الخميس، أبريل 30، 2015

دراسات قديمة عن ميشيل عفلق أنشرها لأول مرة (1/ 2)


دراسات قديمة عن ميشيل عفلق أنشرها لأول مرة

(1/ 2)

عفلق والبعد الإيماني طريق ثالث بين التعصب الديني والإلحاد

كُتبت في ذكرى رحيل مؤسس البعث: من الأرشيف الخاص الذي يعود تاريخه إلى ما قبل العام 2003.

في ذكرى رحيل القائد المؤسس المرحوم ميشيل عفلق، لا يفوت البعثيون أن يقفوا أمامها وقفة إجلال وإكبار، ولا بد لهم من أن يستذكروا ما أسهم به الفقيد الراحل من تراث نضالي وفكري، يتصف بالغزارة والعمق والفعالية.

ملأت حياته وفعاليته حياة الحزب بالغنى الفكري والنضالي، بالمقدار الذي أصبح البعثيون معنيين بمتابعة دراسة تراثه ليظل نبراساً يهتدون به في حياتهم النضالية والفكرية. وهنا، وللفرادة التي تميَّز به البعد الإيماني في فكره ونضاله وسلوكه، كان لا بُدَّ من أن نضيء حول هذا الجانب في محاولة منا لدراسة مضامينه بكثير من الدقة والموضوعية، خاصة أنه أعلن «إسلامه» في وصيته الأخيرة التي تركها. ولأن ذلك الإعلان ترك تأثيرات متباينة من ردود الفعل هنا أو هناك، رأينا من الواجب البعثي أن نضيء حول ذلك البعد.

التبست عند الكثيرين من غير البعثيين معاني إعلان إسلام مؤسس البعث، إذ أحدث الإعلان إحباطاً عند العلمانيين، وقُوبل بعدم اكتراث من الإسلاميين، وجل ما استنتجوه كان إصدار نعوة بموت الفكر القومي تدليلاً على فشل أي مشروع آخر غير مشروعهم. وأثار الخوف عند المسيحيين فاستعادوا ذكريات أهل الذمة بعدما حسبوا أن العروبة والإسلام شيء واحد كما كان الحال سائداً في عهد الأتراك العثمانيين.

توضيحاً ورداً على كل ما حصل، كيف ننظر إلى البعد الإيماني عند مؤسس حزبنا؟

استناداً إلى كتاباته الأولى، قبل العام 1943م، ملأت مسألة التخلف التي تعيش فيها الأمة العربية قلبه حزناً وألماً، وازداد ألمه أكثر بعد أن تيقَّن من الضعف النضالي الذي يعاني منه من هم في موقع المسؤولية؛ فعبَّر عفلق عن نقمته على النخب العربية، حركات وأحزاب، لأنها كانت تقيس قوانين الصراع بين الأمة وأعدائها بمقياس توازن القوى، فكانت تصل إلى نتائج تدل على استحالة المواجهة بينهما، فعاشوا في يأس وزرعوا الإحباط في نفوس الأجيال الشابة الجديدة.

في نطاق البدائل، كانت من أولى مهمات مؤسس البعث أن يحفر طريقاً نضالياً يتجاوز مقاييس حسابات موازين القوى. فوجد مثاله المبدئى في مواصفات البطولة. ومن أهم مميزاتها أنها تضع، إلى جانب الحسابات، صفات التضحية عاملاً شديد التأثير في توليد الحوافز أمام من يريدون قيادة الثورة نحو التغيير. ولهذا السبب وجد أنه من الضروري أن يكون المشروع الثوري واضحاً في أهدافه، ويستحق العمل من أجله، لكن على أن لا يقف الثوريون عند فوائده المادية بل في تنمية معاني الحياة السامية في نفوس أبناء أمتهم التي هي أكبر من سد جوع الجائع، لأن سد الجوع لن يخلق الأبطال بل إن معرفة قيم الحياة السامية هي بداية جدية لتطوير سبل المعرفة التي تؤدي إلى العمل من أجل سد جوع الجائعين.

كان حب المثل الإنسانية العليا تمثل نقطة البداية في البعد الإيماني عند مؤسس البعث، فأراد أن تكون قوميته العربية ذات أبعاد إنسانية أيضاً، وإذا لم تكن غير ذلك فسوف يتحول الوطن والأمة إلى مجرد حقل يُنتج الغلال ومصنع ينتج البضائع. فتزول معالمه إذا ما ضاع الحقل أو تهدَّم المصنع.

أخذت البطولة دورها في مشروع عفلق الفكري، وكانت قد أصبحت ثابتاً من ثوابته الفكرية، والبطولة تتميَّز بمواصفات روحية، من أهمها عامل التضحية ليس القائم على غير حسابات مادية من الربح والخسارة فحسب، وإنما قائم على الإيمان بعدالة قضايا الأمة أيضاً.

حتى العام 1943م كان مؤسس البعث يبحث عن أنموذج البطل فوجده في الرسول العربي، فكان أنموذجاً عربياً مكتمل الصفات، وكانت أغراضه عربية بواقعها وطبيعة مشاكلها وأصول حلولها، عربية بلغتها وأرضها وفكرها.

منذ العام 1943م، اكتملت ثوابت عفلق الفكرية، بأركانها الثلاثة: محبته للإنسانية بشكلها المتكامل، قيماً وشعوباً؛ ومحبته للقومية العربية بحرارة تصل إلى درجة الغليان القصوى؛ وطريقه النضالي المسلَّح بمواصفات البطولة التي تضع التضحية على رأس مواصفاتها. ولما كانت تجربة الرسول العربي، في العشرين سنة الأولى من عمرها الفعلي، تحمل هماً إنسانياً عاماً، وهماً عربياً خاصاً، وتدعو إلى التضحية والصبر والنضال من أجل التغيير، وجد مؤسس البعث ضالته العملية في بدء العمل من أجل التغيير معجباً ومحتذياً تجربة الرسول العربي القائمة على الإيمان بقضية أمته العربية، لأن «الإسلام كان حركة عربية، وكان معناه: تجدد العروبة وتكاملها».

وفي خطابه المعروف «في ذكرى الرسول العربي»، يرسم مؤسس البعث أولى معالم فهمه لثورة الإسلام، فيرى أن الإسلام اكتسب قوته في القرن العشرين بعد أن بُعث بمظهر جديد هو القومية العربية. واكتسب الإسلام معنى خاصاً دعا عفلق القوميين إلى اكتشافه. فكيف يرى عفلق ذلك المعنى الخاص؟

يمكن للباحث أن يُجمِّع من خلال كتابات المؤسس ما يساعده على إيضاح ذلك المعنى الخاص، ومن أهم أسسه، التي يشير إليها مؤسس البعث أنه يرفض «المعنى العتيق» للإسلام القائم على الغيبية والمذهبية. لكنه يقبل الإسلام الذي اكتسب جوانبه الثورية، بمعنى إصراره على التغيير دون حساب لحجم التضحيات. ويركز على ثورة الإسلام في خلال حياة الرسول. أما ما حققه العرب، فيما بعد، من انتصارات وفتوحات فكانت من وهج الثورة الأم التي قادها.

يؤكد في خطابه، في العام 1943م، على الجانب الروحي في الإسلام الذي كان يغذي عامل الإيمان في نفس العربي، فيقتحم الصعاب ويقدم التضحيات.

ثبَّت مؤسس البعث قيمتين أساسيتين في ثورة الإسلام، وهما: الإيمان بالله، والشعور القومي العربي. ومن هنا تكوَّنت لديه قناعة بأن الإسلام كان ثورة عربية، ومن خلالها دعا العرب إلى الأخذ من الإسلام بكل ما أعان محمد العربي على القيام بثورته، فوجد أن عامل الإيمان بالله هو الذي أعطى زخماً واندفاعة للثورة الإسلامية.

من الواضح، منذ أن أعلن عفلق رؤيته لعلاقة العروبة بالإسلام، أنه أعطى للإسلام رؤية خاصة لا علاقة لها بالتعصب الديني، وإنما أراد إن يكون متعصباً للإيمان بالروح وبالله، وبما يعطيه هذا الإيمان من حوافز تجعل الإنسان بعيداً عن حسابات الربح والخسارة بمعناها المادي إلى حسابات الربح والخسارة بمعناها الروحي.

فمن مجمل منهجه المعرفي نكتشف أن ما كان يستند إليه البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث ثابتان، وهما: الإيمان بالله إيماناً معللاً، والإيمان بالشعور القومي العربي من دون أي تعليل أو برهان.

وإذا تتبّعنا كتاباته وأحاديثه وخطاباته التي يتمظهر من خلالها البعد الإيماني وصولاً إلى وصيته التي أذيعت بعد وفاته في العام 1989م، لا نجد فيها ما هو متغيِّر عن كل ما رسمه من ثوابت سابقة. لكن ما نجده من المتغيرات لا يتجاوز، على الإطلاق، بعضاً من العبارات التي لا يستطيع أن يُطلق شحنات وجدانية يختزنها إلاَّ بمثلها. ومن أشهرها نقتطع البعض منها، وهي: «العروبة جسد، روحها الإسلام»، و«وُلِد الإسلام في أرض العروبة ولكنه أصبح أباها»  ولأنها لا تصمد كثيراً أمام النقد العلمي، لأنها تخضع لتأويلات وتفسيرات متعددة، أغرت الكثيرين من الذين أرادوا أن يستندوا إليها في جرَّ حزب البعث العربي الاشتراكي نحو الدائرة الدينية على حساب العروبة والقومية.

تناسى الذين وقعوا أسرى إغراء تلك العبارات بأنها لا توحي بأي موقف علمي واضح، ففصلوها عن البنيان الفكري الثابت لمؤسس البعث، فدعوا البعثيين لأن يتابعوا خطى مؤسس البعث إلى الأخذ بالإسلام كاملاً. وهم إنما وقعوا بمثل تلك الإغراءات لأنهم فصلوها عن الثوابت الفكرية لمؤسس البعث ولفكر حزب البعث أيضاً.

ومن أهم تلك الثوابت، نذكر بعضها لضرورة البرهان، ومن أهمها:

إن العروبة ثابت أما الدين فمتغير، وإذا كان مؤسس البعث قد أعطى للإسلام أرجحية في تطور واقع العروبة، إلاَّ أنه لا يعني أنه يعمل من أجل بناء دولة دينية. وهو لو أعطى للدين موقعه كثابت في فكر البعث لكان من الواجب أن يلغي اعترافه بحرية الاعتقاد الديني للعرب. فلو انتمى العربي إلى أي دين يؤمن به، فهذا لن يلغي أن يبقى عربياً. أما لو اختار العربي غير العروبة فهو سبب كاف لأن يفقد هويته العربية. فتغيير الدين، إذاً، لا يلغي الهوية القومية. وهذا ما يؤكد على أن القومية ثابت في فكر مؤسس البعث، كما هو ثابت في فكر الحزب الذي أسسه. أما الدين فهو متغير له علاقة باتجاهات القناعات الروحية الغيبية لكل عربي.

فلو غيَّر مؤسس البعث دينه فهو إنما يمارس حقه في حرية الاعتقاد، وهذا ما لا يجب أن يصيب العلمانيين بالإحباط لأنهم هم أنفسهم يدافعون عن حرية الاعتقاد الديني. وهو لا يجب أن يدفع الإسلاميين إلى إصدار نعوة بموت الفكر القومي، كذريعة يدعون فيها إلى صلاحية الفكر الديني على قاعدة التعصب والانحياز إلى جانب دين دون الآخر. وليس على المسيحيين أن يخافوا من ذلك الإعلان، لأن بناء التشريع القومي يحفظ لهم حقوقهم كاملة في الاعتقاد الديني من جهة ويحفظ لهم حقوقهم السياسية على قدم المساواة مع كل الأديان الأخرى من جهة أخرى.

ولكي نفهم البُعد الإيماني، الذي كان مميزاً لفكر مؤسس البعث، لا بُدَّ من أن نستذكر معاني ودلالات ما يحصل في كل من العراق وفلسطين ولبنان.

ففي العراق أعطى البعث، بقيادة الرئيس صدام حسين، أنموذجاً واضحاً عن البعد الإيماني الذي أرساه عفلق. فلو كانت حسابات البعث في العراق تستند إلى حسابات موازين القوى لكان على العراق أن يتراجع عن معركته ضد أميركا والصهيونية أعتى قوى الإمبريالية الحديثة.

وما يحصل في فلسطين، التي يتحدى فيها الحجر ترسانة الأسلحة الصهيونية، لا علاقة له أيضاً بحسابات موازين القوى. وما حصل في لبنان، الذي حقق نصراً على ترسانة الصهيونية، لا علاقة له أيضاً بحساب موازين القوى.

ثلاثة تجارب عربية معاصرة، يقوم بأودها بشر لا يمتلكون من موازين القوى إلاَّ الشيء اليسير، وعلى الرغم من كل ذلك فهم يحققون النصر أو يسير بعضهم على طريقه. فلا بد من أن نتساءل: ما هي العوامل التي تلعب دوراً في تحريض هؤلاء العرب على خوض معركة لا تتكافأ فيها القوى؟

ليس هناك من عامل إلاَّ عامل الإيمان بعدالة القضايا التي يقاتل من أجلها العراقيون والفلسطينيون واللبنانيون. ولما آمنوا بقضاياهم استبعدوا كل حسابات العقل الرياضي، وانتصر عندهم الإيمان. ولكن يجب أن لا يتبادر إلى الذهن فوراً أن للإيمان جانب واحد هو الإيمان بدين بعينه أو بمذهب بعينه، لأن الذين يقاتلون على تلك الساحات ليسوا من المحسوبين على هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، بل يجمع جميع المؤمنين بعدالة قضاياهم فمحضوها الحب فطلبوا الموت من أجل انتصارها. فمهما تعددت الأبعاد الإيمانية بالدين أو بالمذاهب، يبقى الإيمان بالقضية القومية أو الوطنية جامعاً لكل المناضلين.

 

ليست هناك تعليقات: