الثلاثاء، فبراير 17، 2015

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة (8/ 11)

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة
وموضوعها:
حوارات ومناقشات حول كتابات حسن خليل غريب
(المناقشة الثامنة)
(8/ 11)

وهذه الحلقة الثامنة، وجاءت تحت عنوان: (تساؤلات جديدة بعد وهذه الحلقة الثامنة، وجاءت تحت عنوان: (تساؤلات جديدة بعد طاولة حوار في 1 / 8 / 2001  - صور حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي)، وهي عبارة عن مطالعة قدَّمها مروان رداً على توضيحاتي التي جاءت في أعقاب طاولة حوار صور. وأرفقت مع المناقشة رداً على المطالعة الثانية من مروان.

نص مطالعة مروان الثانية: تساؤلات جديدة
بعد طاولة الحوار الأولى، التي عقدت في صور، واستكمالاً للمناقشات، وبعد الاطلاع على كتابات الرفيق حسن غريب، مقدرين جهده الكبير في أبحاثه المتواصلة، وما تناولت من جوانب جديدة من فكر المرحوم ميشيل عفلق. ومن أجل أن يستمر الحوار نطرح بعض التساؤلات والتوضيحات، راغبين الإضاءة على بعض الإشكاليات التي طرحها المؤلف.
ولو أن المؤلف توجَّه، بكتاباته وانتقاداته، لبعض رجال الدين الأوصياء على الإسلام، أو نقد أحكام الدين والشريعة والفقه، أو لسياسة الأحزاب الدينية السياسية المغطاة بالدين في سبيل أهدافهم الخاصة، لما اضطررنا إلى هذه التساؤلات والاستفسارات عن هذه الإشكاليات التي طرحها. أما أن يكون النقد لشعارات ومنطلقات فكر البعث التي آمنا وعملنا من أجلها سنوات ولا زلنا، فنطرح التساؤلات التالية:
إن الكاتب يعتبر الإسلام كلُّ متكامل، بين مفهومه وأحكامه، بين روحيته وتشريعاته. وإذا نسخت آية ما قبلها نُسخ الإسلام نصاً وروحاً. فإما النسخ وإما الأخذ به كاملة كما يدَّعي الأصوليون والسلفيون.
إننا نرى أن الإسلام هو وحدانية الله، والإيمان بالرُسُل، واليوم الآخر، وإن حدود الله هي المحرمات، وفيها نزلت الشرائع والأحكام، واختلفت أو نسخت باختلاف الظروف والمراحل. ومن هنا كثرت الاجتهادات بين رجال الدين أنفسهم، وبين المذاهب والطوائف. وأما العبادات، فهي على طريقة الأنبياء والرسل، فهناك الطريقة العيسوية والمحمدية
إن الكاتب انطلق من أن أسبقية المادة على الفكر، وهذا يخالف منطلقات البعث، بل الجنوح نحو الإلحاد. بينما البعث يؤمن بأن الروح قبل المادة، والعلاقة بينهما جدلية متكاملة »فالروح هي أقوى محرك لطاقات الإنسان، ومفجِّر لينابيعه الداخلية«.   وإن الروح والمادة تستمدان معانيهما من صميم الواقعية الثورية، وبتفاعل جدلي. لذا يرفض البعث المفهوم المشوه للروح، الذي لا يأخذ تأثير العوامل المادية في تكوين قيمها. كما يرفض المادية الغاشمة، التي تتوقف عند تأثير العوامل المادية الصرفة. والروح ليست شيئاً غينياً يتناقض مع المنهج العلمي، وإنما هي الوعي والإرادة والأخلاق والتضحية والبطولة والإيمان بالحقيقة والحرية.
3-إن الموقف الذي ينطلق منه المؤلف موقف قومي يستبعد الدين كلياً، أو موقف ديني يستبعد القومية كلياً، وهذا يطرح التساؤلات التالية:
-ماذا يعني البعث؟ هو »حزب قومي ثوري اشتراكي«، وما هو مفهوم الرسالة الخالدة، الذي ما زال البعثيون يرددونه في كل اجتماع حزبي؟ إذاً فالقومية تحمل مضموناً ومفهوماً تاريخياً هو الرسالة الخالدة. وهذه المفاهيم ليست ظرفية أو تكتيكية، بل إن دستور الحزب، يؤمن البعث بدولة قومية لا مركزية دولة مدنية روحها الإسلام. فعلينا أن نميز بين الإسلام الديني السياسي الفقهي والشرعي، وبين الإسلام الإيماني: إسلام التراث والحضارة. بل ماذا يعني أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟
نحن قومية مؤمنة »فالإيمان قد يعتبرها البعض غيبية، ولكن الحياة برمتها تقوم عليها منذ أن وجدت«. إننا لسنا حياديين بين الإيمان والإلحاد. إننا مع الإيمان ضد الإلحاد. فالإسلام هو التراث الروحي، وهو الحافز للأمة وملهمها ومرجعها الروحي.
4-يتساءل المؤلف: لماذا يغيب عندنا الوضوح في العلاقة بين العروبة والإسلام؟ وإنه لا تطابق بالمطلق بين حدَّيْ المعادلة (العروبة والإسلام)، بل إن هناك ما يحول دون التطابق الكلي بينهما. ويستشهد المؤلف بقول السيد محمد حسين فضل الله بتثبيت شعار المؤسس إن العروبة جسد روحها الإسلام. وهذا فخر واعتزاز باكتشاف المؤسس لهذا الشعار. أما التفسير والتأويل: وهل هو تفسير بعثي أو فقهي، فلكل اجتهاده. وفي الصفحة (22) يقول المؤلف »إن العلاقة بين العروبة والإسلام ليست كعلاقة الجسد بالروح، فإذا فنيت الروح فني الجسد، وهذا يعني أن القومية قد سبقت الإسلام، ويكون الجسد سابقاً للروح، وهذا ما يتنافى مع العلم«.
إننا نقول: لماذا اختار الله العرب لحمل الرسالة »كنتم خير أمة أخرجت للناس«. العرب، منذ أن وجدوا خلقهم ليبعث فيهم روح الإسلام، ويحملون الرسالة الخالدة بكل أمانة إلى البشرية والإنسانية:»والطفل قبل أن ينطق هو جسد دون مضمون، فإذا تعلَّم القيم والأخلاق يصبح إنساناً خيَِّراً، وإذا حمل عكس هذه القيم أصبح شريراً«.. ولذلك نقول إن القومية العربية تحمل في أحشائها ومضمونها مقوِّم الرسالة الإنسانية »الأخلاق، الكرم، والحضارة، والإيمان، والإنسانية، والبطولة، وغيرها. فالإسلام هو التراث الروحي للأمة وملهمها ومرجعها الروحي«.
فالعلاقة الروحية هي شرط لازم وضروري في بناء الدولة. والإسلام مقوِّم من مقوِّمات القومية. فالعروبة والإسلام علاقة جدلية تكاملية. أما إذا فقدت القومية المضمون فهي تحافظ على الهوية دون مضمونها. والإيمان هو التحرر الثوري، فالرسول قاد الثورة بحرارة الإيمان، والبعث يرتكز على الإيمان بالثورة الأخلاقية والفكرية والاجتماعية، وهي صلب القومية العربية. فالعروبة تعني الإسلام، والإسلام مفصح عن شعور العرب ونظريتهم ووحدة شخصيتهم، ولهذا السبب هناك مفهومين للدولة الدينية السلفية والدولة القومية بمضمون الإسلام. والحزب تصدّى للتيارات الدينية والمذهبية والطائفية ودفع ثمناً كبيراً.
5-يقول المؤلف في الصفحة (7) إن القومية هي من الثوابت، والمقومات هي من المتغيرات من الثقافة واللغة والتراث. فالقومية هي هوية ذات مضمون، فإذا ما قيست بالحضارة تقاس بتراثها وثقافتها ومفاهيمها ونظرتها للحياة والإنسانية، فهي قادرة على الحفاظ على هويتها، وقادرة على أن تواكب التطور بكل جوانب الحياة: بالحضارة والتراث والثقافة والعلوم. وأقول إن الاستعمار جثم فوق أرضنا مئات السنين، ولم نفقد لا هويتنا ولا تراثنا ولا حضارتنا لأن قوميتنا ذات مضمون ومفهوم إسلامي حضاري وإيماني حافظنا على لغتنا وتراثنا ورسالتنا. ويعود المؤلف ليقول إن القومية هي مرحلة من الأممية. »يقول المؤلف لم يقف ضد حلم الماركسية الجميل، بل كان خائفاً من صعوبة تحقيق الحلم وليس ضد الحلم بذاته. ووجد إمكانية الوصول إليه قد تتم في مراحل بعيدة وعبر محطات لا يمكن القفز فوقها وتأتي الحالة القومية إحدى تلك المحطات. ومن هنا لا يفرط بالحسن قبل أن ترى الأحسن أصبح ممكناً، ونحن نرى أنه من الخطأ أنه مستحيل«.
فهل القومية هي مرحلة من الماركسية أو الأممية الماركسية؟ أم أن القومية ثابت؟ وهل للقومية مضمون أو أنها هوية دون مضمون؟
 9/ 7/ 2002                                                                 مروان

رد الكاتب على رسالة مروان
لنا حول الرسالة، أعلاه، التي وجهها مروان، عدة من الملاحظات، نقسمها إلى المحاور التالية:
أولاً:حول منهجية النقد.
ثانياً: في تحديد الجهة ذات الصلاحية في الحكم على من يخالف شعارات الحزب ومنطلقاته.
ثالثاً: في ما نسبه مروان من افتراءات فكرية حول كتاباتي:
1-أسباب تلك الافتراءات، واتهامي بمخالفة شعارات الحزب ومنطلقاته، تعود إلى تخمينات شخصية، ونقص شديد في قراءة تلك الكتابات.
2-نسبة عقائد الإسلاميين إلى الكاتب.
3-تشويه رؤيته لعلاقة الفكر مع المادة.
4-تشويه رؤيته لعلاقة الروح مع المادة.
5-ادِّعاؤه بأنه يدافع عن مبادئ الحزب حول حقيقة علاقة العروبة مع الإسلام، واتهامه للكاتب بأنه يخرج عن تلك المبادئ.
رابعاً: حول صلاحية كتاباتي النقدية في هذه المرحلة.

أولاً:حول منهجية النقد.
من شروط النقد أن تحدد، تماماً، ما تريد أن تنقده. فإذا كان المنقود قد نشر آثاراً مكتوبة، فمن الضروري على الناقد أن يحدد، تماماً، العبارة أو الفكرة وينقلها بين مزدوجين، ثم يقوم بتحديد اسم الكتاب أو البحث، ومصدر نشره، ثم يذكر رقم الصفحة. وهذا من أولى شروط الأمانة العلمية.
أما إذا لم تتوفر هذه الشروط، فإن تأويل ما كان يريد أن يقوله المنقود، ثم الاستناد إليه في أي نقد، أو أن يُقوَّل المنقود ما لا يريد أن يقوله أو يؤمن به، فيتحول إلى باب الافتراء. ومعاني الافتراء، كما جاء في تعريفها، كانت كما يلي: افتريت على فلان، أي حمَّلته ما ليس به. أو قوَّلته ما لا يريد أن يقوله.

ثانياً: في تحديد الجهة ذات الصلاحية في الحكم على من يخالف شعارات الحزب ومنطلقاته.
لقد نصَّت بعض مواد الدستور على حرية الاعتقاد أولاً وعلى حرية الفكر ثانياً. وقد جاء في النصوص ما يلي:
المبدأ الثاني: (1): »حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها«.
المادة 41: (البند الثالث): »العمل الفكري من أقدس أنواع العمل، وعلى الدولة أن تحمي المفكرين والعلماء وتشجعهم«.
أنا أدري أن حرية الفكر، على صعيد حزب البعث العربي الاشتراكي، ترتبط مع فكر الحزب، وأن لا تتعارض معه. كما أنه إذا كان البعثي ملتزماً، من خلال إنتاجه الفكري، بفكر الحزب، عليه أن لا يتعارض فكره مع المعاني الكلية للفكر البعثي العام وأن لا يسيء إليه. وهذا لا يعني أن نُبقي الفكر جامداً في نصوص لا يمكن تغييرها فحسب، بل من واجب الحزبيين أن يعملوا على إغنائه وتطويره والتجديد فيه أيضاً. وهذا حق للبعثيين وواجب عليهم.
لكن من هي الجهة التي عليها أن تنظر في إنتاج البعثيين الفكري، وتصدر الحكم إذا ما كان الانتاج الفردي يسيء إلى فكر الحزب أو يتعارض معه؟ ومن هي الجهة الحزبية الصالحة المخولة بالنظر في مثل تلك الأمور؟
أنا أعتقد بأن من حق كل بعثي أن يبدي رأيه في الانتاج الفكري لأي مفكر بعثي. وعليه أن يتوجَّه إليه بالنقد في سبيل التطوير والإغناء. أما إذا اكتشف أحد البعثيين أن هناك من الكتاب البعثيين من يسيء أو يختلف مع فكر الحزب، فعليه أن يرفع رأيه معلَّلاً إلى الجهات المختصة قبل أن يصدر حكمه. ونتيجة الحكم تكون من صلاحياتها وحدها.
لكن مروان بدلاً من أن يسلك الطريق الصحيح أخذ يجتهد من عنده، وينفِّذ اجتهاداته، ويتصرَّف ويرشد البعثيين إلى أن كتابات حسن غريب تخالف شعارات الحزب ومنطلقاته الفكرية من جهة، وإلى أنه يجنح نحو الإلحاد من جهة أخرى.
لم يحترم مروان حرية حسن غريب الفكرية التي ضمنها له الدستور أولاً، وتجاوز حقوقه بالنقد عندما اجتهد بمفرده ولم يرفع إلى الجهات المختصة ملاحظاته ثانياً، وأخذ يروِّج بما يشبه التعبئة ضد أحد كتَّاب الحزب وباحثيه ثالثاً.
لقد أخطأ مروان، تنظيمياً، ثلاث مرات بحق حرية الفكر في الحزب. ووقع بأخطاء منهجية في تقييمه للمحتوى الفكري الذي يقوم حسن غريب بالانتاج فيه.
سأتجاوز التعليق على الأخطاء التنظيمية. وأما الأخطاء النقدية المنهجية، فكانت نوعاً من الافتراءات التي أضعها أمام مروان. وأقوم بتفصيلها فيما يلي:

ثالثاً: في ما نسبه مروان من افتراءات فكرية لكتاباتي:
1-أسباب تلك الافتراءات تعود إلى تخمينات شخصية، ونقص شديد في قراءة تلك الكتابات. واتهامي بمخالفة شعارات الحزب ومنطلقاته.
أ-ما هي الدلائل التي تبرهن فيها على أنني أقوم بنقد لشعارات الحزب ومنطلقاته؟
تعيد السبب الذي دعاك إلى توجيه نقدك إلى كتاباتي، هو أنني انتقد شعارات الحزب ومنطلقاته، قائلاً:»أما أن يكون النقد لشعارات ومنطلقات فكر البعث التي آمنا وعملنا من أجلها سنوات ولا زلنا«.
تكاد تدمي قلبي بأسفك على السنوات التي قضيتها مؤمناً بفكر الحزب، بينما أنا الذي كنت أعيش في برج عاجي أقوم بنقدها، وكأنني أريد أن أحرمك الحلم الذي تعيش فيه.
- أنا لم أنتقد، على الإطلاق، لا شعارات الحزب، ولا منطلقاته، بل إن إيماني بهما ثابت. وأنا لا أؤمن بها فحسب، بل أدافع عنها، أيضاً، لأنني مقتنع بها تماماً. ولأجل هذه القناعة قمت بالدفاع عنها في معظم أبحاثي وكتبي، ولكنك أنت لم تكلف نفسك عناء قراءة تلك الأبحاث، وكان هذا واجب ضروري عليك، كناقد، وحق حتمي لي لأنني أكتب، أما أنت فتقوم بانتحال أسباب تنقدني عليها، فهذا بعيد عن صفات الناقد الموضوعي، وهنا لا بُدَّ أمامي من أن أساعدك في التفتيش عن كتاباتي ونصوصي التي أدافع بها عن شعارات الحزب ومنطلقاته، وإليك بعض الأمثلة:
-جاء في كتابي »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام« دفاعات كثيرة سأقوم بتحديد بعضها، لكي أساعد من يريد أن يتابع القراءة أو يريد العودة إلى التحقق من صدق النقد أو من صدق الدفاع:
في الفصل الخامس: -»ولأنها لم تكن ذات أهداف وحدوية عربية واضحة، فقد تلاشى معظمها بعد الحرب العالمية الثانية؛ حتى إن الكتلة الوطنية أخذت تضعف بعد ظهور الفكر القومي من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي«.
-»أما  تيار القومية العربية، فيدين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي نشأ في أوائل الأربعينات، لأن الحزب يمثل  نقطة تحول في تاريخ الحركة القومية العربية، ويعود ذلك إلى أنه اعتمد الانتقال من النظرية القومية "الخالصة" أو قومية اللغة والتاريخ، إلى النظرية الشاملة ذات المحتوى الاقتصادي والاجتماعي«. ]أنظر، أيضاً، كتاب الشيعة (ج2) الفصل الثاني[.
وجاء أيضاً: »لم تستطع الأحزاب السياسية القومية والوطنية، باستثناء الأحزاب الشيوعية، أن تتجاوز دائرة النخبة، في الفكر والتنظيم، إلى أن تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استطاع أن يحقق قفزة في هذا المجال؛ فصعد بالفكر القومي من مرحلة النظرية- النخبوية إلى المستوى السياسي الشعبي من جهة، وكسر حلقة التسوير التنظيمي حول النخبة، ليفسح في المجال أمام الطبقات المسحوقة في المجتمع لتشكل القاعدة التنظيمية الأساسية للحزب من جهة أخرى«.
»لم يؤثِّر التناقض الحاصل بين المرجعيتين: الدينية-الإسلامية والقومية العربية، على الموقف الإيجابي الذي اتخذه حزب البعث من الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص«.
»رأى البعث الإسلام من جوانب عدة: إضافة إلى أن الدين منهج من مناهج نظرة الإنسان إلى الكون، فإنه يشكل جزءا أساسياً من التراث التاريخي العربي، روحياً و سياسياً واجتماعياً، وفيه إضاءات نضالية مهمة يمكن للعرب أن ينيروا بها درب الكفاح في وجه الاطماع الخارجية. لكن الجوهر الذي يكتسبه الدين من خلال دوره في تنمية الجوانب الروحية والخلقية عند الإنسان، شيء، واستخدامه كعامل للتجزئة والتفتيت شيء آخر.«
»بالإجمال، كان موقف البعث من الإسلام، متميزاً عن تيارين: أحدهما يقف على اليمين (تيار الجامعة الإسلامية)، الذي  يفسِّر الكون بكل جوانبه على أساس منهج ديني- ماورائي، أما الآخر فيقف على اليسار (الأممية الشيوعية)، الذي يفسِّر الكون، بكل جوانبه، على أساس منهج مادي (المادية- الجدلية).«.
»إن موقف البعث من الإسلام (الإيمان) لا علاقة له بالتكتيك السياسي المرحلي، ولا بالاستراتيجي (الماورائي الغيبي) السلفي الجامد. ولم يكن موقفه محدَّداً نتيجة لدراسات أكاديمية، إلاَّ أنه موقف موضوعي ونتائجه علمية، إذا ما وُضع على طاولة منهج الدراسات الاجتماعية.فمنهج الدراسات الاجتماعية، يدرس الحالة بجانبيها الستاتيكي والديناميكي«.
»فالدين حسب المفهوم الستاتيكي للحالة الاجتماعية، هو حاجة فلسفية لها علاقة بتفسير الكون. أما في حالته الديناميكية، فهو جزء من التاريخ الذي تنتمي إليه الأمة العربية، ولا يمكن دراسة  التاريخ العربي من دون أن نرى للإسلام بصمة في كل تفاصيله. ولما كان من غير الموضوعية العلمية أن تقوم الدراسات بإلغاء جزء من التاريخ، حتى لو كان مظلماً، تحت حجة أنه مظلم، فما هو الموقف، من الأجزاء الأساسية فيه، خاصة وأن فيها كثيراً من المحطات المضيئة ؟«.
»فاستناداً إلى ذلك تمَّيز موقف البعث من الدين بما يلي:
-إن الدين هو حاجة روحية إنسانية، وهو حاجة فلسفية لتفسير الكون.
-وهو حالة ثقافية اجتماعية تاريخية، ضرورية لروح المرحلة وروح العصر معاً.«
»كانت الاتجاهات النخبوية السابقة للبعث قد ركَّزت على ضرورة استخدام الشعور القومي في التعبئة السياسية والفكرية؛ وعملت في مرحلة لاحقة على التنظير الفكري. لكن في مرحلة البعث، اتخذت النظرية عمقها السياسي والاجتماعي عندما حدد أهداف القومية العربية بشعارات ثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية، مقتنعاً أن مضامينها العامة تستجيب للحاجات الأساسية للمجتمع العربي«.
»ولأن أية نظرية لا تكتسب معنى حقيقياً إلاَّ عندما تُفصَّل في خطة عملية قابلة للتحقيق، فقد  أنزل البعث النظرية  القومية من برج نخبويتها إلى متناول الطبقات الشعبية، بما تضمنته من قوانين اجتماعية تصب في مصلحة تلك الطبقات من جهة، والعمل على تنظيمها في أطر حزبية لتنخرط مباشرة في ساحة النضال من أجلها من جهة أخرى«.
واليك بعض ما جاء في الفصل السادس: »في الربع  الثاني من القرن 20م، شهد الفكر القومي العربي تطورات مهمة على صعيد الوضوح النظري. ومنذ أوائل الاربعينات، أُنزِل من برج النخب إلى الأوساط الشعبية من بعد  أن نشأت الأحزاب المنظمة. وعرف نضجه النظري، بمضامينه الاجتماعية والسياسية وبناه الحزبية الحديثة، مع تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947م«.
-جاء في بحث لي قدمته في ندوة في بغداد، حول »عفلق والقضية الفلسطينية«، ما يلي:» وإذا كان يمكننا أن نستدل على تطورها في المشروع الفكري، فإننا نخلص إلى نتيجة أن موقف عفلق من القضية الفلسطينية، على المستويين النظري والعملي، كان ثابتاً. والثبات في النظرية، هنا، له علاقة بنتائج تقييمها. ولم يكن ثبات مواقف عفلق النظرية والعملية آتٍ من إصرار على جمود في الرؤية والمكابرة على صحة المنطلقات، ولكن ثباتها جاء من أنها خضعت للتجربة لأكثر من نصف قرن من الزمن وأثبتت صحتها. فهل من يقول الآن بغير ما قاله عفلق منذ الأربعينات من القرن العشرين عن أن قضية فلسطين هي«.
إنني أسألك: هل ما جاء في عدد من الفقرات التي نقلتها ما يدلك على أنني أنقد شعارات الحزب ومنطلقاته، أم أنني في كتابتي حولها ما يدل على اعتزازي الشديد بها؟

2-نسبة عقائد الإسلاميين إلى الكاتب.

لقد قوَّلتني يا مروان قولاً يقوله الإسلاميون

1-تقول أنت :»إن الكاتب يعتبر الإسلام كلُّ متكامل، بين مفهومه وأحكامه، بين روحيته وتشريعاته. وإذا نسخت آية ما قبلها نسخ الإسلام نصاً وروحاً. فإما النسخ وإما الأخذ به كاملة كما يدَّعي الأصوليون والسلفيون«.
حرام عليك يا مروان لماذا تلصق بي أحكاماً لست أنا الذي يؤمن بها، بل إن الذي يعتبر ما أوردته أنت أعلاه هم الإسلاميون وليس أنا؟ واليك الدليل هو ما جاء في بحثي »وجهة نظر ودعوة إلى الحوار«.
»استناداً إلى منهج المعرفة الديني-الإسلامي، يحدِّد الإسلاميون، بشكل عام والسلفيون بشكل خاص، أن الإسلام هو عقيدة وشريعة([1])؛ "فإذا فُصِلَت السلطتان يبقى الدين بغير سلطان يؤيِّده ولا قوَّة تسنده"([2])؛ ففي الإسلام يُوجَد "نظام حياتي كامل لا يترك مجالاً لأي نظام آخر، ولا يَدَعُ  منفذاً للشعور بالحاجة إلى تنظيم جانب من جوانب الحياة، لأن الشريعة الإسلامية-بقواعدها الكُلِّيَة العامة بالفقه الذي بُنِيَ على أصليها الكبيرين (الكتاب و السُنَّة)، شاملة لكل ما تقضي به سُنَّة الحياة إلى نُظُمٍ وأحكام«([3]).
وفي بحثي »محمد عمارة: مفكر إسلامي «: يرى الدكتور محمد عمارة متسائلاً ومجيباً بما يلي: »ومَنْ هُم الإسلاميون؟ يقول:  هم كل "من يرى أن نهضة الإسلام لا تتحقق إلا بارتكاز النهضة على كل شُعَب الإسلام وأقسامه [العقيدة والشريعة والحضارة] دون استثناء.. فهم يستدعون للمشروع النهضوي كامل الإسلام: العقيدة.. والشريعة.. والحضارة.. يصوغون الإنسان وفاقاً لمعاييرها، ويحكمون المجتمعات بقِيَمها وقوانينها.. وهؤلاء هم "الإسلاميون" الملتزمون بكامل الإسلام منهاجاً شاملاً لكامل النهضة والحضارة الإسلامية.."([4])، أي منهاجاً كاملاً لكامل الحياة الدنيوية منها والأخروية.. وإطاراً جامعاً وحاكماً لكل شؤون العمران، عمران النفس والمجتمع على حد سواء.." (ص42)«.

3-تشويه رؤيتي لعلاقة الفكر مع المادة.
وهناك تعسف آخر يا عزيزي مروان، وأسباب التعسف الذي واجهتني به هو أنك لم تقرأ ما كتبت، وإليك بعض الأدلة التي تثبت أنني لا أؤمن بأسبقية المادة على الفكر، حتى ولا بأسبقية الفكر على المادة، بل حسبت أن لكل عقل دوره، فللعقل الذي يتَّخذ من الإيمان منهجاً للمعرفة دور في حقول محددة للمعارف، كما أن للعقل العلمي الذي يتَّخذ من البرهان العلمي والمنطقي منهجاً للمعرفة دور في حقول أخرى للمعارف.
جاء في بحثي الذي قدمته إلى ندوة بغداد في حزيران من العام 2002، ما يلي:
»وكأن وصف عفلق للبرهان المنطقي بالجمود جاء لكي يعزِّز من دور الروح في اكتساب المعرفة أولاً. لكن هذا لا يعني أن تكون أهداف البرهان المنطقي والعقلي المحبة في التجريد فقط، فيصبح وصفهما بالسفسطة ليس حكماً دقيقاً. لأن من أهداف الوصول إلى اكتشاف المعادلات العقلية أن تصب نتائجها في خدمة اكتشاف المعارف الإنسانية الجديدة. وإذا كنا ننقد عفلق حول إعطائه وجهاً واحداً لمناهج المعرفة، فإن ذلك لا يجعلنا ننكر دور العمق الفلسفي الإيماني في تنمية المعارف الإنسانية، لأن منهج المعرفة الإيمانية وجه من وجوه عديدة تعمل على تنمية المعرفة الإنسانية. فهناك قضايا ذات علاقة بالنفس الإنسانية لا يمكن الوصول إليها من خلال معادلات برهانية ورياضية، كما أن هناك قضايا ذات علاقة بالمعادلات العقلية والرياضية لا يمكن الوصول إليها من خلال مناهج المعرفة الإيمانية. ولكي لا نقع في التعسف علينا أن لا نسجن المعرفة في منهج واحد كما فعلت الماركسية عندما أسرت المعرفة بين أسوار المادية فقط. وعلينا أن لا نأسر المعرفة بين أسوار منهج المعرفة الإيماني لوحده«.
جاء في بحثي »وجهة نظر، ودعوة للحوار «، المنشور في كتاب »نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي«، حول منهج المعرفة الماركسي ما يلي:
»فإن تكن المادية الجدلية، كمنهج في المعرفة، قد اعترفت بدينامية الأفكار والثقافة وإنتاج المعرفة، أي اعترفت بأهمية هذا التطور، لكنها ربطت هذا التطور والتفاعل مع الظروف المادية / الاقتصادية؛ فهي عندما حصرت مصدر المعرفة بعامل واحد، فإنها أعادت هذه الدينامية إلى استاتيكية أخرى  عندما جرَّدَت تطور المعرفة من ظروفه الخاصة / الذاتية التي لها علاقة بالتراث الروحي الفكري والديني«.
وجاء في البحث المذكور، أيضاً، ما يلي:
»فإذا كانت أسس المعرفة الماركسية تسجن نفسها في تفسير الظواهر الاجتماعية، داخل سور أحادي الجانب(الجدلية المادية)؛ والمعرفة الدينية-بشكل عام، تُجَمِّد المعرفة على أسس ستاتيكية-ميتافيزيقية؛ فإن المنهج التاريخي-الاجتماعي يخترق  الدائرة: الأحادية الجانب والستاتيكية، ليقوم بدراسة كل ما له علاقة في تكوين المعرفة في حياة الإنسان والمجتمع على الصعيدين الذاتي والموضوعي (جدلية تاريخية ذات عوامل متعدِّدَة) «.
»و مع أنه لا يُوجَد -حتى الآن- منهج واحد يستطيع  أن يصل  إلى تحديدات موضوعية خالصة في دراسة المجتمعات، فإننا نحسب أن المنهج التاريخي-الاجتماعي، ما زال، هو  المنهج الذي يُشكِّل القاعدة الأفضل لفهمٍ أقرب إلى الصحة من غيره في تفسير حركة المجتمع وبنائه المعرفي«.
لقد ألصقت بي تهمة باطلة يا مروان عندما ألبستني تهمة تقديمي المادة على الروح، وبما أن التهمة، أصبحت باطلة، بوضوح، نرى أن نناقشك بالحكم الذي أصدرته بحقي، وهو أنني أخالف منطلقات البعث، بل أجنح نحو الإلحاد!!!
تقول في رسالتك »إن الكاتب انطلق من أن أسبقية المادة على الفكر، وهذا يخالف منطلقات البعث، بل الجنوح نحو الإلحاد«.
ما بُنيَ على فاسد، يا مروان، فهو فاسد. والنتيجة المستندة إلى مقدمات خاطئة، فهي خاطئة. والحكم المستند إلى تحقيق جائر فهو حكم جائر.
أربأ بحزب البعث أن يكون محكمة للتفتيش، وأشدِّد على أنك لست مخوَّلاً بأن تكون المفتش المكلَّف بتوزيع شهادات الإيمان وشهادات الإلحاد.
نظرتي إلى الكون، يا عزيزي، ليست نظرة سطحية، ولا نظرة متسرِّعة. بل نظرتي إلى الكون تستند إلى إيمان فلسفي عميق. وأنا مسؤول وحر باختيار فلسفتي في الحياة. فأنا لست ملحداً وأنت لست بمؤمن لديك الصلاحية بمحاكمة البشر حول معتقداتهم. نحن لا نعيش يا عزيزي في عصر الردة ، على قاعدة   »استتابة المرتد قبل قتله«. كما أننا لا نعيش في عصر محاكم التفتيش المسيحية التي تلاحق الهراطقة لتلقيهم في المحارق. ونحن لا نعيش في عصر الاستتابة التي يمارسها الإسلاميون.
قد تستغرب يا مروان هذا الأسلوب الذي أعالج فيه الأمور. وعلى الغرابة أن تزول إذا ما عرفت خطورة التهمة التي توجهها إليَّ، بدون وجه حق، وإذا ما عرفت خطورة الحكم الذي أصدرته بحقي. لقد اتهمتني بردَّتين: الأولى أنني أخالف منطلقات البعث. أما الثانية فهي أنني أجنح نحو الإلحاد.
بالنسبة للتهمة الأولى تقتضي معاقبتي بالفصل من الحزب. أما الثانية فتقتضي فصلي عن معتقداتي الفلسفية، التي أعتز بها.
لو كانت اتهاماتك مدعومة بالبيِّنة لما اعترضت عليك، بل ألصقتها بي من خلال تخمينات غير موضوعية، لأنك من جهة لم تبرهن على صحة أحكامك عليَّ بنصوص من أبحاثي، ومن جهة أخرى حاكمتني على الظن، وهذا حكم غير عادل، إذا لم يكن ظالماً.
أنا مؤمن بعقيدة فلسفية عميقة، ترى في الإنسان، ثنائية الجسد والروح. وترى أن علاقة الروح مع الجسد كلٌّ متكامل، يفنى أحدهما بفناء الآخر. وأؤمن، أيضاً، أن للجسد حاجاته، وللروح حاجاتها ودورها. وعلى تلك العلاقة أن تكون متوازنة ومتوازية. فإذا طغت حاجات أحد طرفيها على حاجات الطرف الآخر يفقد الإنسان توازنه، وساعتئذٍ ينحدر من كونه إنساناً إلى مستويات أدنى من مستوى الإنسان. وأنا أؤمن بعمق شديد، كجزء متمم وضروري لتكامل معنى وجود الإنسان على الأرض، بوجود خالق للكون يتعالى على كل الصفات التي يحاول البشر، وحتى الأديان السماوية، وصفه بها. أنا أؤمن يا مروان بأن الخير هو خير لمواصفات حسنة موجودة بذاته، وليس طمعاً بثواب. وأؤمن بأن الشر هو شر لمواصفات قبيحة فيه وليس خوفاً من عقاب. فأجمل الواجبات هي تلك التي يشعر الإنسان من خلال ممارستها بالسعادة من دون أن يقوم بها رغبة بثواب، أو خوفاً من عقاب.
فإذا كنت أؤمن بإله يتعالى عن كل الأوصاف المادية التي يصفها به الآخرون، وأؤمن بالخير وأحارب الشر، فهل تستطيع أن تصفني بالجنوح نحو الإلحاد استناداً إلى قواعد اخترتها أنت لنفسك؟ هنا يقع الظلم الجائر. فإذا كانت قواعدك الخاصة بالإيمان هي المكيال الوحيد الذي تقيس إيمان البشر على أساسه فأنت تبتعد كثيراً عن مبادئ الحزب الذي تدافع عن منطلقاته. فماذا يقول دستور الحزب؟
جاء في المبدأ الثاني من دستور الحزب (الفقرة 1)، ما يلي: »حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها«([5]).
فإذا كانت قواعد إيمانك الشخصية تقوم على أسس إيمانية إسلامية، فما هي أحكامك على من تكون أسس إيمانه تقوم على أسس إيمانية مسيحية؟ وإذا كانت أسس إيمانك تقوم على أسس معتقدات سنية أو شيعية أو أي مذهب إسلامي آخر، فكيف ستكون أحكامك ضد الذي تقوم أسس إيمانهم على معتقدات دينية أو مذهبية أخرى؟
إذا كانت فلسفة الحزب تقوم على قواعد الإيمان بالدين، وتمنع الترويج للإلحاد، لكن مهمته لم تكن، ولن تكون، مهمة دينية على الإطلاق. وليس دوره أن يحاسب الناس على معتقداتهم.
لم أستطع أن أفهم تفسيرك لمعنى الرسالة الخالدة، لقد جاء في رسالتك ما يلي: »وما هو مفهوم الرسالة الخالدة، الذي ما زال البعثيون يرددونه في كل اجتماع حزبي؟ إذاً فالقومية تحمل مضموناً ومفهوماً تاريخياً هو الرسالة الخالدة«.
هل هذا هو مفهومك للروح؟ لم أفهم يا عزيزي منك شيئاً واضحاً حول تفسير خلود الرسالة التي يؤمن بها البعث. لقد جاء حول مفهومك للرسالة الخالدة ما يلي: »لماذا اختار الله العرب لحمل الرسالة »كنتم خير أمة أخرجت للناس«. ]ثم تجيب بنفسك على نفسك[  العرب، منذ أن وجدوا خلقهم ليبعث فيهم روح الإسلام، ويحملون الرسالة الخالدة بكل أمانة إلى البشرية والإنسانية«.
أوَ ليس ما جئت به يا مروان إلاَّ غيبية جديدة، من خلالها تحسب أن الله قد خلق العرب من أجل أن يحملوا رسالته إلى العالم؟
نحن نعتزُّ بعروبتنا يا مروان، وعندما نؤمن نحن، كبعثيين، أن أمام العرب وحدهم مهمة إلهية لإيصال رسالة الله إلى العالم نكون كمن يغرق في نظرية قومية أخرى تقوم على أساس تكليف إلهي. وما هي الرسالة الخالدة، التي ترى أن على العرب إيصالها إلى العالم؟ هل هي رسالة الإسلام؟ أم هي رسالة إنسانية؟
إذا كانت الرسالة هي الإسلام، فلماذا تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي؟ أما إذا كانت الرسالة إنسانية، فتلك مهمة مطلوبة، وليست الرسالة هي من مهمة العرب لوحدهم بل مطلوب من كل القوميات في العالم أن تلعب دورها في تقدم البشرية من خلال إسهامها بتعميم القيم الإنسانية العليا.
إذا كان البعث يفهم من عبارة (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، أنها تعبير يفضِّل أمة على أمة، أي أن الله يفضِّل العرب على كل الأمم، فما هو موقفه من تعبير شعب الله المختار التي وردت في التوراة؟ وموقفه من أن العرق الألماني هو أصفى الأعراق؟
وإذا كان البعث يؤمن بأن الله قد كلَّف العرب بإيصال رسالة الإسلام إلى العالم، فهل نريد أن نحمِّل الحزب مسئوليتين أمميتين؟  الأولى مسؤولية أممية دينية إسلامية، ومسؤولية سياسية اقتصادية ماركسية.
على الرغم من أن البعث قد حدد القومية ثابتاً يعمل من أجله، على أن تتعاون القومية العربية مع العالم لا أن تكون رسولة إليه، وهذا ما نفهمه من الدستور الذي ينص على أن »الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها، ويمدون يد الأخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام، والسمو في الخلق والروح«.
فلو كانت مهمة القومية العربية إلى العالم هو نشر رسالة، لما جاءت العبارات التالية في النص السابق: (العرب يتغذون من الحضارة العالمية)، فالذي يمتلك رسالة مطلقة ليس بحاجة إلى أن يتغذى من الحضارات الأخرى. و(التعاون مع الأمم الأخرى من أجل إيجاد نظم عادلة)، فلو كانت الرسالة التي على العرب أن يؤدوها إلى العالم مطلقة، فعلى ماذا يكون التعاون بينهم وبين الآخرين لإيجاد نظم عادلة؟ فالرسالة المطلقة ليست بحاجة إلى خبرات أحد.
جاء في الدستور حول تعريف الرسالة الخالدة ما يلي: »الأمة العربية ذات رسالة خالدة، تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم«.
لقد أفصحت المادة 22 من الدستور عن مفهوم الرسالة الخالدة كما يلي: »رسالة العرب الخالدة ]هي[ التي ترمي إلى المساهمة مع الأمم الأخرى في إيجاد عالم منسجم حر آمن يسير في سبيل التقدم الدائم«.
لم يأت في أي نص أن العرب مكلفون بتصدير الرسالة الإسلامية إلى الأمم الأخرى. فرسالة العرب الخالدة لا مضامين دينية لها بل لها مضامين روحية ذات آفاق إنسانية. وليس خلودها لأنها تعبر عن حقيقة مطلقة تنوب عن كل رسالات الأمم الأخرى. إن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرفض أن تكون مهمته القومية مهمة دينية، والذي يرفض أن يؤسس دولة قومية دينية، فهل من المعقول أن تكون رسالته الخالدة إلى العالم تعني أممية دينية عقيدية وسياسية؟ وهل من المعقول أن تكون مهمته أن ينشر رسالة الإسلام في العالم؟
علينا يا عزيزي مروان أن نتفق، بوضوح، حول ما تعنيه رسالة الأمة الخالدة في مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي. لأن ما تضيفه أنت من وظائف جديدة إلى رسالة البعث ليس إلاَّ تناقض واضح وصريح.
تقول، يا عزيزي، »يؤمن البعث بدولة قومية لا مركزية دولة مدنية روحها الإسلام. فعلينا أن نميز بين الإسلام الديني السياسي الفقهي والشرعي، وبين الإسلام الإيماني: إسلام التراث والحضارة«.
لا شك بأنك تقوم بتعديل النصوص كما يحلو لك يا عزيزي مروان، ومن أعطاك صلاحية تعديل نصوص الدستور؟
ماذا جاء حول ثقافة المجتمع القومي في دستور الحزب؟
نصَّت المادة (41) (البند الأول):من دستور الحزب على ما يلي: »يعمل الحزب في سبيل إيجاد ثقافة عامة للوطن العربي، قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة، وإنسانية في مراميها، وتعميمها في جميع أوساط الشعب«.
فهل ترى معي أن النص حول ثقافة المجتمع العربي التي يعمل الحزب على إيجادها؟ هل تشير من قريب أو بعيد للبعد الديني أو الإيماني أو للثقافة الإسلامية، أو هل تشير إلى مصطلح يدل على أن الإسلام هو روح العروبة؟
ماذا جاء في الدستور حول الدولة القومية التي يعمل البعث من أجل بنائها؟
حزب البعث حزب عربي شامل، يؤمن بأن القومية حقيقة خالدة، رسالتها متجددة ومتعاونة مع الأمم الأخرى، والشعور القومي شعور مقدس، حزب البعث حزب شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب، حزب البعث انقلابي (ضد الاستعمار، توحيد العرب، رفض الواقع الفاسد)، (لغة الدولة هي العربية، ورايتها راية الثورة العربية، وشرط العربي هو الانتساب إلى الأمة العربية)، (نظام الحكم دستوري، الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة، نظامها لا مركزي، تضمن الحرية للجميع، تعد بوضع دستور موحَّد)، (سياسة الحزب خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالتها، طبع مظاهر التغييرات بطابع قومي عربي).
لم نجد في كل زوايا الدستور أو فقراته ما يؤكد على ما يقوله مروان بأنه من شروط بناء الدولة القومية اللامركزية والمدنية أن يكون »روحها الإسلام«.

4-تشويه رؤيتي لعلاقة الروح مع المادة، والتشكيك بأنني أتفق مع الماركسية باعتبار القومية متغيراً مرحلياً.
جاء في رسالتك حول الروح ما يلي:  »إن الكاتب انطلق من أن أسبقية المادة على الفكر، وهذا يخالف منطلقات البعث، بل الجنوح نحو الإلحاد. بينما البعث يؤمن بأن الروح قبل المادة، والعلاقة بينهما جدلية متكاملة »فالروح هي أقوى محرك لطاقات الإنسان، ومفجِّر لينابيعه الداخلية«.   وإن الروح والمادة تستمدان معانيهما من صميم الواقعية الثورية، وبتفاعل جدلي. لذا يرفض البعث المفهوم المشوه للروح، الذي لا يأخذ تأثير العوامل المادية في تكوين قيمها. كما يرفض المادية الغاشمة، التي تتوقف عند تأثير العوامل المادية الصرفة. والروح ليست شيئاً غيبياً يتناقض مع المنهج العلمي، وإنما هي الوعي والإرادة والأخلاق والتضحية والبطولة والإيمان بالحقيقة والحرية«.
إن دور الروح والمادة، ليست إلاَّ منطلقات فلسفية لها علاقة بالنظرة إلى الكون، بينما الحزب لم يحدد نظرته إلى الكون في مؤتمر نستطيع أن نقول إن هذه الفلسفة، التي أقرها المؤتمر كذا هي النظرة الفلسفية المتكاملة لحزب البعث العربي الاشتراكي. لقد لحظ المؤتمر القومي الثالث (1959م) هذا النقص حيث جاء فيه: وقد وجد المؤتمر القومي الثالث، أنه، على الرغم من أن رؤية الحزب للحياة والكون واضحة في خطوطها العامة، إلاَّ أنها بحاجة إلى المزيد من التركيز والوضوح من خلال دراسات فلسفية خاصة لتعميق عقيدة الحزب وتنميتها من جهة، ولتحديد موقفها من الاتجاهات الفلسفية الأساسية من جهة أخرى.
إن في رأيك حول الروح الكثير من التشتت والارتباك: تارة يكون للروح أسبقية على المادة، وتارة أخرى يكون بينها وبين المادة علاقة جدلية، وتارة ثالثة ترى أن الحزب يرفض المعنى المشوَّه للروح »الذي لا يأخذ تأثير العوامل المادية في تكوين قيمها«، وترى أن الحزب يرفض »المادية الغاشمة«. من أين تأتي بكل هذه المصطلحات يا مروان، فهل يحق لك أن تضع مصطلحات على ذوقك وتنسبها للحزب؟
لقد أخذت راحتك كثيراً يا مروان في أن تنسب للحزب مفاهيم ملتبسة بالغموض والبلبلة، وكأنك أنت تعبِّر عن فكر الحزب، وتريد أن تفهمني كيف أفهم فكر الحزب. كيف تعطي لنفسك حقاً تمنعه عني؟ تعال بنا يا عزيزي إلى طريقة أخرى في الحوار، والحوار بين أهل البيت له أصوله وأسسه وقواعده. فكيف أرى، أنا، تلك الأصول والقواعد والأسس؟ (وآمل أن أسهم في تحديد تلك القواعد والأسس).
لقد احترت يا مروان وحيَّرتنا معك. فبدلاً من أن تدلنا إلى الطريق الصحيح جعلتنا نكون في حيرة من أمرنا. أن تخلط بين الفكر والروح، فللفكر منهج معرفي، تقول الماركسية، وليس أنا كما نسبت ظلماً إليَّ، بأن الفكر هو انعكاس لنتاجات مادية، أي أن المادة سايقة على الفكر. وقد جاء هذا المنهج المعرفي الماركسي لكي يستطيع أن يبرهن من خلاله على أسبقية العامل الاقتصادي في الفلسفة الماركسية، بحيث كان ماركس يريد أن يبرهن على صحة منظومته الفلسفية التي تستند إلى مقولته المشهورة »الاقتصاد هو محرك التاريخ«.
أنا يا مروان لا أؤمن بأن الاقتصاد هو محرك التاريخ، بل أؤمن بأن الحلم البشري هو من أهم محركات التاريخ، والاقتصاد هو من تلك العوامل التي يعمل الحلم البشري من أجل أن يضعه في مصلحة البشرية ليمنعها من الصراع حوله. والحلم البشري، أيضاً،  هو من نتاجات النفس البشرية، والنفس البشرية ذات علاقة بالعقل والفكر، وبالتالي الروح.
لقد جعلت مني ماركسياً من دون أن أدري، أو حتى من دون أن تدري أنت، أيضاً. سامحك الله. وهذا لا ينفي أن تكون الماركسية فلسفة دخلت عرين التاريخ، سواء كنت معها بالكامل أو بجزء منها. سواء قبلتها أو رفضتها.
وإذا كنت تشك، كما سمعت منك شفاهة، أن ما جاء في إحدى تعبيراتي في كتاب »الماركسية بين الأمة والأممية« عن موافقتي على أن الحلم الأممي هو حلم جميل، بأنني أفكِّر ماركسياً، فإليك ما يلي:
جاء في كتابي »الماركسية بين الأمة والأممية« الصفحة 21 (الفصل الأول)
في معرض تحديدي لموقع القومية في الفكر الماركسي، قلت ما يلي: »فالقومية، هنا ]أي في الفكر الماركسي[، هي وسيلة للنضال، أو إطار قومي للنضال، يُستخدَم وسيلة مرحلية في سبيل الصعود إلى المرحلة الأممية، وهذه مسألة منطقية إذا ما كانت المرجعية النظرية - الفكرية هي مركزية مصلحة البروليتاريا على مستوى العالم كله. فإذا كان الهدف الاستراتيجي هو أممية البروليتاريا، وبالتالي أممية نظامها السياسي، تصبح كل القضايا الأخرى، ومنها المسألة القومية، بمثابة القضايا الفرعية التي لا بُدَّ من المرور عبرها للوصول إلى الهدف الثابت الاستراتيجي الأول«.
أما عن المرحلة الأممية فقلت إنها حلم جميل ] وهذا ما أنا مقتنع به[، لذا في معرض مناقشة الفكر الماركسي- وصلت إلى النتيجة التالية: »إن من وقف ضد الماركسية لم يقف ضد حلمها الجميل ]أي الحلم الأممي[، بل كان خائفاً من صعوبة تحقيق هذا الحلم، وليس ضد الحلم بذاته. ووجد أن إمكانية الوصول إليه قد تتم في مراحل بعيدة جداً، وبالتقسيط، وعبر محطات لا يمكن القفز من فوقها، وتأتي المسألة القومية إحدى تلك المحطات«.
»يستند خوفنا إلى أنه من غير الواقعي والمنطقي أن تفرِّط بالحسن ]أي المسألة القومية[ قبل أن ترى أن الأحسن ]أي الأممية[ أصبح ممكناً، أوَ ليس من المنطقي والواقعي أن نعمل من أجل بناء أنموذج قومي يتَّصف بأكثر ما يمكن من سمات الإنسانية، وهو حسن وأقرب إلى المنال، من أن نلغي العمل لأجله تحت ذريعة أن الأممية في العلاقات الإنسانية هي الأحسن وهي الأكثر عدالة وبعداً عن الشوفينية والأحقاد القومية؟«.
وجاء في الصفحة 172 (الفصل الرابع)، ما يلي: »ليس هدف الماركسية أن تعير اهتماماً للظروف الخاصة بكل قومية لتؤسس عليها مفهوماً ثابتاً للقومية، بل الغاية منها أن تؤسس لتكتيكات سياسية - تنظيمية في سبيل الوصول إلى ثابت آخر، وهي ثابت الدولة الاشتراكية الأممية، مستفيدة من الاهتمام بتلك الخصوصيات. وهذه هي حقيقة المنهج الماركسي من دراسة الظروف القومية الخاصة«.
»فهل المطلوب أن تكون المسألة القومية العربية متغيراً مرحلياً، أم ثابتاً استراتيجياً؟ هذه هي طبيعة الخلاف الحقيقي بين التيارات الفكرية الماركسية والتيارات الفكرية القومية«.
وجاء في الصفحة (173)، ما يلي: »الخلاف الحقيقي في أن تكون الأمة وسيلة للوصول إلى ظاهرة أخرى، أم هي المحطة الثابتة -على الأقل- لآلاف السنين. تعترف الماركسية بأن الأمة ظاهرة، ولكنها الظاهرة - الوسيلة للوصول إلى المرحلة الأممية«
»أما أصحاب الاتجاهات القومية، على شتى مشاربهم، فيرون في المسألة القومية هدفاً ثابتاً ونهائياً -على الأقل- لآلاف من السنين. ولكن ما يبحثون عنه هو طبيعة النظام السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي الكفيل بتسيير شؤون الدولة القومية«.
»فنحن نرى، أولاً، وتطويراً لمواقف الشيوعيين والماركسيين العرب، هو أن يعيدوا قراءة الماركسية من جديد لأنهم قد يكتشفون أفكاراً جديدة. وبالتالي أن يتجاوز الماركسيون العرب مبدأ اعتبار المسألة القومية عاملاً متغيراً، وأن ينتقلوا بها إلى كونها هدفاً ثابتاً«.
وجاء في الصفحة 186، ما يلي: »إن القومية في فكر الحزب ثابت استراتيجي، وهي ليست مرحلة لشيء فوقها، وإنما الصحيح أن بين القومية والإنسانية انسجاماً«؛ وهي »حالة سوية وحالة ثابتة غير مؤقتة إذا خلصت من التعصب وشوائب الطمع والتوسع« ([6]).
جاء في كتابات مؤسس البعث، حول المسألة الأممية، ما يؤكد صحة استنتاجاتي، استناداً إلى نصه التالي: »أكدنا حقيقة القومية التي كانت الماركسية والشيوعية تنكرها، لم ننفِ الأممية، بل أكدنا القومية، وفهمنا القومية على ضوء التراث الإنساني، ومن خلال تجربتنا النضالية الراهنة، قوميتنا هي أيضاً أممية، هي إنسانية، ولا يمكن إلاَّ أن تكون أممية بمعنى الانفتاح والمشاركة في المُثُل وفي المصالح «([7]).
في الفقرة (5) من رسالتك تعترف بأنني أؤمن بأن القومية هي (ثابت)، كما جاء في جملتك التالية: »يقول المؤلف في الصفحة (7) إن القومية هي من الثوابت، والمقومات هي من المتغيرات من الثقافة واللغة والتراث«. والمستغرب أنك تعود لتسألني، متشككاً بموقفي من ثبات القومية عندما تسألني في جملتك الواردة في المقطع الرقم (5)، ذاته، وإليك ما جاء في سؤالك: »فهل القومية هي مرحلة من الماركسية أو الأممية الماركسية؟ أم أن القومية ثابت؟ «.
تنتقدني حول قولي بأن المقومات هي من المتغيرات. وما هي الغرابة في ذلك يا عزيزي؟ هل تؤمن بأن »الثقافة واللغة والتراث«، هي من الثوابت؟
لقد سبق لقوميات عديدة أن تغيِّرت لغاتها عبر التاريخ. وهناك من القوميات المتعددة اللغات، كمثل (سويسرا). وهناك أقليات قومية في الأمة العربية (كالأكراد والبربر )، فهل تعدد لغات تلك الأقليات يحرمهم من انتمائهم إلى الأمة العربية؟
هل الثقافة شيء جامد؟ أم أنها تتطوَّر، وتنقل كل مرحلة ثقافية جديدة عن التي سبقتها، ولكنها لا تبقى جامدة، وما هو عرضة للتغير فهو ليس ثابتاً. وإلا إذا كان الأمر غير ذلك، فسوف تبقى ثقافات الأمم وبالتالي الثقافة الإنسانية تنهل كل شيء من الثقافات الأولى. أوَ ليس هناك من الثقافات ما اندثر عبر عصور التاريخ المختلفة؟
أما التراث، وهو عبارة عن مجمل المظاهر الحضارية للأمم، فهل يبقى ثابتاً لا يصيبه التغيير من أمامه ولا من خلفه؟ وبالتالي فإن في التراث ما هو غثٌّ وفيه ما هو سمين، ومقياس غثاثة التراث أو سمنته هي ما تكتسبه الأمم من ثقافات جديدة. فالتراث ليس جامداً، بل إن الأمم تحافظ على السمين منه وتلفظ الغث. والتراث السمين هو مسألة نسبية، تتغير استناداً إلى تغير الثقافات. ولا شك بأن الأمم تتغنى بجزء التراث السمين، ولا تلقى بالاً بالجزء من التراث الغث.

5-ادِّعاؤه بالدفاع عن مبادئ الحزب حول حقيقة علاقة العروبة مع الإسلام، واتهامه للكاتب بأنه يخرج عن تلك المبادئ.
تقول أنت »إننا نرى أن الإسلام هو وحدانية الله، والإيمان بالرُسُل «.
أما نحن فنقول: لكن ما هو الجديد في رؤيتك؟ وهل يرى الإسلاميون غير ما ترى؟ وهل أنا أنكر على الإسلام أن يرى الأمور كما يريد؟ بل هل تتفق  رؤيتك الإسلامية مع رؤيتك القومية؟ أي هل كل جوانب الرؤية الإسلامية صالحة لرفد الرؤية القومية؟
نصَّت المادة (41) (البند الأول):من دستور الحزب على ما يلي: »يعمل الحزب في سبيل إيجاد ثقافة عامة للوطن العربي، قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة، وإنسانية في مراميها، وتعميمها في جميع أوساط الشعب«.
هل أنت يا مروان مؤمن تماماً بكل تلك المنطلقات الإسلامية؟ لم توضح لنا إذا كنت معها كلها أم أن هناك منها ما يستدعي الرفض من قبلك، (وهنا أريد أن أسمع رأيك أنت، على أساس أن لا تحسب أنك تعبِّر عن رأي الحزب، لأننا لنا نحن، أيضاً، حصة في هذا الحزب).
هنا يقع مربط خيولنا حوارنا يا مروان. هل نستطيع أن نوفِّق بين رؤية الإسلاميين للإسلام مع رؤيتنا للقومية؟ بل هل لدينا رؤية إسلامية متميِّزة؟ إنني أشك في ذلك، وهذا هو محور نقدي الذي تدور من حوله أبحاثي. وليست أبحاثي كما تتجنى أنت عليَّ فتقول إن نقدي لشعارات الحزب هو ما دفعك للرد عليَّ. ولهذا السبب لم تصب الهدف. لأن دعوتي إلى قيام علاقات واضحة بين الإسلام والعروبة هو ما دفعني إلى تكثيف كتاباتي النقدية.
ليس من حقك أن تقول إنك، بهذا الجانب، تنقل رأي الحزب نقلاً صحيحاً. فلست أنت الذي تحتكر مثل هذا الحق. فلنا حصة في هذا الحزب، ولنا آراؤنا وفهمنا لفكره، فليس من حقك أن تدَّعي أنك تفهم هذا الفكر لوحدك، بينما الآخرون، كمثلي أنا، هم الذين لم يفهموا فكر الحزب بل يختلفون مع شعاراته ومنطلقاته.
أما حول طبيعة فهمنا للعلاقة بين العروبة والإسلام، فهناك -بالفعل- اختلاف في رؤيتينا. وهذا هو أساس الحوار الذي يجب أن يستمر للوصول إلى جلاء ووضوح في تحديد العلاقة بينهما.
لأنني هنا أرى أنه من المؤسف أن تفترض نفسك أنك تعبِّر تماماً عن موقف الحزب الحقيقي أما أنا فأخالف الحزب حول هذه المسألة: أشكرك لأنك نقلت عبارة بالكامل عن رأيي بالعلاقة بين العروبة والإسلام، وهي »: لماذا يغيب عندنا الوضوح في العلاقة بين العروبة والإسلام؟ وإنه لا تطابق بالمطلق بين حدَّيْ المعادلة (العروبة والإسلام)، بل إن هناك ما يحول دون التطابق الكلي بينهما«. فحسبتني بمثل هذا الحكم قد اختلفت مع شعارات الحزب ومنطلقاته. لكنك يا عزيزي لم تقل ما هو رأيك برأيي. هل تعتقد بأن هناك وضوحاً قد أمسكت أنت برقبته، أما أنا فلم يسعفني فهمي في التقاط هذا الوضوح؟
أرجو أن تجيب بوضوح: هل هناك وضوح بتلك العلاقة أم أن هناك غموض؟  فإذا كانت واضحة لديك عليك أن تبرهن عليها وتقوم بإقناعي أنا وأمثالي ممن تغيب الرؤية عنهم في مثل تلك المسألة.
أما إذا كان ما جاء في الفقرة التالية من رسالتك حول معالجتي لإشكالية تأويل وتفسير العبارة التي أطلقها مؤسس البعث وحازت على إعجاب محمد حسين فضل الله »العروبة جسد روحها الإسلام«، هي ما أردت أنت، من خلال استحسانك لها، أن توضِّح لي أن العلاقة بين العروبة والإسلام هي واضحة، فكان ردَّك عليَّ لإقناعي، أنا الذي اعتبرت أن العبارة غير واضحة لأن التأويلات والتفسيرات حولها متناقضة. لم يكن ردك أكثر من أنك اعتبرت أن مربط المنافسة بيننا هو من يغدق أوصافاً أكثر بمدح مؤسس البعث، وهذا واضح من خلال ما تقول: »وهذا فخر واعتزاز باكتشاف المؤسس لهذا الشعار «. وكأن المنافسة بيننا من هو الذي يحب مؤسس البعث أكثر من الآخر، ولهذا كان ردَّك لا يتناول المشكلة من أساسها، بل كان يستند إلى من هو الذي يستحسن هذه العبارة أو تلك. فكان ردك هو كالتالي: »ويستشهد المؤلف بقول السيد محمد حسين فضل الله بتثبيت شعار المؤسس إن العروبة جسد روحها الإسلام. وهذا فخر واعتزاز باكتشاف المؤسس لهذا الشعار. أما التفسير والتأويل: وهل هو تفسير بعثي أو فقهي، فلكل اجتهاده«.
من ينكر على من حريته في التأويل والتفسير؟ لكن من حقي كبعثي أن ألفت النظر إلى كل قضية فكرية بعثية لا تكون واضحة، لأن خوفي على البعثيين، وليس غيرهم، من أن يختلفوا بالتأويل والتفسير حول هذه الفكرة أو تلك، لأن حرية البعثي ليست حرية فردية فحسب، بل تكتسب معناها من ارتباطها بحرية الجماعة البعثية أيضاً. فالفكر البعثي ليس ملكاً خاصاً لفرد بل يصبح ملكاً عاماً عندما يتم إقراره من هيئات الحزب المخوَّلة بذلك.  كان من واجبي البعثي أن ألفت النظر، من خلال كتاباتي النقدية، إلى أن هناك غموضاً عند الحزب في تحديد تلك العلاقة، والدليل على ذلك أننا نحن -مروان وحسن- غير متفقين حول تأويل وتفسير عبارة »العروبة جسد روحه الإسلام«.
هل يعفي حكمك، بأن كل فرد حر بتفسيره، عبارة »العروبة جسد روحه الإسلام« من أن تكون غامضة؟ بلى يا عزيزي هي غامضة، ودليل غموضها هو اختلافنا -أنا وأنت- حول تفسيرها. ودليل غموضها، أيضاً، هو أن يتفق حول القول بها مفكران يقع كل منهما على الطرف النقيض من الآخر؟ والدليل على ذلك فهما لا يتفقان حول تفسيرها. لقد بعت يا مروان الموقف الواضح واشتريت مقابله عبارة غامضة. فهل نحن نسعى من أجل موقف واضح أم الغاية هو مدى إعجابنا بعبارة ؟
3-جاء في ردّك ما يلي: »إن الموقف الذي ينطلق منه المؤلف موقف قومي يستبعد الدين كلياً، أو موقف ديني يستبعد القومية كلياً«.
ما هذه الفرية الفكرية يا عزيزي؟ أين ورد ذلك؟ بالله عليك لا تتخيَّل ما تريد. لن أعطيك شواهد أخرى تدل على أنك تنتحل مواقف وتنسبها لي. كان عليك يا عزيزي أن تفتِّش لتقرأ موقفي الحقيقي من علاقة الدين مع الفكر القومي. وكان عليك أن تقرأ جيداً: منهجي المعرفي أولاً، وأن تقرأ جيداً موقفي من القومية بشكل عام، وموقفي من الدين بشكل عام، وهي الشروط الضرورية لتقرأ موقفي من العلاقة بين العروبة والإسلام على حقيقته لا كما تتصوره أنت وتعتقد أنك تعبِّر فيه عن فكر الحزب. أنا أرى أن قراءتك لهذه المسألة هي قراءة مغلوطة. وكل الحوار الذي يدور حولها، هو تباعدنا حول أيهما تكون أفضل القراءات. ومن الخطأ الكبير أن تحسب نفسك أنك تفهم موقف الحزب فهماً صحيحاً، في الوقت الذي تتهمني فيه أنني أنتقد شعارات الحزب ومنطلقاته، وإنني أقرأ قراءة مغلوطة.
أنت تحسبني أقرأ قراءة مغلوطة وأنا اعتبرك أنك أنت الذي تقرأ قراءة خاطئة. فالموضوعية تستدعي أن يتم الحوار حول أفضل القراءات، وهذا الأمر يتطلب أن نتوسَّع بالدراسة والحوار.
لا شك بصدق انتماء كلينا إلى حزب البعث، ولا شك بصدق سعينا، لإغناء فكره وتطويره، فلماذا نلجأ إلى عملية تخمين في النوايا؟ نحن إذا لم نقرأ بعضنا جيداً، وبموضوعية وأمانة علمية، نكون كمن يدخل في دائرة المنافسة التي لا علاقة لها بمصلحة فكر الحزب. فتعال يا مروان إلى البدء في قراءة متأنية بعيدة عن التخمين، لأن التخمين هو من مناهج المعرفة التي تضلِّل ولا ترشد إلى طريق الصواب.
سأنقل إليك بعض ما كتبته، وهو مثبت بالحرف: إن رفض قيام دولة دينية، ليس له خلفيات وأسباب روحية لأن حزب البعث العربي الاشتراكي يعطي للروح دورها في حياة الإنسان، بما لها من تأثيرات تتعلق بالتكامل النفسي للبشر. لكن الرفض الذي يعلنه الحزب هو ضد قيام دولة دينية، وهو الجانب السياسي، ولا علاقة له بالجانب الروحي. وللجانب الروحي وحرية اختيار الطريق المؤدي إلى الاستقرار النفسي عند الإنسان بما له علاقة بما وراء الطبيعة، أي في الحياة الآخرة، يشكل موضوعاً آخر، وله مجال آخر.
أنا أؤمن تماماً بما جاء في نص الدستور حول حرية الاعتقاد: جاء في المبدأ الثاني من دستور الحزب (الفقرة 1)، ما يلي: »حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها« ([8]).
جاء في بحث لي عنوانه »الظاهرة الدينية والظاهرة الدينية السياسية«، ما يلي: »إذا وقفت الظاهرة الدينية عند حدود الحاجة الروحية للإنسان، فإنها سوف تحقق الحاجة الفعلية منها. وهي ضمان تأمين حاجات الإنسان الروحية، سواء في حياته الدنيا أو في مصيره في مرحلة  ما بعد الموت. وهي الظاهرة المطلوبة فعلاً، ولا يمكن للإنسان أن يعيش، بدونها، حياة داخلية: روحية - نفسية، تميِّزه عن الجماد والحيوان، بشكل متوازن«.
»أما إذا تحوَّلت الظاهرة الدينية من مهمتها في إشباع الحياة الداخلية الروحية الفردية إلى الادِّعاء بأنها مسؤولة عن حياة البشر الدنيوية، ولا يمكن تأمين العدالة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلاَّ بواسطة ما تُسبغ عليه صفة التشريع الإلهي الدنيوي، ساعتئذٍ تتشابك الادِّعاءات وتعدَّد بتعدد الظواهر الدينية، وما أكثرها، فتتصارع المشاريع الدينية السياسية، حينئذٍ، وتتقاتل، وكل منها يحسب أنه ذو مصدر إلهي. ويعدُّ الدفاع عنه أمراً إلهياً تجب الشهادة في سبيل تطبيقه  «.
»رأى البعث الإسلام من جوانب عدة: إضافة إلى أن الدين منهج من مناهج نظرة الإنسان إلى الكون، فإنه يشكل جزءا أساسياً من التراث التاريخي العربي، روحياً و سياسياً واجتماعياً، وفيه إضاءات نضالية مهمة يمكن للعرب أن ينيروا بها درب الكفاح في وجه الاطماع الخارجية. لكن الجوهر الذي يكتسبه الدين من خلال دوره في تنمية الجوانب الروحية والخلقية عند الإنسان، شيء، واستخدامه كعامل للتجزئة والتفتيت شيء آخر  «.
»فالقيم الأخلاقية، كجانب روحي نفسي عند الإنسان، اكتسبت عبر تاريخ البشرية، إلى حد كبير، صفة الحقيقة المطلقة، إلاَّ أنها تتمايز بين مجتمع وآخر، أو بين دين وآخر بتفصيلات لا تذكر.
أما إذا كان الروحي يعني الديني المقدس، أي أن تنسب كل سلطة دينية لنفسها الحق الإلهي بالسيطرة على السياسي- الدنيوي، فإننا نرى أن الكثير من طرق الاستغلال والتعسف الاجتماعيين حصل في ظل السلطات الدينية، سواء في أوروبا المسيحية أو في الامبراطوريات الإسلامية على حد سواء «.
وجاء في بحثنا »وجهة نظر ودعوة للحوار « : ما يلي: »إن المتغيِّرات التي تطال المستوى الحضاري لأي مجتمع، عبر مراحل التاريخ، يصبح لها تأثيرات على البناء الثقافي الديني.
ضمن هذا السياق نفهم علاقة الدين بشكل عام، والدين الإسلامي بشكل خاص، بحياة المجتمع العربي، أو المجتمعات التي تعرَّبت.
فإذا كنا لا ننفي، لأن هذا غير موضوعي أصلاً، إيجابيات التركيب الاجتماعي-النفسي والتحرري الذي تركه الإسلام في حياة المجتمعات التي  خضعت لسلطان ثقافته، فإن الإسلام -بلا شك- كانت له تلك الإيجابيات التي تحتاج إلى دراسات موضوعية متخصِّصة«.
»ولهذا فإن ما كان مُقدَّساً عند الإنسان البدائي لم يبقَ كذلك عندما يبلغ هذا الإنسان نفسه مرحلة متقدِّمَة أكثر؛ ولهذا السبب فإن ما هو مقدَّس عند مجتمع/شعب ما ليس مقدَّساً عند مجتمع آخر.
لأن الظاهرة الدينية لها علاقة بمسألة القداسة، ولأن القداسة هي شيء نسبي في داخل المجتمع الواحد أحياناً، وبين مجتمع وآخر، فهل تمرُّ تلك الظاهرة، إذاً، من دون أن تترك أثراً ما على النُظُم الثقافية لتلك المجتمعات «.
»إن التمييز بين ما هو عقائدي أخروي وما هو سياسي دنيوي يضعنا أمام المعادلة التالية: ليس كل ما هو عقائدي مُقَدَّس يجب أن يكون سياسياً  مقَدَّساً أيضاً. إن  هذه المعادلة تقودنا إلى وجوب الفصل بين الإلهي المقدس والبشري الدنيوي من جهة، وإلى الاعتقاد بأن المقدس ليس حقيقة مطلقة من جهة أخرى. فماذا يعني ذلك على أرض الواقع؟
إن ما هو مُقَدَّس عند مجتمع ديني قد لا يكون مُقَدَّساً عند مجتمع ديني آخر. فالمقدس (التابو) ليس، إذاً، حقيقة مُطْلَقَة؛ ولذا فإن الفصل -في مجتمع تعددي-بين المقدس الأخروي والمقدس الدنيوي يسمح أكثر في بناء واقع اجتماعي/سياسي تتعايش فيه الإثنيات الدينية، بحيث يصبح المقدس الأخروي قضية خاصة بعيدة عن الشرائع والممارسات السياسية. أما إلغاء صيغة المقدس الدنيوي فهو إلغاء لنقاط التماس والاحتكاك والتناقض بين الإثنيات الدينية «.
»إننا من خلال هذه الرؤية، التي تنظر إلى التاريخ العقائدي والسياسي للإسلام نظرة شاملة، تنظر إلى الإيجابي منه لا لتُضَخِّمه، بل لوضعه في موقعه الصحيح، وتنظر إلى السلبي لا لكي تستخدمه مادة للتشهير، وإنما لكي تُصوِّب المسار باتجاه الهدف السليم؛ ومن خلال هذه المنهجية سننظر إلى طبيعة العلاقة بين المجتمع القومي العربي-كواقع سياسي فكري اجتماعي- و بين الإسلام كظاهرة دينية اجتماعية ثقافية رافقت التاريخ العربي أكثر من عشرة قرون«.
»وفي الوقت الذي تبقى فيه إشكالية الصراع بين الديني والسياسي دون أن يحرز أحد طرفيه النصر على الآخر، سوف تبقى إشكالية تنظيم العلاقة بين العروبة والإسلام مستمرَّة في عملها التفتيتي؛ وهي وإن استكانت في  بعض  المراحل، لظروف  الصراع مع  الخارج مثلاً، فإنها تبقى جاهزة لتَنْبُت من جديد وبقوَّةٍ أيضاً«.
وجاء في ردِّنا على الدكتور عمارة، في كتابنا المنشور تحت عنوان »نحو طاولة حوار«، ما يلي: »وكيف يمكن لهم أن يرشدوا المسلمين إلى مذهب إسلامي يستند إلى القرآن والسُّنَّة، فيوحِّد كل الفرق / المذاهب الإسلامية في فرقة واحدة من دون تناحر دنيوي وأخروي؟!!!
هل هناك من حل غير أن تعترف كل فرقة بخيارات الفرق الأخرى من دون تكفيرها والحكم عليها بالنار في الدنيا والآخرة؟
وهل هناك من حل غير أن يعترف كل دين بخيارات الدين الآخر من دون تكفيره والحكم عليه بالنار في الدنيا والآخرة؟
وحتى لا تعود الأديان، والمذاهب المتوالدة عنها، إلى النزاع من جديد حول أي نظام ديني سياسي، أو طائفي سياسي يُمكننا أن نرتضي قوانينه وشرائعه، بادِّعاء قدسيتها من دون غيرها، ليس أمامنا إلا أن نرتضي تلك الشرائع: الوضعية أو الدينية، التي يتَّفق عليها، والتي تحقق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين فتوحِّدهم، وتقيم دولة يرتضيها الجميع سقفاً لهم: مُوَحَّدَاً ومُوَحِّدَاً«.
وجاء، أيضاً، في الرد ذاته ما يلي: »بعد أن حدَّد البعث علاقة القومية بالدين/ العروبة بالإسلام، رافضاً أن تكون الجامعة الإسلامية، مرجعية وحدوية سياسية للأمة العربية، لأنه أحلَّ مكانها المرجعية الوحدوية القومية، وهدفها بناء نظام سياسي عربي وحدوي، قام بخطوة أخرى، عندما أعطى للمسألة القومية محتواها الاجتماعي، وربط النضال القومي/ الوحدوي، بالاشتراكية، كمبدأ اقتصادي - اجتماعي، يحقق المساواة بين جميع المواطنين ويمنع استغلال جهد الآخرين([9]).
بالإجمال، كان موقف البعث من الإسلام، متميزاً عن تيارين: أحدهما يقف على اليمين (تيار الجامعة الإسلامية)، الذي  يفسِّر الكون بكل جوانبه على أساس منهج ديني- ماورائي، أما الآخر فيقف على اليسار (الأممية الشيوعية)، الذي يفسِّر الكون، بكل جوانبه، على أساس منهج مادي (المادية - الجدلية).
إن السلفيين الإسلاميين يريدون أن يقطعوا الإسلام عن إمكانية تواصله مع الحاضر والمستقبل، وهم يقفون رافضين لكل حالة تجديدية في الفكر.
أما الدعوة الشيوعية فقد جنحت باتجاه الإلحاد، برؤيتها المادية في تفسير الكون، ورفضت ليس الإسلام فحسب، وإنما الدين، أيضاً.
أما البعث، فقد دعا إلى تكامل زوايا التاريخ في داخل علاقة جدلية بين التراث والمعاصرة ، والى التمييز بين الماورائي في الدين، كرؤية فلسفية، وبين تطور التاريخ بصورة جدلية. فهو لما اعترف بدور للدين في المجتمع، فإنما ميَّزه عن النزعات الطائفية والمذهبية. وبدلاً من  أن يكون الماضي والحاضر فيه متساويين، كما يحسب السلفيون، أراد البعث أن يتفاعل الماضي (التراث) والحاضر (المعاصرة) في الأمة، لكي "يكون تذكرها لماضيها ووعيها لحاضرها حافزاً مزدوجاً لها للنهوض" ([10]) .
وجاء، أيضاً، ما يلي: على هذا الأساس يمكن التمييز، دائماً، بين منهجين في دراسة الدين:
- النظرة السلفية - الدينية، التي تفسِّر الكون على أساس من الجمود المنهجي، وعلى قاعدة أن ما هو مرسوم في الماضي والحاضر هو من صنع إلهي لا يجوز مسه.
- النظرة العلمية التي تفسِّر التاريخ على قاعدة تطوره بشكل متصاعد.
فاستناداً إلى ذلك تمَّيز موقف البعث من الدين بما يلي:
- إن الدين هو حاجة روحية إنسانية، وهو حاجة فلسفية لتفسير الكون.
- وهو حالة ثقافية اجتماعية تاريخية، ضرورية للاستفادة منها في الحاضر والمستقبل.
أما بالنسبة للمساجلة بين الأحزاب الشيوعية العربية والفكر القومي، فقد استعارت هذه الأحزاب من  الفكر الأوروبي، الماركسية  تحديداً، نظريات جاهزة كانت وليدة الواقع الأوروبي، خاصة في مسألتي الدين والقومية؛ وتقيدت بتلك النظريات لكي تطبقها على الواقع العربي، ولهذا وقعت في منزلقات عديدة.
إن مسألتي الدين والقومية هما أشد ما يتميز به المجتمع العربي: فالأول هو جزء أساسي من التراث الحضاري للأمة، أما الثانية ففيها تكمن الحوافز الوحدوية كشرط ضروري ولازم لمقاومة الموجات الاستعمارية الخارجية.

رابعاً: في مدى صلاحية تثقيف البعثيين بالمادة النقدية في الفكر الإسلامي في هذه المرحلة.

1-على صعيد صلاحية تثقيف الحزبيين بالمادة الثقافية النقدية:
جاء في أحد الردود على سؤال توجَّه به أحد المشاركين في طاولة حوار داخلية، ما يلي: ولماذا نخشى أن نثقِّف البعثيين بكتابات نقدية؟ إن القاعدة أن نؤهِّل كل ملتزم بقضايا أمته بثقافة نقدية تستند إلى عقل ناقد، أليست الحركة الحزبية هي الدعوة إلى الانقلاب على الواقع؟ وكيف تنقلب على الواقع، ولماذا؟ وهل تنقلب إلاَّ على الواقع الفاسد؟ وكيف تعرف أن الواقع فاسد إذا لم تنقده؟
إن الواقع الفاسد هو عبارة عن نهج فكري واجتماعي وسياسي واقتصاد لا يلبِّي حاجة المجتمع في التقدم. فعليك، إذاً، أن تبيَّن طبيعة الفساد. وهل تستطيع أن تبيِّن طبيعة الفساد من دون نقدها؟
من هنا، لن يكون من المستغرَب أن تثقِّف الحزبيين بالدراسات النقدية، لكن المستغرَب أن لا تثقفهم بتلك الدراسات. فدراساتي وأبحاثي النقدية هي مُوجَّهة لكل العرب بشكل عام، وإلى الملتزمين من البعثيين وغيرهم بشكل خاص. وإذا كان من أصول نشر الثقافة أن لا تُلزِم العربي بقراءة ثقافة نقدية، فمن باب الإلزام أن يكون الملتزم ذا حسٍّ نقدي وعقل ناقد وثقافة مبنيّة على النقد.
2-على صعيد نشر دراسات نقدية حول الفكر الإسلامي، ومدى تأثيراته على العلاقة مع الحركات الإسلامية في مراحل التحرر الوطني.
نحن أولاً لسنا حزباً يستجدي أصوات الناخبين لكي نتلوَّن مع كل شريحة من المجتمع بلونها. بل نحن حزب انقلابي لا يتسوَّل رضا هذه الجماعة أو تلك. نحن حزب اقتنع بفكر جذري انقلابي، وعلى أساسه رهن نفسه للتبشير به مهما كانت التضحيات. أوَ لم يعطٍ مؤسس البعث للبطل، الذي يتَّصف بالتضحية، دوراً أول في ساحة النضال؟
ماذا يعني أن يكون البعثي انقلابياً؟
جاء في المادة السادسة من الدستور ما يلي: »حزب البعث العربي الاشتراكي انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسة في بعث القومية العربية  لا يمكن أن يتم إلاَّ عن طريق الانقلاب والنضال، وإن الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع. لذلك فهو يقرر:الانقلاب على الواقع الفاسد انقلاباً يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية«.
ماذا نفهم كبعثيين من معاني الانقلاب؟ إنه أولاً يعمل من أجل مبادئه بروح جذرية وثورية، وليس بروح الإصلاح الجزئي السطحي. والانقلاب يشمل، من ضمن ما يشمل، خطورة المذهبية والطائفية والتمييز بين الأديان. وهل تلك الخطورة إلاَّ آتية من ينابيع الفكر الديني؟
هل المذهبية هي دين آخر أنزله الله تعالى بمعزل عن الأديان، أوَ ليس خبز المذاهب إلاَّ من عجين الأديان؟
الكاثوليك والموارنة والأرثوذكس والبروتستانت هي مذاهب تنتسب إلى المسيحية، وكل منها تحسب أنها تمثل المسيحية، بينما المذاهب الأخرى، كما تعتقد كل فرقة مسيحية، تقف في الخندق الذي يفهم المسيحية فهماً مشوَّهاً.
السنة والشيعة، بشتى فرقهما، هي مذاهب تنتسب إلى الإسلام، وكل منها تحسب نفسها أنها تمثل الإسلام الصحيح، بينما المذاهب الأخرى، كما تعتقد كل فرقة إسلامية، تقف في الخندق الذي يفهم الإسلام فهماً مشوَّهاً.
بالإضافة إلى كل ذلك، يعتقد كل من المسلمين والمسيحيين أن دينهم هو الذي يعبِّر بشكل سليم عن الدعوة الإلهية، بينما الدين الآخر هو الذي يفهم الدعوة الإلهية فهماً مشوَّهاً.
ما هو السبب الذي جعل من المسيحية والإسلام يتشرذمان إلى مئات المذاهب والفرق؟ نحن نحسب، أنه لولا وجود الغموض في كثير من الزوايا الإيمانية عند كل دين لوحده لما اختلف المسيحيون أو المسلمون حول تفسير الغامض من نصوصهما وتأويله، ولما تفرقوا إلى مئات المذاهب، التي تتقاتل حول تعريف للدين أو المذهب الصحيح.
نحن كحزب نرى بوضوح تلك الإشكالية، ونعرف مخاطرها، فهل من المسموح أن لا ننقدها لتبيان أصولها؟ وهل من المنطقي أن نحذِّر من خطورة ظاهرة من دون نقدها؟ وهل تجوز المحاباة لظواهر اجتماعية أو دينية أو مذهبية تحت حجة أن الوقت غير مناسب خوفاً من خسارة هذه الجماعة أو تلك من أن لا تشاركنا في معارك الاستقلال والتحرر؟
إن صراعنا مع قوى الخارج طويلة ومستمرة، وهي غير محددة بفترة زمنية، أما علاقات الجماعات السياسية والدينية ففي صراع متواصل، تارة يكون مكشوفاً وتارة أخرى يكون مستوراً. وهذه هي طبيعة الصراع مع القوى الطائفية والدينية والمذهبية في هذه المرحلة.

3-اقتراحات على طريق معالجة الإشكالية:
على حزب يتصدى إلى التغيير بعمق انقلابي بعيداً عن الإصلاحية البطيئة، أن يمتلك  مشروعاً فكرياً وسياسياً واضحاً، يستطيع من خلاله أن يحدد، أولاً وقبل كل شيء، مبادئه الثابتة (الاستراتيجية). أما تحديد ما هو صالح في مرحلة معيَّنة فيدخل في باب المؤقتي( التكتيكي). فعندما يفرز البعثيون بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، يصبحون كمن يمتلكون بوصلة دقيقة تحدد الاتجاهات الصحيحة. أما أن يخلطوا بين ما هو مؤقت وما هو ثابت، فهو ما لا يجوز أن يتميَّز به فكر حزب ثوري.
فالوضوح بين الاستراتيجية والتكتيك مسألة مطلوبة. فعلى الفكر الاستراتيجي أن يكون واضحاً أمام من يلتزمون به، وهذه حاجة ضرورية تقي خطواتهم من التذبذب والتردد، وبدونها يفتقد الحزبي البوصلة التي تصوِّب اتجاهاته الفكرية. أما عوارض وتقلبات البحر، فتدفع الربان إلى التعامل معها، بتغيير وجهة السفينة بشكل مؤقت، أو لملمة أشرعتها لفترة تطول أو تقصر تبعاً لعوارض البحر الطارئة، ولكنه عندما تزول العوارض لن يرتبك الربان على الإطلاق لأنه يمتلك بوصلته التي تساعده على إعادة توجيه السفينة. لن يجد الربان، في سبيل تصحيح مسار السفينة، غير البوصلة هادياً إلى الخط الأساسي الذي كان يوجه للوصول بها إلى الميناء المقصود. أما إذا كان الربان يفتقد تلك البوصلة فإنه سيتعرَّض حكماً إلى الضياع، فتضيع السفينة والربان.
من هنا تأتي أهمية امتلاك الفكر الاستراتيجي الواضح عند حزب البعث العربي الاشتراكي. ولأن المسألة الدينية والمذهبية والطائفية هي من الإشكاليات الأساسية التي تعرقل عمل الفكر القومي، كان من الواجب على الحزب أن يوليها اهتماماً استثنائياً، خاصة وأن أهداف بوصلة الفكر القومي، حتى في داخل حزب البعث العربي الاشتراكي، أخذت تختلط مع أهداف بوصلة الفكر الديني الإسلامي.
أما دلائل هذه الظاهرة فأخذت تبدو واضحة بتأثيراتها على مستوى عدد من البعثيين الذين أخذوا يميلون باتجاه الإسلامي على حساب القومي.
أما هل يتضرر حزب البعث العربي الاشتراكي، إذا انخرط بورشة نقدية للفكر الطائفي المذهبي الإسلامي؟
لا أرى أن مشكلة الحزب مع القوى الطائفية هي في إعلاء شأن الخطاب الإسلامي، لأن المتدينين والمتمذهبين والمتطيفين لا يشبعهم خطاب، من هنا، يدغدغ عواطفهم وخطاب من هناك يحاول استمالتهم، فهم لا يرتوون على الإطلاق إلاَّ إذا كان هناك اعتقاد وتطبيق لمعتقداتهم الدينية بدون تحريف أو تجديد.
على العكس مما يحسبه بعضنا أن علينا بالتخفيف من الكتابة النقدية لكي لا ننفر التيارات الإسلامية المنخرطة في معارك التحرر؛ فأنا أرى أن البحث النقدي لا يقود إلى مثل تلك المخاوف. لأننا إذا كنا واثقين، بحق، من صلاحية الفكر القومي، وإذا كان خطابنا في نقد الفكر الديني موضوعياً، لن نقنع البعثيين لوحدهم بصلاحية الفكر القومي وبتوضيح الثغرات في الفكرين الديني والمذهبي فحسب، وإنما سوف نؤثِّر على قناعات المتدينين أيضاً.
إن تأجيل نقد الفكر الديني إلى مراحل أخرى، ولسنا ندري التي متى يستمر الحظر على تأجيله، سيُضيِّع على الحزب فرصاً كثيرة وأوقاتاً كثيرة. فنحن إذا كسبنا إلى جانبنا في الصراع بعض المجموعات الدينية، فلن يكون الكسب إلاَّ كسباً مؤقتاً، لأنه في الوقت الذي تنتهي فيه صراعات التحرر من عبء الاستعمار سوف تظهر إلى الواجهة  مشاريع دينية إسلامية تعمل من أجل إلغاء كل المشاريع، بما فيها المشاريع القومية، في سبيل إعادة بناء نظام الخلافة من جديد. وعلينا أن نكون متأكدين أن المجموعات الإسلامية لا تقف في الخندق المعادي للاستعمار والصهيونية، لأن الخطاب القومي مرن، بل لأنها ترى أن من واجبها الديني أن تقاتل القوى المعادية، كخطوة تأسيسية وتمهيدية على طربق الجهاد من أجل إعادة نظام الخلافة الإسلامية، فسوف تكون الخطوة التالية الانتقال إلى الصراع مع كل المشاريع العلمانية، ومنها مشروع حزب البعث العربي الاشتراكي . لذلك، نحن، لا نرى أن الخطاب القومي الإسلامي هو ما يُكسب الحزب ولا التيارات القومية. فإذا كانت التيارات القومية ترفع خطاباً إسلامياً، فهذا يعني صلاحية التيارات الإسلامية، وهي الأقدر على نشر تعاليم الدين من غيرها، فلماذا يلجأ العربي القليل الثقافة إلى المراهنة على حصان إسلامي آخر غير تلك التيارات؟
أما نحن، كقوميين، فمعرَّضون للخسارة أكثر مما نحن مرشحون للكسب، لأنه ما لم يتعمَّق الفكر القومي، ويكون متميزاً بأسباب مقنعة وموضوعية، ستجرف التيارات الإسلامية، سواء السياسية منها أو غيرها، كل العرب المسلمين الذين يقفون في الصف الثقافي السطحي، والقائم على التسليم والتقليد والإيمان الساذج.
أما على أرض الواقع فنرى أن الخطاب الإسلامي، وعدم الوضوح السائد حول العلاقة بين الفكرين الديني والقومي بشكل عام، وبين المشروعين القومي والإسلامي، أي العلاقة بين العروبة والإسلام بشكل خاص، يدفع بالكثير من البعثيين تحت حجة الكسب السريع من البيئة الإسلامية- إلى الجنوح باتجاه الثقافة الإسلامية على حساب الثقافة القومية. وبمرور الزمن ستتحول تلك الفئة إلى تشكيل تيار يسلك طريق تكفير الآخرين. ونحن نرى، حتى في المرحلة الراهنة بداية تدل على أن البعض أخذ يسلك هذا المسار. وهذا ما يدعونا إلى وضع الإشكالية بين أيدي الجهات المختصة في الحزب لحسمها بشكل واضح وحاسم، أي تحديد الخط الفكري الاستراتيجي أولاً وقبل أي شيء آخر لتكون المادة التثقيفية الأساسية في مناهجه. أما تحديد الخط التكتيكي في الخطاب الديني بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص، فيمكن تحديده في التعاميم الحزبية تبعاً لخصوصيات كل مرحلة.
***





([1]) القرضاوي، يوسف: الإسلام والعلمانية: مؤسسة الرسالة: بيروت: 1992: ط3: ص 54.
([2]) م . ن : ص 56.
([3]) شمس الدين، محمد مهدي: العلمانية: المؤسسة الجامعية: بيروت: 1980: ط1: ص 86.
([4]) م. ن: ص 45.
([5]) نضال البعث (الجزء الرابع): دار الطليعة: بيروت: 1976م: ط3: ص 25.
([6]) عفلق، ميشيل: في العام 1960م: الكتابات السياسية الكاملة (ج 1): م. س: ص 195.
([7]) »أصالة الأمة قوة نضالية متجددة / 19-1-1976م« (20 - 35): ميشيل عفلق: الكتابات السياسية الكاملة (ج3): م. س: ص 30.
([8]) نضال البعث (الجزء الرابع): دار الطليعة: بيروت: 1976م: ط3: ص 25.
([9]) م . ن : (المواد من 26-38) من الدستور.
 ([10]) ميشيل عفلق: في سبيل البعث: دار الطليعة: م . س: ص 143.

ليست هناك تعليقات: