الثلاثاء، يناير 20، 2015

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة (5/ 11)


أوراق قديمة أنشرها لأول مرة

وموضوعها:

حوارات ومناقشات حول كتابات حسن خليل غريب

(المناقشة الخامسة)

(5/ 11)

وهذه الحلقة الخامسة، وجاءت تحت عنوان: (نقد كتاب (نحو طاولة حوار بين التيارين القومي والإسلامي))، وهي عبارة عن مطالعة كتبها مشكوراً الأستاذ كرم الحلو. ويعود تاريخها إلى العام 2001. ولكنني لم أكتب رداً عليها في حينه.


نقد كتاب (نحو طاولة حوار بين التيارين القومي والإسلامي)

 كرم الحلو

كتب كرم الحلو في جريدة الحياة، تاريخ 18 آذار / مارس 2001م:

أجوبة متسرِّعة لإشكالات معقَّدَة وتاريخية تتصل بالعروبة والإسلام(*).

إحتدم السجال الإيديولوجي في عقديْ الثمانينات والتسعينات حول المسائل الإشكالية والخلافية في الفكر العربي من إشكال الهوية والانتماء وعلاقة العروبة بالإسلام، إلى إشكال النظام السياسي وعلاقة السياسي بالديني، إلى إشكال العلاقة بالغرب بين الرفض أو التفاعل أو التبعية والتماهي. وليس ما يؤشر إلى أن هذا السجال سيصل إلى نهايته في المرحلة الراهنة على الأقل، أو أن تحولاً غير متوقع سيحسم هذه الإشكالات في أي اتجاه.

في هذا الإطار السجالي، يدعو حسن غريب إلى حوار عقلاني ومتفتح بين المشروعين القومي والإسلامي، إذ أن النهوض بالمجتمع العربي ليس ممكناً من دون الارتقاء بغالبية الشعب العربي، ذات الثقافة الإسلامية، عن طريق حوار مع الإسلاميين بات ضرورياً بل ملحاً، بعد أن شهدت الساحة العربية، منذ أوائل السبعينات، مداً إسلامياً وانتشاراً أصولياً متعدد المذاهب والمشارب.

يطرح المؤلف في الحوار مع الإسلاميين إشكاليتين أساسيتين: إشكالية تحديد الهوية التي تميز المجتمع: هل هي إسلامية أم عربية؟ وإشكالية تحديد أولوية أي نظام سياسي: هل هو ديني - إسلامي أم قومي علماني؟

في ما يخص الإشكالية الأولى يرى المؤلف أن الرابطة القومية موجودة منذ الوقت الذي بدأت فيه المجتمعات تنشأ وتتكون بدءاً من الأسرة فالقبيلة فالقومية، وهي مشتقة من قوم، هي الرابط الوجداني الذي يحس به الإنسان بالانتماء إلى قوم ينتسب إليهم، ويحقق بهم ومعهم ميله الاجتماعي اقتصادياً وسياسياً. من هنا فإن الشك حول وجود الرابطة القومية، وفي أن القومية العربية لم تكن لتوجد لولا انعكاسات الفكر الأوروبي هو لغو من الكلام صادر عن مواقف إيديولوجية. إن العرب كانوا يشعرون دائماً أنهم عرب، ولا فضل للأوروبيين سوى أنهم دلّوا على ظاهرة هي موجودة بالفعل. لكن الكاتب فيما هو يشدد على أولوية الرابطة القومية مستنداً إلى زين نور الدين زين ومحمد عمارة، لا ينتبه إلى أنهما يُرجعان الفضل إلى الإسلام في انصهار العرب في رابطة قومية عربية.

وإذ يرى أن الاتجاه القطري الوطني ليس منافساً للفكر القومي العربي بشكل جدي، لا ينتبه أيضاً إلى أن القطر هو الذي كان دائماً، ولا يزال موجوداً بالفعل فيما الوطن العربي الموحَّد لم يكن ولا هو الآن إلاَّ أمنية من الأمنيات، مشروعاً مطروحاً للتحقيق بالإيمان والعمل والجهاد وليس شيئاً آخر ناجزاً ومحققاً يُعمل على هدمه وتفتيته. ولعل هذا بالذات ما وقف وراء فشل المشاريع الوحدوية العربية.

كذلك لم تكن (الوحدة العربية) المطروحة في الخطاب السياسي العربي، منذ منتصف القرن الماضي، هي ذاتها التي طُرحت في أوله. فنجيب العازوري حصر القومية العربية بالأقاليم الآسيوية فقط، معتبراً سكان مصر من البربر. وكان المفكرون النهضويون في لبنان وسوريا، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، على الرغم من اعتزازهم بالعروبة الحضارية، يعتبرون أنفسهم سوريين لا عرباً.

من هنا يجب التمييز بين الانتماء إلى العروبة، كلغة وتراث وحضارة، وبين الأفكار الوحدوية الرامية إلى توحيد العرب في أمة ذات كيان سياسي واقتصادي وثقافي واحد موحَّد، الأفكار التي ما كان لها أن تنهض وتتقدم لولا التأثير المباشر للفكر الغربي في مرحلة نهوض الدولة الوطنية القومية في أوروبا.

وإذ يتصدى المؤلف لإشكالية تحديد أولوية النظام السياسي، الإشكالية الخلافية الأكثر دقة وتعقيداً في الفكر العربي، منذ النهضة إلى الآن، يجد أن الصراع بين الديني والسياسي قد ساد طوال المرحلة التي امتدَّت منذ وفاة الرسول إلى إلغاء الخلافة الإسلامية في العام 1924م، بعد انهيار الدولة العثمانية الإسلامية. وإن السياسي كان سائداً على الديني، وفي أفضل حالات التكامل بينهما كان أحد المذاهب الإسلامية، الممثَّل بالسلطة، يعمل على التنكيل بالمذاهب الأخرى وإبعادها عن قصر الخليفة. وإذا حُسِم الصراع بتسوية ما كان فيها السلطان يقرِّب الفقهاء لتدعيم سلطته السياسية، وكان الفقهاء يتقرَّبون منه تحت حجة حماية الحدود للدولة والشريعة. وبنتيجة ذلك لم يستفد سوى معظم الفقهاء، أما العامة فلم تحصل إلاَّ على الويلات الاجتماعية والاقتصادية والتخلف والجهل. أما تطبيق حدود الشريعة الإسلامية فلم يطل الخاصة، وإنما كان تطبيقه مقتصراً على العامة. فقد مارس الفقهاء سياسة السكوت عن سلوك الخليفة وحاشيته والسلطان وحاشيته ضد أحكام الشريعة.

من هنا، عن الاعتقاد بترابط الديني والسياسي، كان وما زال اعتقاداً طوباوياً في الفكر الإسلامي، باستثناء مرحلة النبوة وأوائل عهد الراشدين. فقد كان بين السلطة الدينية والسلطة السياسية طلاق واضح مارس فيه الفقهاء هذا الفصل على الرغم من إيمانهم وقولهم بضرورة اندماج الديني في السياسي.

منطلقاً من هذه الأسس والمقدمات دعا حسن غريب إلى الفصل بين المقدس الدنيوي والمقدس الأخروي، إذ ليس كل ما هو عقائدي مقدس يجب أن يكون سياسياً مقدساً أيضاً. فالنظام السياسي الإسلامي لم يحقق مصالح العامة من المسلمين أولاً، وهو لن يوفق في تأمين حقوق المذاهب الإسلامية بسبب اختلافاتهما العقائدية ثانياً، وهو لن يستطيع تأمين الحقوق كاملة لغير المسلمين ثالثاً.

ما توصل إليه حسن غريب لا يختلف في جوهره ومضمونه عما دعا إليه بطرس البستاني منذ 1860، من فصل للسياسي عن الديني، وعما بشَّر به كل العلمانيين العرب، الذين لم يذهب أحد منهم إلى إنكار السماوي باسم الوضعي. لكن المؤلف يتنبَّه على الرغم من ذلك إلى المجازفة التي يقدم عليها في ظل الأجواء المحمومة الراهنة في العالم العربي، فيلجأ إلى ما يشبه الاعتذار والتبرير والتراجع عما كان قد جهد في التأكيد عليه بقوله:

أ-إن النتيجة التي توصلت إليها ليست تشكيكاً بالعقائد الدينية، وإنما هي كشف لخلل في العلاقة بينها وبين السياسي.

ب-إنه بالإمكان التنصل من شعار العلمانية وإطلاق إسم آخر على أي نظام توحيدي يلم الشمل ويكون «حارساً أميناً لحماية معتقداتنا الدينية ومانعاً للانزلاق في متاهات الحضارة المادية».

ج-إن الذين لجأوا إلى وضع قوانين وتشريعات لحماية المجتمع إلى مصادر غير مصادر الشرائع السماوية ليسوا كفاراً ولا عملاء ولا ضد الدين، وإنما انطلقوا في محاولاتهم وأعمالهم من مصلحة عباد الله، وفي سبيل خلق مجتمع آمن.

د-إن النص الوضعي، ولو كان ناقصاً وكان مصدره بشرياً هو بداية الحل؛ لأن النص الوضعي ليس مقدساً، وهو قابل للنقاش ومسموح بإسقاطه متى ثبت بطلانه.

هـ-سواء كانت نصوص القانون ذات مصادر دينية أو أخلاقية أو اجتماعية، فمقياسه أن يتجاوب مع حاجات المجتمع. وكلما ابتعد عن غايته أصبح لاغياً، ومن الواجب تغييره وتبديله أو تعديله. فمصلحة المجتمع هي الثابت.

وفي محصلة نهائية لموقفه يرى غريب أن الغرب بعد اجتياز مسافة الردة عن المسيحية، شق طريق العقل المستنير، فمهَّد الطريق لثورة حضارية تكنولوجية، وثورة فكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع. أما الشرق الإسلامي، حيث لا تزال الردة سيفاً مسلطاً على العقل، فهو لم يحقق للأخلاق قاعدة تكون صالحة للعبور إلى حياة أخروية سعيدة، وفي الوقت ذاته لم يبنِ للدنيا ما يحقق لها حضارة تؤمن الرفاه والسعادة حتى بحدهما الأدنى، ما يدفع إلى الاستنتاج أن «انقلاب العقل على مسلمات اللاهوت المسيحي في الغرب لم يؤد إلى عقوبات إلهية للمجتمع الغربي»، كما أن انتصار النقل على العقل منذ ثمانية قرون في الشرق الإسلامي لم يؤدِ إلى مكافآت إلهية للمجتمع الشرقي.

إذ نقدِّر جهد المؤلف وجرأته من أجل إثبات وتأكيد فصل الديني عن السياسي، وتحرير العقل العربي من أحكام الردة والتكفير والأخذ بحركة التطور والتغيير باعتماد القوانين الوضعية، إلاَّ أننا نرى أولاً أن الكتاب وهو يهدف في الأساس إلى الحوار بين المشروعين القومي والإسلامي لم يحسم جدل الهوية بين العروبة والإسلام، حيث ظلت الحدود بينهما ملتبسة وضبابية، ولم يضف جديداً إلى ما كان القوميون العرب قد دللوا عليه.

وثانياً، اعتبر المؤلف القومية العربية من المسلمات البديهية التي لا يرقى إليها الشك في الوقت الذي شكَّل التفتيت القطري، وتفاقم مسألة الأقليات إلى جانب استشراء الفكر الأصولي أكبر التحديات التي تواجه الفكر القومي العربي في المرحلة الراهنة، ما دفع مفكرين قوميين إلى مراجعة أفكارهم وقناعاتهم في السنوات الأخيرة.

وثالثاً، إن ما يدعو إليه المؤلف من قوانين وضعية اصطدم دائماً وسيصطدم بالعقل الأصولي المهيمن الرافض كل أطروحات العلمانيين. أليس هذا ما توصَّل إليه محمد أركون بعد أكثر من ربع قرن من الدعوة الحثيثة إلى علمنة الإسلام؟

إن المأزق الإيديولوجي الذي علق فيه غريب، هو عينه مأزق كل العلمانيين العرب الذين عمدوا إلى طرح أفكارهم العلمانية من دون الأخذ في الاعتبار الإمكان الواقعي لتلقي هذه الأفكار، فظلَّت طوباويات مرفوضة على هامش المجتمع. وهي ستبقى كذلك في ظل الإحباط المتمادي للتنمية العربية والتصاعد المستمر في نسب الفقراء والأميين والتحدي الصهيوني المفروض على العرب، ما شكَّل أرضاً خصبة للأصولية والارتكاس إلى التراث في صورته الجامدة، بل التقدم نحو التحديث.

إن علمنة المجتمع العربي ليست مسألة نظرية، كما تصوَّر أكثر دعاتها؛ إنها على العكس تماماً مسألة تطور تاريخي يجب أن يطاول المجتمع في بناه الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، كي يصبح ممكناً الانتقال نحو تصور آخر للعلاقة بين الديني والسياسي والخروج من الحلقة المفرغة للرهانات الخاطئة.



* مراجعة ونقد لكتاب: حسن خ. غريب: نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي: دار الطليعة بيروت 2000م - 207 صفحات.

ليست هناك تعليقات: