إنتهى فصل تضخيم الدور الأصولي الإسلامي في
العراق
وابتدأ فصل الخطر العنصري الأميركي
أصبح من الواضح أن الحملة الإعلامية الواسعة التي شنَّتها وسائل الإعلام
الأميركية والإيرانية ضد الخطر الأصولي الإسلامي بالمصطلح الأميركي، والخطر
التكفيري بالمصطلح الإيراني، كانت تمهيداً لعمل عدواني جديد تعدُّ له الولايات
المتحدة الأميركية والنظام الإيراني ضد العراق، وليس ضد غيره على الإطلاق. وإلاَّ
لو كانت الغاية شنَّ الحرب على (الخطر الأصولي الإسلامي)، لكان ذلك يوجب على الولايات
المتحدة الأميركية أن تشنَّها منذ أن استفحل دور تلك التنظيمات على الساحة السورية،
بعد بدء الحراك الشعبي بفترة قصيرة. ولأنها لم تفعل ذلك، بل شجعته، لكان من
المنطقي أن نضع الكثير من علامات الاستفهام التي تفتش عن جواب عن حقيقة تلك
المخاوف.
لقد استهلك الإعلام الأميركي والإيراني استخدام مصطلح (القاعدة)، إلى الحد
الذي مجَّه الرأي العام ولم يعد يصدقه، فلجأ الإعلام المذكور إلى ابتكار مصطلح (التخويف
من خطر داعش). ولكن هذا لا يعني أن التنظيم المذكور لا وجود له، بل هو موجود، ولكن
ما يُنسب إليه يفوق حجمه الفعلي أضعافاً على أضعاف. وهذا ما يطرح التساؤلات التالية:
لماذا استخدم الإعلام الأميركي وسائل تضخيم دور التنظيم المذكور؟ ولماذا تم حصره
في الموصل وجبل سنجار، أي المناطق القريبة جداً من إقليم كردستان؟ ولماذا أغفل
الإعلام أيضاً الدور الإجرامي الذي تقوم به تنظيمات أخرى أُسِّست لحماية القوى
التي تتشكل منها (العملية السياسية)؟
أن يبدأ الإعلان بشكل واسع عن
المخاوف، بعد أن أنجزت الثورة العراقية أهم مراحلها بتحرير الموصل يعني أن هناك
ترابطاً وثيقاً بين المسألتين: الشعور بخطر الثورة العراقية على العملية السياسية
في العراق، ومسألة دق ناقوس الخطر من الزحف الأصولي. لذلك لم يضخِّم الإعلام
الأميركي والإيراني حجم الإرهاب (الأصولي) – (التكفيري) قبل تحرير الموصل، بل كانت الإشارة إليه تتم
لتبرير حملات القمع الدموي التي أعلنتها (حكومة المالكي) ضد مدن الأنبار المنتفضة
سلمياً. في تلك المرحلة لم يكن في حسابات الثنائي الأميركي – الإيراني، أن الثورة
الشعبية المسلحة ستندلع في أنحاء محافظات الأنبار ونينوى، لذلك لم يعدوا لحملة
القمع أكثر من الإعلان عن تقديم الدعم السياسي وتوفير الأسلحة والعتاد للجيش
الحكومي وميليشياته، وكانت غايتهما من وراء ذلك هو التعتيم على ثورة شعبية عارمة.
ولكن بعد أن جاءت نتائج الحملة الدموية بالعكس من حساباتهم، لأن الثورة العراقية
راحت تلحق الهزيمة تلو الأخرى بالقوات الحكومية، فراح الطرفان المتحالفان يعيدان
حساباتهما من أجل رفع وتيرة الدعم ونوعيته.
لقد شكل تحرير الموصل، بالطريقة والسرعة التي حصل فيها، المفاجأة الكبرى لهم جميعاً. فكان لا بدَّ من
الإعداد لمواجهة الموقف بطرق ووسائل أخرى، وأظهرت نتائج الوقائع أن قرار التدخل
العسكري المباشر أصبح أمراً لابد منه من أجل إنقاذ العملية السياسية التي أخذت
تتهاوى بسرعة، خاصة أن قوى الثورة العراقية أصبحت على أبواب بغداد بعد تحرير ما
يشكل الستين بالمائة من مساحة العراق.
بعد تلك اللحظة، وإذا كان التدخل الإيراني يحتاج إلى قرار المرشد الأعلى
فقط، فإن للتدخل الأميركي ملابسات وإشكاليات لا يمكن للإدارة الأميركية أن تقرره
إلاَّ بعد مروره بعدد من الأقنية، يأتي في المقدمة منها إقناع الرأي العام
الأميركي أولاً. وتعبئة الرأي العام الدولي ثانياً. ودفع القوى الدولية والعربية
والإقليمية للمشاركة بتنفيذ القرار ثالثاً.
وتسلسل المراحل التي تسبق اتخاذ قرار، كما هو وارد أعلاه، تم تكراره للمرة
الثالثة ضد العراق. فكانت تجربة العدوان الثلاثيني في العام 1991 هي التجربة
الأولى، وتجربة العدوان على العراق واحتلاله في العام 2003 كانت الثانية، وما يجري
الإعداد له بعد تحرير الموصل يُعتبر عدواناً أربعينياً جمهر فيه جون كيري أكثر من
أربعين دولة تحت هدف خادع هو هدف (محاربة الإرهاب). لذا كان الإعلان غطاءً لهدف
مستتر هو القضاء على الثورة الشعبية العراقية.
إن جميع تلك التجارب كانت تسبقها وسيلة التعبئة والتحريض. وفي كل مرة كانت الإدارة
الأميركية تبتكر قضية محورية لها جاذبية وتأثير على عواطف الرأي العام لتشكل مادة لوسائل
إعلامها تقوم بتكرارها حتى تترسَّخ في أذهان الرأي العام، ويصبح مقتنعاً بتنفيذ المخطط
الحقيقي دون أي رد فعل سلبي. وإذا كان استغلال دخول القوات العراقية للكويت شكَّل
محوراً للتعبئة، وشكَّلت الديكتاتورية وأسلحة الدمار الشامل والتعاون مع القاعدة محورها
في العام 2003، فإن محاربة الإرهاب الأصولي المتمثل بـ(بالدولة الإسلامية في
العراق والشام) كانت محور التعبئة الإعلامية في هذه المرحلة.
ولكي تحصل الإدارة الأميركية على تعاطف وتأييد من قبل الرأي العام الأميركي
خاصة، والرأي العام الدولي عامة، كان لا بد من إثارة قضية اضطهاد الأقلية المسيحية
في الموصل، والأقلية الأيزيدية في سنجار. هذا مع العلم أن (حماية الأقليات) تستدر
عطف الرأي العام، انبرت وسائل الإعلام الأميركية على النسج حولهما من حكايات وقصص
تثير النقمة والعطف. وبعد أن استوفت الإدارة الأميركية الغرض من استغلال القضيتين
المذكورتين، بدأت بمرحلة استقطاب التأييد الدولي والإقليمي والعربي من أجل تشكيل
تحالف واسع، يقدم الغطاء السياسي لعدوان أميركي جديد أولاً، والدعم المادي ثانياً،
وإذا تطلب الأمر العمل على زج قوات متعددة الجنسيات للتدخل البري في العراق
ثالثاً.
إذن، بعد التاسع من حزيران، أي اليوم الذي تم فيه تحرير الموصل، أثيرت
قضيتين: قضية إرهاب المسيحيين وقضية إرهاب الأيزيديين. ومن بعد أن استوفى التضليل
الإعلامي غرضه من تضخيم القضيتين، تناسى العالم والإعلام القضيتين الرمزيتين، بينما
كان من الواجب استكمال البحث عن مصير الطائفتين المضطهدتين. وإن هذا التناسي يؤكد أن
مسيحيي وأيزيديي الموصل لم يتعرضا للإرهاب بالدرجة التي صوَّرها الإعلام. وهذا ما
يؤكد أيضاً أن الاضطهاد لم يكن السبب، بل كان مدخلاً وغطاء لتمرير مخطط العدوان
الكبير الذي تعده إدارة أوباما ضد الثورة الشعبية العراقية المسلحة من أجل إنقاذ
(العملية السياسية) في العراق. وتثبيت قواعدها للاستمرار بنهب ثروات العراق
والهيمنة على موقفه السياسي واستثمار موقعه العسكري الاستراتيجي، وبالتالي لكي
يستكملوا مخطط تقسيمه إلى أقاليم ثلاث، يكون مقدمة ضرورية لتنفيذ مشروع الشرق
الأوسط الجديد.
وتستمر جولات جون كيري المكوكية، وتجد استجابة من قبل أنظمة العرب الرسمية
من دون نقاش أو اعتراض. ونُقل عن أوساط مقرَّبة من مؤتمر جدة، الذي عُقد في أوائل
شهر أيلول 2014 برعاية أميركية، أنه عندما سُئل أحد كبار الضباط الأميركيين
المشاركين بالمؤتمر عن (داعش) أجاب: لقد انتهى دور داعش، وجاء دورنا.
إن هذا التصريح جاء ليؤكد أن التضخيم الإعلامي الذي سبق المؤتمر، كانت
مسرحية وضع فيها فصل لداعش، وقد انتهى الدور الصوري لها ليبدأ الدور الحقيقي للكاوبوي
الأميركي.
وأما هل ينجح أوباما بإتمام هذا الدور، فنقول: تلك مسألة أخرى جوابها عند
الثورة الشعبية العراقية المسلحة. وهي كما أتقنت الرد على مزاعم جورج بوش ومخططاته
وعدوانه واحتلاله، ستتقن الرد على أوباما بالطريقة التي لن تعجبه أو ترضيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق