الأربعاء، مارس 12، 2014

حكم العالم بأكثر من قطبية يصب في مصالح الدول والشعوب

-->
حكم العالم بأكثر من قطبية يصب في مصالح الدول والشعوب
ولكن عندما تهب الرياح في ملاعب الصراع بين القوى الكبرى
تبقى إرادة الشعوب هي الأقوى

منذ بداية التاريخ كانت العشيرة الأقوى هي القدر الذي يتحكم بعلاقات العشائر. واستطراداً أصبحت الدولة الأكبر هي صاحبة القرار فأنتجت عصر الإمبراطوريات التي قادت العالم لآلاف السنين. وكان القدر الآخر الذي ربما أحدث نقلة نوعية في تاريخ الشعوب هو صراع الإمبراطوريات، فما تكاد إمبراطورية تدول حتى تحل مكانها إمبراطورية أخرى، وكأن نزعة التوسع على حساب الشعوب الأضعف كانت القدر البغيض الذي عانت منه الشعوب ما عانت، وما تزال تعاني حتى الآن.
ولكن منذ ما يقارب القرن من التاريخ طفت على سطح الأحداث متغيرات وكأنها كانت بداية جدية لانقراض العصر الإمبراطوري ليحل مكانه متغير يعترف بحق الشعوب في تقرير المصير. ومن الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة الأميركية كانت الرائد لهذا المتغير، وبات العالم بأسره يعيش على حلم تطبيقه. ولم يتأخر الزمن حتى راحت الولايات المتحدة الأميركية تأكل صنم (حق الشعوب في تقرير مصيرها)، فهي قد أكلته لأنها استمرأت حلاوة إخضاع الشعوب لإرادتها خاصة أن الدول الأخرى الصغيرة قدمت ثرواتها قرابين أمام المعابد التي شيدتها القوة الأميركية الكبرى، وبها أصبحت أميركا الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن مناطق نفوذها، حتى الغيوم التي كانت تتلبد في العالم كانت تمطر على أراضي تلك الدولة الكبرى الناشئة نتيجة ضعف الإمبراطوريات الأوروبية التي أنهكتها الحروب.
كان منتصف القرن الماضي بداية الانتشار للأطماع الأميركية والبداية التي أغرتها لتأكل الصنم الذي صنعته بأيديها، وتعمقت الرغبة أكثر عندما أصبحت إهراءات أميركا أكثر حجماً من (إهراءات روما)، فكان لا بُدَّ أمام الأميركيين إلاَّ أن يسكتوا عن ضياع حق الشعوب الأخرى بالاستقلال طالما أن ثروات تلك الشعوب تصب في طواحينهم، خاصة وأن طواحين الدول الضعيفة كانت عاجزة عن حماية تلك الثروات.
في مواجهة ظاهرة بروز الإمبراطورية الأميركية انبرت الإمبراطورية السوفياتية لتشكل الند والمنافس. فدارت مبارزة بين المشروعين الإمبراطوريين على قاعدة استقطاب الشعوب الأخرى، فوضعت كل منها عروض التزاماتها المقدَّمة لـ(دول العالم الثالث) على قاعدة (المناقصات) أي تقديم تنازلات عن مقادير السرقات التي يمكن أن ترتضي بها لحماية تلك الشعوب من أطماع الدول الإمبراطورية الأخرى.
وكانت بداية واضحة لقيادة العالم بما كانت تُسمى بـ(القطبية الثنائية). وعلى قاعدة أقل الشرور ضرراً، انقسمت دول العالم الثالث إلى معسكرين تابعين لمعسكرين متبوعين. وكان هذا الانقسام هو الخيار بين أقل العروض التبعية تكلفة. ولأن المشروعين الإمبراطوريين كانا قدراً وشراً، وأكثرها حدة أنهما شر لا بُدَّ منه. وفي أواخر القرن الماضي انهار الاتحاد السوفياتي الذي كان أحدى القطبيتين، فاستفردت أميركا بحكم العالم بقطبية واحدة.
قطبية أميركا الواحدة على حافة الانهيار
أظهرت مرحلة انتهاء حكم العالم بقطبيتين وتحوله إلى حكم قطبية أميركية وحيدة، المخاطر الجمة التي أرخت بظلالها على العالم كله وخاصة عندما ارتفع مبدأ (نحو قرن أميركي جديد). وكان احتلال العراق من أولى ثماره، بحيث لم يكن ليتسنى لأميركا فرصة احتلال العراق لو كان العالم محكوماً بنظام القطبيتين أو أكثر. ولهذه الحقيقة مظاهر عديدة ومن أهمها:
-اتفق المحللون الاستراتيجيون أن احتلال العراق جاء نتيجة انهيار القطبية الثانية متمثّلةً بمنظومة دول الاتحاد السوفياتي. حيث كانت روسيا أكبر دول تلك المنظومة تلملم جراحها وكانت ما تزال من دون أنياب. وعلى الرغم من واقعها، أي قبل خروجها من صدمة انهيار المنظومة التي كانت تقودها، فقد امتنعت، مع فرنسا وألمانيا، عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي أجاز للولايات المتحدة الأميركية وحليفتها بريطانيا باستخدام القوة لاحتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني. ولو استخدمت حق الفيتو لما كان العدوان قد حصل.
-اعتبرت الحكومة الروسية أن تمرير قرار مجلس الأمن باستخدام القصف الجوي في ليبيا ضد الجيش الليبي كانت خدعة لن تتكرر مرة أخرى في سورية. ولذلك فقد صدقت روسيا بموقفها بالنسبة لسورية عندما اشتد الضغط على النظام. فقد واجهت كل الضغوط الغربية، ووفَّرت للنظام السوري كل سبل المساعدة لمنع إسقاطه وبالتالي منع إسقاط الدولة السورية، ومن أهمها منع الانقسام في صفوف الجيش السوري.
كانت مفاجأة للولايات المتحدة الأميركية ولكل القوى التي راهنت على أن روسيا سوف تساوم على رأس النظام السوري بعد أن تعقد صفقة مع أميركا، وبالضد من ذلك فقد كان ظاهراً للعيان أمام من قرأ تاريخ الصراع الغربي الأوروبي والشرقي الروسي، وخاصة قراءة المسألة الشرقية، أن روسيا لن تساوم على آخر ممر لها تجاه (المياه الدافئة) في الشرق الأوسط. فالمساومة الأولى والأخيرة لن تتعدى الخطوط الحمر في أن لا تشارك أية قوة أخرى في سورية، وليست هناك أنصاف حلول، بل إما أن تكون سورية كلها حصتها وإما الحرب العالمية. وقد أثبتت وقائع الأحداث ذلك، إذ أخذت أميركا، أمام الإصرار الروسي، تتراجع عن تهديداتها للنظام السوري والحكومة الروسية معاً.
وكان من الواضح أن أميركا لم تكن جدية بإنجاح مؤتمر جنيف 2، ولو كان الأمر غير ذلك، لكانت مارست الضغوط على أطراف المعارضة السورية من أجل الوصول بالمؤتمر إلى نتائج إيجابية توقف فيها الحرب العبثية على الأرض السورية. وكان من الواضح أن اميركا استخدمت المعارضة السورية للتحلل من التزاماتها مع روسية. وهل كان أوضح من ذلك أن تشكيل وفد المعارضة قد خضع لقرار فيلتمان وأوامره؟
واتضح لاحقاً أن مؤتمر جنيف 2 كان فسحة من الوقت لأميركا لتُعدُّ أفخاخاً لروسية في أوكرانيا، ردَّاً على موقفها الثابت من القضية السورية. واختارت أوكرانيا لأنها تشكل لروسيا الخاصرة الحساسة، وهي لن تتنازل عنها لأنها تعرِّض الأمن الروسي الداخلي والخارجي لمخاطر جمة.
في صراع مصالح الإمبراطوريات الكبرى: أميركا وروسيا، هناك خطوط حمر لن يسمح أحدهما للآخر باختراقها. وهذا ما حصل بالفعل في القضية السورية. إذ كادت الحرب بينهما تتحول من حرب باردة إلى حرب ساخنة، ولكن ما حال دون نشوبها هو فظاعة ما ستسفر عنه من نتائج كارثية ليس عليهما فحسب، بل على العالم كله أيضاً. وتلك المحنة أثبتت مرة أخرى أن السلاح النووي الذي تمتلكه القوتان هو سلاح دفاعي وليس سلاحاً هجومياً. والسبب هو استحالة استخدامه للأسباب التي قمنا بذكرها أعلاه.
ماذا يعني كل هذا؟
يعني أولاً أن مشروع (القرن الأميركي الجديد) قد أثبت فشله الذريع بداية بفعل المقاومة العراقية. ولكل هذا فإذا كانت المقاومة العراقية قد أرغمت المشروع الأميركي الخبيث على التجمد ومنعه من استكمال كل حلقات حكم العالم بقطبية واحدة، فإن الأزمة السورية جاءت لتشهد سقوط تلك القطبية. وإذا كان التحالف الغربي الرأسمالي بجناحيه الأميركي والأوروبي قد حضَّر نفسه للاستيلاء على العالم بقوة العسكر والاقتصاد، فقد عمل الروس والصينيون على بناء تحالف من منظومة دول البراكس كواجهة اقتصادية على أن تكون محمية سياسياً بالفيتو الروسي والصيني من جهة، وعسكرياً بقوة الردع النووي لكل من الدولتين الكبريين من جهة أخرى.
إيران وتركيا ملتحقتان بروسيا وأميركا في صراعهما الحالي
ونزولاً من السقف الدولي، فقد حصلت اصطفافات إقليمية تشمل كلّاً من إيران وتركيا حول هذا المحور أو ذاك، لكي لا يخرجا من مولد المتغيرات الدولية من دون حمص. وإذا كانت تركيا قد حسمت موقفها إلى جانب المحور الغربي طمعاً بسمن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعسل اقتطاع حصة لها في الوطن العربي، فإن إيران راحت تلعب على حبال المحورين معاً لكي تلتقط حصتها فيه بحيث لن تخرج خاسرة في حال انتصر هذا المحور أو ذاك. وأصبح من الواضح أن قراءة وقائع ما يجري الآن على ساحة وطننا العربي، تؤدي الى رؤية المشهد على الشكل التالي:
-وضع عربي مفكك وملتحق بالقوى الكبرى، استسلمت فيه الأنظمة العربية لإملاءات وأوامر تلك القوى من جهة، وسلَّمت أمرها للقوى الإقليمية من جهة أخرى. وأسلمت قرارها لكل منهما، متوهمة أنها تربح نفسها وتضمن حمايتها من هذا الطرف أو ذاك. فالقرار العربي باختصار أصبح اللاقرار العربي، أو القرار الذي يستجيب لإملاءات القوى الدولية أو الإقليمية. وفي هذا الواقع تنازل كامل عن السيادة الوطنية.
- في ظل فراغ القرار العربي أو إفراغه، التزمت القوى الكبرى شؤون الأقطار العربية، فنشأ وضع دولي له اصطفافاته ومحاوره، التي أفرزتها المصالح المتباينة، وراح كل طرف من أطرافه يعمل على رسم الخرائط التي تناسب مصالحه في الوطن العربي.
في ظلام المرحلة الدامس، وباستثنائين مهمين: بعض إيجابيات ما حصل في كل من تونس ومصر، نرى أن هناك أملين يضيئان سماء الوطن العربي، وهما:
-المقاومة الوطنية العراقية بكل ما أنجزته من انتصارات خاصة على صعيد إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة الأميركية، وكان من أهمها أن تحذيراتها من خطورة الدور الإيراني قد وجدت صداها في بعض دول الخليج العربي.
- ظهور بداية صحوة لخطورة الدور الإيراني في بعض دول الخليج تتجه إلى إعادة تصحيح ما حصل من أخطاء كبيرة ارتكبتها تلك الدول بحق قضايا الأمة الساخنة، ومن أهمها أن أميركا ساومت النظام الإيراني وسلمته العراق ضاربة عرض الحائط مصالح تلك الدول في الحماية من الخطر الإيراني.
إن تلك الدول ما تزال الآن أمام مرحلة تجريبية، لن ننعيها أو نباركها قبل أن تأخذ وقتها الكافي لإثبات جديتها. ومن أهم المختبرات التي ستختبر تلك الجدية هو ما يجري في العراق حيث تعمل المقاومة العراقية على إسقاط كل ما تبقى من مخلفات الاحتلال الأميركي، ومن أهم معالمها إسقاط العملية السياسية التي يترأسها نوري المالكي من جهة، وطرد أي وجود إيراني من جهة أخرى.
حكم العالم بقطبية واحدة أم بقطبيتين؟
قبل أن نغرق في حرب تكهنات استشراف المستقبل العربي في ظل الحراكات الدائرة، علينا أن لا نهمل الوقوف أمام المتغيرات الدولية التي تشكل الآن العامل الرئيسي في تلك الحراكات، وفي الطليعة منها متغير استعادة حكم العالم بقطبيتين لا قطبية واحدة.
إننا وانتظاراً لما سوف تفرزه الحراكات الدائرة على الصعد الدولية والإقليمية والعربية، لا بُدَّ من إبداء رأي قد يساعد على تظهير موقف مما يجري على الساحة الدولية، وانعكاساته على الصراع الدائر الآن في الوطن العربي، وفي الطليعة منه ما يجري في العراق. ومن أهم العوامل التي نرى أنها تساعد على رؤية النتائج بأكثر ما يمكن من الوضوح، وهي التالية:
1-لا يمكن تحديد أسباب الصراع الدولي أكثر من أنه صراع بين المصالح، بحيث تعتبر تلك القوى أن ما يجري في بعض أقطار الوطن العربي هو من أهم مظاهره. وعلى ساحة الوطن العربي ستتحدد نتائج هذا الصراع.
2-مصلحة الطرف الأميركي أن يحكم العالم بقطبية واحدة، بما يمثله هذا المشروع من مخاطر كبرى على العالم، برزت آثاره الكارثية في العراق بشكل رئيسي، وفي فلسطين، وفي معظم حراكات الشعب العربي الأخرى.
3-مصلحة الطرف الروسي أن يكون شريكاً في حكم العالم، ولن تتجاوز طموحاته استعادة مرحلة الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي، وهي التي تؤثر إلى حد كبير في استعادة توازن المصالح بينهما.
4-لقد نمت، منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بعض التجارب التقدمية في الوطن العربي تحت حماية استراتيجية الحرب الباردة. وهذا ليس ببعيد عن استفادة حكم عبد الناصر، والحكم الوطني في العراقي، والحكم في سورية في شتى مراحله.
نخلص من تلك الوقائع إلى أن رفض حكم العالم بقطبية واحدة يشكل أهم القواعد الاستراتيجية للنظام الدولي الذي يخلص الأمة العربية من كابوس المشروع الإمبراطوري الأميركي. وهذا ما يستتبع العمل من أجل أن تفوز روسيا في صراعها مع أميركا.
وهنا نتجاوز موقفنا من حماية روسيا للنظام السوري لنضعها في دائرة منع انهيار الدولة السورية التي من الواضح أنها من أهم أهداف أميركا وحلفائها. كما نتجاوز الموقف الروسي الداعم لحكومة المالكي لأسباب مصلحية روسية فرضه التحالف مع إيران حول أكثر من ملف. وعلينا أن نميز بين المصلحة الاستراتيجية الإيرانية في الهيمنة على العراق، وبين الموقف الروسي المرحلي الداعم لحكومة المالكي. وهنا نرى ما يلي:
1-مواجهة الوجود الإيراني في العراق بصفته احتلال فعلي. وعلى أن تُستخدم في المواجهة كل الوسائل والسبل، بصفة الصراع بالنسبة للعراقيين هو صراع تحرير وطني، لن يكتمل إلاَّ بتعزيل العراق من كل وجود أو تأثير إيراني.
2-بعد تشكيل (المجلس السياسي العام لثوار العراق)، يمكن استخدام كافة سبل وسائل الاتصال مع الحكومة الروسية، لتوضيح خطأ تدخلها لمصلحة حكومة المالكي لأنه مخالف لكل الأصول الشرعية والقانونية والدولية، وتوضيح لاشرعية التدخل الإيراني واعتباره احتلالاً بديلاً للاحتلال الأميركي. وإنه بسبب كل ذلك لن تبقى مصلحة روسيا مستقرة بالتحالف مع حكومة غير شرعية. كما لن يضمن استمرارها الاحتلال الإيراني لأنه تتم مواجهته بمقاومة عراقية لن تهدأ إلاَّ بتحرير العراق، ولكل ذلك فإن مصالح روسيا تبقى مهتزة طالما ظلت تستند إلى حكومة عراقية مهتزة لأنها حكومة شكَّلها الاحتلال الأميركي، وطالما ظلت تستند إلى احتلال إيراني مهتز لأن نهايته إلى زوال طال الوقت أم كان قصيراً.
3-الطلب من الحكومة الروسية الاعتراف بكل المؤسسات الثورية التي شكلتها قيادة الثورة العراقية.
وهنا، ولأن مستقبل الأوطان لن تضمنه إرادات القوى الكبرى، بل هي الشعوب التي تضمنه، يبقى نضال الشعب العراقي هو الذي سيفرض نفسه على إرادات تلك القوى. ولأن الثورة العراقية قد ابتدأت ولن تتراجع تبقى هي الفعل الذي سيفرض على الدول القرار الذي ستتخذه حفاظاً على مصالحها، وخاصة الدول الكبرى والإقليمية. وكلما استطاعت مخابرات تلك الدول أن تلتقط إشارات انتصار الثورة العراقية، فستفرض هذه الثورة على روسيا وغيرها القرار النهائي السليم الذي عليها أن تتخذه بالنسبة للعراق ومستقبله.

ليست هناك تعليقات: