رياح
الثورة العراقية تهبُّ جنوباً
شدَّة
القمع تزيد من لهيب الاحتقان
بعد أن استقرَّت ثورة المحافظات الستة في العراق، وأثبتت
استمرارية وصموداً لافتين. وبعد أن ازدادت وتيرة الثورة في بغداد ولم تخمد جذوتها
على الرغم من كل وسائل الترهيب التي تستخدمها حكومة العمالة في بغداد. هذه رياح
الثورة في جنوب العراق تزداد لهيباً، وتقترب من حافة الانفجار.
ولمواجهة النيران الثورية المشتعلة، وبعد مرور ما يقارب
الأشهر الثمانية على بدء ثورة الشعب العراقي، تزداد وتيرة قمع حكومة المالكي في
شتى اتجاهات الاغتيال والتصفيات والاعتقالات والتفجيرات، إذ لم يبق لديها من حيلة
إلاَّ استخدام الحديد والنار من أجل إحباط الثورة والقضاء عليها. تفعل حكومة
العمالة كل ذلك بينما تعاني من كثرة الانشقاقات في داخل العملية السياسية، وتكاثر
ناقدوها من داخل العملية السياسية، على سوء الأداء. وأصبح من الواضح أنه لم يبق
بين صفوفها إلاَّ المنتفعين من حزب الدعوة، لأسباب تعصبية مذهبية، أوممن خانوا
ضمائرهم من الآخرين لقاء منصب من هنا، أو تجارة من هناك. ومن الواضح أيضاً، أن
شركاء المالكي أصبحوا في عجز تام عن الدفاع عنه، بعد أن غرق كلياً في أخطاء مميتة،
تبدأ بتجويع العراقيين، ولا تنتهي بالفلتان الأمني الذي ضرب أطنابه ووصل إلى حدود
تفجير أجساد النساء والأطفال، بحيث تشمل التفجيرات شتى المناطق والأنحاء، ولا
توفِّر أحداً من جحيمها، لا بلون أو طائفة، بحيث تشمل نعمة الجرائم البشعة الجميع
بدون تمييز بين منطقة وأخرى، وبين مذهب وآخر.
وأما من أهم الأسباب التي دعت المالكي لكي يغرق بالمسلسل
الدموي، فهو مدى الرعب الذي تثيره المقاومة العراقية، أو الذي تثيره ثورة الشارع
العراقي. ونتيجة عجزه عن السيطرة عليهما وقع المالكي ومؤسساته الأمنية في حالة
إعياء شديد، فوقع في الكثير من الأخطاء الأمنية والعسكرية، ولعلَّ من أهمها خطآن
استراتيجيان، وهما:
-استخدامه المزيد من القمع، واستخدام أكثر وسائل
الأميركيين قذارة في ارتكاب المجازر الدموية، ومجازر الاعتقالات والتصفيات
الجسدية. ولعلَّه لم يفهم أن الثورة المسلَّحة وحركة الشعب ما كانتا لتوجدا لولا
وجود تلك الأساليب. ولذلك لن يستطيع أن يداوي السم بالسم، وأن يقمع شعباً ثار ضد
التعسف والديكتاتورية بداء التعسف والديكتاتورية.
-اضطرار النظام الإيراني إلى التدخل مباشرة، ليس بقوة
المخابرات الإيرانية فحسب، بل باستقدام القوات الميدانية أيضاً. بحيث أرغمت إيران
من أجل حماية حليفها على إنزال قوات إيرانية مقاتلة, وأما السبب فيعود إلى فقدان
ثقة النظام الإيراني، وفقدان ثقة ما تبقى من حكومة المالكي، بولاء مئات الآلاف من
المؤسسة العسكرية والأمن الداخلي له.
ويظهر مما تؤكده التقارير من أن حكومة المالكي تعمل على
جرِّ الولايات المتحدة الأميركية من جديد الى المستنقع العراقي بإقناعها بتطبيق
الاتفاقيات العسكرية والأمنية التي وقَّعها مع الاحتلال الأميركي قبل سحب القسم
الأكبر من قواتها. وتؤكد التقارير أيضاً أن أوباما غير متحمس لدخول الفخ في العراق
مرَّة أخرى. وهو وإن فعلها فكأنه يلعب الدور الذي لعبه سلفه جورج بوش، الدور الذي
أوصل أميركا الى حد الإفلاس.
ويبدو أن السبب من وراء حالة الإرباك الأميركي والتردد في
الاستجابة لرغبات حكومة المالكي، أن هناك اتجاهاً استراتيجياً أميركياً يقتضي
تجميد دور كبير في العراق مطلوب من إدارة أوباما أن تلعبه، وهي أن إدارة جورج بوش
عندما قرَّرت احتلال العراق كانت تعتبره وسط دائرة جغرافية وسياسية مركزية، تعمل
على إسقاط الدائرة من نقطة العراق المحورية، ولما عجزت عن ذلك، فهي تعمل لتطويق
العراق من خارجه بمشاريع من الاحتواء والهيمنة على الدائرة الجغرافية السياسية من
جديد. وإذا كان الاستيلاء على الدائرة كلها عبر نقطته المحورية مكلفاً كما أثبتت
ذلك تجارب مرحلة الاحتلال، فإن العودة الأميركية إلى العراق سيكون بقوة بعد العمل
بمشاريع أقل كلفة مالية وعسكرية وسياسية.
في ظل هذا الترقب الأميركي والغرق الإيراني في الملف
العراقي، تبقى حركة الثورة العراقية المسلحة والشعبية تمسك بأزِمَّة الوضع، فهي
تقوم بعملية استنزاف يومية لحكومة المالكي وللنظام الإيراني، والتمدد بقوة الحالة
الشعبية الى كل منطقة من العراق. وبهذا الصدد تدل المؤشرات الإعلامية على قِلَّتها
على أن جماهير الجنوب الشعبية في العراق تزداد قلقاً بفقدان ثقتها بالعملية
السياسية، وفقدان أملها بالحصول على حقوقها من الخدمات العامة في شتى الحقول من
جهة، وبازدياد عوامل الاستفزاز التي يشكلها ظهور
التدخل الإيراني بشكل سافر في الشوارع والسيطرات الأمنية وكذلك في مفارز
التحقيق والأمن.
أما عن الخط الاستراتيجي لحكومة المالكي في معالجة الثورة
الشعبية العراقية، فقد لجأ إلى أكثر الأعمال قذارة وخسة، إذ تأكد أن العقيدة
الأميركية هي المُتَّبعة الآن في مواجهة الغضب الشعبي، كمثل عقيدة (قوات سوات)
وغيرها من الأجهزة الأمنية المدرَّبة على ارتكاب الجرائم البشعة بدم بارد، وتتمَّل
بالوسائل التالية:
-أسلوب المفخخات الجوالة وزرعها في الأحياء
المكتظة بالسكان. ويتغطى المالكي، وغيره من أجهزة المخابرات الأميركية والإيرانية،
تحت عباءة (تنظيم القاعدة) لإلصاق التهم بها وذلك لتغطية أعمالهم الإجرامية. وما
استخدام أسلوب المفخخات الجوالة إلاَّ لزيادة منسوب الاحتقان بين أديان الشعب
العراقي ومذاهبه من أجل تعميق الفجوة الطائفية تكريساً لمشاريع تقسيم المجتمع
كخطوة أساسية على طريق التقسيم الجغرافي. وما ارتفاع شعار (الإقليم السني) في
المحافظات الست الثائرة إلاَّ إحدى تلك النتائج، ذلك الشعار الذي أحبطته جماهير
الشعب في تلك المحافظات تحت قيادة القوى والحركات والفصائل المنضوية تحت خيمة
المقاومة الوطنية العراقية.
-ارتكاب المجازر بحق المعتصمين: وتقوم تلك
العقيدة على أسس قمع أي حركة جماهيرية بأسلوب المجازر بـ(حق القوي ليرتجف من هولها
قلب الضعيف). ولكن بعد ارتكاب أكثر من مجزرة، كمثل مجزرة الحويجة والفلوجة أثبتت
الوقائع فشل هذا الأسلوب، فهو لم يفت بعضد الثائرين والمعتصمين، بل على العكس من
ذلك، فقد اشتدَّت وتيرة التظاهرات وتصاعدت حدتها.
-أسلوب الاعتقال والاغتيال والتضييق على حركة
المواطنين: ومن أجل ذلك راحت أجهزة المالكي الأمنية وأبواق إعلامه، كما أبواق
الأجهزة المساندة لها من وسائل إعلام إيرانية وأميركية، تروِّج لاتهامات بحق
المعترضين بوصفهم تارة بـ(الإرهابيين)، وطوراً بـ(التكفيريين)، وتارة أخرى
بـ(البعثيين). وتحت هذه الاتهامات تقوم بالإبعاد بالتخويف، والاغتيال، والاعتقال.
ولما كانت حكومة المالكي تعتقد أن بغداد والجنوب
العراقي، هي من المحافظات التي عليها أن تمسك بها حماية لوجودها، فقد أغرقت كثيراً
باستخدام تلك الوسائل مجتمعة. ولما كانت تعتبر أن محافظات الجنوب تشكل الجدار
الخلفي لبغداد أولاً، وأن سكانها من الشيعة التي توهم نفسها أنهم يدرؤون عنها
الخطر، فقد راحت تشدد إجراءاتها الأمنية وزادت من وتيرتها أنها راحت تستقدم قوات
أمنية إيرانية لمساعدتها على إحكام قبضتها.
وما المظاهرات التي تندلع في البصرة، وغير من مدن
الجنوب، إلاَّ أحد أهم المظاهر التي تدل على أن الثورة في جنوب العراق ستلتحق
بأخواتها في المحافظات الأخرى. وبذلك تتحقق أمنية الشهيد صدام حسين التي حذَّر
الأميركيين منها قائلاً: (سوف تخرجون هاربين إذا توحَّد جناحا العراق)، وهنا يصح
القول ذاته رداً على أضغاث أحلام النظام الإيراني.
ومن الجدير إعادة التذكير بأن إيران، وعلى وقع أحلام
غيبية، ندبت نفسها للقيام بدور أكبر من حجمها العسكري والسكاني والاقتصادي، وهي
واصلة إلى مرحلة ستواجه فيها شعوبها التي تعاني من قلة الخدمات على شتى الصعد.
ولعلَّها تدرك أخيراً، كما أدركت أميركا أن عهد الإمبراطوريات قد ولَّى، ولن يعود.
وهو لن يعود فعلاً سواءٌ أكانت اتجاهاته مادية أم روحية، اقتصادية أم دينية،
فالإمبراطوريات في هذا العصر تحمل عوامل تهديمها في رحمها، أم أن النظام الإيراني
لم يتَّعظ من دروس (اليمين الأميركي المتصهين) الذي غزا العراق تحت أحلام وأوهام
طوباوية، ويتعلَّم منها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق