الأحد، يناير 11، 2015

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة (3/ 11)


أوراق قديمة أنشرها لأول مرة

وموضوعها:

حوارات ومناقشات حول كتابات حسن خليل غريب

(المناقشة الثالثة)

(3/ 11)

وهذه الحلقة الثالثة، وجاءت تحت عنوان: (مرةً أخرى: توضيحات حول كتاب الردة في الإسلام)، وهي المطالعة الثانية التي كتبها مشكوراً الأستاذ وليد شحيتلي. ويعود تاريخها إلى 5/ 3/ 2002. وقد أرفقتها بالتوضيح الذي كتبته رداً عليها.


مرةً أخرى: توضيحات حول كتاب الردة في الإسلام

وليد شحيتلي

بدايةً لا بُدَّ من توجيه كلمة شكر لكم على الإطراء الذي كتبتموه لي، وبالتأكيد هذا الإطراء سيكون له نتيجة إيجابية دافعة للأمام.

حقيقة كنت متردداً في كتابة تعليق عما قرأت، ولكن ما عندي من ملاحظات على ما ورد في كتابكم دفعني لكتابة بعض من النقد. هذه كانت بداية كطفل يخطو خطوته الأولى في المشي بعد تردد، فيلاقي التشجيع والتهليل من أهله لكي يخطو خطوته الثانية. الأهل هنا، من حيث النسب والدم، بالنسبة لك أنت الأهل في العلم، والمعرفة، والخبرة والتجربة، والاطلاع على مجريات الأمور.

فالخطوة الأولى كانت بتشجيع من نفسي متردداً بها، لأنني أجهل الأستاذ حسن غريب، وكيف سيتقبَّل الرد. وهل سأكون بالشكل العام ضمن الرد المطلوب؟ كنت متردداً ومتردداً إلى أن استلمت ردكم، فدفعني لأخطو خطوتي الثانية.

كما أن ردي هذا أرجو أن لا يُفهَم بأنه رد على رد، وتعقيب على تعقيب، وندخل في باب السجال، ولكن كان في ردكم ما يُثير الرد. كما أشكر لكم طباعة ما كتبته لكم وإرفاقه بردكم.

بدايات لا بُدَّ منها، منقولة عن القرآن الكريم:

نــوح

)إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (نوح:1) )قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (نوح:2) )أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (نوح:3) )يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح:4) )قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً) (نوح:5) )فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً) (نوح:6) )وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) (نوح:7) )ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً) (نوح:8) )ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) (نوح:9) )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح:10) )يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) (نوح:11)  )وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:12) )مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح:13) )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (العنكبوت:14) )فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (العنكبوت:15)

عــاد

)كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:123) )إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:124) )إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء:125) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:126) )وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:127) )أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء:128) )وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء:129) )وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء:130) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:131) )وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ) (الشعراء:132) )أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) (الشعراء:133) )وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الشعراء:134) )إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء:135) )قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) (الشعراء:136) )إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:137) )وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (الشعراء:138) )فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:139) )وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:140)

)كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:18) )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (القمر:19)

ثمـــود


)كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:141) )إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:142) )إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء:143) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:144))وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:145) )أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ) (الشعراء:146) )فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الشعراء:147) )وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) (الشعراء:148) )وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ) (الشعراء:149) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:150) )وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (الشعراء:151) )الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء:152) )قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (الشعراء:153) )مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الشعراء:154) )قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (الشعراء:155) )وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء:156) )فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) (الشعراء:157) )فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:158)

هــود

)فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65) )فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (هود:66)

وكذلك قصة ابراهيم الخليل مع قومه، ولوط مع قومه، وشعيب مع قومه وأوردت هذه القصص الخاصة بالأنبياء، وكيفية تعاملهم مع قومهم على سبيل المثال لا الحصر.

التساؤل: لماذا لم يورد آية واحدة تأمر هؤلاء الأنبياء بالقتال؟

لماذا كان الحوار دائماً هو الأساس؟

لماذا كان الوعظ والإرشاد والدعوة بالتي هي أحسن هي الأساس؟

وما يتم ملاحظته، من خلال النص القرآني، بأن الله كان يمهل فترة زمنية قصيرة إن هم عصوا، وكان القصاص يأتي مباشرة.

لماذا أمر الله الرسول محمد بالحوار والقتال دون بقية الأنبياء؟

لماذا لم يحاسب الله المسلمين كما حاسب بقية الأقوام؟



  1. ورد في الصفحة 13/ السطر 19 من ردّكم: «لقد ساويت أنت بين الحوار والإكراه عندما قلت: بأن الحوار قيمة ثابتة، والقتال قيمة ثابتة، ثم ترابط الحوار والقوة قيمة ثابتة. فكيف تستقيم الأمور عندما توازن في المبدئية بين متناقضين؟».

من المعروف في حقل المناقشات، أن تقنع المقابل بالبديهة أو المسلمات لأنها من أصعب الأمور إثباتها بسهولة. والحقيقة أتّفق معك فيها، أن السلام هو الأصل والحرب استثناء. الحوار هو الأصل والإكراه استثناء. الحرية هي الأصل والعبودية استثناء. الديموقراطية هي الأصل والديكتاتورية استثناء.

على الرغم من تضاد المفردات، من حيث معناها ومفهومها، إلاَّ أنها على علاقة مع بعضها ولو بخيط رفيع، لأن الديموقراطية بمفردها لا تستقيم ما لم تتلازم مع شيء من الحزم [ديكتاتورية] في الأمور المهمة والخطيرة في ضبط المجتمع أو الدولة. والديكتاتورية لا تستقيم لوحدها ما لم تتلازم بشيء من الحرية، والتجارب أثبتت ذلك.

1-أما المتناقضات: الخير والشر، الشجاعة والجبن، المادة والروح، القوة والضعف، الكرم والبخل، الصدق والكذب، الحرية والديكتاتورية، الحوار والإكراه، الحق والباطل، الوفاء والخيانة ليس كل الناس أخيار وليس كلهم أشرار، ليس كل الناس على درجة واحدة من الشجاعة والجبن، ولا كل الناس ماديين [وإن الغالبية العظمى هكذا] ولا كل الناس روحانيين، ليس كل الناس كرماء أو بخلاء، ولا كل الحكام في عقر دار الحكام، الذين يدَّعون الديموقراطية، ما لم يمارسوا شيئاً من الديكتاتورية تفلت زمام الأمور من أيديهم.

مثــلاً: المادة والروح لا يلتقيان، ولكنهما اجتمعا في تكوين الخالق للإنسان. فالإنسان جسمه مادة والروح تسكن فيه وتحركه، فتلاقي الروح والمادة تجلّى في أروع معانيه. فليس كل التضادات معيبة بحق بعضها البعض، ولكنها قد تكون مكملة لها في جانب معين. لكن الإسراف في ناحية واحدة، على حساب الأخرى، تظهر لنا قباحة الضد.

على العموم، هذه صفات موجودة داخل الإنسان، ولها دور فعال في تكوينه، لا نستطيع الهرب منها إذا أردنا الإنصاف. أما لماذا خلقها الله فينا؟ هذا السؤال ليس محاسبة منا لله تعالى، ولكننا في صدد تعاملنا مع هذه الحالة من الخلق، لكي تثبت لنا عظمة هذا الرجل عن ذاك، وتميز هذا الرجل عن ذاك. والذي يستطيع التحكم في هذه المتناقضات داخل نفسه، وموازنتها مع بعضها، مع تغليب جزئي أو نسبي للضد، يكون هذا الرجل قائداً عظيماً، ويكون له دور ومكانة في التاريخ.

2-توجد أحزاب سياسية، منها من يرفع شعار الحرية في التعامل الداخلي للأحزاب، ومنها من يرفع شعار المركزية، ومنها من يرفع شعار الديموقراطية المركزية، وهذا شعار تعرفه جيداً، فكيف تمَّ جمع المتناقضين: ديموقراطية ومركزية؟

3-إن الإيمان والكفر صنوان منذ بدء خليقة البشرية حتى الآن. فحياة الإيمان والكفر متداخلتان، فتارة يخرج أهل الإيمان من أهل الكفر، وتارة يخرج أهل الكفر من أهل الإيمان. مثل )تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( (آل عمران:27).

ولو رجعنا إلى كتاب الله، القرآن الكريم، لوجدنا العديد من الآيات التي تشير إلى ذلك. فلا حياة مطلقة الكفر على الأرض، ولا حياة مطلقة الإيمان على الأرض.

فالحياة مطلقة الإيمان تكون في الجنة لا يتسلل إليها الكفر: )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الحجر:45) )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الذريات:15) )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (الطور:17) )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (القمر:54) )ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) (الحجر:46) )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47) )لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر:48) )وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر:73)

        ولا حياة مطلقة الكفر إلاَّ في النار: )وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71).

ولا يستطيع أهل الكفر من الدخول إلى الجنة، ولا يستطيع أهل الإيمان من الوصول إلى النار، لأن الله، في هذه الحالة، يكون الفيصل مباشرة، ووضع كلاً حسبما وعد. فالجنة للمؤمنين، والنار للكافرين. فلا دور للشيطان إلاَّ في هذه الحياة.

إن حياة الإيمان والكفر هنا متداخلة، فعند طغيان الكفر كان الله سبحانه وتعالى يتدخل بطريقة غير مباشرة من خلال رُسُله وأنبيائه، ومن خلال ما يُؤمَرون به، ويبشرون به: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبادة الله دون سواه. وهذا ما حصل مع قوم نوح، عندما عمَّ الشر والكفر أرسله الله إلى قومه فأمرهم ما أمر به الله. فكانوا يحاربونه، وعندما أمره الله ببناء الفلك كان قومه يستهزئون به إلى أن أتى أمر الله، وفار التنور، وفاضت الأرض بمائها، فنجاه الله والمؤمنون معه، أي إن الذين معه كانوا مؤمنين، ولا وجود للكفر في قلوبهم. ولكن مع مرور الزمن ووسوسة الشيطان خرج الكفر منهم، أي خرج الكفر من الإيمان. كذلك خليل الله، كان والده كافراً )وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ( (التوبة:114). وكان قومه كفاراً يعبدون الأصنام والكواكب. لكن الخليل كان يؤمن بالله الواحد الأحد. وهكذا خرج الإيمان من الكفر. وأيضاً خاتم الأنبياء والرسل محمد (ص)، كان يعيش بين قوم يعبدون الأصنام، ويتبرّجون تبرجاً قوياً، وكان الفسق والفجور سائداً، لكننا نراه خارج هذا الواقع، أي أن الإيمان خرج من الكفر. وهكذا الحال مع بقية الأنبياء ومن اتّبعهم إذا رجعنا إلى قصصهم. ويوجد تبادل حال بين الإيمان والكفر، لكن الغلبة ستكون للكفر على الأرض بانتهاء الرسل إلى أن يضع الله أمره.

4-لولا التناقض لما عرفنا غنى التنوع. فلولا الرأسمالية لما عرفنا الشيوعية، ولولا الفكرة الشيوعية لما عرفنا الفكرة القومية، ولولا الجمال لما عرفنا القبح، ولولا الصدق لما عرفنا الكذب. فالخلق على حال واحد تحرمنا من معرفة المعنى الآخر. ولولا هذا التناقض لما عرفنا معنى الحياة، لأنها ستكون بلون واحد. فالخطأ ليس في المتضادات، لكن الخطأ في الإنسان الذي يتعامل مع هذه المتضادات.

 

  1. ورد في الصفحة 10 فقرة 5 من ردكم «لا بُدَّ، قبل أن نبدأ بالحوار، من أن نتَّفق على المنهج. فإذا كان المنهج قائماً على قاعدة تكبيل حرية المتحاورَين بنصوص مُنزَلَة من الله، فمن العسير عليهما أن يقفا أمام إشكالية التفضيل بين ما يقوله الله وما يقوله الإنسان. لأن نتائج الحوار لا بُدَّ من أن تكون لصالح ما يقوله الله وما يأمر به». إن الرد هنا:
    1-بالتأكيد لا يستطيع الإنسان أن يقف نداً لله سبحانه وتعالى، لأنه خاسر لا محالة. ولكن الإنسان يستطيع أن يتكيّف بتعامله مع ما أنزل الله. وأنا في ردي حاولت البقاء على الصلة الروحية بالله وما أنزله لنا، وأن أكون في صف الإيمان، بغض النظر عن الشوائب التي ترافقت مع نشر وانتشار الرسالة الإسلامية.
    2-لا أحد يستطيع إجبار أحد على تكبيل حرية العقل من خلال نقل النص. بمجرد مناقشة النص واستخلاص النتائج، والتساؤلات، نكون قد خرجنا عن تكبيل أنفسنا، بالنقل والنص، وأطلقنا العنان للعقل لكي يتفاعل مع ما يقرأ.
     

  1. ورد في الصفحة 11 الفقرة 10 من ردكم ما يلي: «فإذا ما كنا من القانعين بصحة هذا الاستنتاج تصبح الشريعة غاية لا وسيلة، ويصبح الإنسان هو الوسيلة التي نؤهلها لخدمة الشريعة وليس العكس. فلمن يكون الله قد خلق هذا الكون، أمن أجل سعادة الإنسان أم أنه خلق الإنسان ليطبق الشرائع، حتى منها التي لا يرى أنها تمتلك المبررات العقلية والمصلحية الكافية؟».

هنا، لا بُدَّ من الإشارة إلى أن الشريعة غاية ووسيلة. فغاية الشريعة خدمة الإنسان وتفصيل الحياة له من حيث المحلَّل والمحرَّم، ووسيلتها الإنسان. لأن لا شريعة بدون إنسان ولا إنسان بدون شريعة، أكانت شريعة شرعية، أو شريعة وضعية. ثم إذا لم يخدم الإنسان الشريعة فمن يخدمها؟ وإذا لم يقم الإنسان بنشر الشريعة فمن يقوم بنشرها؟ فالشريعة والرسل خاصية الإنسان لا الحيوان. فالحيوان شريعته شريعة الغاب، وهو يعيش ليأكل ولا علاقة له بالقيم. أما الإنسان فيأكل ليعيش لكي يقوم بواجبه كإنسان.

إن طرحكم هذا يذكّرني بشعار: أعطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. أو الدين لله والوطن للجميع. وهذا فصل كبير جداً ما بين الشريعة والإنسان. هل يجوز أن ندين بمذاهب مدنية لكي نكون متحضرين؟ وإذا آمنا بما أنزل الله، مع محاولة لعصرنته، نكون سلفيين رجعيين؟

 

  1. ورد في الصفحة 12 من ردكم ما يلي: «ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط والحكم؟ لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمه؟ ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟».
    القرآن الكريم عبارة عن عدد من السور؛ وكل سورة تحوي على عدد من الآيات، ولا يمكن حذف أي آية من القرآن الكريم لمجرد وجود الناسخ والمنسوخ. والحكمة من النسخ هي تبدل ظروف التنزيل. وأصبح هناك نقلة بالمجتمع، وإن الآية قد خدمت ما أريد منها. فإذا حذفنا من القرآن ما نسخ خطه وحكمه، وما نسخ حكمه وبقي خطه، وما نسخ خطه وبقي حكمه، فماذا يبقى لنا من القرآن؟ وهذا دليل على أن تنزيل القرآن متبدل مع تبدل الظروف والأحداث.

  1. ورد في الصفحة 13 السطر 19 من ردكم ما يلي: «فكيف تستقيم الأمور عندما توازن في المبدئية بين متناقضين؟». لقد ساويتم واستسهلتم بردكم بين متناقضات إيمانية عندما قلتم في الصفحة 13 السطر 5: أما حول الاستغراب الذي عبَّرت عنه النتيجة التي توصلت أنت إليها يا صديقي: «إنه لتناقض كبير في الإيمان داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة» إذا تعددت أنواع الإيمان.  وما هو وجه الغرابة في ذلك؟

إن وجه الغرابة في ذلك: ما الذي يربط المسلم مع اليهودي؟ من الناحية الدينية والشرعية والإنسانية. إنه لتناقض كبير في الإيمان، وتحاولوا أن تجمعوه، ولا ممكن جمعهم مع بعضهم، واستسهلتم جمعهم مع بعضهم، واستصعبتم الجمع بين الحوار والإكراه، والديموقراطية والديكتاتورية، مع أنه من الممكن الجمع بين الديموقراطية والديكتاتورية؟

أتريدنا أن نكون أخوة للذين طردوا شعباً من أرضه، ويرتكبون المجازر يومياً بحقهم؟

لا أريد الفصل، هنا، بين اليهودي والصهيوني، لأن اليهودي توراته تأمره بذلك. وبهذا أصبحت اليهودية والصهيونية حالاً واحدة.

لقد ورد في كتاب مفصل العرب واليهود في التاريخ للدكتور أحمد سوسه، وهو يهودي، ط 5: ص 48: وقع في الباب التاسع عشر من سفر التكوين أن لوطاً عليه السلام زنى بابنتيه (والعياذ بالله تعالى) وحملتا منه وقع في الباب الحادي والعشرين من سفر صموئيل الأول من أن داوود عليه السلام ما عمل بامرأة أوريا وحملت منه بالزنى فقتل زوجها بالحيلة وتصرَف فيها. وما وقع في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول: أن سليمان عليه السلام ارتد آخر عمره بترغيب أزواجه، وعبد الأصنام، وبنى لها معابد، وسقط من نظر الله

كما ورد في الصفحة 352 من كتاب الدكتور سوسه، الفقرة 4: إقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر، إقتلوها. لكن جميع الأطفال والنساء الواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر إبقوهنَّ لكم حيَّات. [سفر 3 - 17 - 18].

أو ليس اليهود هم الذين صلبوا المسيح، ويدعون لنفسهم بأنهم أصل الديانات بالدعوة إلى التوحيد، وفضلهم على المسيحية والإسلام؟

أوَ ليس عوفيديا يوسف، أحد كبار الحاخامات، صرَّح: أقتلوا العرب بالصواريخ والدبابات؟

أنريد أن نؤمن بقتل أنفسنا؟ أبهذا نريد أن نؤمن ونطعم الإيمان داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد؟

إنها لدعوة غريبة لتوافق بين معتقدين؟ إستسهلتم جمع التناقضات في الدين، داخل الأسرة الواحدة، واستصعبتم جمع التناقضين: الحوار والإكراه؟

1-من الناحية الشرعية التي التزم بها القرآن، أعلن رفضي لمبدأ تعدد الإيمان داخل البيت الواحد تحت أي مسمى كان. وقد جاء في القرآن الكريم: )وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120).

2-من الناحية العملية مرفوضة أيضاً، لأننا نرى ما حصل في البلد من تمزق طائفي، وما نعانيه من تعصب على صعيد لبنان كله. والأسرة الواحدة هي من الأسس في بناء الوطن، لأننا سننشئ من الأسرة الواحدة جيلاً متعدد الإيمان، متشبع بترسبات التاريخ وتعصبه التي لا حلَّ لها. إضافة إلى ذلك: إن التوزيع الطائفي الحالي، و التعصب الحالي، أفضل وأرحم من حالة التعصب التي ستنشأ من داخل الأسرة الواحدة المتعددة الإيمان والمعتقد.

3-إن هذا الطرح (تعدد الإيمان داخل الأسرة الواحدة)، ممكن في حالة واحدة مثالية مطلقة، خلق الإنسان الجديد، المسلم والمسيحي واليهودي مجرد من عواطف ما حدث في التاريخ وترسباته؛ بمعنى: يجب أن يتم محو ذاكرة ما حدث من حروب على مر الزمن بحق الطوائف مع بعضها البعض، إضافة إلى وقف القدح بمعتقدات البعض والاعتراف بها.

-ورد في الصفحات 5 و6 و7 لكتاب القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم لموريس كاي: لكن اليهودية لا تعترف بأي وحي جاء بعدها (ص 5 سطر 15).

-إن المسيحية، بدورها، لا تعترف بأي وحي جاء بعد المسيح وحوارييه، ولذلك فهي تستبعد القرآن (ص 6 سطر 2).

-وهكذا فإن الاستعمال السائد حتى اليوم في التسميات، مثل (الدين المحمدي) و(المحمديون)، ليدل على الرغبة في أن تظل النفوس مقتنعة بذلك الرأي الخاطئ القائل بأن تلك معتقدات انتشرت بفضل جهاد رجل (ص 6 سطر 14).

-زيادة على ذلك، هناك بعض أوساط مسيحية تحتقر المسلمين (ص 6).

-لاحظت أن هناك رفضاً باتاً للنظر بعين الاعتبار، ولو لمجرد التأمل، فيما يحتويه القرآن مما يتعلق الدراسة المزمعة، كان الرجوع في ذلك إلى القرآن يعني الاعتماد على الشيطان (ص 7 سطر 2).

-فكثير من المسيحيين، الذين تربوا في ظل روح عدائية صريحة، هم مبدئياً أعداء لكل تأمل في الإسلام. ولذلك فإنهم يظلون في جهالة لحقيقة الإسلام، وبالتالي فإن مفاهيمهم عن الإسلام مفاهيم مغلوطة لا شك فيها.

-ورد في الصفحة 137 السطر 7: هناك واحدة من تلك النظرات التعسفية على قدر بالغ الأهمية، فهي تقود إلى الاستخدام المنهجي في لغتنا لكلمة (Allah) للدلالة على إله المسلمين في الفرنسية، كما لو كان المسلمون يعبدون إلهاً غير إله المسيحيين. إن كلمة (Dieu) تعني بالعربية الله تعالى، والمقصود بها الله الواحد

-ورد في الصفحة 137 السطر 17: من هنا نفهم احتجاج المسلمين على العادة شديدة الشيوع، وهي النقل الحرفي في اللغات الأوروبية للفظة (Allah) بدلاً من الترجمة بكلمة (Dieu) الفرنسية.

-ورد في جريدة السفير، في الصفحة الأخيرة، بتاريخ 23 / 12/ 1998م، تحت عنوان: الإيرانيون احتفلوا بعيد الشتاء وأحيوا الليلة الأطول في العالم. وجاء في تفصيل الخبر ما يلي: احتفل الإيرانيون ليل الإثنين - الثلاثاء بعيد بداية الشتاء (يالدا)، وهو عيد للزرداشتية، دين فارس القديم، عمره آلاف السنين، صادف هذه السنة مع بدر شهر رمضان. وتعني كلمة (يالدا) الليلة الأطول في السنة وهي تعلن نهاية الخريف وبدء فصل الثلوج وللعيد الذي يحتفل به الإيرانيون، بصخب منذ القدم، على اختلاف مشاربهم العرقية والاجتماعية بعض القداسة. وهو مناسبة لهم لتمضية الليل ساهرين مع الأهل والأقارب، يروون الحكايات وينشدون قصائد الشعر الشعبي.

ويقضي التقليد في عيد (يالدا) بتناول فاكهة صيفية مثل البطيخ الأصفر أو طبق (كربوزة9، وهو خليط من البطيخ الأصفر السكري والعنب والفاكهة المجففة.

وتؤكد الكتب القديمة أن من يبدأ الشتاء بأكل فاكهة صيفية لا يمرض أبداً خلال فصل البرد. ويقول بعض المؤرخين إن كون (يالدا) ليلة مقدسة فإن العائلات تجتمع فيها لإبعاد الوحدة وطرد الأرواح الشريرة. ولكن ليلة هذا العيد ليست أطول من سابقتها بأكثر من ثانيتين أو ثلاث ثوان. وأمس تحدثت الصحف جميعها عن هذا العيد لكن بضجة أقل من السنوات الماضية، ويبدو أن السبب هو تزامنه مع شهر الصوم الذي يبدأ لتوه.

وقد تحفظت وسائل الإعلام الإيرانية عن نقل الكثير من أصداء العيد، ربما لأسباب اقتصادية أيضاً، إذ يدفع (يالدا) على غرار جميع الأعياد الزرادشتية، التي يحتفل بها في إيران، السكان إلى الإنفاق ويقول زرادشتيو إيران، الذين لا يتجاوز عددهم اليوم خمسين ألفاً، أن زرادشت ولد تحت عرش سليمان في أذربيجان الإيرانية، في العام 1737 ق. م. ودفن في المزار الشريف في شمال أفغانستان.

إستنتاج:

عند قراءة هذا المقال، تبدو وكانك أمام حكاية من التراث الشعبي، ولكن أقف عند هذا المقال وأقرأ فيه وأرى فيه ارتباط الفرس بزرادشت:

أ-لا يوجد في الإسلام سوى ليلة واحدة مقدسة، وهي ليلة القدر، وليس ليلة (يالدا)، لأنها أطول من سابقتها بثلاث ثوان. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الليلة بسورة القدر: )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) )وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر:2) )لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) )تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) )سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر:5)

ب-لا يتم طرد الأرواح الشريرة وإبعاد الوحدة، من الناحية القدسية، بأكل البطيخ، أو الفاكهة الصيفية في الشتاء، لأن القدسية الشرعية الإسلامية تتم من خلال التمسك بكتاب الله وقراءته وترتيله، والتقرب إلى الله بالصلاة والدعاء والقيام بالأعمال الحسنة.

ت-لا يوجد شهر فضيل سوى شهر رمضان لأنه فريضة على المسلمين، وفيه أنزل القرآن.

ث-لا توجد أيام تتمثل بالقدسية سوى أيام الحج، حيث لا فسوق ولا جدال، ولا رفث. وقال الله تعالى: )الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197).

ج-إن الأعياد الرسمية الإسلامية، هما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وإن هذه الأعياد قضت على أي عيد آخر.

ح-على الرغم من ضآلة عدد الإيرانيين الذين يدينون بدين زرادشت، دين فارس القديم، قياساً إلى عدد سكان إيران، إلاَّ أن الإيرانيين -على مختلف مشاربهم- احتفلوا بالعيد، ولم يقل احتفل الزرادشتيون الخمسين ألفاً بعيدهم. وهذا دليل على:

- يحتفظ الإيرانيون بزرادشت في داخلهم على الرغم من اعتناق الإسلام.

- أن الإيرانيين ما زالوا على تمسكهم بعاداتهم وتراثهم ودينهم القديم على الرغم من اعتناق الإسلام. و لا بُدَّ من التذكير بأن الفرس هزموا على يد العرب المسلمين في معركة القادسية على يد سعد بن أبي وقاص، وهذه عقدة كبيرة بالنسبة لهم، لأن صرح إمبراطوريتهم التي تغنوا بها كانت قد دُكَّت بتلك المعركة، وما زالت ذاكرتهم تحتفظ بها، وحنينهم يزداد إليها، وهذا ما نراه في خطب رجال الدين السياسيين.

كما أرجو أن لا يتم الدخول في هذه الواقعة من باب الديموقراطية، والتعبير عن الرأي أو الاعتقاد، لأني أرى من وجهة نظري لا صلة له بهذا بقدر صلته المجوسية الفارسية بالماضي الذي انهار على يد العرب.

4-إن تعدد الإيمان داخل الأسرة الواحدة، لم يُطرَح على أي صعيد ديني، من أي طائفة، بل جميع الأديان السماوية تعتبر أي إنسان يخرج عن دينه -دين الآباء والأجداد- مرتد يجب قتله، وهذه صفة مشتركة لهذه الأديان. أما بالنسبة لليهودية فحدِّث ولا حرج:

ورد في الصفحة 66 من كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - الطبعة الثانية - للكاتب غارودي: إن هذه التنقية العرقية، التي تتم بصورة منتظمة في دولة إسرائيل اليوم، تنشأ من مبدأ صفاء العرق، بمنعها خلط الدم اليهودي (بالدم القذر) للآخرين، أي كل الناس. وهكذا فإن إله اليهود يطلب من موسى أن لا يتزوج شعبه من بنات هذه الشعوب، مجارياً في ذلك سلوك الذين يتَّبعون أمر الله بالقضاء على كل الشعوب التي يسلمها إليهم [الخروج XXXIV: 16].

ونجد في سفر التثنية في 3 من الإصحاح السابع هذه الآية: (ولا تصاهرهم، بنتك لا تعطيها لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك). ومن المصدر نفسه في الصفحة 67، ورد ما يلي: وفصل الغريب: [وكل الذين اتخذوا زوجات أجنبيات، طلقوهن مع أولادهن (عزرا: 10 - 44)].

وهكذا فقد تميز (يهوى) غيظاً من هؤلاء الذين انحرفوا عن حقيقته، وهي الحقيقة الواحدة الوحيدة بطبيعة الحال. ووقف (صوفونيا) ضد اللباس الأجنبي، وقال: رأيت يهوداً كانوا قد تزوجوا نساء أشدوديات وعمونيات ومؤابيات، ونصف كلام بينهم باللسان الأشدودي؛ ولم يكونوا يحسنون الكلام باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب، مخاصمتهم ولعنتهم، وضربت أناساً منهم، ونتفت شعورهم، واستحلفتهم بالله قائلاً: لا تعطوا بناتكم لبنيهم، ولا تأخذوا من بناتهم لبنيكم، ولا لأنفسكم. أليس من أجل هؤلاء أخطأ سليمان، ملك إسرائي، ولم يكن في الأمم الكثيرة ملك مثله. وكان محبوباً إلى إلهه، فجعله الله ملكاً على كل إسرائيل. هو، أيضاً، جعلته النساء الأجنبيات يخطئ. فهل نسكت لكم أن تعلموا كل هذا الشر العظيم، بالخيانة ضد إلهنا، بمسكنة نساء أجنبيات [نحميا: 13, 23 - 25].

ورد في الصفحة 69 من المصدر نفسه: وعندما لاحظ المشرع اليهودي عرا كان كثير من اليهود قد تزوجوا نساء أجنبيات، فإن هذه الزيجات قد فُسخت، وكان ذلك أصل اليهودية، التي بقيت نقية بفضل هذه القوانين العرقية، على مدى قرون كثيرة

وورد في الصفحتين 246 و247، في ليلة 2 آذار 1984م: نبش قبر امرأة ورُميت الجثة خارج المقبرة اليهودية، وسرعان ما أعلنت الطوائف اليهودية في العالم أجمع: إنه عمل بربري من أعمال اللاسامية. وبعد بضعة أيام كشفت الشرطة الإسرائيلية، بعد التحقيق عن المعنى الحقيقي لهذه الحقارة أن الجثة التي عُوملت على هذا النحو المخزي كانت جثة السيدة (تيريزا أنجلويكز) زوجة يهودي، لكنها من أصل مسيحي. واعتبر الأصوليون اليهود وجودها في المقبرة اليهودية مدنساً طهارة الأماكن. وكان حاخام (ريشون لتسيون) قد طالب بنبش القبر.

-فالسيد (جيرمون) الذي نبشت جثته ليلاً، والذي كان غرضاً لذلك التركيب المشؤوم للخوزقة، كان هو أيضاً مجرماً لأنه تزوج مسيحية، ونقلت جثته إلى قبر مجاور، قبر السيدة (أيما أولما) المجرمة هي أيضاً لأنها تزوجت كاثوليكياً. [المصدر: إسرائيل شاحاك: عنصرية إسرائيل، ص: 125 وما بعدها].

غداة يوم الديموقراطية في جامعة القدس العبرية، طرح طلاب السؤال الحقيقي التالي: لماذا لا تحتجون عندما تعلمون أن شارع (أرغون) في القدس، وفندق (هلتون) في تل أبيب قاما على مقابر مسلمة مهدّمة؟ [المصدر: طلاب المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية (ماتسبين) 2234 القدس].

-وكان المرتد عن المسيحية يتعرض، حسب ما ورد في الصفحة 316 من كتابكم للإرهاب الروحي والإرهاب الجسدي والحرمان الأكبر والحرمان الأصغر. وورد في الصفحة 319 من كتابكم أنه بلغ عدد الضحايا، ما بين الأعوام 1480 - 1508م / 885 - 913هـ، فإحرق 31912 وعُقب 291494 شخصاً. كما ورد في الصفحة 318: وقد سنَّ البرلمان الإنكليزي، قوانين أشد صرامة ضد الكاثوليك، تصل إلى حدود الإعدام؛ فكان الارتداد إلى الكاثوليكية -حسب القانون الإنكليزي، الصادر في العام 1581م / 989هـ، خيانة عظمى يعاقب عليها بتهمة الخيانة العظمى. وكل من يمتنع عن حضور الصلوات الأنجليكانية يُعاقَب بدفع عشرين جنيهاً في الشهر.

أ-فالارتداد عن الدين هو من الممنوعات والمحرمات، ويشترك فيه كل الأديان.

ب-لقد سنّ البرلمان الإنكليزي، وهو هيئة مدنية، التكريس الطائفي بأن الارتداد إلى الكاثوليكية عقوبتها الإعدام.

ت-وجود عقوبة مادية شهرية، وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت لا طاقة للعامة عليه، وفي الوقت نفسه إكراه على القيام بالصلاة تجنباً للعقوبة، وبالتالي ترويضه على التعود والاعتياد عليها مع مرور الوقت، أي جبراً.

ث-لو لاحظنا الإحصاء العددي للضحايا، التي وقعت نتيجة الهرطقة الدينية، أرقام كبيرة ومخيفة، تبين لنا مدى أهمية المحافظة على الهوية الدينية.

 

  1. ورد في الصفحة 13 السطر 28 من ردكم: عندما تتحقق العدالة والمساواة، وعندما يرفع الظالم ظلمه عن المظلومين، وعندما يُعيد المغتصب حقوق الآخرين إليهم، هل يبقى القتال والقوة والإكراه قيم ثابتة؟ هنا ليست هذه من القيم الثابتة بل هي من الوسائل التي نستخدمها أحياناً في سبيل الدفاع عن القيم الثابتة المطلقة.
    إن هذا الطرح أقرب إلى المثالية المطلقة منه للواقع، والتاريخ منذ القدم لم يقدم لنا برهاناً برفع الظالم ظلمه من تلقاء نفسه، ما لم يكن القتال طرفاً في رفع الظلم. والحكمة تقول: الحرية تُؤخذ بالقوة ولا تُهدى. كما أن كثيراً ما تعرضت بعض المفردات في حياة الأمم إلى التشويه والاستغلال، كالحرية، وحقوق الإنسان، والسلام وكثيراً ما استعملت هذه المفردات في سبيل التدخل في الشؤون الداخلية للدول لو تم التساؤل: هل المقاومة هدف أم نتيجة؟ والسلام حالة طبيعية في الحياة أم هدف؟
    فالرد على التساؤل الأول من السهل الإجابة عليه ويكون مقنعاً. فلا مقاومة من دون احتلال، فالمقاومة هي النتيجة الطبيعية للرد على الاحتلال، وليست هدفاً بحد ذاتها. أي نقاوم (نقاتل) كي لا نُحتل.
    أما الرد على التساؤل الثاني، ففيه صعوبة بعض الشيء بالرد المقنع. فإذا كان السلام هدفاً فإن كثيراً من الحروب والويلات والمآسي، ستقع على شعوب العالم. وتقع تحت رحمة هذا الشيء. وإذا كان السلام الحالة الطبيعية للحياة، وهذا هو المعنى الصحيح، فإن شعوب الأرض ستعيش بعيداً عن الخطر والأذى لأن الحرب حالة استثنائية.
    فعندما يكون السلام عمل وقائي نتيجة لتفجر عقول صانعي القرار السياسي والعسكري، حسب نظرية المجال الحيوي، وعدم قناعتهم العيش كل حسب حدوده المعترف بها مع جيرانهم أو أية بقعة في العالم، وبأن هذه الأمة أو تلك تشكل عليها خطراً في المستقبل، أو أن تلك الأمة تمتلك ثروات طبيعية يجب السيطرة عليها بالقوة، دون أن يكون التعامل معها وفق المصالح المتبادلة، فتقع الحرب نتيجة لتلافي هذا الخطر، فبذلك يكون السلام هدفاً وليس نتيجة.
     

  1. ورد في الصفحة 14 السطر 8 من ردكم: إذا حُلَّت المشاكل المتنازع عليها بالحوار الذي يقابله حوار، فهل هناك ضرورة واجبة في استخدام الأساليب الأخرى؟
    بالتأكيد، إذا كانت المشاكل المتنازع عليها تحل بالحوار، فهذا أفضل الحلول وكل الأمم المحبة للعيش بسلام معه. هذا إذا نجح الأمر بالحوار، وكنت أتمنى منكم أن تبرزوا مثلاً واضحاً عن مشكلة حُلَّت بالحوار.
     

  1. ورد في الصفحة 14 السطر 28 من ردكم: هل يعني هذا أن البيئة الاجتماعية العربية، والمشاكل الظرفية التي كانت تحصل على أرض الجزيرة في خلال ال 23 سنة هي ذاتها التي أتت بعد ألف وأربعماية سنة؟ وهل مشاكل الجزيرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قبل ألف وأربعماية سنة، هي شبيهة بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية للشعوب غير العربية قبل ألف وأربعماية سنة أو بعد ألف وأربعماية سنة؟
    1-إن المشاكل تكبر وتتفاقم نتيجة لتوسع المجتمعات وتطورها. والمجتمع كل ما كان صغيراً كانت مشاكله أقل من المجتمعات الكبيرة. وليس بالضرورة أن تكون المشاكل نفسها من حيث التفاصيل في وقوع الأحداث الظرفية، لكن يوجد تقارب كبير من حيث الظروف والمشاكل. ومثلاً على ذلك:
    أ-تفرق العرب في عصر ما قبل الإسلام على شكل قبائل، ويتفرقون اليوم على شكل 23 قبيلة، وكل قبيلة تشكل دولة، ومشاكل كبيرة وكثيرة واقعة بين هذه القبائل.
    ب- كان الفساد والانحلال الخلقي والعادات الغريبة سائدة وكذلك اليوم.
    ت- كان الروم والفرس متحكمين في مصير القبائل العربية وأرض العرب، وكان الولاة يُعيّنون من قبلهم، وبحمايتهم. وكذلك اليوم، الغرب متحكم بدولنا (قبائلنا) وثرواتنا وأرضنا، ويحمي حكامها، وهذا ما نراه اليوم على أرض العرب.
    ث- ضلوع الأقطار (القبائل) العربية في حصار شعب العراق بحجة الالتزام بقرارات مجلس الأمن وتطبيق الشرعية الدولية.
    ج- على الرغم من تفرق العرب، و على الرغم من الحروب بينها، إلاَّ أنه لم يتم طرد شعب من أرضه، مثل ما حدث في فلسطين.

أليس هذا تشابهاً بالظروف، بل أسوأ منه في بعض النواحي؟


2- بالنسبة لتشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية واختلافها عن الظروف الغربية:

أ-لو عكسنا السؤال: هل الظروف الغربية: الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، شبيهة بالظروف العربية؟

أقول: إن الظروف الغربية الاجتماعية، والأخلاقية، غير شبيهة بالظروف العربية الظرفية، ولكنها تغزو عالمنا العربي بكل المجالات الفنية، والأدبية واللغوية، والثقافية، فكيف نفسر هذا؟ إني أعتقد، على مر الزمن، أنه لا بُدَّ من تابع ومتبوع، فالقوي يفرض ما يريده من قيم. هكذا التاريخ والحاضر. كان العرب متبوع والغرب تابع، لأنهم كانوا أقوياء وانتشروا في بقاع الأرض من خلال نشر الرسالة الإسلامية. كذلك الغرب اليوم في أعلى مراحل قوته، فالغرب متبوع والعرب تابع، لأن العرب ضعفاء (قبائل).

نلاحظ، مثلاً، انتشار الشعر الطويل في مجتمعاتنا وربطه إلى الخلف مع وجود حَلَقٍ في الأذن. ربما يوجد من يقول بأنه ليس منتشراً انتشاراً كبيراً، ولكن كل شيء له بداية، وتكون محدودة في انطلاقتها الأولى.

ونلاحظ، أيضاً، اللباس الضيق للفتيات، التي تُبرز مفاتن الجسم بكل تفاصيله، وانتشار المسابح المختلطة للرجال والنساء. وانتشار (الستالايت) وما يحويه في (كابلاته). هل هذا الشيء من عاداتنا وقيمنا؟ لكي ينتشر في بلادنا؟

ب- ما وجه التشابه، من الناحية الاقتصادية والسياسية، بين العرب والغرب؟ فلا وجه للتشابه، فالغرب في واد والغرب في وادٍ آخر. فالغرب يخطط سياسياً واقتصادياً مع ما أيمانه من الخبث، وينفذ تخطيطه على أرض العرب، ولو اقتضى ذلك الحروب لمدد طويلة، أو حصار شعب بأكمله. فالغرب يقدم بضائع مدنية وعسكرية متطورة، والعرب اقتصادياً مجتمع مستهلك للغذاء. فالبضاعة غربية والصناعة غربية. والعرب لا يمتلكون صناعة أو زراعة ولا سيادة. أما الغرب فيملك سلسلة كبيرة من المصانع، والمعامل، والزراعة. إن البلاد العربية (القبائل) تنتشر فيها كل أنواع السيارات ويمتلكونها. فالذي يركب السيارة ليس كصانعها؛ والذي يستعمل (الدش) ليس كصانعه؛ والذي يستعمل الكومبيوتر ليس كصانعه. فالعالم العربي عالم مستهلك لكل ما يقع تحت يده من علم، وصناعة، وغذاء.

صحيح أن الوطن العربي تعج به كل الوسائل المتطورة والترفيهية، ولكن أين هو من صناعتها في حال أحجمت الجهة المصنعة من مده بالمواد الاحتياطية؟

ليس بالضرورة أن يكون هناك تشابه بالظروف لكي يكون هناك انتشار لفكرة معينة، لحالة معينة، لسياسة معينة، فالقوي بقوّته، قوي بقيمته.

بالرجوع إلى الفن، مثلاً، لا وجود لآلة عربية في مفردات الآلات الموسيقية، لا توجد نغمة عربية صافية من النغمات، لا توجد رقصة عربية، بل كلها نغمات غربية، لاتينية، هندية، رقصات غربية، هذا هو التطور، هكذا يقولون؟ أما الكلمات فحدث ولا حرج، إضافة إلى تطوير تصوير (فيديو كليب) في البانيو، أو لف الشرشف في المسبح فأي تشابه بالظروف لانتشار هذه الأشياء. لقد خلق الغرب هذه الظروف، وعمل على انتشارها، كما عمل الإسلام على خلق الظروف لانتشاره.

 

  1. ورد في الصفحة 15 السطر 10 من ردكم: هل أنت تقف إلى جانب ادِّعاء الفقهاء بأن لهم حق إلهي بأن يحاسبوا البشر، يصدرون عليهم الادعاء بالكفر، ثم يستتيبوهم، ثم يُنزلون بهم الحد بالقتل، ثم ينفذِّون حكم القتل بهم؟
    إذا كان القاضي يصدر حكمه بالإعدام، أو السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، أو السجن المؤبد، أو السجن العادي لفترة زمنية محدودة، فهذا بحد ذاته تعذيب للمحكوم عليه، من حيث هدر دمه، وحبس حريته، ووضعه في ظروف غير صحية، مما يكون له انعكاس سلبي على المحكوم خلال قضاء فترة سجنه. وبهذا يكون القاضي قد استند، في حكمه، إلى سنن وشرائع من وضع الإنسان، قوانين مدنية، وهذا أعطاه الحق باستعمالها وإصدار حكمه.
    و إلى أي مرجع استند القاضي لكي ينزل حكمه؟ ألم يستند إلى سنن وشرائع من وضع الإنسان، وتسمى قوانين وضعية أو مدنية؟ وواضعو هذه القوانين، إلى أية جهة شرعية استندوا لكي يستمدوا شرعيتهم بتحديد عقوبات الإعدام، والمؤبد والسجن.
    هل هذا يعطي القاضي الحق بحكمه، لأنه يستعمل قوانين مدنية، ويجب علينا أن نسلم ونقتنع بدون مناقشة، لكي نظهر بمظهر المتطورين؟
    فإذا كان هؤلاء البشر لهم قوانينهم المدنية، ومصدرهم الشرعي، فإن الفقهاء لهم المصدر الشرعي الإلهي، استناداً إلى ما ورد بكتاب الله وسنة رسوله، وتجربة أسلافهم في القضاء.

لا يعني تساؤلي هذا بأني مع قيام الفقهاء بتمثيل الدور الإلهي على الأرض، لكنها مقارنة بين القضاء المدني والقضاء الشرعي.

وضع هؤلاء قانونهم المدني وتخطوا الدين، وهؤلاء تمسكوا بما ورثوه، وبقوا سجناء بما لديهم من كتب دون تطوير ما لديهم، فبرز لنا الإسلام بصورة الجامد، والغير ممكن تطبيقه إلاَّ في حينه، وإن الزمن مرَّ عليه. فالعيب ليس في الإسلام، بل في رجال الدين القيّمين على الدين.

والتساؤل: أيحق للقاضي المدني بأن يعدم، ويسجن، وينفي، لأنه آمن واستند إلى القوانين الوضعية، ولا يحق للفقهاء بأي حكم لأنهم يستندون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ هل القاضي الذي يقوم بتطبيق القوانين المدنية معصوم عن الخطأ في حكمه، وإذا أخطأ فهو معذور لأنه طبّق قوانين وضعية؟ وإذا أخطأ الفقيه تقوم الدنيا ولا تقعد؟ فالحقيقة، الخطأ وارد عند الجهتين: وكل استند إلى ما يؤمن به.

 

  1. ورد في الصفحة 12 السطر 21 من ردكم: هل يمكننا، هنا، أن نقارن بين مستوى إيمان من آمن من المسلمين بالحوار وبين من استجابوا إلى الدعوة الإسلامية بحد السيف؟

-لا توجد مقارنة بين الإيمانين، ومن الخطأ المقارنة بينهما. والقرآن فرّق بين الإيمانين استناداً إلى الآية: )وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10).

 

  1. ورد في الصفحة 344 من كتابكم السطر 4 للفيلسوف أبلار: كيف يستطيع عقل محدود أب يأتي عليه يوم يفهم فيه الله؟ وفي هذا يقول، كما قال أغسطين: لست أسعى للفهم كي أعتقد، بل إني أعتقد لكي أفهم.
    وأنا مع هذا الطرح، إني أعتقد لكي أفهم، لأن الفهم -في بعض الأحيان عسير على العقل من حيث البرهان عن ناحية الإيمان، كالإيمان بالله الواحد الأحد، والإيمان بالرسل، والكتب، والملائكة. هذا كله عسير من ناحية فهم العقل لها، ولكننا نؤمن بها من ناحية الاعتقاد والفهم.
    -إني اتفق معك تماماً، بأن الحوار يأتي بالدرجة الأولى، وهذا ما أردت قوله من خلال كتابتي لكم، ولكننا افترقنا من ناحية التوازن بين الحوار والقتال، لأني أعتقد بوجود ترابط بينهما، بشكل أو بآخر، و لا بُدَّ من وجود قوة لتفرض بعض المفاهيم. كما وأتلاقى معك بأن القتال ليس حالة مطلقة للحلول، و لا بُدَّ من أن يأتي دور استخدامها بعد فشل سبل الحوار. كما وأؤكد على مكروهية الحرب والقتال، كما ورد في الكتاب الكريم: )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216). وأفهم من هذه الآية بأن الحرب كره على الإنسان، ولكن قد تحمل معها الخير والاستقرار؛ ومحبة السلام قد تؤدي إلى التشرد والتفرقة، كحالة العرب الذين يسعون للسلام الاستسلامي. إن عملية الاعتقاد بترابط المتناقضين -بالنسبة لي- قد تؤدي إلى فهم الأمور التي تحكم الواقع إذا وُجد من يوازي بين المتضادين. فقباحة المضاد تُظهر لنا بصورة سيئة نتيجة الإسراف في استعماله.
    أما بالنسبة للنصوص، التي تم نقلها والاستشهاد بها، أوردتها كما هي؛ وقمت باستنتاج على قدر ما أستطيع، وهذا يخرجني من الناحية النقلية للنص كما ورد. لقد حشرتني في زاوية النقل لا العقل، لا أرى نفسي خارج هذه الدائرة، فأنا مؤمن، ولكني لست برجل دين أو سلفي. وأؤكد على أهمية: لولا الحرب لما عرفنا قيمة السلام ونِعَم السلام، ولولا الديكتاتورية لما عرفنا قيمة الحرية ونِعَم الحرية.
    لماذا نعتز بصلاح الدين الأيوبي، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم ألأنهم كانوا سياسيين وعسكريين؟
    لماذا نندهش أمام عظمة نابليون، والإسكندر المقدوني؟
    فعندما نعتز بقادتنا من العرب التاريخيين، الذين حققوا انتصارات عسكرية، وضعنا الصفة الشرعية لقتالهم وبطولاتهم، و إلاَّ لدناها من الأساس. وننظر بعين الدهشة والإعجاب إلى المنجزات العسكرية لقادة الغرب التاريخيين، وبذلك وضعنا الصفة الشرعية لقتالهم، وبطلاتهم، و إلاَّ لأدناها من الأساس وأدانوا أنفسهم.
     

  1. بالعودة إلى ما ورد في الصفحة 14 السطر 8 من ردكم: إذا حُلَّت المشاكل المتنازع عليها بالحوار الذي يقابله حوار، فهل هناك ضرورة واجبة في استخدام الأساليب الأخرى؟
    إن هذا الحل غير مكن تحقيقه، والسبب:
    -لقد سيطرت إيران على الطنب الكبرى والصغرى وجزيرة أبي موسى. هل سيطرت عليها بالحوار أو بالاحتلال؟ وإيران حالياً، ترفض استقبال أية لجنة عربية أو أية وساطة لمناقشة مصير هذه الجزر.
    -لقد اقتطعت تركيا لواء الإسكندرون من سوريا. هل اقتطعته بالحوار أو بالاحتلال؟ ولغاية هذا الوقت ترفض تركيا إعادته إلى سوريا أو التطرق إلى مناقشته.
    -لقد احتلت (إسرائيل) فلسطين وطردت شعبها. هل احتلته بالحوار أو بالقوة؟
    -لقد سيطرت أميركا على منطقة الخليج، هل كانت سيطرتها بالحوار أم بالقوة؟
    -إن المشكلة اليوغوسلافية، وقصف دول الحلفاء لهذه الدولة، هل تم بالحوار؟
    إذن، من خلال عرض هذه الأمثلة، ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بالحوار، وإن الدعوة للحوار لحل هذه المشاكل هي لصالح المحتل.
    ملاحظــــــــة: الحياة لا تكتمل بدون المتناقضين: المرأة والرجل، الليل والنهار، فالحياة بينهما وفيهما. فالديموقراطية والديكتاتورية، كالماء البارد والساخن في الشتاء، فلا يستطيع الإنسان الاغتسال دون التوازن بينهما.

وليد شحيتلي

***

مرة أخرى: توضيحات الكاتب حول نقد كتاب «الردة في الإسلام»

حتى لا ندخل في باب السجال للمرة الثانية، كما تقول أنت في توضيحاتك؛ أرى، من جانبي، أن لا نتوه في تفصيلات مجتزأة عن مركز الإشكالية التي نتحاور حولها. ومركز الإشكالية كما حاولت أن أحدده في كتاب الردة، هو إعطاء حرية للعقل في اختيار طريق الإيمان الروحي على قاعدة لا إكراه في الدين. وفي بحثي المذكور حاولت أن أجد أسباباً نقلية وأسباباً عقلية أدافع بها عن تلك الحرية بعيداً عن مبدأ من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه. وعلى هذا الأساس حاولت أن أقارن بين إيجابية الحوار وسلبية القتال، أي أن الإيمان عن طريق الحوار هو أفضل من الإيمان عن طريق السيف والقتال.

I - موقفنا من المتناقضات (الحوار والقتال):

كان ردكم الأول مملوءًا ببراهين الدفاع عن أهمية القتال إلى الدرجة التي كنتم من المقتنعين بأهميته لأجل نشر الإسلام على قاعدة أن القتال هو دعوة إلهية حلَّت مكان الدعوة للتبشير بالتي هي أحسن. بالإضافة إلى أن آيات السيف قد نسخت آية لا إكراه في الدين. وانطلاقاً من هذه النقطة، كان ردي عليكم بأنني في مثل هذه الحالة اخترت طريق الدليل العقلي النقدي. أما أنت فقد اخترت طريق النقل عن الفقهاء.

وكان من أهم مميزات الطريق العقلي أن يستند إلى الشك، أما مميزات الطريق النقلي فإنه يتجنب الشك ويحذر منه، بل ويحرِّمه.

وعندما انتقدتك لأنك ساويت بين متناقضين: الحوار والقتال، ليس لأنني أحسب أن الحياة خالية من المتناقضات، بل لأنني أؤمن بأن من أهم أسرار الحياة هو وجود المتناقضات. ولكن كنت أجهد لأبرهن بأن قيمة المتناقضين ليست متساوية، بل إن طرفاً منها ثابت أما الآخر فمتغير. وبأن هناك أولوية لواحدة على الأخرى، واحدة منها غاية أما الأخرى فهي وسيلة. والدليل على ذلك، العبارات التالية التي وردت في ردي السابق، وسأنقلها حرفياً: «وهل يبقى أمامنا إلاَّ أن نميز بين الدعوة بالحوار والدعوة بالسيف، ونؤمن بأن الحوار هو القاعدة الثابتة أما السيف فهو القاعدة المتغيرة؟». و«يستخدم الإنسان أولاً أسلوب الدعوة بالتي هي أحسن، أي بالحوار. فالحوار له الأولوية؛ إذاً، له الأفضلية. وهنا، منطقياً، لا يمكن أن يكون للحوار والقتال الأفضلية ذاتها. فهما ليستا متساويتين بالثبات والإطلاق». و«بينما هناك خيار بين استخدام الحوار والقوة، بل هناك أفضلية وأولوية للحوار على القوة».

 

II - العلاقـة بين الحوار والقتال مرة أخرى:

إنك تصف افتراضي عن إمكانية تحقيق العدالة ورفع الظلم وإزالة الاغتصاب بدون قتال بأنه دعوة مثالية. وأنا لا أنفي عن افتراضي أنه مثالي لأن النظر إلى المثالية ليست هَنَة، فمنها يأتي الحلم بالعمل نحو الأفضل. فالافتراض، هنا، هو افتراض مشروع؛ أوَ لم يدعو الله الظالمين إلى الامتناع عن الظلم من تلقاء أنفسهم؟

)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ( (البقرة:193). )فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( (المائدة:39). )وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى( (طـه:82). )وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( (لأعراف:153). )فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( (التوبة:5). )ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( (النحل:119). )إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ( (النمل:11)

وهنا يا صديقي، عندما افترضت تحقق العدالة والمساواة وارتفاع ظلم الظالمين لم اكن أريد أن أعالج مسألة فرعية، بل أردت أن أبرهن أن مواجهة اللامساواة واللاعدالة والظلم والاغتصاب يمر أولاً عبر الحوار، ولا نلجأ إلى القوة إلاَّ عندما لا ينفع الحوار. وكان غرضي من وراء ذلك أن أضع سُلَّماً للأولويات بين أسلوبيْ الحوار والإكراه، فوضعت الحوار في أولى درجات السُلَّم. وأنت في حياتك العملية الشخصية، عندما يخطئ أحدهم بحق من حقوقك، فإنك لن تشن عليه الحرب وتشهر في وجهه العصا أو البندقية لتنتزع حقك منه، بل تقوم بخطوة أولى هي أن تطلب منه أن يتراجع عن خطئه، فإذا لم يفعل تلجأ إلى الوسطاء، وإذا لم ينجحوا بوساطتهم تلجأ إلى المحاكم وإذا تمادى في ظلمه واغتصابه ترى نفسك ملزماً باتباع أية وسيلة تراها ملائمة لاستعادة حقك.

وهنا أرى أن نحصر النقد في محور البحث الأساسي و إلاَّ تتكاثر القضايا التي علينا أن نتابعها فيضيع المحور الأساسي ونتوه كثيراً في شعاب قضايا أخرى نرى أنفسنا أننا متفقين من حولها.

وحول القضايا الممكن أن تُحل بالحوار، أعطيك المثال التالي: عقد الرسول معاهدات سياسية مع اليهود، ومع المشركين: كمثل صلح الحديبية. وكمثل الاتفاق بينه وبين مشركي مكة، بالتوقف عن الحرب في الأشهر الحُرُم والاتفاق بينه وبين مشركي مكة بعدم الحج في العام الذي سبق الدخول إليها بالحرب وعندما عقد معاهدة بعد غزوة مؤتة مع المسيحيين على أن يدفعوا الجزية للمسلمين

هل يكفي، مثلاً، حوارنا الدائر من دون أن نتعرف على بعضنا حتى الآن؟ وهل تظن أننا سوف نعلن القتال فيما بيننا إذا لم نصل إلى نتيجة مشتركة بعد حوار يطول أو يقصر؟ وقد نصل إلى اتفاق بدون أن نلجأ إلى قتل أو قتال.

على كل حال، كانت توضيحاتك، واستطراداتك، حول أهمية وجود المتناقضات، هو من التكرار المفيد. وأنا معك تماماً بما جئت به من توضيحات واستطرادات. وكنت أتمنى، وحوارنا يدور حول مبدأ الردة في الإسلام، أي حول تطبيق حديث الرسول: «من ارتد منكم عن دينه فاقتلوه»، أن تبدي رأيك حول النتائج التي توصلت أنا إليها ومن أهمها إلغاء هذا المبدأ لأنه يتنافى مع العقل والنقل أيضاً. وأنا بانتظارك لكي تعود في المرة القادمة إلى الموضوع الأساس، لنسمع منك موقفاً واضحاً حوله.

 

III - موقع العقل في الدين عامـة والإسلام خاصـة:

أما حول حرية العقل، فتقول «لا أحد يستطيع إجبار أحد على تكبيل حرية العقل من خلال نقل النص. بمجرد مناقشة النص نكون قد خرجنا عن تكبيل أنفسنا، بالنقل والنص، وأطلقنا العنان للعقل لكي يتفاعل مع ما يقرأ».

لكنني لا بُدَّ من أن أسألك: ماذا تعني بعبارة «بمجرد مناقشة النص»؟ إن ظاهرها غامض ويحتمل الالتباس. فالمناقشة قد تعني أنك تعمل على فهم النص استناداً إلى أسس الفقه الإسلامي التقليدي الموضوعة دون أن تحيد عن التقليد والمحاكاة، أي أنك تناقشه لكي تفهمه من داخل مسلمات مسبقة؛ وقد تعني أنك قد تنقده من خلال عدم مطابقته لروح العصر حتى لو اقتضى الأمر العمل على نسخه.

أما إذا كنت تعني بأن الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، قد أعطيا للعقل حريته، فهذا كلام جميل، وأنا أتمنى من كل قلبي أن يكون ما تقوله هو الواقع الصحيح. إن الواقع  هو غير ذلك على الإطلاق، لأن الحرية بالقراءة ليست هي المشكلة، بل إن المشكلة تكمن في نقد النص؛ وهنا أسألك: لماذا حُوكم حامد نصر أبو زيد؟ ولماذا يجري تكفير نوال السعداوي؟ ولماذا حُكم على الحلاج بقطع الأعضاء، ولماذا أحرقت كتب ابن رشد، وحُرّمت قراءتها؟………… أرجوك أن تعود إلى كتاب الردة من جديد لكي تقرأ بعض ما ورد في كتب التاريخ من مآسي كابد منها كل من تجرّأ على استخدام عقله في قراءة النص وتفسيره وتأويله. وهل كل الفلاسفة والمفكرين أطلقوا العنان لعقولهم لكي يتفاعلوا مع ما يقرأوا، وتركهم النص الديني، والفقهاء المسلمين، يهنأون بتلك الحرية؟؟؟؟

إن من أهم الأسباب التي دفعتني إلى تكبد العناء من وراء بحثي عن قانون الردة، هي تلك الشواهد المأساوية التي ارتكبها فقهاء المسلمين وخلفائه بحق العقل الذي يريد أن يستخدمه فيلسوف أو مفكر. ما زالت الجريمة مستمرة، ولن تنتهي إلاَّ من خلال جرأة نقدية موضوعية يقوم بها المثقفون العرب على الرغم من حملات الإرهاب التي يقودها روّاد »قانون الحسبة« الذين يدَّعون بأنهم يدافعون عن حق الله، وكأن الله عاجز عن الدفاع عن نفسه، فلم يجد من وسيلة إلاَّ أن يكلِّف روّاد قانون الحسبة بمثل تلك المهمة!!!

إن الشعار العام بأن الإسلام قد احتفظ للعقل بحريته، كما نفهمه اليوم، هو مجرد شعار تعبوي لا مضمون علمي أو عملي له. وهذا موضوع يستأهل النقاش الهادئ والمستقل إعطائه المزيد من الاهتمام والإنضاج. وقد تتسع مناقشاتنا في المستقبل لتشمل هذا الموضوع لأهميته البالغة. واستباقاً لانخراطنا في مثل هذا الحوار، تحت عنوان: هل الإسلام يعترف بحرية العقل؟ أرجو منك أن تعود إلى كتابي المنشور (نحو تاريخ فكري - سياسي لشيعة لبنان)، ففيه قد ناقشت بعض فقهاء الشيعة حول هذا الشعار، وبعد أن تطلع على ما قمت بكتابته، أدعوك لورشة حوار أخرى حول هذا الموضوع.

من هنا كنت أرجو يا عزيزي أن تقرأ بعناية ما كنت أريد أن أصل إليه من كتابة بحثي المذكور (الردة في الإسلام)، أكثر من أن نلجأ إلى الحوار حول تفصيلات، أي أن نتحول بأنظارنا عن الأساسي باستخدام بعض التفصيلات في هذه الصفحة أو تلك. وهذا لا يعني أنها ليست بذات فائدة، لكنها قد تصبح أكثر فائدة إذا كانت تدور حول المحور الأساسي للمشكلة.

 

IV - الناسخ والمنسوخ قانون ثابت لكنه مستمر من أجل التغيير:

وهذا مثل أكرره، استناداً إلى ما فهمت أنا من حكمة الناسخ والمنسوخ: في التقليد أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن أن يتجاوزا ما حصل في أثناء حياة الرسول، أما ما بقي من شرائع وأحكام، بعد وفاته، فتبقى ضمن مفهومها الثابت، كشرائع إلهية لا يمكن تغييرها. أما فهمي الخاص فيستند إلى أن قاعدة الناسخ والمنسوخ ما هي إلاَّ قاعدة دائمة، تعني إمكانية تغيير الشرائع أو تجديدها كلما اقتضت ظروف المجتمعات ذلك.

إذا اتفقنا على أن تنزيل القرآن متبدل مع تبدل الظروف والأحداث فهذا شيء مهم، بل وفي غاية الأهمية. وهذا ما لا يجعلني مصراً على معرفة لماذا بقي من الأحكام ما نُسخ خطه، ولا على معرفة ما نسخ من الأحكام وبقي خطه. بل ما يعنيني هو أن جوهر مسألة النسخ أن لا تقتصر على ما نُسخ في السابق دون أن نلتفت إلى تبدل الظروف في عصرنا الراهن. وهذا مما له علاقة بموضوع حرية العقل، الذي دعوتك إلى أن نناقشه باستفاضة وبحوارات أخرى.

V - حول علاقـة الشريعـة بالإنسان:

إن الإنسان هو الأساس في هذا الكون المنظور والملموس،)أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ( (لقمان:20). لقد قلت، أنا: «فلمن يكون الله قد خلق هذا الكون، أمن أجل سعادة الإنسان أم أنه خلق الإنسان ليطبق الشرائع، حتى منها التي لا يرى أنها تمتلك المبررات العقلية والمصلحية الكافية؟»، فهل ما حسبته، أنا، غير واضح؟ فكيف تعرف أو تتأكد من أن شرائع ما تخدم الإنسان أو تكون ضده؟

إن أهم مقياس لمعرفة صلاحية شريعة ما أن تكون عادلة. فهل مبدأ قتل المرتد عن الإسلام هو شريعة عادلة؟

يرى البعض أن هذا المبدأ يتنافى مع حرية الإنسان في الاختيار، وإذا كان مجبراً على الاقتناع به، فسوف يتحول إلى منافق. وهل مسلم منافق هو خير للإسلام أم وبال عليه؟ فأين عدالة هذا المبدأ الديني والشرعي؟

هل علينا، إذا كنا مأمورين أن نخدم الشريعة، حتى تلك التي لا نرى مبرراً لصلاحيتها، أن نمتثل لما تقول؟ أرجو أن تقول رأيك بوضوح وأن نتعاضد في سبيل إجلاء الغموض عن موقفك، هل قتل المرتد عن الإسلام هو من الشرائع التي علينا أن نخدمها وأن ندافع عنها وأن نطبِّقها، على الرغم من الثغرات والهنات التي تتضمنها، مبدأ ونتائج؟ أرجو أن تعود لمراجعة الويلات والمصائب التي أحدثها تطبيق شريعة قتل المرتد من ويلات على الأمة الإسلامية، والذي طال النخب من الفلاسفة والمفكرين بينما كان الغوغاء هم الذين نجوا وحدهم من الآلام التي أحدثها.

هل أصبح مبدأ أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو الدين الله والوطن للجميع، من الشعارات التي علينا أن نتجنب الكلام عنها، أو أنها أصبحت غير ذات قيمة؟ أم علينا أن نعود إلى حصر صلاحيات الدين والدنيا بيد من يدَّعون أنهم مُكلَّفون من الله بأن يحكموا البشر؟ وهل علينا أن نعود من جديد إلى مبدأ (لا حاكمية إلاَّ لله)؟

هذا موضوع يا عزيزي وليد يتطلب منا أن نعقد حوله أكثر من طاولة حوار، ولن أطيل هنا، وأنا جاهز لأن نولي هذا الموضوع أهمية قصوى لأن له علاقة بإشكالية أي نظام نريد؟ هل نريد نظاماً سياسياً علمانياً تكون الشرائع الدينية مصدراً من مصادره، أم نظاماً دينياً يحكم على أساس الشرائع الدينية بالكامل؟ وهذا هو الموضوع الأكثر إلحاحاً في عصرنا الراهن.

 

VI - هل يمكن المقاربة بين بعض جوانب الشريعة الإسلامية مع القوانين العالمية؟

لاشك بأن هناك تشابه في بعض ظروف المجتمعات والأزمنة واختلاف في ظروف وأزمنة أخرى. ومن الظروف المختلفة، أذكر بعض منها، للبرهان على إبطال بعض الشرائع الإسلامية:

إن المسلمين اليوم لن يستطيعوا أن يتبعوا أسلوب القتال في الدعوة إلى الإسلام. وإذا كان هذا لا يزال صالحاً فعلى المسلمين أن يغزوا بلاد الصين والهند لأنهم لا يدينون بأديان سماوية، وبعضهم لا يزال يعبد الأصنام. أوَ لم يأمر الله المسلمين بالجهاد من أجل نشر الإسلام؟

إن الشرائع التي كانت تُتَّبع في أثناء غزوات الرسول أصبحت غير صالحة اليوم. فهل إذا قمنا بحرب مع العدو الصهيوني واستطعنا أن ندخل إلى قرية من قراهم ووجدنا فيها رجالاً ونساءً وأطفالاً وأموالاً وطعاماً يحق لنا أن نقتل الأسرى، أو نطلب فدية لتحريرهم، أو نسبي النساء ونعدهم من ملك اليمين، ونوزعهم أسهماً على المجاهدين، وأن نستعبد الأطفال ونعدهم من العبيد؟ وهل يحق للمسلمين أن يستولوا على أموالهم وأملاكهم، تحت حجة أنها غنائم حرب؟……….

هل يمكننا اليوم أن نطبق شريعة امتلاك الإماء، والرقاب؟ وهل يمكننا ذلك بعد أن ألغتها القوانين القوانين الوضعية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وهل هناك من يجرؤ على المطالبة بنسخ الآيات التي تعالج عتق الرقاب بالطريقة التي كان المسلمون يعالجونها بها:

)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً( (النساء:92).    )لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (المائدة:89).  )وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (القصص:3).   )فَكُّ رَقَبَةٍ( (البلد: 13).

 

VII - الأسرة وتعدد الانتماءات الدينيـة:

أما حول موضوع الأسرة ذات الإيمان الواحد. فإنني استفدت كثيراً من المعلومات التي أوردتها في ردك، خاصة تلك التي أخذتها عن شرائع الأديان الأخرى غير الإسلام. لقد جاءت لكي تعزز قناعتي بأن التعصب الديني، القائم على ما يعده البعض تعاليم إلهية، هو مرفوض من أية جهة أتى. ولا تنسى أيها الصديق العزيز أن في تعاليم الإسلام ما هو شبيه مما جاء عند الأديان الأخرى. فكل الأديان فيها ما يدعو إلى التعصب والتنابذ والفرقة. وهل غير هذا الجانب هو الذي دفعني إلى الدعوة إلى الإيمان بالحوار وليس بالإكراه؟ فإذا كان بحثي يدور حول الإسلام، فإن مرد ذلك يعود لأسباب منهجية. فما أنقده عند الإسلام ليس إلاَّ أنموذجاً لنقد الفكر الديني بشكل عام.

وأنا عندما أدعو إلى حرية اختيار طريق الإيمان عند أفراد الأسرة الواحدة فهو قائم على أننا عندما نوفر حرية الاختيار أمام أبناء الأسرة الواحدة فهذا لن يحصل من دون إلغاء عقوبة قتل المرتد، هذا المبدأ الذي آمنت به كل الأديان السماوية والوثنية على حد سواء. فعندما ينال الطفل منذ ولادته حرية الانتماء من دون تخويفه بأنه سينال عقوبة القتل في الدنيا أو الحرق في نار جهنم بعد الموت، ساعتئذٍ لن يخشى أن يعيش مع أخ يهودي غير مأمور بقتل أخيه إذا ارتد عن اليهودية، ولن يخشى أن يعيش مع أخت مسيحية غير مأمورة بقتل أخيها إذا ارتد عن المسيحية، ولن يخشى مسيحي أن يعيش مع أخ مسلم غير مأمور بقتله لأنه اختار المسيحية على الإسلام

عندما أدعو إلى تعايش أفراد أسرة، أخوة وأخوات، منتسبين إلى انتماءات روحية متعددة، فإنما قائم على أساس إلغاء كل مبادئ الردة التي تأمر بالقتل. ولو تابعت يا صديقي قراءة الفصل الخامس من كتاب الردة في الإسلام، لأستغنيت عن كتابة ما كتبت عن مبدأ الردة في المسيحية.

كانت غايتي من كتابة ذلك الفصل، أي الردة في المسيحية، هي أن أنقل تجربة عاشتها أوروبا في عصورها المظلمة وكانت معاناتها وآلامها تعود في الأساس إلى حكم الكنيسة تحت راية قانون كنسي يعطي الكنيسة الحق في الحكم الدنيوي والديني. وكانت من أهم ذرائعها أنها تحكم باسم الله وتطبق شرائعه السماوية. وكانت تلك التجربة أمثولة جديرة بأن نبحثها في عصرنا هذا، نحن الذين حُكمنا، أيضاً، ألفاً وثلاثماية سنة ونيّف باسم الشريعة الإسلامية، وخرجنا من تلك التجربة بتبرير ذرائعي يتلطى تحت شعار أن ما حصل من تجاوزات تفوق الوصف على شتى الصعد بأن ما حصل من تجاوزات وثغرات يتحمل وزره المسلمون وليس الإسلام. وإذا سألتهم ما هو الحل يقولون لك: لا يصلح الخلف إلاَّ بما صلح به السلف. و لا بُدَّ من العودة إلى الإسلام الصحيح. وإذا سألتهم ما هو الإسلام الصحيح، تذهب كل فرقة إلى الادعاء أنها وحدها التي تمثله وتحتكر صحته لنفسها. وما عليك إلاَّ بالعودة إلى الفصلين الثاني والثالث من كتاب الردة في الإسلام، وأرجوك أن تدلني كيف أصل إلى تحديد مصطلح الإسلام الصحيح، لنتابع الحوار من بعد اطلاعك.

 

VIII - الأخلاق في الغرب والأخلاق في الشرق:

دعنا يا صديقي من خطابات التعبئة والتحريض على الآخرين، ودعنا من مقالات الأخلاق التي يدّعي الكثيرون أن الغرب مصاب بها، وكأننا لكي ندلل على أخلاقنا علينا أن نتهم الغرب بأخلاقه، وعلينا أن لا نرى عوراتنا. هذا الخطاب التعبوي الذي لن يفيدنا بمعالجة أمراضنا لأننا لا نريد أن نراها. لماذا نهرب إلى الأمام دائماً؟ ونستخدم أسلوب الدفاع عن عوراتنا بتبيان عورات الآخرين. فمن كانت شبابيكه من زجاج أن لا يرشق شبابيك الآخرين بالحجارة.

أتعلم، مثلاً، ماذا كان يجري في قصور هارون الرشيد من موبقات؟ ألا يكفي أن نتذكر نواسيات أبي نؤاس في قصور هارون الرشيد؟ أننسى ما كان يجري من موبقات في قصور الخلفاء المسلمين؟ أو لم نقرأ ما كان يفعله خالد ابن الوليد من أجل النساء اللواتي كن ينلن إعجابه في أثناء غزواته، وهذا لا يقلل من تقييمنا لفتوحاته الباهرة؟ هل قرأت في كتب التاريخ عن دور الغلمان في حياة المسلمين العرب؟ وهل قرأت عن دور الغلمان في قصور خمسة من خلفاء المسلمين الأتراك؟

بلى إننا نرى موبقات الغرب الأخلاقية، ونرى أكثر منها، ولسنا من بلاد الواق الواق، وهل اتهامنا للغرب ورشق زجاج شبابيكه بالحجارة يعفينا من أن نحافظ على زجاج شبابيكنا من الرشق بالحجارة؟

إنني يا صديقي لا أدافع، ولن أدافع عن الغرب، ولكنني أدافع ضد أن نبقيَ على  مستوى أدائنا وضد أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأنتقد خوفنا من أن نرى عوراتنا، ونعوض عن ذلك برؤية عورات الآخرين وشتمهم.

 

IX - أين تبدأ سلطة الفقيه وأين تنتهي في عصرنا الراهن؟


أما حول حق الفقهاء بإصدار الأحكام على شتى مستوياتها. أنا لست ضد أن يأخذ الفقيه دوره في القضاء. وأنا لا أقارن صلاحية هذه الشريعة الإلهية مع تلك الوضعية، ولكنني أطرح سؤالاً محدداً واضحاً:

إذا كانت شرعة الأمم المتحدة تضمن للإنسان حقه في الانتماء الديني، وتضمن كل دساتيرنا العربية هذا الحق، أيضاً. فهل يبقى مبدأ قتل المرتد عن الإسلام في أيدي فقهاء المسلمين بحيث يطبقونه خارج قوانين الدولة التي تحكم بشرائع وضعية؟ أو هل يجوز لدولة إسلامية أن تطبق أحكام هذا المبدأ في القرن الواحد والعشرين، ضمن عولمة القوانين، على الأقل تلك التي تقبل بها الأنظمة العربية ومنها تلك التي تقوم بتطبيق الشرائع الإسلامية؟ وعلى افتراض أن ذلك حق من حقوق سيادتها على رعاياها، وحق من حقوقها الشرعية الإسلامية، فهل لا يستطيع المسلم الذي يريد أن يختار غير الإسلام أن يلجأ إلى أية دولة من دول العالم؟ وهناك يجد أية دولة على استعداد لأن تؤمن له اللجوء. فما هي الفائدة، إذاً، من مبدأ إلهي يستطيع المسلم أن يزوغ عن تطبيقه بشتى الوسائل؟ وهل كل المسلمين في شتى أرجاء الأرض من الذين يطبقون الشريعة الإسلامية من دون ثغرات تسمح بتصنيفهم من المرتدين؟ وإني أسألك على أن تجيب بصراحة: كم تقدر عدد المنافقين في إسلامهم من مئات الملايين المنتشرين في العالم؟ لا شك إن عددهم يبلغ بمئات الملايين. فإذا كان هذا هو الواقع، فما هي النتيجة الإيجابية التي يؤديها الإبقاء على هذا المبدأ؟ هل غير أن يتكاثر عدد المنافقين ويزداد عدد المرتدين من دون أن تطالهم يد الفقهاء أو المحاكم الإسلامية؟

وما هو النفع من إبقاء حكم لا يتم تطبيقه وليس هناك استطاعة لتنفيذه؟ بلى، إسمح لي أن أقول معك، هذا نص أُلغيَ حكمه في الواقع، ولكن بقي خطه. وهناك ضرورة شكلية للإبقاء عليه. وهذا شبيه بمسألة الإماء والرق التي أصبح الحديث عنهما من غير فائدة، لأنها أُلغيَت بفعل الأمر الواقع.

 

أين تبدأ سلطة الفقيه، في ظل الأنظمة التي نعيش اليوم، وأين تنتهي؟

إن المجتمعات المحكومة في ظل الأنظمة العربية اليوم هي مجتمعات متعددة الانتماءات الدينية. فهل على كل مذهب من المذاهب الدينية الذي يعيش في ظل نظام دولة تحكم تعدديات دينية الحق بأن تحكم حسب شرائعها الدينية أم على تلك المذاهب أن تخضع لقوانين الدولة الموحدة؟

لا شك بأنك ستقول: على كل المذاهب الدينية، وغير الدينية، أن تخضع لسلطان القوانين الموحدة. ففي مثل هذا الحالة أين تصبح الأحكام الدينية أو المذهبية الخاصة، وإذا خضعت تلك الأحكام لقوانين الدولة يتولّى قضاة مدنيون بحكم الأمر الواقع مسؤولية إصدار الأحكام ولا مكان هنا لدور قضاة المذاهب.

والحال كذلك، كيف يستطيع القضاة الذين يطبقون الشرائع الإلهية، كما تقول، أن يطبقوا مضمون حديث الرسول «من ارتدّ منكم عن دينه فاقتلوه»؟

في عصر بناء الدولة القومية، التي تضم مجموعات من المواطنين المنتسبين إلى ديانات مختلفة، هل من الممكن أن نطبِّق مضامين الشريعة الإسلامية على المسلمين بقانون خاص؟ أي هل نعطي الفقهاء حق تطبيق قانون الردة القاضي بقتل المسلم المرتد عن الإسلام؟ وإذا أعطتهم الدولة القومية مثل هذا الحق، ألآ تصبح ملزَمة أن تعطي للكنيسة المسيحية حقها في فرض قوانيتها الدينية على المسيحيين؟ وهنا عليك أن ترى كم ستتشرذم قوانين الدولة القومية. هذه هي الصورة التي ستصبح عليها الدولة القومية. وكم سوف ستتشرذم قوانينها إذا ما أخذت المذاهب الدينية تطالب بإعطائها حق تطبيق قوانينها المذهبية الخاصة بها.

هل تصر على إعطائهم مثل هذا الحق؟ وأنت تعطيهم إياه تحت ذريعة أن من مبدأ العدالة أنه مثلما نعترف بحق قضاة الشرائع الوضعية في مقاضاة الناس علينا أن لا نستنكر أبداً أن يقوم الفقهاء الدينيون، بمصادرهم الشرعية الإلهية، بدورهم.

أما إذا كنت تقوم بالتساؤل حول هذا من دون أن تؤيد قيام الفقهاء بتمثيل الدور الإلهي على الأرض، وإنما غايتك كما تقول هي مجرد «مقارنة بين القضاء المدني والقضاء الشرعي»، فهذا ما يدفعني إلى التساؤل: ولماذا الغرق بمثل هذا الجدال النظري الذي لا يحمل إمكانية التطبيق العملي؟ فنحن لسنا بصدد الحوار حول مسائل نظرية لا علاقة لها بواقعنا الذي علينا أن نجد أو نسهم في التفتيش عن الحلول لمشاكله العملية التي لها علاقة مباشرة مع هذا الواقع. والمسألة المطروحة بالتحديد هي كما طرحت عليك السؤال في الحلقة السابقة : «هل أنت مع » أن يقوم الفقهاء، اليوم، بإصدار تهمة التكفير على المسلمين وسجنهم ثلاثة أيام واستتابتهم، وإذا لم يعودوا إلى الإسلام يُقتلون؟

سؤال واضح ومحدد وله علاقة بواقعنا الراهن، فهل أنت معه أو ضده. لم يكن لك موقف واضح من حوله، فإذا أردت أن تجيب عليه أو لا تجيب فهذا موقفك الذي أحترمه، لكن لا يمكننا القفز من فوق معالجة مشكلة عملية إلى معالجة مشكلة نظرية ليست لها علاقة بالواقع المعاش. كأن نقارن بين قضاء مدني يقوم بشتى مهمات القضاء، والقضاء الشرعي الذي حصرت الأنظمة دوره في الأحوال الشخصية من دون أن يتخطاها.

***

ردود وتوضيحات حول نقد لعدد من تفصيلات كتاب الردة


عزيزي وليد


لما انتهيت من الرد على ردكم الثاني، تلقيت منك توضيحات أخرى حول كتاب الردة في الإسلام. قرأته وتتبعت التفصيلات التي نقَّبت عنها أنت بجهد وعناء. فوجدت من المناسب أن أدمج الردين معاً، لأنني لم أجد في توضيحاتك الأخيرة إشكاليات جديدة، بل هي توضيحات جديدة حول ما جاء في بعض الروايات / المستندات التي قمت أنا، في كتاب الردة، باستخدامها لبلوغ أهداف رئيسة كنت أدافع عنها من خلال ذلك البحث.

إنني أزداد شوقاً للتعرف إليك شخصياً، وبشكل مباشر، لأن عندي كثيراً من الأفكار التي علينا أن نناقشها بعد الفترة التي تحاورنا فيها على الورق. فالحوار المباشر قد يفيدنا في تحديد كثير من المسائل التي نحسب أنها مجالاً للخلاف بيننا، بينما هي في الواقع نقاط التقاء.

أول تلك المسائل هي انكبابك على متابعة قراءاتك بجدية ودأب قلَّما تميَّز به الملتزمون بفكر وإيديولوجية قومية.

لقد مررت، مثلك، بمرحلة قرأت فيه كتب التراث، ولكنني، أيضاً، قرأت الفكر الإسلامي وما تفرَّع عنه من مذهبيات متناحرة ومتكافرة ومتعصبة. لكنني، بعد تلك القراءات الكثيفة، وبدلاً من أن تقودني إلى متاهاتها، فقد أثارت في نفسي الكثير من التساؤلات والهواجس والشكوك. وكنت كمثل إبليس الذي أتهمه الشهرستاني بزرع الشبهات الأولى. ولكنني وجدت نفسي، من خلال ما وجدت من أفكار وإيديولوجيات كثيرة ومتشعبة ومتناقضة ومتكافرة ومتفاسقة، بعضها يكفر البعض الآخر ويلقي به في النار ويحتكر الجنة لنفسه وجماعته، في موقع الذي لا يستطيع أن يكون محايداً في داخل غابة التناقضات التي عاش فيها المسلمون.

لهذا السبب اخترت طريق الشك. لكن هذا الطريق لم يشكل لي  راحة نفسية، في البداية، بل زرع القلق في نفسي عندما وجدتها في مواجهة مع المقدس الذي غرسته تربيتي التقليدية في أعماق وعيي أو لا وعيي. وتعالت أصوات المحرمات والمقدسات لتحذرني من اجتياز طريق قد أدفع من أجل اجتيازه مقعداً في الجنة. وكي أبتعد عن النار عليَّ أن أسمع صوت المقدس وأبتعد عن طريق الشبهات التي زرعها إبليس.

أصبح إبليس إبليساً، عند الشهرستاني، بعد أن وجَّه ضدَّه التهم التالية:

  1. لقد تساءل إبليس: إذا كان الله قبل أن يخلقه يعلم أي شيء يصدر عنه [أي عن إبليس] فلمَ خلقه؟ وما الحكمة من خلقه إياه؟

  1. وتساءل، أيضاً: إذا كان الله قد خلقه على مقتضى إرادته ومشيئته، فلمَ كلَّفه بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف بعد أن لا يُنتفع بطاعته، ولا يُتضرر بمعصيته؟
    ألا ترى معي كم هو إبليس مفكر جريء؟ [لكنك لست ملزماً بأن تراه كما أراه أنا]. لقد أعطاه الشهرستاني شهادة تقدير بدلاً من أن يشوِّه صورته أمامنا.
    لقد تابعت الفرق الإسلامية -يقول الشهرستاني- طريق إبليس، فتتالت الشبهات، وتفرَّقت خير أمة أخرجها الله للناس إلى مئات الفرق، وفتح إبليس بأسئلته الجريئة، طريق النار أمامها جميعاً إلاَّ تلك التي سلكت طريق السنة والجماعة. وأصبحت كل فرقة تحسب نفسها الناجية، وكل الفرق غيرها في النار!!!
    لقد استطاع إبليس الغير منظور أو محسوس أن يخرِّب كل ما بناه أنبياء الله طوال عشرات آلاف السنين. فهو قد أخذ من النبي موسى سبعين فرقة يهودية. وأخذ من السيد المسيح إحدى وسبعين فرقة مسيحية. وأخذ من الرسول العربي اثنتين وسبعين فرقة إسلامية!!!
    أترى هنا كم هو إبليس أذكى من الاثنتين والسبعين فرقة إسلامية التي لوَّثها بشبهاته؟ وبدون أدنى شك فإن تلك الفرق تضم مئات الملايين من البشر، منهم الجاهل الباصم والمقلِّد والمستسلم والمتواكل. كما منهم، أيضاً، العالم والفقيه والمجاهد كُلُّهم انصاعوا إلى شبهات إبليس العقلية. فهل تدري يا صديقي أن ما أراده الشهرستاني من وصف أسئلة العقل بأنها من تلبيس إبليس، هو النيل من كل مفكر وفيلسوف أيضاً. وهو لا يستطيع أن يكافح ضدهم إلاَّ باتهامهم بما يستسغيه تفكير الفرد الساذج.
    عجباً نحن نحمِّل إبليس مهمة جليلة، مهمة استخدام العقل. فأصبح استخدام العقل تهمة تقودنا إلى النار. وأصبح التقليد والتواكل والتسليم من الفضائل التي تقود إلى الجنة!!!. ولقد قادتني هذه النتيجة إلى المقارنة بين المقادين والمقلدين والمستسلمين والمتواكلين من جهة، والفلاسفة والعلماء والمفكرين من جهة أخرى.
    أن تكون مع المفكرين، يعني أن تكون مع إبليس في النار. وأن تكون مع السُذَّج فتكون في الجنة. هل ترى يا عزيزي وليد كم هو الاختيار صعب؟
    أن تستسلم لمن يخطط لك طريق الجنة، وهو مأمور بالتفكير عنك. أو أن تخطط أنت لنفسك وتفكر لها. بربك من يستمع إلى مواعظ أي رجل دين من دون أن يستخدم عقله متسائلاً: هل صحيح ما يتكلم به رجل الدين، أم هو مشوب بالريبة والشك، هل تضعه في كفة ميزان ترجح عن كفة من يستخدم عقله؟ وفي هذه الحال في أية كفة تضعني مع أي مقلد يؤمن باستسلام وصمت ودون تفكير؟
    لقد عذَّبني، في البداية، اختيار طريق الشك في ما يحسبه المستسلمون مقدساً. لكنني وجدت أن ما يعده المسلمون مقدساً يتعرض إلى حملات النقد من آخرين لديهم مقدسات غير إسلامية. ووجدت أن احترام المسلمين لمقدساتهم لم يجزهم خيراً، والذين نقدوها، من الأديان الأخرى، لم يتضرروا من نقدهم لها، ولم تلحق بهم أية عقوبات. وهذه النتيجة لا يعدِّلها الإيمان بأن حسابهم في الآخرة.
    إن المقدس -كما وصفه أحد الباحثين- اكتسب قدسيته من خلال العقل الجمعي الديني. والجرأة على اقتحام أسراره وقواعده لن يتيسر إلاَّ للذين أدركوا أن من حقهم أن يشكوا بكل ما هو مطروح أمامهم من قضايا. ومن حقهم أن يتوصلوا إلى الحقيقة عن طريق الإقناع المحسوس.
    إيجازاً لما سبق، أقول إنني قد توسَّعت في قراءاتي للتراث. وكثرة الإطلاع استثارت في نفسي الكثير من الأسئلة. فتوصلت إلى قناعة أنه لا يمكن اكتساب المعرفة الصحيحة إلاَّ بالاطلاع على مواد المعرفة الأولية أولاً، وأن أراها من خلال عقل نقدي ثانياً.
    استناداً إلى منهجي المعرفي قمت بإنجاز بحث الردة في الإسلام. وكان من أهم أهدافي أن أصل إلى عدة من النتائج، ومن أهمها:

  1. الدفاع عن حرية العقل في التفكير والاعتقاد، من خلال نقد النص الإسلامي وفقهه.

  1. البحث حول المقدس في النص الإسلامي، وقمت بالاستعانة بالفقه وتحديد الظروف. واستعنت، للوصول إلى النتائج، بالمنهج التاريخي. وكانت وسائلي تستند إلى التناقضات بين المسلمين حول تطبيق النص من جهة، وتأويله وتفسيره من جهة أخرى. فماذا وجدت؟
    إن ما جهدت نفسك في التعليق عليه من تفصيلات هنا أو هناك؛ لم تكن الهدف الأساسي في بحثي. لذلك:

  1. لم أكن أريد أن أتهم عمر بن الخطاب، لأسباب مذهبية، بأنه كان يتعارض مع الرسول أو يتوافق معه.

  1. ولم أكن أبتغي تأييد المتعة أو معارضتها، لكي أرجح رأياً فقهياً سنياً على رأي فقهي شيعي، أو بالعكس.

  1. ولم أرد من إظهار التناقض بين فاطمة، بنت الرسول، مع إبي بكر الصديِّق، الخليفة الراشدي الأول، لأعطي حقاً لهذا الطرف أو أسلب حق الطرف الآخر.

  1. ولم أرد أن أؤيد حق علي أو حق عائشة في حرب الجمل.

  1. ولم أرد أن أسلب حق علي في حرب صفين، أو أن أمنع حق معاوية بالاجتهاد في الحرب.

وإنما السبب، الذي دفعني إلى الاستعانة بكل تلك الحوادث، هو أن أستكشف مدى صحة ما تربينا عليه من مقدسات. فكانت النتيجة أن ما نحسبه مقدسات قد اختلف حوله الرعيل الأول من الصحابة المقرَّبين. فلماذا نقوم نحن بافتعال مقدسات لم تكن كذلك عند صحابة الرسول وآل بيته؟

لم تكن تعنيني غياب فاصلة من هنا أو نقطة من هناك حول حادثة ما أو نص ما. إلاَّ أن هذا لا يعفيني من أن أعترف بفضل التفصيلات، في النصوص والأحداث، التي كانت الوسيلة الأساسية، أي المادة الأولية، التي أسعفتني في التحليل والاستنتاج.

أخيراً، يا عزيزي وليد: إنني أراهن كثيراً على سعة اطلاعكم على التراث الإسلامي. ولديكم المادة الأولية الغزيرة والثمينة، التي تستطيع أن تساعدكم في صياغة الكثير من الآراء والنتائج التي تسعفنا في النظر إلى مشاكلنا الراهنة بعين الموضوعية.

وهنا قد تقول: وما أهمية التراث في صياغة الآراء والنتائج حول المرحلة المعاصرة؟ لا يغيب عن بالكم أن القاعدة الثقافية الأساسية التي يستند إليها واقعنا المعرفي يقوم على بنية ثقافية إسلامية، أساساً؛ وتلك البنية تعيق الكثير من حالات التطوير، لأنه كما لا يخفى عليكم أن عوائق التغيير، هي بالأساس عوامل ثقافية.

قل لي كيف تفكر أقل لك من أنت. وإذا بقينا عند الحدود الثقافية ونتائجها، التي وصل إليها السلف، فلن نستطيع أن نتقدم قيد أنملة. والدليل على ذلك أن البنية الثقافية التراثية فيها الكثير مما يعيق، وهي قد أعاقتنا لمئات السنين ولا تزال. ألا ترى كم نحن مصابون بالتخلف؟

قد تجيب إن المسلمين يتحملون وزر التخلف وليس الإسلام. وهذا جواب تقليدي استهلكه الزمن. فهل ننتظر قروناً أخرى لكي نجد أفضل من فقهاء المسلمين السالفين. وهل ننتظر آلافاً أخرى من السنين لكي يأتي صحابة أفضل من صحابة الرسول لتطبيق الإسلام الصحيح؟

لقد جئت بالفصل الثاني، مثلاً، من كتاب الردة لكي ألقي الضوء الساطع على العهد الراشدي، والذي كان أولو أمر المسلمين فيه من أفذاذ الصحابة، وعلى الرغم من ذلك تبيَّن أن أهم الفتن التي عرفها المسلمون قد تأسست في عهدهم.

لم أكن من هواة الكشف عن تاريخ الصحابة في سبيل محاكمات تاريخية لهذا أو لذاك منهم، بل ما أردت أن أصل إليه هو أن أكشف بشكل واضح عما كان فقهاء المسلمين يتحرجَّون من الكشف عليه خوفاً من ارتكاب الإثم. لكنهم لم ينطلقوا من أن الإثم هو في الخوف من نقد الذات وكشف العورات.

أرجو منك، ولو للحظات، أن تنتقل من الخوف على المقدس ومنه إلى الكشف عنه ومناقشته. فالساكت عن الحقيقة هو شيطان أخرس. ولا أرى، مع الكثيرين، أن التستر على أمراضنا هو الحل، بل الكشف عنها بجرأة ووضوح هو العلاج السليم.

مع الشكر لاستمرارك في تبادل الرأي فيما بيننا، أرجو أن تقرأ في أبحاثي ما أريد الوصول إليه أكثر من مراقبتي في هذه الزاوية أو تلك. فنحن قد نخطئ في التفاصيل، فلنتجاوزها لكي نستطيع أن نتلمس الطريق بنظرة استراتيجية، ونتلمس الهدف الاستراتيجي.

5 / 3 / 2002م                                 حسن غريب

***

 

ليست هناك تعليقات: