الاثنين، يناير 26، 2015

العروبة والدين والعلمانية وحركات الإسلام السياسي


العروبة والدين والعلمانية وحركات الإسلام السياسي



إن ثلاثية (العروبة والدين والعلمانية) معادلة تترابط عناصرها الثلاث ترابطاً وثيقاً، لا يمكن فهم أحدها من دون ربطها مع الآخر. ولن تكون مفهومة بشكل علمي إلاَّ انطلاقاً من نقد الفكر الديني السياسي. والنقد هنا يعني تشخيصاً لأسباب مرض ألمَّ بالأمة منذ 14 عشر قرناً، أي منذ وفاة الرسول العربي وما يزال ينخر بها تفتيتاً وتقطيعاً.  ولأن العلاج السليم يستند إلى تشخيص دقيق للمرض، كان لا بدَّ من أن نربط هذه الثلاثية بنقد لحركات الإسلام السياسي.

فالعروبة تستند إلى المفهوم القومي النظري الحديث، ولا يمكن أن تتحول إلى نظام سياسي من دون مفهوم العلمانية كمفهوم سياسي نظري حديث أيضاً. فالكلام عن العروبة منفصلاً عن إطار تطبيقها السياسي، أي العلمانية، يشكل إطاراً نظرياً خالٍ من المضمون.

فترابط العلاقة بين العروبة والعلمانية، كإطار معرفي جديد، جاء في أعقاب حركة نقدية طويلة للإطار المعرفي السابق. أي جاء رداً على فشل الإطار المعرفي السياسي القديم وهو المتمثل بالإطار المعرفي الديني بشكل عام، وتشكل المعرفة الإسلامية والمسيحية مضمونه الواقعي. فالحركة النقدية للدولة الدينية المسيحية في أوروبا أنتجت مفاهيم القومية والعلمانية، وتلك المفاهيم بدورها، أنتجت نظاماً سياسياً جديداً حلَّ مكان النظام السياسي الكنسي في الغرب. وبهما وجدت المجتمعات الغربية طريق خلاصها الذي شقته منذ عدة قرون، وهي الآن تعيش من دون حروب دينية أو طائفية.

ولما كان الواقع في الشرق قد عانى من ويلات الدولة الدينية، وما يزال يعاني منها حتى الآن. ولما كانت الحركة النقدية للدولة الدينية الإسلامية خجولة وخائفة، ما تزال مجتمعاتنا تعاني ما تعانيه من مخاطر الحركات الدينية السياسية، وازدادت مخاطرها في هذه المرحلة الراهنة.

لكل ذلك أرى أن منطلقنا في فهم مسألة (العروبة والدين، والعروبة والعلمانية) سيكون بدءاً من نقد قواعد المعرفة الدينية، ليشكل مدخلاً أساسياً لتحديد مفهومنا للعروبة. وسيكون ذلك مبنياً على المنهج التاريخي القائل بأنه لا يمكن فهم أهمية المعرفة الجديدة من دون البرهان على قصور أسس المعرفة القديمة عن توفير حلول لما تعانيه مجتمعاتنا من مشاكل.

فسأقلب هرم عنوان الدراسة من (العروبة والدين والعلمانية وحركات الإسلام السياسي) ليكون موضوع (حركات الإسلام السياسي) هو البداية.

واستفادة من تجربة الفكر الغربي المسيحي سنقوم بتأصيل للحركة النقدية الأوروبية للفكر الديني السياسي في المسيحية:

 

1-النظرية القومية في الغرب ثورة ضد سلطة الكنيسة الأممية:

وإن كانت الحركة النقدية في أوروبا قد بدأت بواسطة حركة الإصلاح الديني في الكنيسة فقد جاءت الدعوة للقومية في تلك الحركة من أجل إلغاء المفهوم الأممي الذي مثَّلته سلطة الكنيسة في الغرب، وكان من أهم أسبابها الدعوة لإلغائها هو مدى الاستغلال المادي الذي كانت تمارسه تلك السلطة مع شتى القوميات في أوروبا. لذلك ابتدأت الدعوة للقومية كردة فعل ضد إشكاليات سيطرة الدولة الدينية في أوروبا تحديداً، وضد الدولة الدينية المسيحية حصراً. وتثبت وقائع تطور الفكر السياسي في أوروبا حقيقتين، وهما:

-نشأة الفكرة القومية من داخل الحركة الإصلاحية للكنيسة ذاتها.

-استعانة الحركة النقدية المسيحية بنتائج الفكر العربي الذي خاض مواجهة دامية مع العقل الديني الإسلامي.

 

أ-ابتدأ الفكر الغربي بحركته الإصلاحية من حيث انتهى الفكر العربي:

ففي النتائج النهائية، نستطيع القول إن الفكر النقدي الذي غزا أوروبا المسيحية قد ابتدأ حيث انتهت حركة الفكر العربي الفلسفي. وهنا نؤكد على عروبة تلك الحركة، وليس على إسلاميتها. وأما السبب فيعود إلى أن الفقهاء المسلمين وقفوا بشراسة ضد الحركة العقلية العربية. لقد ابتدأ الصراع منذ قرار المأمون باحتضان فكر المعتزلة في العام (832م)، وانتهى في العام 1014، بانتصار حركة النقل التي مثَّلها الفقهاء المسلمون، بعد القرار القادري الذي أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، في العام 1014م.

وحيثما انتهى الصراع بينهما في الشرق ابتدأ صراع بين العقل الأوروبي والكنيسة المسيحية. ومن أجل هذا استعان المفكرون الأوروبيون بنتائج الفكر الآخر من ترجمات الحضارة الفكرية للشعوب الأخرى؛ إذ بلغت ذروة الحركة الإصلاحية مع القديس توماس الأكويني (1225-1274م)، بعد أن بدأ الغرب يتعرف على ابن سينا وابن الهيثم والكندي والفارابي والغزالي. أما الترجمات التي لعبت الدور الأهم في الفكر الأوروبي، فهي شروحات ابن رشد لكتب أرسطو.

وقد شقَّ بيير ديبوا طريق النقد، في النصف الأول من القرن الرابع عشر، إذ دعا إلى تجريد البابوية من كل أملاكها الدنيوية وسلطانها الزمني، ودعا حكام أوروبا إلى رفض الخضوع لسلطان البابا.

وقال مارسيليوس البادوي في العام (1324): إن النزاع الدائم بين الدولة والكنيسة يقوِّض السلام في أوروبا؛ وإنه يمكن استعادة السلام إذا وُضِعَت الكنيسة -بكل ممتلكاتها والعاملين فيها-تحت السلطة الإمبراطورية، أو الملكية مثل باقي الجماعات.

وأخيراً، بدأ تفتيت الكنيسة على يد مارتن لوثر الألماني (1520) الذي دعا إلى رفض دفع الجزية إلى بابا روما؛ ودعا رجال الدين لأن يتخلَّصوا من تبعيتهم له، وأن يُنشِؤا كنيسة قومية تحت زعامة كبير أساقفتهم.

ومع ذلك وبعد إنتصار العقل في الغرب، وبعد إلغاء نظام الكنيسة، والانتقال لأنظمة الدول القومية، لم تتعرَّض الدول الجديدة لحرية الاعتقاد الديني، وإنما قننته، وقوننته.

 

ب-وأما في الشرق الإسلامي فقد أغلق النقل على العقل العربي أبواب الحرية، إذ أنه قبل ثمانية قرون تقريباً، انتصر النقل على العقل في المجتمع الإسلامي، ومنذ ذلك التاريخ، تعرَّض العقل العربي، وما يزال يتعرَّض لكل أنواع الرفض على يد فقهاء التيارات الدينية السياسية. ولذلك شكلت بنية العقل الشعبي العربي سجناً حرم العقل الفلسفي من حرية الانتشار. وعن ذلك نرى أن حركة العقل الفلسفي لم تستطع حتى الآن الدخول إلى حرم العقل الشعبي التبسيطي والسطحي، الأمر الذي حال دون نقل الثقافة الشعبية من ضفة النقل إلى ضفة العقل. لأن ثقافة القرار الديني هي الثقافة السائدة، وتتلخص بأركان ثلاث تسهم في رسم صورة المشهد الفكري الإسلامي الراهن، وهي:

-قرار السلطة.

-فتوى رجل الدين.

-الشعب المقلِّد للفتوى.

ولكل ذلك كانت ثقافة التجديد القومي غريماً لثقافة التجميد الديني. فالنظرية القومية وليد جديد وناشيء، بدأت حركتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولأنه نمط فكري جديد كان في نظر الفقهاء المسلمين خصماً جديداً يجب وأده، ولذلك قيل فيه: (ما دخلت القومية إلاَّ لمحاربة الإسلام). أصدر الفقهاء الحكم بتكفيره وتكفير من ينظِّرون له، أو يدعون إلى إقامة دولة مدنية، وقد أيدوا دعوتهم بمبدأ فقهي سائد، بـ(لا حكم إلاَّ لله)، و: (لا يصلح الخلف إلاَّ بما صلح فيه السلف).

ولذلك تساعد الحركة النقدية للفكر الديني السياسي بالكشف عن واقع الحركات الإسلامية السياسية، وعن حقيقة عقائدها، وهذا بالتالي منهج علمي يساعد على تحديد العلاقة بين القومية والدين، وبالتالي (العلاقة بين العروبة والإسلام).

بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تأسست حركة الإخوان المسلمين، في العام 1929، داعية لاستعادة عصر الخلافة الإسلامية. ولحقت بها حركة (ولاية الفقيه) في العام 1980.

-منذ نشأتها الأولى كانت حركة الإخوان المسلمين تحمل أحكام التصادم مع الأفكار والمشاريع السياسية الأخرى. ووصلت درجة التصادم إلى حدود تكفيرها. وكان الفكر القومي عدوها الرئيسي من جانب، والدول ذات الإيديولوجيات العلمانية كانت عدواً آخر من جانب آخر. ولذلك تصادمت مع البعث والناصرية، فلوحقت في كل من سورية ومصر، ولم يرتفع الحظر عنها إلاَّ على أيدي نظام أنور السادات، لأن نظامه يعرف أنه لن يقف في مواجهة القوميين الذين عارضوا توقيع اتفاقات كامب ديفيد سوى الإسلاميين. وكذلك، وبالتنسيق بين أميركا والسعودية، تمَّ وضع الإسلاميين في مواجهة الحركة الشيوعية العالمية، وقد دشَّنوا تلك المرحلة ابتداءً من بوابة أفغانستان.

-وأما (نظام ولاية الفقيه) في إيران، فقد جاء ليحمل عوامل العداء للقومية، وهو لا يختلف في موقفه هذا عن موقف حركة الإخوان المسلمين. فمنذ وصول الخميني للسلطة في العام 1979، أعلن حالة العداء ضد نظام حزب البعث في العراق، وقام بتكفير المذاهب الإسلامية الأخرى، وترجم استراتيجيته بالنسبة للعراق وحزب البعث تحت عنوان (تصدير الثورة).

وبالنتيجة إن الحركتين معاً: هما دعوتان دينيتان سياسيتان، ترفضان أي نظام حكم آخر، وخاصة الأنظمة العلمانية. وكان هذا الرفض مبنياً على مبدأ (لا حكم إلاَّ لله)، وإن الأنظمة المدنية أنظمة كفر يجب إسقاطها. ومع أن الحركتين اتفقتا على مبدأ إعادة نظام الخلافةإلاَّ أنهما اختلفتا على مضمون تطبيقه. فالأولى تدعو إلى استعادة نظام ما تسميه (الخلافة الراشدة)، وأما الثانية فتدعو إلى حكم (الولي الفقيه) في ظل غيبة (الإمام المهدي المنتظر).

ولأن نقد الفكر الديني يُعتبر خطاً أحمر عند الحركات الإسلامية، ولأنه لا يمكن اقتحامه من دون اتهام القائمين به بالكفر والإلحاد، تحاشى معظم المفكرين القوميين سلوك هذا الطريق، وهم إذا مارسوا النقد فمنهجهم لا يتجاوز حدود التوفيق بين القومية والدين بشكل سطحي، الأمر الذي أحدث التباساً بين حدود الفكر القومي وحدود الفكر الديني. وهي بدلاً من أن تحل الإشكاليات فقد ظلَّت الحدود غامضة بينهما مع أرجحية التشبع بالفكر الديني على حساب التعمق بالفكر القومي.

 

العروبة والدين والعلمانية

بعد هذه المقدمة النقدية ندخل في صلب معالجة العلاقة بين العروبة والدين والعلمانية.

 

أولاً: العروبة والدين.

1-تعريف عام:

إن الدين مسألة قديمة قدم الإنسان، وستبقى عاملاً من أهم عوامل بناء تكوينه النفسي، على ألاَّ يتعدى وظيفته الروحية. لهذا فإنه ليس بمقدور أي قوة أن تلغي الدين، لأنها لا تستطيع أن تلغي هواجس البشر بالتساؤل عن مصير الأنفس بعد الموت.

لا شك بأن الإجابة عن ذلك المصير، ستبقى بغير برهان حسي، ومن هنا وُصف البحث عن مصير الإنسان بعد الموت بأنه قضية البحث بالغيب. وتفسير الفكر الغيبي سيبقى من دون براهين حسية طالما أن مصير الإنسان بعد الموت سيبقى مصيراً غامضاً. ولم يستطع الفكر الإنساني حتى الآن أن يجد تفسيراً ملموساً له، بل ظل هذا المصير مجهولاً.

ولكي لا يبقى هذا المصير من دون تفسير، جرت محاولات كثيرة لتفسيره، وندب كل من الفكر الفلسفي والأديان لهذه المهمة. وعن ذلك نجد أن هناك مرجعيتين تصدتا لها، وهما:

-تفسير الفلاسفة ولكن هذا التفسير ظل عاجزاً عن ملامسة مدارك العامة من البشر بسبب بحثه في قيم ومُثُل مجردة.

-تفسير الأديان بكل أشكالها وعقائدها، وهي لم تنتج أكثر من تفاسير مبسَّطة تقوم على مبدأي (الثواب والعقاب)، أي (الترغيب والترهيب). وتلك التفاسير زرعت الخوف في نفوس البشر أكثر مما زرعت فيهم الاطمئنان النفسي. ولذا أصبح الدين، حتى بمنظور الأديان السماوية، عامل تخويف من الخالق أكثر مما هو عامل احترام وإعجاب. وأصبح الترغيب بالجنة والترهيب من النار عاملين رئيسين في التربية الدينية.

ولكن الأديان غرقت في متاهة أي طريق يشكل خشبة الخلاص للأنفس بعد الموت. فزعم كل دين، بل كل مذهب متفرع عن الدين نفسه، أن طريق الخلاص لن يكون لغير أبناء هذا الدين، كما لن يكون لغير أبناء ذلك المذهب. وبذلك تعقَّدت علاقات المتدينين داخل المجتمع الواحد، فنشأت العداوات، وانتشرت مفاهيم التكفير فيما بينهم.

وبين تعقيد تفاسير الفلاسفة، وتبسيط تفاسير الأديان، يبقى الدين عاملاً مهماً من عوامل المحافظة على القيم العليا. والقيم العليا ليست غيبية بل هي تمسُّ حياة الإنسان بشكل يومي ومباشر. وهي الجامع المشترك بين كل شعوب الكرة الأرضية. فليس لمبادئ العدالة والمساواة بشكل عام دين أو قومية، فما هو مبدأ للعدل هنا هو مبدأ للعدل هناك، وهلمَّ جرَّاً...

واستناداً لكل ذلك جاءت النظرية القومية لتدلو بدلوها من أجل حل مشكلة المجتمعات المتعددة الانتماءات الدينية. فكيف نظرت القومية إلى هذه المشكلة؟

 

2-المجتمع القومي متعدد الانتماءات الدينية يتطلب تعريفاً موحداً للدين:

ترى النظرية القومية أن اختيار الدين هو اختيار طوعي وليس إلزاماً إجتماعياً أو قانونياً. والثواب والعقاب في مثل هذه الحالة ليست من صلاحيات السلطات الزمنية حتى ولا الدينية.

ولأن شرائح المجتمع الدينية تعتبر أن لها قوانين وتشريعات خاصة تعتقد أنها مقدسة تتناقض مع التشريعات للشرائح الأخرى. كان لا بدَّ من أن تضع الدولة تشريعات موحدة تطبقها على الجميع من دون تمييز.

ولأن حزب البعث يعتقد بالنظرية القومية كحل لمشاكل المجتمع الوطني الواحد، كيف وضع الحزب حلولاً لها؟

 

3-حزب البعث أحلَّ الرابطة القومية بديلاً للرابطة الدينية:

حذَّر الحزب من خطورة ما أطلقوا عليه اسم (الحركات السياسية المغلَّفة بالدين)، التي لا تبيح حرية الاعتقاد الديني من جهة، وتُلزم جماعاتها بتشريعاتها الخاصة من جهة أخرى، واعتبر (حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها). كما جاء في الفقرة (1) من المبدأ الثاني من دستور الحزب، وأكَّدت المادة (15) منه على أن (الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية). وهذا يعني منع رجال الدين من التدخل بالسياسة. فلماذا حصل المنع؟

إن بناء الدولة الدينية يعني أن منبع دستورها هو الدين وتشريعاته. وإذا تعددت التشريعات، يعني تعددت السلطات. وتعدد السلطات في المجتمع الواحد يقود إلى تفتيت المجتمع إلى دويلات، لكل دويلة تشريعاتها الخاصة التي تعتبرها مقدسة. ولأن حماية المقدس تقتضي أحياناً الموت في سبيل تطبيقه، سيشق الاتهام بتكفير الآخر طريقه للتطبيق، وسينتشر مبدأ (الجهاد المقدس) على قاعدة أنه من واجب (الفرقة الناجية) أن تجاهد ضد (الفرقة الضالة) أو (الفرقة المرتدة).

وهنا يعتبر الفكر القومي أن تدخل رجل الدين بالسياسة تدخل خطير ومميت، وخطورته تبدأ عندما يفتي رجل الدين بقضايا السياسة، يعني أن فتواه واجتهاده تُعتبران بمثابة أمر إلهي يقع على عاتق المتدينين وزر تنفيذه تحت طائلة العقاب في الآخرة.

لذلك يأتي الفصل بين رجل الدين والسياسة على قاعدة أنه لرجل الدين حقله الروحي،  وللدولة حقلها الزمني. ويبقى مفهومنا للدين كحاجة روحية للبشر، مقيَّداً بين حدَّين:

-الحد الأول: يلعب فيه رجل الدين دور المرشد الروحي، وليس أن يلعب دور المحاسب. خاصة وقد جاء في القرآن: ﴿لا إكراه في الدين، و﴿من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، و﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.

-الحد الثاني: تلتزم فيه السلطات الزمنية جانب الحياد في التدخل بدور رجل الدين، على أساس أن تُلزمه فيها بالابتعاد عن الدعوة لكل ما يزرع الشقاق بين مكونات المجتمع الدينية.

 

ثانياً: العروبة والعلمانية:

لم تُبن جذور الفكر العلماني على الفصل بين الدين والدولة بالمطلق، بل قامت من أجل أن يتكامل دورهما لإحداث التوازن بين دور الروح ودور المادة. فالإنسان من دون دافع روحي لا يستقيم نفسياً واجتماعياً. ومن دون تلبية حاجاته المادية سيعيش حياة الفقر والبؤس. وبناء عليه قامت أسس النظرية العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة على أساس احترامها للخيارات الدينية للفرد على ألاَّ تنعكس سلباً على علاقات أفراد المجتمع الواحد. والعلمانية تعني تعدد بالخيارات الدينية وتوحيد بمفاهيم الحقوق والواجبات السياسية.

ولأن النظرية العلمانية نتاج من نتاجات الفكر الأوروبي، كانت العلمانية الأوروبية ثورة فصلت بين الديني والسياسي في دولة مدنية. فكيف كان موقف الحركات الإسلامية والفقهاء المسلمين من النظرية العلمانية؟

منذ أواسط القرن التاسع عشر، أخذت تبرز إلى العلن مناهج تنويرية في الفكر الإسلامي، تعمل على لِّم الشمل الإسلامي، متحصنة بالمسألة القومية، في سبيل مواجهة الغزو الغربي الجديد. إذ لم يستطيع الفقهاء المسلمون في ذلك الحين، إنكار مدى عمق التخلف والعجز الذي عانى منه المسلمون والعرب من النظام السياسي والاقتصادي للامبراطورية العثمانية. ولذلك تأثروا برياح الفكر السياسي الأوروبي، وقامت دعواتهم على إصلاح هذا النظام بتزويج مسألتين: العودة إلى أصول الإسلام والسلف الصالح من جهة، والاستفادة من القفزة الحضارية العلمية للغرب من جهة أخرى.

ولذلك رجَّح معظم المفكرين الإسلاميين «الولاء للإسلام وليس لشيء آخر. فاعتبروا أن الرابطة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، هي الولاء للإسلام، وليس لقومية أو وطن أو أسرة... وبمحاولتهم التوفيق بين الإسلام والعروبة، أكدوا على أن تكون القيادة فيها للإسلام كعقيدة روحية وسياسية.

من أجل ذلك سوف ننتخب بعض نماذج التفكير عند بعض العلماء المسلمين، ولعلَّ موقف الشيخين محمد مهدي شمس الدين، ويوسف القرضاوي، يمثل هذه النماذج:

يرى شمس الدين، أن العلمانية بدعة استخدمها الاستعمار ضد الإسلام لأن فيه نظام حياتي كامل لا يترك مجالاً لأي نظام آخر. والشريعة الإسلامية، بقواعدها الكلية العامة وبالفقه الذي بني على أصليها الكبيرين (الكتاب والسُنَّة)، شاملة مستوعبة لكل ما تقضي به سنة الحياة إلى نظم وأحكام.

ومن زاوية مماثلة يرى القرضاوي، أنه إذا فصلت السلطتين يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده. فمن أجل هذا لا يتصور القرضاوي للعلمانية أن تنجح في بلد إسلامي، ولا يوجد أي مبرر لقيامها. فهل حسابات رجال الدين الإسلامي صحيحة؟ لنجد الجواب في البحث عن الكيفية التي عالجت فيها النظرية القومية إشكالية العلاقة بين القومية والدين. لذا نتساءل:

 

1-كيف نظر القوميون للمسألة العلمانية؟

دعا القوميون، للفصل بين الدين والدولة؛ ولئن ظهرت بدايةً تحت شعار  «الدين لله والوطن للجميع»، إلاَّ أنها اكتسبت مضامينها العلمية بعد أن أخذت تناقش مبادئ سياسية، مثل: الديموقراطية والعلمانية والاشتراكية والقومية. وكل تلك المبادئ تقوم على أسس مبدأي العدل والمساواة.

فهل احترمت الدولة الدينية هذين المبدأين؟

كان هذان المبدآن يكتسبان مفهوميهما النسبي في الدولة الإسلامية، أي لم يتم تطبيقهما بشكل تام، فما كان يبدو عدلاً ومساواة عند طبقة إجتماعية من المسلمين لم يكن كذلك عند طبقة أخرى؛ كمفهوم الغنى والفقر مثلاً. وما كان يبدو عدلاً عند مذهب لم يكن كذلك عند مذهب آخر. وما كان يبدو عدلاً ومساواة بين المسلمين لم يكن يعني ذلك عند الديانات الأخرى.

ومثالاً على ذلك، عندما يطبق المسلمون مبدأ «الذمية» على النصارى واليهود، فإنما يعتقدون بعدالة هذا المبدأ استناداً إلى القرآن الكريم. لكن في المقابل ينفي الكتابيون عدالته، لأنهم كجزء من الدولة محرومون من امتيازات خُصَّ بها المسلمون.

إن ما عجزت عن تطبيقه الدولة الدينية هل له حل في النظرية القومية العلمانية؟

لم تكن العلمانية، ولن تكون، نظرية فكرية جامدة، فهي عندما أسقطت الديني لصالح السياسي، فقد استهدفت فك الاشتباك بين السلطتين، بما يضمن حياد السلطة تجاه الدين، ويضمن حرية اختيار العقيدة الدينية. وفي الوقت ذاته يمنع رجال الدين من إعطاء آرائهم واجتهاداتهم صفة مقدسة، ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة.

فالعلمانية فصلت بين الممارسة الدينية، والممارسة السياسية. ورفضت معاملة المواطن من خلال انتمائه لطائفة معينة، لكن دون أن تعادي الإيمان الديني أو تنادي بالإلحاد.

كانت العلمانية مشروعاً فكرياً لحل إشكالية المساواة في الحقوق السياسية بين المسلمين وغيرهم من رعايا دولة واحدة. وقد مهَّد الطريق إليها المثقفون المسيحيون العرب، لأنهم وحدهم كانوا يشعرون بعبئها لأنهم تأكدوا طوال قرون من الزمن بأن الحقوق السياسية لغير المسلمين ستبقى منقوصة في ظل نظام سياسي إسلامي.

لذلك تبقى إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، فيما يتعلق بالحقوق السياسية للأقليات الدينية داخل أنظمة دينية، هي إشكالية عامة تواجه النظام الإسلامي كما تواجه النظام المسيحي أيضاً. ولأن أفراد المجتمع في دولة واحدة ليسوا  من دين واحد. ولأن لكل دين أو مذهب ثوابت مقدَّسة. ولكي لا تتحارب المقدسات، ويكفر البعض منها البعض الآخر، يصبح من الضروري أن تخضع علاقات الأكثرية والأقلية إلى قوانين ومقاييس متحركة. فكيف تحل القومية هذه الإشكالية؟

جاء الفكر العلماني من الغرب المسيحي لوضع حد للصراعات بين المذاهب المسيحية، ولم تكن الغاية منه إعلان العداء للإسلام والمسلمين؛ ولم يخطر ببال أحدهم هدف علمنة الشرائع الإسلامية، بقدر ما كانوا هم بحاجة إلى حل فنشطوا  في التفتيش عنه. وجاء الحل في وجوب الفصل بين الديني والسياسي لأن مشاكلهم كانت ناتجة عن طغيان رجال الكنيسة في أحكامهم الدينية والدنيوية، والتي أسبغوا عليها هالة «المقدسات».

ولأن المشرق العربي- الإسلامي، يعاني بشكل أو بآخر ليس فقط من طغيان الديني الإسلامي على حقوق الأقليات الدينية الأخرى، بل مارست أيضاً طغياناً مماثلاً، أو أشد قسوة على المتدينين بمذهب إسلامي آخر غير مذهب السلطات الحاكمة. ولذا وجدت الثقافة العربية بالفكر العلماني متنفساً فكرياً لحل إشكالية الصراع بين الأنظمة السياسية الإسلامية وتلك الأقليات. فالعلمانية بهذا المعنى لم تكن موجَّهَة لحل إشكالية الثنائية الدينية، إسلامية-مسيحية فقط، بل كانت لحل الإشكالية الإسلامية الإسلامية أيضاً.

فإذا كانت هناك خصوصية للعلاقة بين العروبة والإسلام، لاقتران التكوين القومي بالدعوة الإسلامية، فإنها لا تتعارض مع الاتجاه نحو العلمنة. فالعروبة كمفهوم تقدمي تعارض التنظيم الاجتماعي والسياسي القائم على أساس الطوائف والانقسامات الطائفية؛ «وهي تشدد على ضرورة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية والإقليمية للمواطن».

 

ثالثاً: العروبة والعلمانية في فكر البعث وجهان متكاملان:

1-العروبة والعلمانية في فكر البعث وجهان متكاملان:

أ-البعث والعروبة:

جاء في دستور الحزب: «بأن الشعور القومي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً هو شعور مقدَّس... والفكرة القومية... هي إرادة الشعب العربي أن يتحرر ويتوحد وأن تعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ، وأن يتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرها القويم إلى الخير والرفاهية»([1]) . ولهذا فإن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية»([2]) .

المبدأ الأول في دستور البعث ينص على أن «الأمة العربية، وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائلة تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي»([3]).

المبادئ العامة الأخرى حيث تنصّ المادة الثالثة: «حزب البعث العربي الاشتراكي قومي يؤمن بأن القومية حقيقة حيَّة خالدة وبأن الشعور الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً هو شعور مقدس» ([4]).

وفي المادة (13) يجعل الحزب الرابطة القومية الرابطة الوحيدة القائمة بين المواطنين: «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية»([5]).

المادة العاشرة كما يلي: «العربي هو من كانت لغته العربية وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية» ([6]).

المادة الخامسة من الدستور حين نصَّت: «حزب البعث العربي الاشتراكي شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها من إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها... » ([7]).

في المادة 17: «يعمل الحزب على تعميم الروح الشعبية (حكم الشعب) وجعلها حقيقة حية في الحياة الفردية ويسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم... » ([8]).

وعلى المستوى الاجتماعي يناضل البعث، كما ينصّ المنهاج، لتعميم العمل والعلم واحترام الأسرة والمرأة وخلق «ثقافة عامة للوطن العربي: قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة، وإنسانية في مراميها وتعميمها في جميع أوساط الشعب».

 

ثانياً: البعث والعلمانية:

1-العلمانية في دستور الحزب:

يقول محمد شيا: « إن جعل الرابطة القومية، والتعبير لقوميي الثلاثينات، الرابطة الوحيدة القائمة، هو نفي واضح لكل ما يتعارض أو لا ينسجم مع الرابطة القومية. وهو نفي الرابطة الدينية كأساس أو إطار جامع في الدولة العربية، وهو التعارض الأول والمبدئي بين المنظور القومي والمنظور الديني».

يقول الدكتور محمد شيا: «اجتمعت في دستور حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أقره المؤتمر الأول التأسيسي في 4-6 عام 1947، كل الأركان العامة (النظرية) التي سمحت، بل ألزمت، بلوغ فكر علماني محدَّد. فالعقيدة التي تكوِّن قومية خالصة، وتتبنى تطلعات الطبقة الوسطى في التحديث، واشتراكية في المضمون، ثم لا تذكر في دستورها ونظامها الداخلي كلمة واحدة في الإسلام أو الدين عموماً، هذه العقيدة (النظرية) ستسمح حتما بقيام فكر علماني واضح ومحدَّد، وفي حدود تفوق أو تتجاوز ما بلغته الناصرية في هذا المضمار».

فالقومية الخالصة الجماهيرية والاشتراكية، هي بالضرورة علمانية. فالقومية الخالصة لا تكون إلاَّ بتجاوز الديني تحديداً، وهذا جانب مهم في العلمنة، التي تسعى من خلال الاشتراكية إلى التحديث والعقلنة والعصرنة والتنمية والتطوُّر. وهي كلها القاعدة التي تتخلَّلها العلمنة وتستند إليها.

يقول محمد شيا: « وليس من باب المصادفة في شيء أن يخلو دستور البعث ومنهاجه في مواده الثماني والأربعين من أية كلمة تتناول الدين (أو الإسلام) ما خلا إشارة واحدة لحظت المذهبية والطائفية كعاملين معيقين للرابطة القومية وللتوحُّد الوطني»([9]).

 

2- المؤتمرات القومية أكَّدت العلمانية

ولم تتراجع مؤتمرات الحزب المتلاحقة عن أي من هذه الاتجاهات الراديكالية، وإنما على العكس تماماً، فقد كانت الدعوة منصبةً دائماً على تعميق أطراف المثلث الذي ذكرناه، مما يشير بمقدار ما يعنينا إلى تجذير متزايد لعلمنة النظرية البعثية وتوفير مقدماتها وشروطها وأسبابها. فقد أشار بيان المؤتمر الثاني، في 6-9 نيسان عام 1950، إلى أن «على الحزب أن يزداد شدة في محاربة الرأسمالية والإقطاعية والرجعية وأن يدعو الجماهير العربية إلى التمسك بالاشتراكية العربية وبالاتجاه التقدمي» ([10]).

 وتوالت بياناته، قبل الوصول إلى السلطة، تحذر من خطر استغلال الدين من قبل الرجعيين وحلفائهم «فالحزب حرب على الطائفية والقطرية والعشائرية»  على حد تعبير بيانه الصادر في 23 أيلول 1959([11]). كذلك دعا المؤتمر الرابع، في آب عام 1960، وفي توصيته الرابعة إلى ما يلي:  «يعتبر المؤتمر القومي الرابع الرجعية الدينية إحدى المخاطر الأساسية التي تهدد الانطلاقة التقدمية في المرحلة الحاضرة، ولذلك يوصي القيادة القومية:

أ- علمانية الحزب، خاصة في الأقطار العربية التي تشوِّه فيها الطائفية العمل السياسي.

ب- إبراز التناقضات بين مصالح الفئات الرجعية المتاجرة بالدين ومصالح الجماهير الشعبية.. » ([12]).

وتشير التوصية التاسعة إلى علمانية الحزب بالاسم والتحديد كما يلي: «وجدت القيادة بعد دراسة الوضع في لبنان أن الفكرة العربية تقترن في أذهان جزء من أبناء الشعب بالطائفية الإسلامية والتبعية للجمهورية العربية المتحدة، لذلك تقرر أن أفضل سبيل لتوضيح فكرتنا القومية هو شرح وإبراز مفهومها التقدمي العلماني... وعلى ذلك سيكون نضالنا في هذه المرحلة مُركَّزاً حول تأكيد علمانية حركتنا ومضمونها الاشتراكي لاستقطاب قاعدة شعبية لا طائفية من كل فئات الشعب وطبقاته»([13]).

أما موقع الإسلام في هذا التفكير، فلم يرد فيه نص في دستور البعث على الإطلاق.

 

3-نصوص عفلق في تأكيد عروبة الإسلام وليس في أسلمة العروبة

غير أن أدبيات البعث الأخرى، وخصوصاً في كتابات ميشيل عفلق الأولى، تذهب مذهب القوميين عموماً في التفسير القومي للإسلام في استثماره كقوة دفع للروح العربية في التاريخ كما في تعبير ميشيل عفلق: «لنهجر اللفظ قليلاً ولنسمِّ الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية العروبة وبالدين الإسلام... فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ عن قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج بها في أمجد أدواره... » ([14]). فالإسلام في غالب ذكرياته عربي، كما يقول عفلق في خطاب له عشيَّة «المولد النبوي» عام 1943، إذ إن «الإسلام في جوهره، وحقيقته حركة عربية ويعني تجدد العروبة وتكاملها، ولأنه نزل في أرضهم ولغتهم ولأن الرسول عربي والأبطال الأوائل الذين ناضلوا من أجل الإسلام هم من العرب» ([15]). وينتهي خطاب عفلق إلى تقرير الحقيقة التالية: «إن قوة الإسلام في هذه المرحلة قد بُعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية».

 

4-مواقف بعض المفكرين البعثيين من المسألة العلمانية

ولعل أكثر الكلام وضوحاً في علمنة البعث هو لشبلي العيسمي، أحد قادة حزب البعث في الخمسينات والستينات، حيث يقول في طبيعة المناقشات التي دارت في المؤتمر التأسيسي الأول عام 1947: «لقد حرص الحزب على أن يتميز عن الأحزاب التقليدية التي كانت قائمة في مرحلة الأربعينات، فأراد أن تكون عقيدته علمية ثورية وعلمانية عصرية مع عدم التنكر للقيم الروحية المرتبطة بتاريخ الأمة العربية وتراثها الحضاري» ([16]).

وبعد، فإن قومية البعث الخالصة الكاملة، ثم مضمونها الاشتراكي العصري، قد قدَّما إطاراً لبروز علماني لا يمكن التنكر له، ويمكن اكتشافه والإشارة إليه على الدوام. إن الرابطة القومية في عقيدة البعث، وفي المستوى الحاد الذي بلغته، لم تترك مكاناً لأية رابطة غير قومية وللرابطة الدينية بالذات، وكما يقول العيسمي مرة أخرى: «إن الشعور القومي عند العرب نما... وغدا أكثر قوة وقدرة على تخطي الرابطة الدينية وتجاوزها» ([17]).

 

5-علاقة البعث مع الحركات الدينية السياسية علاقة احتراب دائم بسبب علمانيته

ومما لا شك فيه أن جزءاً من موقف البعث العلماني هو الذي كان يقف باستمرار في التاريخ الدامي الطويل بين البعث والحركات الإسلامية وبخاصة «الإخوان» ، والذي بلغ ذروته في الصدامات الدموية التي حصلت عام 1977 والذي يذهب مؤتمر البعث القومي السادس إلى أنه جزء من الهجوم الرجعي الإمبريالي الدائم ضد قومية البعث وتقدُّميته. يقول التقرير: «لقد اعتبر حزبنا منذ تأسيسه الحامي الحقيقي للقيم الإسلامية والمدافع عنها كتراث حضاري أصيل للأمة العربية، ورأى في الرجعية الدينية أخطر عدو لهذه القيم ولمضامينها الحقيقية، لأن هذه الرجعية كانت ولا تزال القوة الضاربة للإمبريالية والصهيونية التي هي العدو التاريخي الشرس اللدود للعروبة والقيم الإسلامية. فضلاً عن أن هذه الرجعية الدينية كانت ولا تزال الغطاء الإيديولوجي للرجعية الاجتماعية والسياسية التي تحاول التستر بالدين تضليلاً للجماهير عن حقيقتها المعادية لحرية هذه الجماهير وحقها في خيرات وطنها وفي حياة كريمة... ليس هذا بجديد على حزبنا الذي اصطدم بهذا التنظيم الرجعي العميل منذ تأسيس الحزب وقاتله في مختلف مراحل تطوُّر نضاله... بل إن حركة التحرر العربية بمختلف فصائلها اصطدمت بهذا التنظيم الرجعي العميل بخاصة ثورة 23 تموز / يوليو بقيادة جمال عبد الناصر» ([18]).

 ويتابع التقرير فيقول: «لقد اصطدم حزبنا بالإخوان المسلمين في الأربعينات عندما ناضل من أجل الجلاء... كما اصطدم به عبر نضاله ضد تحالف الإقطاع والبرجوازية التجارية... كما قاتله في مطلع الخمسينات من أجل وضع دستور قومي عربي تقدمي للقطر العربي السوري. وكذلك في النصف الثاني من الخمسينات إبَّان نضال الحزب ضد حلف بغداد والعدوان الثلاثي عام 1956 ومبدأ أيزنهاور 1957. كما قاتلهم كذلك في مرحلة الانفصال... وفي جميع هذه المراحل كان تنظيم الإخوان المسلمين رأس الحربة للرجعية الداخلية ولقوى التآمر الخارجي»  ([19]). وينتهي التقرير إلى «أننا نعلم حق العلم أننا لسنا وحدنا المعنيين بهجوم الرجعية الدينية بل جميع القوى التقدمية في العالم كله».

هذا الصراع الدموي الطويل بين البعث والإخوان المسلمين هو انعكاس طبيعي، شئنا أم أبينا، لموقف البعث الحاد في المسألة القومية وفي مسائل التحديث والتنمية (والعلمنة بالتالي) ولطبيعة تحالفاته وسياساته التي بدت على تناقض تام مع تنظيم الإخوان والتنظيمات التقليدية المشابهة.

علمنة البعث، إذن، لم تكن نصاً وكفى، وإنما كانت جزءاً من الأسباب التي قادت إلى مواجهات دامية مع الإسلاميين، تماماً كما كانت قوميته الخالصة سبباً في مواجهات مماثلة، وإن تكن قد ضعفت الآن، مع الشيوعيين.



([1]) دستور حزب البعث العربي الاشتراكي: نضال البعث (ج4): دار الطليعة: بيروت: 1975:ط 3: ص 25.
([2]) م. ن: ص 27.
([3]) المبدأ الأول في دستور البعث.
([4]) المبادئ العامة الأخرى حيث تنصّ المادة الثالثة.
([5]) المادة (13).
([6]) المادة العاشرة.
([7]) المادة الخامسة.
([8]) المادة السابعة عشرة.
([9]) الدكتور محمد شيَّا: الحركات الجماهيرية في الوطن العربي: معهد الإنماء القومي: بيروت: 1991: ص 126 - 137.
([10]) نضال البعث، ج 2، ص ص 55 - 56.
([11]) المرجع نفسه، ص 289.
([12])  نضال البعث، ج 4، ص 97.
([13]) المرجع نفسه، ص 103.
([14]) ميشيل عفلق: في سبيل البعث، ص 43.
([15]) المرجع نفسه، ص 55.
([16]) شبلي العيسمي: حزب البعث العرب الاشتراكي، مرحلة الأربعينات...، ط 3، دار الطليعة، بيروت، 1978، ص 72.
([17]) المرجع نفسه، ص 11.
([18]) نضال حزب البعث، ص ص 280- ا 28.
([19]) المرجع نفسه، ص 281.

ليست هناك تعليقات: