ولأن الفقه الإسلامي موزع إلى أكثر من مذهب، فلن
يستطيع أي مذهب منها أن يلزم المذاهب الأخرى، السبب الذي قد لا يحقق المساواة في
الحقوق السياسية حتى للمذاهب الإسلامية في ظل دولة الإسلام. جميعها تشكل حوافز
وحاجات أساسية في سبيل إعادة النظر في الموقف من الديموقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق