أوراق قديمة أنشرها لأول مرة
وموضوعها:
حوارات ومناقشات حول
كتابات حسن خليل غريب
(المناقشة الثانية)
(2/ 11)
وهذه الحلقة الثانية،
وجاءت تحت عنوان: (مناقشة كتــاب الردة في الإسلام)،
وهي المطالعة التي كتبها مشكوراً الأستاذ وليد شحيتلي. ويعود تاريخها إلى العام
2000. وقد أرفقتها بالتوضيح الذي كتبته رداً عليها.
مناقشة كتــاب الردة في الإسلام
تعقيب وليد شحيتلي
أولاً: إن الآية ]لا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ( (البقرة:256).
عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى] لا إكراه في
الدين [، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن
عاش لها ولد لتهوِّدَنَّه. فلما أجليت بنو النضير، إذا فيهم أناس من الأنصار،
فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا. فأنزل الله تعالى:]لا إكراه في
الدين[. قال سعيد بن جبير، فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام([1]).
وأما
قوله تعالى ]لا إكراه في
الدين [ فقد تم نسخها بآية السيف، والباقي محكم([2]).
يقول الإمام النيسابوري في كتابه أسباب النزول: المنسوخ في كتاب الله على ثلاثة
أوجه، فمنه: ما نُسِخ خطه وحكمه، ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه، ومنه ما نُسِخ حكمه
وبقي خطه.
إستنتـــاج:
1-تقع
الآية التي تم ذكرها، وتدعو إلى الحوار،في باب ما نُسِخ حكمه وبقي خطه.
2- إن الحوار على الرغم من نزول الإذن بالقتال، لم
ينقطع بشكل مطلق، مثل صلح الحديبية قبل فتح مكة والدخول إليها، خلال غزوة بدر،
وقبل بدؤها كان هناك حوار ثم بدأت المعركة. غزوة الخندق كان بها حوار أدَّى إلى
مصالحة. هذا دليل على الحوار.
3- إن ترك الأنصار لأولادهم أو الالتحاق بهم لا
يمكن أن تكون مطلقة عامة في الحكم. فليس من المعقول في شيء أن يكون للرجل إبناً
يتركه اليهود أو يتنصَّر بحجة لا إكراه في الدين. فيكون الأب على دين الإسلام،
والأم على دين الشرك، والإبن على دين اليهودية أو المسيحية. إنه لتناقض كبير في
الإيمان داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة. فذلك يقول لا إله إلاَّ الله، وتلك
تعبد الأصنام، وآخر يقول إن المسيح ابن الله وثالث ثلاثة، وآخر يقول إن عزير ابن
الله. فهذا لا يدخل في باب الحوار، إنه ذو قيمة ثابتة مطلقة.
ثانيــاً: يقول الكاتب في الصفحة
22، ما يلي: «إن آيات الحوار أنزلت في المرحلة المكيَّة حسبما يجمع علماء
المسلمين، فجاءت آيات القتال التي أنزلت في المدينة لتنسخ الآيات المكيَّة التي
تدعو إلى الحوار .وحول هذه المسألة لا بدّ من الإشارة إلى أن آية ]
لا إكراه في الدين [ -مثلاً- هي آية مدنية، وقد أنزلت بعد نزول الآيات التي تأذن / تأمر
بالقتال.فلماذا، إذاً -حسب قواعد التفسير
المتفق حولها- لا تكون هذه الآية قد نسخت الإذن بالقتال؟ أو ليس من الجائز
الموضوعي أن يكون استخدام أسلوب القتال بالدعوة للإسلام هو المسألة المرحلية / الثانوية
اقتضته ظروف المرحلة، بينما القاعدة
الثابتة هي عدم الإكراه ؟».
يقول الإمام النيسابوري في كتابه الناسخ والمنسوخ، ما يلي: سورة
التوبة [براءة] نزلت بالمدينة، وهي آخر التنزيل، تحتوي على إحدى عشرة آية منسوخة.
أما الآيات التي نزلت في سورة التوبة بخصوص قتال المشركين، فهي:
]بَرَاءَةٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[
(التوبة:1). ]فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ[ (التوبة:2). ]وَأَذَانٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ
بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[ (التوبة:3). ]إِلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً
وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[ (التوبة:4). ]فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (التوبة:5).]وَإِنْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ[
(التوبة:6). ]كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[ (التوبة:7).]وَإِنْ
نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ[
(التوبة:12). ]أَلا
تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ
وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ (التوبة:13). ]قَاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ[ (التوبة:14). ]يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ (التوبة:23). ]يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[
(التوبة:28).]يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[ (التوبة:73). ]يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[ (التحريم:9).
إستنتــاج:
صحيح أن الآية (لا إكراه في الدين) هي آية مدنية، ولكنها لم يكن
آخر ما أُنزِل لكي تكون مطلقة في حكمها وتقفل الطريق على الإذن بالقتال. إن الآية
(لا إكراه في الدين) لو لم تُنسَخ، وبقيت حقيقة ثابتة مطلقة الحكم لتناقضت مع
الآية: ]يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ (التوبة:23).
-إن سورة التوبة [براءة]، هي آخر ما أُنزِل من
القرآن، وكانت مدينية وعلى الرغم من احتوائها على آيات القتال بشكل محكم. لا يمكن
الإغفال بأن: كان الحوار قيمة ثابتة، والقتال قيمة ثابتة، ثم ترابط الحوار والقوة
قيمة ثابتة.
- يوجد بعض التساؤل:1-هل من المعقول أن الله أذن للرسول بقتال المشركين لعام أو عامين أو ثلاث، ثم أوقف هذا الإذن؟2-هل تمرد الرسول على نزول الآية (لا إكراه في الدين)؟
3-هل الحرب التي قام بها
الرسول لنشر الدعوة كان مجرد اعتداء على الآخرين، لأنه لا يحترم، ولا يؤمن ما
يؤمنون به طالما أُنزِلت الآية (لا إكراه في الدين) قيمة ثابتة؟
4-هل الرسول لا يعرف
المرحلي من الثابت؟
5-إن القرآن الكريم لم
ينزل دفعة واحدة. وبقي التنزيل لمدة 23 سنة لانتهاء تنزيله. فكانت الآيات تنزل
تطابقاً لما يحدث على الأرض، هذا من جهة؛ وإعداد المسلمين حتى تتهيّأ لهم الظروف
الذاتية والموضوعية لتقبل التحليل والتحريم. لأنه لا يتم نقل المجتمع من حالة إلى
حالة دفعة واحدة.
- إن ما ورد في سورة التوبة يبيّن:1-تبرَّأ الله ورسوله من المشركين.2-الأمر بقتال المشركين وقتلهم بعد انتهاء أشهر الحُرُم.3-إحترام العهد بين الرسول والمشركين لحين انقضائه.4-الأمان لمن طلب الأمان حتى يسمع كلام الله ذلك ]بأنهم قوم لا يعلمون[ . وهذا يعني أن الله ورسوله يعلمون بأن المشركين، الذين يقاتلونهم، لا يعرفون شيئاً عن الدين الجديد، لأنه لم تُعطَ لهم فرصة كافية. وهذا دعوة للحوار على الرغم من نزول الإذن بالقتال.5-منع المشركين من التقرب من المسجد الحرام.6-إستعمال الغلظة عليهم وترصدهم وتعقبهم.
7-إن نزول الآيات بقتال
المشركين وقتلهم، أينما وجدوا، تحذير قوي بأن الحوار يقابله حوار، وإن القتال
يقابله قتال، والقوة تقابلها قوة، والأذى يقابله أذى.
8-ليس من المعقول أن
يتبرّأ الله ورسوله من المشركين، ثم يتبرّأ من الأمر بقتالهم وقتلهم حيثما
وُجِدوا، ثم يتبرّأ من منع المشركين من التقرب من المسجد الحرام. ثم يقول (لا
إكراه في الدين). فما ذنب الذين قُتِلوا من المسلمين والمشركين في هذه الحرب التي
أمر بها الله الرسول بالقتال، ثم الاستدراك والعودة إلى آية (لا إكراه في الدين).
إن من يقوم بذلك هو الله وليس الإنسان، ليكون هذا التردد وعدم حساب الأمور بشكلها
الصحيح.
ورد في الصفحة 37 من كتاب الردة في الإسلام، ما يلي:
«ولأن القوة والقتال هما أسلوبان لحماية المثل العليا، فأحرى بهما أن يتوجّها إلى حماية حرية
المعتقد، كمثل
أعلى؛ وليس استخدامهما لإكراه الآخرين على
أن يعتنقوا ما ليس لديهم قناعة به. ولهذا
قال الله تعالى: إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب».
- ورد في كتاب الناسخ والمنسوخ للإمام النيسابوري، ما يلي: «هذه الآية المجمع عليها، قوله تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، نُسِخت بآية السيف» ([3]).إستنتــاج:-عن الرسول، في بداية دعوته، لم يكن يملك القوة للقتال، بل كان يدعو بالتي هي أحسن.-إن قريشاً، وممن كانوا معها، ألحقوا الأذى بداية بالرسول ومن كان معه.-إن قريشاً، في بداية الدعوة وخلالها، كانت تملك القوة والسطوة، والعدد والعُدَّة؛ فلماذا لم تترك الرسول وشأنه ليعبد ما يعبد، ويبشر بما يؤمن به، فستخدم قوَّتها لحماية ما آمن به الرسول؟-أدركت قريش قوَّة الرسالة التي أتى بها الرسول وتأثيرها عليهم، فبادرت إلى استعمال القوة والتعذيب والحصار من أجل وأدها في مهدها. وقريش تعرف بأن محمداً صادقٌ وأمين، ولم يصبه ما أصاب أهل الجاهلية بشيء.رابعــاً: ])ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (النحل:125). لقد نزلت هذه الآية بعد غزوة أُحُد.ورد في كتاب الردة، تحت عنوان غزوة أحد، في الصحفة 29، ما يلي: «رداً على غزوة بدر، اجتمعت قريش مع من أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة، وأعدت جيشاً لغزو المسلمين. فكانت معركة أحد التي سقط فيها سبعون شهيداً».وقد ورد في كتاب أسباب النزول للإمام النيسابوري، ما يلي: «إن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمُثلة السيئة، قالوا حين رأوا ذلك: لئن ظفرنا الله سبحانه وتعالى عليهم لنزيدنَّ على صنيعهم، ولنمثلنّ بهم مُثلة لم يمثلها أحد من العرب قط، ولنفعلن ولنفعلن، ووقف رسول الله (ص) على عمه حمزة، وقد جدعوا أنفه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استطرتها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها… نظر رسول الله (ص) إلى حمزة، نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع قلبه… فقال الرسول: والله لئن ظفرني الله تعالى بهم لأمثلن بسبعين منهم، فأنزل الله تعالى ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[ (النحل:126). قال النبي بل نصبر، وأمسك عما أراد، وكفَّر عن يمينه»([4]).فهذه الآية ، من سورة النحل، وتكملتها التي لم يشر إليها الكاتب: ]ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (النحل:125). ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[ (النحل:126). ]وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ[ (النحل:127).إستنتــاج:-لماذا لا تكون هذه التي أنزلها الله لكي تصبر النبي على ما أصابه بعمه وبالمسلمين. لكي يصبر المسلمين على ما ألمَّ بهم؟-لما لا تكون هذه الآية عاملة على لملمة جراح النبي والمسلمين، وإعادة تنظيم صفوفهم بعد ما أصابهم من خسارة في هذه الحرب؟-أمر الله الرسول بالمعاقبة بمثلها، وبيَّن له الصبر أفضل مما كان ينوي عليه، فاختار الرسول الصبر.-يوجد فصل دائم للآية أولها عن آخرها، وفصلها عن الظروف التي نزلت بها. وأخذ الشق الذي يدعو إلى الحوار كمقياس مطلق.-إن إعطاء صفة الحوار للآيات بصورة مطلقة على مدى التنزيل تُظهر الرسول وكأنه متعطش للقتال وإراقة الدماء على الرغم مما أمره الله به.-يقول الإمام النيسابوري، في كتابه الناسخ والمنسوخ، تمَّ نسخ الآية أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، منسوخة، نسختها آية السيف([5]).ورد في كتاب الردة في الإسلام، في الصفحة 25، ما يلي: «ألمَّت بالمسلمين، في مطلع هجرتهم إلى المدينة، متاعب اقتصادية جمّة متعددة الأسباب منها : أن الأنصار فتحوا بيوتهم للمهاجرين، الذين كانوا يعيشون في حياة كفاف غالباً».إستنتـاج:يُستنتج من هذا النص أنه لم يحصل في المدينة حرب لكي يتم احتضان المهاجرين على الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي أصابتهم. وهذا الاحتضان كان عن قناعة نتيجة للحوار والتبشير بالدعوة الجديدة على الرغم من الإذن بالقتال، وهذا يدل على فرصة أُعطيت للرسول ليحاور دون التعرض له بالأذى لكي يبيّن لهم هدف الرسالة التي أُرسِل من أجلها. وهنا أعلى مراحل الحوار الذي أدّى إلى انتشار الدين الجديد وإيمانهم القوي الذي أدّى إلى احتضان المهاجرين على الرغم من الضائقة الاقتصادية.ورد في الصفحة 38 من كتاب الردة في الإسلام، ما يلي: «فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل».إستنتــاج:-إن المقصود بالفسحة الزمنية، هنا، فترة زمنية قصيرة تُعطى لإعادة الحساب. وهذا ليس صحيحاً لأن الرسول بقي 13 عاماً يدعو المشركين بالحوار إلى الدين الجديد على الرغم من تعرضه للأذى.-فلماذا لم تعطه قريش الفترة الزمنية نفسها دون التعرض له بالأذى، ومنعه من التبشير بما يؤمن به. فبذلك يكون التكافؤ بالحوار وبالفرصة؟-لماذا كثرة استعمال عبارات القتل والقتال، وإظهار الإسلام بأنه لا يعرف الرحمة؟-بلغ عدد غزوات الرسول 24 غزوة و5 سرايا. منها 7 غزوات حصل فيها حرب، و17 غزوة لم يقع فيها حرب إلى الدرجة التي لم يلتق في خلالها المتقاتلون [مراجعة غزوات الرسول من ص 27 - 34]. وإن الغزوات ال 17 كان المشركون يغيرون فيها على المسلمين بشكل مفاجئ، ويلحقون الأذى القليل بهم. أما الغزوات التي حصل فيها حرب فيمكن تفصيلها على الشكل التالي:أربع غزوات ضد اليهود: غزوة بني النضير [السنة الثانية هجرية]. غزوة بني قريظة [السنة الخامسة هجرية]. غزوة بني المصطلك [السنة السادسة هجرية]. غزوة خيبر [السنة السابعة هجرية]. وكانت هذه الغزوات لقتال اليهود بسبب دسائسهم وغدرهم وعدم احترامهم للعهود والمواثيق، ولم تكن لتغيير دينهم.
-أما غزوة مؤتة [السنة الثامنة هجرية] فكانت ضد الروم، ولم تكن متكافئة من
حيث عدد المسلمين، الذي بلغ 3000 آلاف مقاتل، أما عدد الروم فبلغ مئة ألف مقاتل.
وفيها هُزِم المسلمون.
-هُزِم المسلمون في غزوتين
مع المشركين، وهما: غزوة أُحُد [السنة الثالثة هجرية]. وغزوة حنين [في السنة
الثامنة هجرية]. ويُلاحظ، هنا، وقوع هزيمتين بالمسلمين في العام ذاته: هزيمة حنين
وهزيمة مؤتة.
-أما الغزوة التي انتصر
فيها المسلمون على المشركين فكانت غزوة بدر [السنة الثانية هجرية]، أي أن: أربع
غزوات ضد اليهود ظفر فيها المسلمون. وثلاث غزوات انهزم فيها المسلمون: اثنتين ضد
المشركين، وواحدة ضد الروم، وواحدة ربحوا فيها ضد المشركين وهي بدر.
-عند بدء الرسول بالدعوة
إلى الإسلام كان بالحوار [13 عاماً في مكة].
-لم تتقبل قريش فكرة الدين
الجديد.
-بدأت قريش أولاً بإلحاق
الأذى بالرسول، وبمن آمن معه وصدَّق رسالته.
-محاولة قتل الرسول، وهي
قصة مشهورة، ويُروى أن علياً بن أبي طالب كان قد نام في فراشه.
-هجرة الرسول واختباؤه في
مغارة، ولم يفصل بينه وبين القتل سوى خيوط العنكبوت.
-تعذيب وقتل من صدَّق
بالرسول، وقصة عمار بن ياسر مشهورة بقتل أهله، وكانا أول قتيلين في الإسلام. وإن
دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على الإرهاب الفكري عند قريش.
-تعذيب بلال الحبشي الذي
أصبح مؤذِّناً للرسول.
-فرض الحصار على من آمن
وصدَّق بما أتى به الرسول، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وعدم شراء أي شيء منهم، أو
بيعهم، وعدم الزواج منهم أو تزويجهم. هاجر بعضهم إلى الحبشة والبعض الآخر إلى
المدينة. وقد عانوا من قلة الماء والطعام.
-إرسال قريش الرُسُل إلى
القبائل وإلى حلفائها، لتضييق الخناق على الرسول واتباعه.
من كل ما تقدَّم، من خلال استعراض غزوات الرسول، يتبيَّن أن
الإسلام لم يضع السيف على الرقاب بصورة قاطعة: إما القتال وإما القتل وإما
الإسلام. إن عدم وجود صولات من الحرب مع المشركين من العرب، التي أتت الرسالة من
أجلهم، ]وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ[ (ابراهيم:4)، لكي تنتشر من خلالهم إلى بقاع الأرض.
إن هذا يدل على عظمة الرسالة التي انتشرت في بلاد العرب وعظمة
العرب الذين حملوا هذه الرسالة، ]كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ( (آل عمران:110)، بدون حرب وبدون إراقة دماء. من الممكن أن انتشار
الإسلام في بقاع الأرض قد تراصف مع القوة والإقناع، لأن القهر وحده في الفكر
والإيمان لا يؤدي إلى مثل هذا الانتشار الكبير والواسع ما لم ترافقه القناعة
والإيمان.
إن الإذن بالقتال كان بخصوص العرب المشركين، ولم تمتد إلى أهل
الكتاب، أي أن الجبر كان للعرب لكي يتحمَّلوا تبعات انتشار الإسلام ويكون لهم دور
في بناء الحضارة بعد أن كانوا قبائل متناحرة متناثرة لا قيمة لهم.
هل معركة بدر، التي انتصر فيها المسلمون، غيَّرت مجرى التاريخ
العربي؟
هل معركة بدر، التي خاضها الرسول كانت بأمر من الله أو بأمر من
الرسول؟ وهل تمرَّد الرسول على أمر الله لاختياره طريق القتال بدل الحوار؟
على الرغم مما
أصاب العرب من ردات على الإسلام، بعد موت الرسول، استطاعوا أن يدكوا صرح
الإمبراطورية الفارسية، وإمبراطورية الروم، على الرغم من قلة عددهم وعدَّتهم، وهذا
يدل على عمق إيمان العرب، إيمان لا تراجع عنه، إيمان الشهادة أو النصر. وعندما
اشتدَّ عود المسلمين، وأصبحوا يعاملونهم بمثل ما عُوملوا به، نرى أن الأذى الذي
كان يصيب الرسول والمسلمين لا أثر له. فالقتال كان دفاعاً عن النفس ودفاعاً عن الرسالة.
وكان الإذن بالقتال، عموماً، دفاعاً عن النفس بأمر من الله، وكل ما يأتي من الله
فهو عدل.
لم يكن السيف الحد الفاصل
لانتشار الإسلام، ولم يكن مسلطاً على رقاب العباد بصورة مطلقة، ولم يكن الإسلام
دموياً وعنيفاً في أثناء نشر الرسالة. ولم يكن الحوار بعيداً جداً خلف السيف، بل
كانت الظروف هي التي تقرر استخدام السلاح المناسب. فإذا كان الإسلام ظالماً
بانتشاره، فإن الله يكون ظالماً لأنه يأمر الرسول، ما على الرسول إلاَّ البلاغ
والطاعة. وإذا كان الإسلام عادلاً بانتشاره فإنه يكون عادلاً بأمر من الله. وإذا
كان العدل والظلم متساويين، فإن انتشار الرسالة يقع في منزلة بين منزلتين. ولكن
المنزلة بين المنزلتين تكون خاصة بالبشر من حيث الثواب والعقاب، لكن تنزيل الرسالة
لا يمكن أن يكون بين المنزلتين لأن مصدرها الله التي كُلَّف بها الرسول.
وليد شحيتلي
***
تعقيب حسن خليل غريب على مناقشة شحيتلي
بداية
كان لا بُدَّ من أن أسجَّل شكري للسيد شحيتلي لاهتمامه بقراءة الكتاب أولاً،
ولجهده الذي بذله في مناقشة بعض ما قرأ منه ثانياً. فالقراءة واجب تخلَّى عنه
الكثيرون، ومناقشة أي مادة نقرأها ومن ثم ننقدها أصبحت من النقد النادر. فبالقراءة
الناقدة نستطيع أن نسجل خطوة أولى على طريق اكتساب معارف جديدة، بالإضافة إلى
تطوير معارفنا السابقة بما يتلاءم مع العصر الذي يعيش فيه كل من الكاتب والقارئ
الناقد. فتطوير مناهج المعرفة واجب من أهم واجبات الكاتب والقارئ الناقد على حد
سواء. وعلى قاعدة إيماني بأن طاولات الحوار هي من أهم الضرورات التي على المثقفين
العرب أن يبسطوها فيما بينهم، سأعمل على تسجيِل بعض الانطباعات عن المنهج الذي
سلكه السيد شحيتلي في مناقشة بعض ما جاء في كتاب الردة، ومنها:
1- يتميز منهجه باطلاَّع وافر وعارف عن مناهج البحث
الإسلامي. وهو في هذا الإطار يعود في تطوير معارفه إلى ما جاء في التراث الإسلامي. وأدلته التي
يستخدمها في تدعيم وجهة نظره النقدية ثابتة في مصادر الفقه السلفي.
2- يستخدم، بالإضافة إلى معرفته بالمناهج السلفية،
قدرته على الاستنتاج وإبداء الرأي وهي من أهم ميزات الحوار فيما تدور حوله المسائل
الخلافية.
3- خِلت نفسي، في أثناء قراءة الملاحظات، أنني أمام
فقيه إسلامي بارد القسمات والطباع، واثق من نفسه وواضح في أسانيده ومناقشاته. وهذه
الصفات مما يغري المحاور الآخر بأن يسترسل بحرية وراحة، بعيداً عن هاجس الاتهامات
العشوائية، بالمناقشة وإبداء الرأي.
4- إن ما يميز، في هذه
المناقشة، أحدنا عن الآخر هو منهج المناقشة حول نصوص ووقائع، تُعدُّها أنت أنها
مطلقة وتحمل الحقيقة كلها لأنها جاءت بوحي من الله وبأوامر منه، أما أنا فأحسبها
نصوصاً نسبية جاءت لتعالج مشاكل آنية كانت تنزل في وقتها وزمانها ومكانها. وليس
أدلَّ على هذا الاستنتاج من أنك ترفع أسئلة، كمثل: «هل من المعقول أن الله أذن
للرسول بقتال المشركين لعام أو عامين أو ثلاث، ثم أوقف هذا الإذن؟». «هل
الرسول لا يعرف المرحلي من الثابت؟». «ليس من المعقول أن يتبرّأ الله
ورسوله من المشركين، ثم يتبرّأ من الأمر بقتالهم وقتلهم حيثما وُجِدوا…». «هذه الحرب التي أمر
بها الله الرسول بالقتال… إن من يقوم بذلك هو الله وليس الإنسان…». «فإذا كان الإسلام
ظالماً بانتشاره، فإن الله يكون ظالماً لأنه يأمر الرسول». «تنزيل الرسالة
لا يمكن أن يكون بين المنزلتين لأن مصدرها الله التي كُلَّف بها الرسول».
5- لا بُدَّ، قبل أن نبدأ بالحوار، من أن نتَّفق
على المنهج. فإذا كان المنهج قائماً على قاعدة تكبيل حرية المتحاورَين بنصوص
مُنزَلَة من الله، فمن العسير عليهما أن يقفا أمام إشكالية التفضيل بين ما يقوله
الله وما يقوله الإنسان. لأن نتائج الحوار لا بُدَّ من أن تكون لصالح ما يقوله
الله وما يأمر به. فمن السذاجة، إذاً، أن نناقش ما أنزله الله وهو خالق الكون
والبشر، والمحاور المكابر هو، أيضاً، من بين خلق الله. وهل من هدف لله تعالى أن
يقف في مواجهة بشر هم من خلقه وتكوينه؟ وهل من الجائز أن يضع الدين العزة الإلهية
نداً لند مع البشر؟
6- إذا كان النقاش يدور بين ما قاله الله وما أمر
به، وبين ما يقوله البشر، فلن تكون المعركة إلاَّ خاسرة بلا شك. وفي مثل هذا
الحالة لن أستطيع، كفرد من البشر، إلاَّ أن أرفع راية التسليم لله خالقي وسبب
وجودي ووجود آبائي وأجدادي، ولن أكون ناكراً لقدرة الله ونعمته عليَّ وعلى البشرية
والكون اللامتناهي. ولن أُتعب نفسي بمواجهة المستحيل من خلال أن أكون نداً لله
جُلَّت قدرته.
7- إن المنهج الذي أعمل على أساسه، كما أصبح
واضحاً، يستند إلى أن الله تعالى لم يضع أحكاماً تفصيلية للبشر لكي يلزمهم
بتطبيقها. إنما زوَّدهم بالقوة بعدد من المُثُل العليا والتي عليهم بإخراجها إلى
الفعل. ولا يمكنهم العيش من دونها في
مجتمع متجانس ومقبول، المجتمع الذي يحاول أن يحقق من خلال عمل أفراده وسعيهم إلى
بلوغ المُثُل العليا، المثل التي يصح أن نطلق عليها صفة الثبات والديمومة والتي
تعبِّر عن الحقائق المطلقة. والحقائق المطلقة هي ما يصح تعميمه وقبوله في شتى
المجتمعات على مختلف أرجاء المعمورة، في كل زمان ومكان. وكمثال على ذلك إشكالية
الحوار والقوة، إشكالية الحرية والإكراه. وهي الإشكالية الخلافية التي خصصت لها
بحثاً متكاملاً، وركَّزت فيه على الدعوة الإسلامية بشكل خاص بسبب التأثيرات
السلبية الكبيرة التي يعاني منها المفكرون، والتي يحدثها غياب الرؤية الإسلامية
الموحَّدَة لها من جهة، ولغياب إمكانية المقاربة بين الرؤية الإسلامية وبين رؤية
المجتمعات البشرية المتعددة من جهة أخرى.
8- إنه من المتعارف عليه أن أي قانون أو تنظيم لا
ينال رضى كل المجتمعات وقبولهم هو قانون نسبي وخاضع للتغيير وعدم الثبات، فهو ليس
ثابتاً فكرياً، بل هو من المتغيرات. والإكراه، هنا، هو من القوانين النسبية
والمتغيرة فهو ليس ثابتاً بل متغيراً. وإلاَّ لكان من الواجب أن يعمل الناس في
علاقاتهم على قاعدة أن الأفضل هو من يستطيع أن يكره الآخرين على ما ليس لديهم
قناعة بصلاحيته لهم، وعليهم أن يخضعوا إلى إكراه من يرى مصلحتهم من زاويته لا من
زاويتهم. وهنا تنتشر فوضى تطبيق مبدأ الإكراه وتتكاثر بتكاثر الرؤى وتعددها.
9- أما الحرية، فهي مبدأ إنساني عام وقيمة من القيم التي تعمل من أجلها كل
المجتمعات، كما يعمل من أجلها الأفراد أيضاً. وليس هناك على سطح الكرة الأرضية من
يرى أن الحرية، كمبدأ فلسفي عام، هي من القيم المتغيرة، بل هي من القيم الثابتة.
أما طريق العمل من أجل تعميمها فيختلف من بيئة إلى أخرى ومن ظرف إلى آخر. فقد
يستخدم البعض أسلوب الحوار، وقد يستخدم البعض الآخر أسلوب المعارضة السياسية أو
حتى أسلوب القتال من أجل الدفاع عنها كمبدأ ضد كل من يعمل على منعها أو
مصادرتها. هنا، لم يتغير مفهوم الحرية من
مجتمع إلى آخر، فالحرية هي قيمة مطلقة ثابتة. أما أسلوب العمل من أجلها فيتغير
بتغير الظرف والبيئة، وأساليب العمل من أجل الحرية، والتي قد يكون أحدها القوة أو
الإكراه، هو من المتغيرات، فهي ليست ثوابت بل متغيرات، لأن مبدأ الإكراه ليست من
الغايات المطلقة التي تصب ممارستها في مصلحة الأفراد أو الجماعات.
10- وهنا، أيضاً، يحسب الفقهاء المسلمون استناداً
إلى الكتاب والسنة، أن استخدام أسلوب الإكراه هو مبدأ إلهي، بل من الواجب تطبيقه
من أجل نشر الدعوة الإسلامية. ونحن نعرف أن الدعوة الإسلامية ما وُجِدت إلاَّ من
أجل مصلحة المجتمع. فهل في مثل هذا الاستخدام ما يبرر أن يكون الإكراه هو من
المبادئ المطلقة؟
فإذا ما كنا من القانعين
بصحة هذا الاستنتاج تصبح الشريعة غاية لا وسيلة، ويصبح الإنسان هو الوسيلة التي
نؤهلها لخدمة الشريعة وليس العكس. فلمن يكون الله قد خلق هذا الكون، أمن أجل سعادة
الإنسان أم أنه خلق الإنسان ليطبق الشرائع، حتى منها التي لا يرى أنها تمتلك
المبررات العقلية والمصلحية الكافية؟ وهل الله بحاجة إلى أن يخلق إنساناً، ويخلق
معه طبيعتيْ الطاعة والعصيان، ويضعه أمام امتحان عسير: إما أن يطيع ما حسب البعض
أنه أمر إلهي فيدخل الجنة، وإما أن يعصي فيدخل نار جهنم إلى أبد الآبدين؟ ويحسب
البعض، استناداً إلى الكتاب والسنة، أنهم أُمروا أن يقودوا البشر إلى الإيمان
فالجنة حتى ولو استخدموا أسلوب الإكراه الذي يتعارض مع الحرية، كقيمة عليا من
القيم التي فطرها الله في البشر كل البشر؟
ملاحظات
الكاتب غريب حول بعض تفصيلات النقد:
أما
حول موضوع الناسخ والمنسوخ، فنرى أنه من الموضوعات التي لم تأت لتغيَّر حكماً
بحكم، أو آية بآية أحسن منها: ]مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ (البقرة 2/ 106). بل إن ما جاء في
القرآن هو تدليل على أنه لا يمكن للأحكام الزمنية أن تبقى ثابتة، بل إنها تتغير
بتغير الظروف. وهو دليل على أن أسلوب النسخ جاء لا لكي يضع أحكاماً ثابتة لأعمال
هي من المتغيرات، بل ليدل على أن الشريعة ليست ثابتة بل وُضِعت لتحاكي ظروف البشر
ومصالحهم، فإذا أصبح الحكم لا يلبي مصلحة البشر فلا ضير ولا خوف من تعديله بأحسن
منه.
قد يقول قائل بأنه ليس من
حق أيٍّ كان أن يزج نفسه في سلك المفسرين والمجتهدين. فمن يريد أن يزج نفسه في هذا
المضمار من دون أن يكون من أهله، كمن يفتري على استخدام سلطة ليست من حقه. بل لا
يجوز أن يتنكَّب هذه المهمة إلاَّ من حاز على شروط الأهلية التي حددها السلف،
وبذلك عليه أن يكون من الفقهاء الذين درسوا في كليات الشريعة. ولا يسعنا هنا أن
نلفت النظر إلى أن كليات الشريعة ليست موحدَّة، بل يمكن أن ينفي بعضها صلاحية بعضها
الآخر. نقول هذا في الوقت الذي لا بُدَّ لنا من أن نُذكِّر بأن المسلمين الأوائل
لم يتخرجوا من أية كليَّة بل اعتمدوا على كفاءاتهم العقلية والنقلية.
لقد
حدد النيسابوري أحكام النسخ الشكلية، لكنه لم يستطع أن يناقش أو يجتهد في جوهر
النص. ولهذا يحدد أنواع النسخ بثلاث، وهي: ما نُسِخ خطه وحكمه. ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه. ومنه ما نُسِخ حكمه وبقي خطه. وهنا لا بُدَّ من
التساؤل:
-ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط والحكم؟ فهل لدى
النيسابوري تفسيراً لهذا؟ وهل لدى الله، الذي حدد بعض أحكام الشريعة فسُمِيَت
محكمة، غرض آخر من إغفال حكمة ما نسخ خطه وحكمه؟
-لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمه؟ وهذه
معضلة أخرى لا بُدَّ من توضحيها بغير القول إن العلم عند الله.
-ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟ وما فائدة
بقاء الخط بغير الحكم؟ وهل الغاية هي الخط أم الحكم؟ فإذا كانت الغاية هي الخط،
فلماذا نسخ الخط في بعض الأحكام؟ وإذا كانت الغاية هي الحكم فلماذا أبقى على خطوط
أحكام كان قد نسخها؟
هنا
لا بُدَّ من أن نتساءل أيضاً: هل لا يجوز لنا أن نناقش النيسابوري أو غيره من
فقهاء المسلمين الذين وضعوا قواعد لفهم القرآن والسنة أم أن ما جاؤا به أصبح من
النصوص المقدَّسة؟ وهل لنا أن نقول غير ما قاله الإمام محمد عبده: هم رجال ونحن
رجال. وهل نغفر لما قاله محمد عبده لأنه خريج أحد كليات الشريعة؟
هل
يمكننا، هنا، أن نقارن بين مستوى إيمان من آمن من المسلمين بالحوار وبين من
استجابوا إلى الدعوة الإسلامية بحد السيف؟
-لقد عبَّرت، أنت، تماماً عن صلابة المسلمين الذي آمنوا بالدعوة
بالحوار في المرحلة المكية. ألست أنت القائل: إن المشركين فرضوا «الحصار على من
آمن وصدَّق بما أتى به الرسول، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وعدم شراء أي شيء
منهم، أو بيعهم، وعدم الزواج منهم أو تزويجهم. هاجر بعضهم إلى الحبشة والبعض الآخر
إلى المدينة. وقد عانوا من قلة الماء والطعام».
لو
كان نسخ آية الحوار بآية السيف هو الأحسن والأفضل لكان المؤمنون بحد السيف هم أكثر
إيماناً ممن استجابوا لها بواسطة الحوار. لكننا نرى أن العكس هو الصحيح، لأن من
آمن بالدعوة في المرحلة المكية -مرحلة الدعوة بالتي هي أحسن- كانوا أشد إيماناً:
فهم الذين تعرضوا للتعذيب، ومنهم من هاجر إلى الحبشة على الرغم من عذابات الهجرة،
ومنهم من هاجر إلى المدينة، لكنهم جميعاً ضحوا وكابدوا ودفعوا الثمن غالياً وبقي
إيمانهم قوياً بقوة نيتهم على أن يموتوا في سبيلها. أما الأكثرية الساحقة من الذين
أسلموا بالتخويف من القتل والقتال فقد كانوا من المنافقين، وقد أشار إليهم الرسول
والنص القرآني بكثير من الوضوح. وهل يبقى أمامنا إلاَّ أن نميز بين الدعوة بالحوار
والدعوة بالسيف، ونؤمن بأن الحوار هو القاعدة الثابتة أما السيف فهو القاعدة
المتغيرة؟ وهل علينا أن نمتنع عن الإقرار بمثل هذه الحقيقة بسبب القواعد الفقهية
حول تحديد الناسخ والمنسوخ. واستطراداً أن نؤمن بثبات الدعوة بالقتال وتغيير أسلوب
الدعوة بالحوار، وليس لأي سبب إلاَّ لأن آية السيف قد نسخت آيات الحوار؟
أما
حول الاستغراب الذي عبَّرت عنه النتيجة التي توصلت أنت إليها يا صديقي: «إنه
لتناقض كبير في الإيمان داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة» إذا تعددت أنواع
الإيمان. وما هو وجه الغرابة في ذلك؟
أيمكن القول إن السبب هو أن الإسلام هو دين الفطرة؟ وحول هذه المسألة أرجو العودة
إلى استنتاجات كتاب الردة في أواخر الفصل الأول.
وهل من الواقعية بشيء أن يبقى كل الناس على دين ملوكهم؟ فأين هي الحرية في
الاختيار؟ فلو افترضنا، كما يحسب فقهاء المسلمين، أن في الإسلام كل الحقائق في
الدنيا والآخرة، أي أن الإسلام هو دين ودنيا، يكفي فقيه عادل واحد أن يحكم البشرية
كلها. وهنا لا يمكن أن يتسرب الخلل إلى الإيمان، ولا يمكن له أن يتعدد. فعلى
المسلم أن يًسلِّم بما يفتي به الفقيه، وأن يمتنع على أولاده أو زوجاته أن يؤمنوا
بغير ما يؤمن به رب البيت، تحت ذريعة أن هناك تناقض في الإيمان إذا انتمى أي واحد
إلى دين غير الدين الذي ينتمي إليه أفراد أسرته. فهل يستقيم الإيمان في مثل هذه
الحالة؟ وهل نستطيع أن نُثبِّت أنه من الواجب أن يُجمع كل أفراد الأسرة على
الإيمان بدين واحد، وأن نمنع الحوار حول حق كل فرد أن يختار الدين الذي يقتنع به
لأن هذا، كما تقول: «لا يدخل في باب الحوار، إنه ذو قيمة ثابتة مطلقة».
-لقد ساويت أنت بين الحوار والإكراه عندما قلت بأن «الحوار قيمة
ثابتة، والقتال قيمة ثابتة، ثم ترابط الحوار والقوة قيمة ثابتة». فكيف تستقيم
الأمور عندما توازن في المبدئية بين متناقضين؟
هل علينا أن نعمل من أجل أن يبقى القتال قيمة من القيم التي لا
نسعى لإلغائها من التداول لكي تبقى أسلوباً صالحاً في حسم المشاكل؟
وهل يمكن أن نكون منطقيين عندما نساوي بين الحرية والإكراه؟
إن القوة والقتال والإكراه تتساوى إلى حد ما، كأساليب مرحلية،
عندما نستخدمها في فرض القيم العليا. وبصورة أوضح: أنا أقاتل من أجل فرض العدالة
والمساواة -كقيم عليا ومطلقة- بين الناس. وأنا أستخدم أسلوب إكراه الظالم على رفع
ظلمه عن المظلومين. وأنا أستخدم القوة في سبيل أن أعيد الحق -كقيمة عليا مطلقة-
إلى أصحاب الحقوق. ولكن عندما تتحقق العدالة والمساواة، وعندما يرفع الظالم ظلمه
عن المظلومين، وعندما يُعيد المغتصب حقوق الآخرين إليهم، هل يبقى القتال والقوة
والإكراه قيم ثابتة؟ هنا ليست هذه من القيم الثابتة بل هي من الوسائل التي
نستخدمها أحياناً في سبيل الدفاع عن القيم الثابتة المطلقة.
لماذا نستخدمها أحياناً وليس في كل الأوقات والظروف؟
إذا استجاب الغاصب أو الظالم إلى رفع
اغتصابه أو ظلمه بالتي هي أحسن، فهل يبقى من مبرر لاستخدام أسلوب القوة والقتال
والإكراه لتحقيق الغاية ذاتها؟ لا بُدَّ من أن يكون الجواب: يستخدم الإنسان أولاً
أسلوب الدعوة بالتي هي أحسن، أي بالحوار. فالحوار له الأولوية؛ إذاً، له الأفضلية.
وهنا، منطقياً، لا يمكن أن يكون للحوار والقتال الأفضلية ذاتها. فهما ليستا
متساويتين بالثبات والإطلاق.
هنا لا يمكن أن يكون خيار بين العدالة، كقيمة عليا ومطلقة
وثابتة، واللاعدالة. إننا نقاتل اللاعدالة في سبيل العدالة. بينما هناك خيار بين
استخدام الحوار والقوة، بل هناك أفضلية وأولوية للحوار على القوة.
تقول أنت: «إن نزول الآيات بقتال المشركين وقتلهم، أينما وجدوا،
تحذير قوي بأن الحوار يقابله حوار، وإن القتال يقابله قتال، والقوة تقابلها قوة،
والأذى يقابله أذى». لكن إذا حُلَّت المشاكل المتنازع عليها بالحوار الذي يقابله
حوار، فهل هناك ضرورة واجبة في استخدام الأساليب الأخرى؟
تنقل ما يلي: «يقول الإمام النيسابوري، في كتابه الناسخ
والمنسوخ، تمَّ نسخ الآية أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي
أحسن، منسوخة، نسختها آية السيف».
أنت تجيب بنفسك على السؤال عندما تقول: «إن الحوار على الرغم
من نزول الإذن بالقتال، لم ينقطع بشكل مطلق، مثل صلح الحديبية قبل فتح مكة والدخول
إليها، خلال غزوة بدر، وقبل بدؤها كان هناك حوار ثم بدأت المعركة. غزوة الخندق كان
بها حوار أدَّى إلى مصالحة. هذا دليل على الحوار». لكنني أضيف إلى ما قلته أنت بأن
الحوار كان الخيار الأول، وهذا دليل على أنه أكثر ثباتاً وأفضل قيمة من الأساليب
الأخرى. وهذا دليل، أيضاً، على أن القتال هو أسلوب مرحلي. وعليه فإنه، على الرغم
من أن آيات القتال قد نسخت آيات الحوار، يبقى الحوار ثابتاً والقتال متغيراً.
وأكبر دليل على ذلك فإن القتال الذي أمر الله باستخدامه ناسخاً آيات الحوار، لم
يعد الحل، بل إن واقع الحوار وقيمته الثابتة هو الذي نسخ واقعياً أسلوب القتال،
فالمسلمون اليوم لا يستطيعوا أن يقسموا البشرية في القرن الحادي والعشرين بين مؤمن
وكافر، بين مسلم ومشرك، ولن يستطيعوا أن يدعو إلى الإيمان بالله حسب تعاليم
الإسلام عن طريق القوة. ومن هنا تصبح مبادئ الناسخ والمنسوخ بين آيات الحوار
والقوة، التي استنبطها فقهاء المسلمين من النص لاغية بحكم الأمر الواقع، وهذا دليل
على ظرفيتها ومرحليتها، ودليل آخر على ثبات الدعوة بالحوار كقيمة قائمة على مبدأ
الحرية كقيمة مطلقة.
تقول: «إن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة. وبقي التنزيل لمدة
23 سنة لانتهاء تنزيله. فكانت الآيات تنزل تطابقاً لما يحدث على الأرض». ونحن
متفقان على ما تقول. لكن، وبما أن الآيات، التي استمرَّت 23 سنة، والتي جاءت
لتعالج المشاكل التي كانت تحصل على أرض الجزيرة العربية، وبين قوم هم من العرب، هل
يعني هذا أن البيئة الاجتماعية العربية، والمشاكل الظرفية التي كانت تحصل على أرض
الجزيرة في خلال ال 23 سنة هي ذاتها التي أتت بعد ألف وأربعماية سنة؟ وهل مشاكل
الجزيرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قبل ألف وأربعماية سنة، هي شبيهة
بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية للشعوب غير العربية قبل ألف
وأربعماية سنة أو بعد ألف وأربعماية سنة؟
فإذا بقيت ظروف وبيئة اجتماعية محدودة جداً، قياساً على اتساع
رقعة العالم، 23 سنة لتكتمل فيها دعوة إلهية، فهل من الممكن أن يتم تطبيقها على
شتى المجتمعات؟ فإذا كان الجواب نعم؛
وهذا، كما نحسب، خطاب تعبوي أكثر منه واقعي، فما هي أهمية كل نظريات
البشرية الفكرية والفلسفية والاقتصادية، التي أثبتت نجاحها وجدارتها، والتي لا
علاقة لها بالشريعة الإسلامية؟ تلك النظريات قد حققت لشعوبها السعادة التي لم نحظ
بها نحن حتى الآن، هل يمكن الاستهتار بها ورفضها تحت ذريعة أنها ليست من تعاليم
الشريعة الإسلامية؟
لماذا رجَّحت أنت، رداً على استغرابي بأن الله لم يفوِّض أحداً
بأن يحاسب البشر بالنيابة عنه تبعاً للآية ]فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ[ (الرعد: من الآية40)، أن تكون الآية منسوخة أيضاً؟ وهنا أعيد
الاستغراب لألف مرة: هل أنت تقف إلى جانب ادِّعاء الفقهاء بأن لهم حق إلهي بأن
يحاسبوا البشر، يصدرون عليهم الادعاء بالكفر، ثم يستتيبوهم، ثم يُنزلون بهم الحد
بالقتل، ثم ينفذِّون حكم القتل بهم؟
هل تُسوِّغ القاعدة الفقهية حول الناسخ والمنسوخ بأن يقوم بشر
يخطئون بتمثيل دور الله على الأرض؟ هل نختزل الإرادة الإلهية، التي أمرت النبي بأن
يبلِّغ فقط، ونضعها في أيدي بشر يصادرون، استناداً إلى قواعد فقهية من وضعهم،
إرادة الله ويضعون مصير البشر وحياتهم بين أيديهم، وليس من سبب يدفعهم إلى ذلك سوى
أن آية السيف نسخت كل آيات الحوار؟
ورد في الصفحة 38 من كتاب الردة في الإسلام،
ما يلي: «فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في
خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل». لقد نقلت أنت هذه الفقرة وقمت
بالاستناجات التالية:
1- إن المقصود بالفسحة
الزمنية، هنا، فترة زمنية قصيرة تُعطى لإعادة الحساب. وهذا ليس صحيحاً لأن الرسول
بقي 13 عاماً يدعو المشركين بالحوار إلى الدين الجديد على الرغم من تعرضه للأذى.
2-فلماذا لم تعطه قريش
الفترة الزمنية نفسها دون التعرض له بالأذى، ومنعه من التبشير بما يؤمن به. فبذلك
يكون التكافؤ بالحوار وبالفرصة؟
3- لماذا كثرة استعمال
عبارات القتل والقتال، وإظهار الإسلام بأنه لا يعرف الرحمة؟
أولاً لا بُدَّ أمامي من التوضيح أن العبارة
التي وردت في الصفحة 38 من الكتاب كانت نتيجة لمناقشة أقوال لبعض فقهاء المسلمين
حول موقفهم من الحوار، وفيها يصرُّون على أن القتل والقتال هو النتيجة الفضلى ضد
من لا يستجيبون إلى الدعوة للإسلام، في الوقت الذي جئت أنا في الفصل الأول بأسانيد
من النصوص القرآنية تدعم وجهة النظر التي تؤكد أن النص الإسلامي قد أعطى أولوية
لأسلوب الحوار، وقد عزَّزت الأسانيد التي تعارض ما ينادي به عدد من الفقهاء الذين
يدعون إلى استخدام القوة بالدعوة إلى الإسلام. وهنا لا بُدَّ من أن يتضاعف
استغرابي من توجيه ملاحظة أوردها الصديق شحيتلي والتي يلومني عليها موجهاً كلامه
بالقول: «لماذا كثرة استعمال عبارات القتل والقتال، وإظهار الإسلام بأنه لا يعرف
الرحمة؟». وهنا أرى من الواجب العلمي أن أعود إلى ما قاله البعض من الفقهاء
المسلمين في أن الدعوة إلى الإسلام لا يمكن أن يكون بغير استخدام القوة، وبالتالي
إلى ما أكَّد عليه السيد شحيتلي نفسه من أن آية السيف قد نسخت آيات الحوار:
أولاً: ما جـاء
في النـص، وفي أقـوال الفقهـاء:
) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ
اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ( (الحج: 39و40). )وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا
عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ( (البقرة:193). )وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( (البقرة:190). )قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(
(التوبة:29).
-جاء في حديث للرسول: أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة…
يعتقد محمد حسين فضل الله أن القرآن قد عبَّر عن أمرين لا ثالث
لهما: إما القتال، وإما الإسلام، وذلك لقوله تعالى : )قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ( (الفتح:16). وهو يستدلّ على ذلك، أيضاً، من «حديث الإمام جعفر
الصادق(ع): إن الله عزّ وجلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين فأبوا أن
يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخـير في السيف و تحت
السيف..».
جاء في حديث للرسول: «من غيّر دينه فاضربوا
عنقـه». ويتّفق العلماء المسلمون، من مختلف العصور والمذاهب، على أن عقوبة
المرتد عن الإسلام هي القتل:
- جاء عند النيسابوري : من يرتدد عن دينه: في الدنيا لما يفوته من فوائد الإسلام، فيُقتَل عند الظفر به…
- جاء عند جعفر الصادق : «من يرغب عن الإسلام، وكفر بما أُنزل على محمد r بعد إسلامه فلا توبة له. وقد وجب قتله…».
- جاء عند النووي: التارك لدينه، المفارق للجماعة، عامّ في كل مرتدّ عن الإسلام بأي إرادة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام.
- أما مالك بن أنس فيرى: «أنه من خرج من الإسلام إلى غيره، مثل الزنادقة وأشباههم .فإن أولئك، إذا ظهر عليهم قُتلوا ولم يُستتابوا، لأنه لا تُعرف توبتهم. وإنهم كانوا يُسرُّون الكفر ويُعلنون الإسلام. فلا أرى أن يُستتاب هؤلاء ، ولا يُقبل منهم قولهم. وأما من خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك، فإنه يُستتاب؛ فإن تاب وإلا قُتِل….».
- أما الوهّابية فقالت: إنه كل شرك وضلال يصدر عن مسلم، فإن تاب صاحبه وإلا قُتِل.
- ويرى السيد سابق أن الإسلام قرّر عقوبة معجّلة في الدنيا للمرتدّ وهي عقوبة القتل.
- أما محمد جواد مغنية فيقول: «وإن أصرّ على الكفر قُتِل إن كان رجلاً».
ثانيـاً: دفاع
السيد شحيتلي عن الدعوة بالقتال، ونسخ الحوار، منتخبة من رده:
-«يقول النيسابوري، في
كتابه الناسخ والمنسوخ، تمَّ نسخ الآية أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة،
وجادلهم بالتي هي أحسن، منسوخة، نسختها آية السيف».
-وأما قوله تعالى ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي[ (البقرة: من الآية256)،
فقد تم نسخها بآية السيف، والباقي محكم.
-إن الآية (لا إكراه في
الدين) لو لم تُنسَخ، وبقيت حقيقة ثابتة مطلقة الحكم لتناقضت مع الآية: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا
الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ[ التوبة (23).
-ليس من المعقول أن يتبرّأ
الله ورسوله من المشركين، ثم يتبرّأ من الأمر بقتالهم وقتلهم حيثما وُجِدوا،
ثم يتبرّأ من منع المشركين من التقرب من المسجد الحرام. ثم يقول (لا إكراه في
الدين).
-ورد في كتاب الناسخ
والمنسوخ للإمام النيسابوري، ما يلي: «هذه الآية المجمع عليها، قوله تعالى
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، نُسِخت بآية السيف».
ثالثـاً: المقدمات التي سبقت فيها القول بالنتيجة /
المأخذ:
وهكذا نجد أنه بين الحوار والقوة في الإسلام مسافة العام
والخاص.فالآيات التي تدعو للحوار، كأسلوب للدعوة للإسلام، ليست مشروطة، وإنما هي مطلقة عامة، مثلها مثل القيم الأخلاقية
المطلقة: كالعدل والمساواة والكرم والشجاعة والحوار بالتي هي أحسن، والامتناع عن الإكراه، أو منع استخدامه.
فلا يجوز اشتراط العدل،
كقيمة عليا، بأية
شروط، كأن تقول:على الإنسان أن
يكون عادلاً إلا إذا … أو أن تقول : إنني سوف
أُكرِهُكَ على قبول رأيي إذا لم تقتنع بالبراهين التي سأقدمها لك … الخ .
فأما القتال والقوة، فمن الموضوعية أن يكون استخدام أحدهما أو
كليهما مشروطاً: كأن يكون هذا الاستخدام ضد من يعمل على منع تطبيق القيم الأخلاقية
والاجتماعية المطلقة؛ أو لمنع الإكراه وليس لفرضه، حيث إن منع الإكراه هو من القيم المطلقة
التي لها علاقة بمفهوم الحرية.
ومن هنا، ولأنه حسب قناعتنا، يُعَدُّ الإكراه منافياً لحرية الإنسان؛
والحرية حقيقة مطلقة؛ وتأتي حرية الاعتقاد والرأي، المشروطتان بعدم تشكيل خطر مادي أو معنوي
على حرية الآخرين، وهي جزء أساسي من حرية الإنسان. ولأن القوة والقتال هما أسلوبان لحماية المثل
العليا، فأحرى بهما أن يتوجّها إلى حماية حرية
المعتقد، كمثل أعلى؛ وليس استخدامهما لإكراه الآخرين على أن يعتنقوا ما ليس لديهم
قناعة به. ولهذا قال الله تعالى: إنما
عليك البلاغ وعلينا الحساب .
إن بين الدعوة إلى منع الإكراه والدعوة إلى القتال والقوة،
كأسلوب للدعوة إلى الإسلام، مسافة تناقض، حاول معظم العلماء المسلمين، إن لم يكن
كلّهم، أن يعالجوها بمنطق التوفيق
والتبرير لترجيح استخدام القوة والإكراه أكثر منها إلى جانب استخدام الحوار . بل إن الحوار
-كما يراه كثيرون من هؤلاء العلماء- قائم على أساس أن المسألة التي هي موضوع
للحوار هي مسألة مُسَلَّم بها، فلا يمكن النقاش فيها. فهم يعنون بالحوار
-إذا آمنوا به- أنه فسحة من الزمن تُعطى للطرف الآخر، ليس لكي يقدم براهينه، وإنما أعطيت له
لكي يتراجع، في أثنائها، عن، قناعاته
السابقة-حتى ولو كان مكرهاً -لصالح الاقتناع بالأسباب التي أقتنع بها المحاور
الآخر، والتسليم بها وليس غير ذلك
على الإطلاق.
لذلك، وكما نحسب، أن ما يسمونه حواراً، ليس بالحوار المتعارف عليه، أي أن تقول رأيك وأقول
رأيي، فإذا لم يستطع أحدنا أن يقنع الآخر، يذهب كل منا إلى سبيله، بل إنه على أحد طرفي
الحوار -سواء كان مسلماً أم غير مسلم- أن يصل في نهاية الحوار، مُكرَهاً، إلى مرحلة الإقتناع
ببراهين / مسلمات الطرف المسلم، أو الذي يدّعي الإسلام. فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى
المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته
الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى
القتال والقتل.
بعد هذا العرض لوجهات النظر ألا يحق لي أن استغرب ما قاله السيد
شحيتلي من أنني اعمل على إظهار الإسلام بأنه بلا رحمة من كثرة ما أستخدمت عبارات
القتل والقتال؟
أليس من الواضح أنني كنت أنتخب من النصوص ما يعزز القول بأن
الإسلام يستند بالدرجة الأساس إلى آيات الدعوة إلى الحوار بالتي هي أحسن، وبأنه لا
إكراه في الدين… ولذا دافعت عن وجهة النظر التي تقول بأن منع الإكراه والقوة هو
القاعدة الثابتة، أما الدعوة إلى الإسلام بالقتال والقوة هي أسلوب مرحلي، ولذا
قلت، في الصفحة 38 من كتاب الردة ما يلي «ففي الواقع، وحسب ما توصلنا إليه من خلال
الآيات المتعلقة بالحوار والقتال، وجدنا أن منع الإكراه في الدين هو أصل قيمي
ثابت، ديني وأخلاقي واجتماعي. بينما وجدنا أن القتال واستخدام القوة… هو فرع مرحلي
متغيِّر؛ فلا يمكن -والحال كذلك- أن ينسخ الفرع المرحلي المتغير الأصلي القيمي
الثابت».
ألست أنت القائل: «من خلال استعراض غزوات الرسول، يتبيَّن أن
الإسلام لم يضع السيف على الرقاب بصورة قاطعة: إما القتال وإما القتل وإما
الإسلام». وفي مكان آخر تقول: «من الممكن أن انتشار الإسلام في بقاع الأرض قد
تراصف مع القوة والإقناع، لأن القهر وحده في الفكر والإيمان لا يؤدي إلى مثل هذا
الانتشار الكبير والواسع ما لم ترافقه القناعة والإيمان». وتقول في مكان آخر: «إن
الإذن بالقتال، عموماً، كان دفاعاً عن النفس بأمر من الله».. وتؤكِّد في مكان آخر
ما ذهبت أنا إليه من أن القتال متغير مرحلي عندما تقول: «كانت الظروف هي التي تقرر
استخدام السلاح المناسب». فهل دفاعي واستنتاجي إلى تغليب الحوار على القتال لا يصب
في النتائج التي تدافع أنت عنها؟
إن الفارق الوحيد بين رؤيتينا، هو أنني أريد، لأسباب نقلية
وعقلية، أن أعطي الغلبة للحوار على القتال؛ أما أنت فتريد أن توازن بين متناقضين:
الحوار والقتال، لأسباب نقلية فقط لها علاقة بالمبدأ الفقهي حول الناسخ
والمنسوخ. وهذا ما يدفعني إلى دعوتك
لمتابعة قراءة كتاب (الردة في الإسلام)، لعلَّ القادم فيه ما يُغني عن نقاش كثير.
رداً على ما جاء في الفقرة التي نقلها من الصفة 38 من كتاب
الردة في الإسلام «فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع
في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل»:
يقول السيد شحيتلي موضحاً ومتسائلاً: «إن المقصود بالفسحة الزمنية، هنا، فترة
زمنية قصيرة تُعطى لإعادة الحساب. وهذا ليس صحيحاً لأن الرسول بقي 13 عاماً يدعو
المشركين بالحوار إلى الدين الجديد على الرغم من تعرضه للأذى». وثم متسائلاً: «فلماذا لم تعطه قريش الفترة
الزمنية نفسها دون التعرض له بالأذى، ومنعه من التبشير بما يؤمن به. فبذلك يكون
التكافؤ بالحوار وبالفرصة؟».
استناداً إلى
قواعد الناسخ والمنسوخ، أصبح السلوك الذي سلكه الرسول في المرحلة المكية منسوخاً،
فلا يمكن بمثل هذه الحال أن يعتدَّ به المسلمون. وعلى السيد شحيتلي أن لا يُضعف
ردَّه بالاستناد إلى سلوكات / أحكام نُسخت أحكامها ولم يُنسخ خطها.
أما لماذا لم يقابله المشركون بإعطائه فرصة للحوار، بل بادلوه بالأذى، لكي
يتكافأ الطرفان بالحوار والفرصة؟ فأرجو من السيد شحيتلي أن لا يفهم من آرائي أنني
أضع المشركين والرسول في كفة ميزان واحدة، بل إنني أرفض، استناداً إلى انحيازي إلى
جانب الإسلام كثورة حققت الكثير لمجتمع الجزيرة العربية الذي كان مصاباً بمرضين:
التمزق الاجتماعي من خلال نظام القبيلة، والتمزق الروحي في تقزيم الجانب الروحي في
الإنسان واختزاله في عبادة مجموعة من الأصنام / الأحجار. ولما كنت أرفض الكل عند
المشركين فمن البديهي أن أرفض الجزء، وهو أنه من ضمن معتقداتهم المتحجرة لن يؤمنوا
بالحوار في الدفاع عن أصنامهم. وما أطلبه من العاقل لن أطلبه من الجاهل على
الإطلاق.
وهنا يأتي حوار حسن خليل غريب حول استنتاجاتـ شحيتلي
الأخـيرة:
تقول في نهاية مناقشتك «إن الجبر كان للعرب
لكي يتحمَّلوا تبعات انتشار الإسلام ويكون لهم دور في بناء الحضارة بعد أن كانوا
قبائل متناحرة متناثرة لا قيمة لهم». وهذا السبب «يدل على عظمة الرسالة التي
انتشرت في بلاد العرب وعظمة العرب الذين حملوا هذه الرسالة، ])كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[ (آل عمران:110)، بدون حرب وبدون إراقة دماء».
نحن لا نشكك بالانتصارات التي حققها العرب المسلمون في الفتوحات
الواسعة التي وصلوا فيها إلى أقاصي الشرق ومغارب الغرب. لكن لم تكن شدة الإيمان
بالإسلام هي السبب الوحيد، بل كانت الانتصارات تولِّد الانتصارات، وكانت كثرة
الغنائم التي استفاد العرب منها تلعب دوراً لا يمكن تغييبه على الإطلاق، وأن لا
يغيب عن التقييم ما كانت الشعوب التي خضعت للعرب تعاني من تمزق داخلي وصراعات سياسية
وطبقية واجتماعية، وهي العوامل التي أسقطت دولة الإسلام في أوائل القرن 20م. دولة
الإسلام التي لم تتنكر للشرائع الإسلامية. فلو كان الإيمان بالدعوة، وشدة هذا
الإيمان، هو العامل الوحيد في النصر، لكان من غير المنطقي أن تنهار دولة تستند إلى
مثل هذا الإيمان العميق.
لقد عشنا طويلاً على أمجاد الخطاب الذي يريد أن يقنعنا
بأننا خير أمة أخرجت للناس، وكأن ما جاء
في النص يكفي لأن نكون خير أمة. فإذا نظرنا إلى الواقع الآن، فهل ننظر إلى واقعنا
بعين الرضى؟
قد يقول قائل، بخطاب تضليلي: إننا ابتعدنا عن الإسلام الصحيح،
فعاقبنا الله بما نعاني الآن من مشاكل ومصاعب. وهنا نتساءل: لماذا عاقب الله العهد
الراشدي، وفيه استفحلت الفتن، وراح ضحيتها مئات من آلاف المسلمين، ولم يوفّر القتل
عدداً من الصحابة المبشَّرين بالجنة؟
وأخيراً، أيها العزيز، لا بُدَّ من أن أتوجه إليك صادقاً بأنك
أتحت لي فرصة ثمينة من الحوار. ففيه وجدت نفسي في مواجهة الكثير من الأدلة
النقلية، التي لولاك لما حصلت عليها بمثل هذا الوضوح. وأنا بدوري مقتنع تماماً أن
في صدرك ما يتسِّع لمناقشتي إياك بوضوح وجرأة وانفتاح؛ وإن هذه الفرصة لن تتاح
دائماً لمثلي، بمنهجه الذي يتخذ الشك العقلي أسلوباً، بالنقاش مع من يضيق صدرهم،
وهم كثر.
إنني أتوجه إليك بالرجاء للاستمرار بمتابعة قراءة الكتاب حتى
آخره، لأن أغراضي من البحث / المحاولة ستتَّضج أكثر من خلال النتائج التي توصلت
إليها. وإنني طامع بمعرفتك النقلية لمناقشة الفصول القادمة بأكثر ما يمكن من
الجرأة والوضوح، لأنه بغير هذه القراءة لن يتسنى لكلينا أن يسهما في إنجاح حوار
مطلوب وضروري لمصلحة أمتنا ومجتمعنا.
مع الشكر، أرى نفسي ملزماً أن أطلب منك أن تسمح لي بتعميم هذا
الحوار حيثما يتطلب الأمر ذلك. على أن يتم تعميم ما جاء في نقدك، كما جاء بنصك،
على أن يكون مرفقاً بما جاء عندي من تعقيبات وتوضيحات عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق