الياس فرح
ثقافة الحوار لا ثقافة القرار
شهادة في ديموقراطية الثقافة في مناهج حزب
البعث
عرفت
الياس فرح عن قرب في مرحلة متأخرة، وفي ظرف حزبي استثنائي، فكوَّنت عنه شهادة كنت
أودُّ لو سمعها في حياته، لأن التكريم لمن نريد تكريمه يكون أكثر وفاء له إذا حصل
قبل وفاته. ولكن ظروف احتلال العراق هي التي حالت دون ذلك. واعتذاراً من روحه سأكتب
توَّاً عن تلك الشهادة. سأكتب هذه الشهادة بعد رحيله، لكي لا أقصِّر بحقه مرتين: الأولى
أنني لم أستطع أن أوصلها إليه في حياته؛ والثانية أنني أخفيتها بعد مماته. ولكتابتي
عنها الآن فائدتان: الأولى أنني أكون قد أوفيت معه؛ والثانية لعلَّها تكون
أنموذجاً لتجربة مميزة في تقديم الثقافة وإنتاجها عند الأحزاب العقيدية.
أعتذر
للقارئ أيضاً، وكذلك لرفاقي، لأن ما سأكتب عنه له علاقة خاصة بمشكلة ثقافية
تعرَّضت لها جراء أبحاثي وكتاباتي، وأخشى أن تُفسَّر على أن أغراضها شخصية. وهنا،
من أجل نفي العامل الشخصي عما أكتب، لا يفوتني أن أقول إن هناك فرقاً بين الشخصنة
التي تعني الاهتمام بالمصالح الشخصية والترويج لها، كوجه أول؛ وبين الاستفادة من
التجارب الشخصية واستخلاص العبر الحزبية منها لتوظيفها في سياق التجريد المعرفي الحزبي
العام.
وكتقديم
لرواية التجربة أفتتح بما يلي: يروِّج الكثيرون اتهامات تمسُّ بالوظيفة الثقافية
للأحزاب العقيدية، ومنها حزب البعث، فتتهمها بأنها شمولية، أي أن تلك الأحزاب لا تسمح
للمنتسبين إليها بالاجتهاد خارج النصوص، على قاعدة «نفِّذ
ثم ناقش«.
إن
تلك القاعدة تجيزها القرارات الأمنية والعسكرية، ولكن لا تجيزها مبادئ ديموقراطية
الثقافة لأنها تحولها من (ثقافة الحوار)، إلى (ثقافة القرار)، أو من مبدأ (سلطة
الثقافة) إلى تهمة (ثقافة السلطة). وكل ذلك لا يعني أن تتحول إلى ثقافة ليبرالية
تتعبد في محراب الفرد وتأسره في سجون حريته الشخصية، بل لا بدَّ من أن تتكامل حرية
الفرد كحق مقدس مع حقوق المجتمع. وإذا أصبح مفهوم الثقافة ليبرالياً، أي تهتم
بحرية الفرد على حساب حرية المجتمع، فستتحول الحرية إلى مفهوم عبثي. كما أنها إذا
تحولت إلى قرار فستتحوَّل النصوص الحزبية بدورها إلى كتلة جامدة تبقى بمنأى عن
النقد، وإذا مُنع نقدها فستصبح ممنوعة من التجديد.
لكن
الأسوأ من تلك الاتهامات، هو أنه عندما يكلِّس المحازبون ثقافتهم في شرانق (ثقافة
السلطة)، أو (ثقافة القرار)، أي عندما يرفضون أي نقد يُوجَّه لتلك النصوص، أو العمل
على تعميقها، أو التجديد فيها، أو إغنائها، ساعتئذٍ يؤكدون هذه الاتهامات.
هذا
التقديم يعني أن الأحزاب العقيدية قد لا تكون شمولية بمفاهيمها للثقافة، ولكن قد
يكون بعض المنتسبين إليها شموليين. وهذا ما ينطبق على حزب البعث العربي الاشتراكي،
فليست ثقافته شمولية، والدليل على ذلك أنه اعترف بحرية القول والكتابة والاعتقاد
في عدد من نصوصه، ولعلَّ من أهمها:
أولاً:
جاء في المبدأ
الثاني من دستور الحزب، أن «حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر: حرية الكلام
والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها).
ثانياً: جاء في المادة (42) : البند الثالث: «العمل الفكري
من أقدس أنواع العمل وعلى الدولة أن تحمي المفكرين والعلماء وتشجعهم«.
ثالثاً: وجاء في التقرير السياسي للمؤتمر القومي المنعقد
في العام 1992، تحت فقرة (ثالثاً): «إن تعدد الآراء، بحد ذاته،
أمر ضروري لاستقامة الحياة السياسية، فتكوين المعرفة عملية مستمرة، كما أنها، من أجل أن تكون فاعلة،
تحتاج لتفاعل الآراء والحوار المستمر وسماع العديد من وجهات النظر... «. وتحت الفقرة (خامساً)، جاء ما يلي: «كانت حرية الفكر التي كرسها دستور الحزب، ..
المنبع الرئيس للتقدم والتجديد والإبداع «.
وعن ذلك كيف كان يمارس
الياس فرح، كمسؤول عن المكتب الثقافي القومي، مسؤوليته الثقافية؟
من المعروف أنه من خلال
معرفة مهمات مسؤول المكتب الثقافي القومي، يمكننا أن نحكم على مدى قرب حزب البعث
العربي الاشتراكي من ديموقراطية الثقافة أو بعده عنها. فالمسؤول الثقافي القومي هو
من يشرف على متابعة الثقافة الحزبية القومية من خلال إعداد المادة الثقافية التي
على أساسها يتم بناء الكوادر المثقفة في الحزب الموكول إليهم تعميم تلك الثقافة
ونشرها والتبشير بها، هذا ناهيك عن أن المكتب كان يشرف على إعداد الآلاف بل عشرات
الآلاف من المحازبين المنتشرين في كل الأقطار التي للحزب وجود فيها.
في أواخر القرن العشرين،
وبعد أن طُويت صفحة المعاناة الأمنية التي أرهقت حزبنا في لبنان بشكل عام، وأرهقتني
بشكل خاص، تفرَّغت للكتابة والبحث مستنداً إلى فهمي أهمية الثقافة في حزب عقيدي،
أي الحزب الذي يستند في نضاله إلى أسس فكرية.
وكنت منذ وقت مبكِّر أعي
أن وسائل التبشير بفكر الحزب تعتمد على نظرته وثوابته المبنية على ضرورات الحرية
والانفتاح أولاً، وعلى ضرورات التجديد والتعميق والإغناء ثانياً. ولما كنت أشعر أن
النصوص الحزبية بحاجة إلى ذلك، وضعت جهودي وإمكانياتي من أجل تحقيق هذا الهدف، أي
أن أوظِّف ما لديَّ من مخزون ثقافي وملاحظات نقدية لتحقيق هذا الغرض أولاً، وأن
أضع نتائج البحث الأكاديمي في مصلحة إغناء النصوص الحزبية والتجديد فيها ثانياً.
ولذلك انخرطت في ورشة البحث العلمي، وقمت بإنتاج مجموعة من الكتب والأبحاث وبدأت
بنشرها على مسؤوليتي الشخصية آملاً أن تلقى تلك الأبحاث الاهتمام الحزبي، وأن
تُقابَل بما تستحق من النقد لعلَّها تسهم في رسالة على غاية الأهمية، وهي رسالة
تمنع التجميد في فكر الحزب، والانطلاق بالنصوص إلى رحاب التجديد.
واجهت كتاباتي وأبحاثي،
خاصة كتاب (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، وكتاب (الردة في الإسلام)،
صنفين من ردود الأفعال عند الرفاق البعثيين:
-الأولى إيجابية: وفيها كتب بعض الرفاق عنها مقالات نقدية
قادت إلى حوار مثمر معهم. أوضحت في ردودي عليها، على طريقة ما يُسمى عملية (نقد
النقد) بعض الغموض في نصوصي من جهة، واستفدت من بعض جوانب النقد من جهة أخرى.
-الثانية سلبية: وفيها تعرَّضت لبعض الاتهامات بالخروج عن
فكر الحزب، ولكن لم يوجِّه أحد ممن روَّج لتلك الاتهامات أي ملاحظة نقدية موضوعية.
وفوجئت لاحقاً نتيجة لذلك بأن هناك اتهاماً بحقي موجَّهاً إلى المكتب الثقافي
القومي. وتم تتويجها بدعوتي إلى جلسة بحضور كل أعضاء المكتب الثقافي حينذاك،
باستثناء الرفيق الياس فرح الذي كان يعاني من مرض.
وكانت نتيجة الحوار حول
محتويات الكتابين المذكورين، وباستثناء بعض الملاحظات الأكاديمية الفنية التي
استفدت منها، أكَّد المكتب على أن نتائج البحثين لا تتناقض مع فكر الحزب، وليس
هناك ما يمسُّ ثوابته الفكرية. والشاهد الآن على ذلك أعضاء المكتب أطال الله
بعمرهم، بحيث أنهم ما زالوا مهجَّرين خارج العراق، على الرغم مما تعرضوا له من
إيذاء وملاحقات من قوات الاحتلال وأذنابه. وإنني أكثر من الدعاء للإطالة بأعمارهم
لكي يعودوا إلى العراق بعد تحريره لكي يستأنفوا التجربة الثقافية الفذَّة التي
كانوا قد شقوا طريقها بوعي ومسؤولية.
وعلى الرغم من غيابه عن
جلسة الحوار، لم يترك الدكتور الياس فرح المناسبة من دون أن يترك أثراً بالغاً
فيها، لهذا دعاني إلى مكتبه في (مدرسة الإعداد الحزبي)، وعلى الرغم من مرضه الذي
كان قد بدأ يتعافى منه جزئياً، استقبلني بترحيب وحبور، ووجَّه لي الرسالة الموجزة
التالية، والبالغة الدلالة، قائلاً: (لقد فهمت ملابسات ما أحاط بموضوع كتابيك، لذا
أطلب منك أن لا تدع أحداً يرهبك، وتابع على خطى المنهج الفكري الذي سلكته أنت).
وبدوري، لن أدع هذه
المسألة تمر من دون أن أخلص إلى بعض النتائج العامة التالية:
1-خلافاً
لما روَّجت، أو تروِّج له، بعض الأوساط المعادية للحزب. أو يروِّج له بعض أدعياء
الديموقراطية، بأن حزب البعث حزب شمولي بفكره، أوجِّه أنظار من انبهروا بتلك
الشعارات خاصة منهم الذين نقدوا هذا الجانب بخلفيات صادقة وصديقة، بأن فكر البعث
ليس شمولياً. وقد أكَّد دستور الحزب على ذلك نظرياً، وكذلك عملياً. ولكن هناك بعض
الحزبيين الشموليين بطبيعة البيئة الاجتماعية والثقافية الشخصية لهؤلاء. أقول ذلك
بكل وضوح مستنداً إلى عمق فهم البعثيين الآخرين لحرية الفكر في حياة الحزب
الداخلية.
2-قد
يبرر البعض عندما ينتقدون الشمولية، في فكر الحزب وسياساته، أنهم كانوا يقصدون
الحكم الوطني في العراق الذي كان يحكم باسم الحزب، أي أن ذلك الحكم كان شمولياً
بطبيعته السلطوية. وفي هذا التبرير من الضعف ما يمكن أن يدحضه الدليل التالي: لقد
اختير الياس فرح مسولاً للمكتب الثقافي القومي، واستمر في موقعه طوال مرحلة الحكم
الوطني. وإذا عرفنا أن رجالات الحكم الوطني في العراق كانوا يمثلون الأغلبية في
القيادة الحزبية، فيعني ذلك كأنهم اختاروه ليكون حارساً على الثقافة الحزبية. ومن
يختار من يقف بوعي وصلابة ضد الشمولية عند أعضاء الحزب، واصفاً بأنهم يمارسون
(الإرهاب الثقافي)، فلن يكون شمولياً. وهم بمثل ذلك الاستمرار في الخيار، إنما
كانوا حريصين على تثبيت مبدأ (سلطة الثقافة) وليس مبدأ (ثقافة السلطة).
3-إنني
أطمئن كل الحزبيين الواعدين بالميدان الثقافي من كل الأقطار العربية، بأنه لا خوف
عليهم من ممارسة أي ضغوط عندما يقومون بدورهم النقدي، أي النقد بمفاهيمه
الموضوعية، فهم بمأمن في ظل حزبهم الذي يؤمن بأن «العمل الفكري من أقدس أنواع
العمل وعلى الدولة أن تحمي المفكرين والعلماء وتشجعهم«.
وأخيراً، نقول للراحل
الكبير: ستظل حياً فينا، فقد كنت حارساً أميناً لثقافة حزب البعث العربي
الاشتراكي، ولك دين في رقابنا علينا أن نفيه، وهو أننا سنحرس الديموقراطية في
الحياة الثقافية للحزب بأهداب عقولنا ما دام حزبنا حياً، وسيبقى حياً في مسيرة
أمتنا العربية الطويلة. فعلى خطاه يبقى الأمل معقوداً في تحقيق أهدافه في الوحدة
والحرية والاشتراكية.
هناك تعليق واحد:
الجسد يموت ولكن الفكر خالد مدى الدهر..!
وقال الله تعالى: انما يخشى الله من عباده العلماء ان الله عزيز غفور.
الانسان يخلّد ، بما اعطى للبشرية من فكر وكفاح من اجل الحرية والتطور والارتقاء الانساني، وقد يكون العطاء الفكري سابق على الكفاح، لانه يمثل الدليل والمنهج للكفاح.
ولكل مشروع حضاري تحرري دليله النظري الثوري.والدكتور الياس فرح هو ذلك المشعل الفكري بحزب البعث ، الذي نقد الفكر الماركسي وبيّن عيوبه، واكد على فكر البعث للنهوض بالامة العربية وبعثها من جديد بعد موت سريري لسبعة قرون عجاف. وباب التقرب الى الحقيقة هم العلماء والمفكرين ، والحقيقة هي الوجه الاخر للحق والله حق !
والحق هو درب العلماء والمفكرين. وافت المنية احد وابرز مفكري حزب البعث...الجسد فاني والروح انتقلت الى باريئها وفكره خالد مدى الدهر ، ينير لنا الطريق.
لقد تلقينا نبأ وفاة المناضل والمفكر الكبير الدكتور الياس فرح ، بأسى وحزن كبير ، لكن فكره باقٍ لنا مشعل ، ينير الطريق لمسيرتنا الكبرى للنهوض والتحرر وخاصة اننا نمر بظروف عصيبة جدا ،الاخطار والقوى الاقليمية والعالمية تحيط بنا بجيوشها المحتلة من جميع الجهات.
رحم الله مفكرنا العظيم الدكتور الياس فرح واسكنه فسيح جنانه ، والهم الاهل والرفاق الصبر والعزيمة على مواصلة الكفاح لتحقيق ما فكر وكتب وكافح من اجله فقيدنا العظيم .
إنّا لله وإنّا اليه راجعون.
بسم الله الرحمن الرحيم
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
صدق الله العظيم
المهندس محمد حسين الحاج حسن ...بعلبك-- لبنان
إرسال تعليق