السبت، مايو 02، 2015

دراسات قديمة عن ميشيل عفلق أنشرها لأول مرة (2/ 2)


البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث

دراسات قديمة عن ميشيل عفلق أنشرها لأول مرة

(2/ 2)

كُتبت في ذكرى رحيل مؤسس البعث: من الأرشيف الخاص الذي يعود تاريخه إلى ما قبل العام 2003.

البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث

أولاً: مقدمات نظرية حول العلاقة بين المنهجين المعرفيين الإيماني والعقلي.

1- تعريف المفهوم الإيماني ومساحة التمايز بينه وبين العقل.

2- العلاقة بين الإيمان والعقل.

3- الإيمان الروحي بالمنهج المعرفي.

‏ثانياً: واقع البينة الفكرية والسياسية في الوطن العربي وتأثيراتها على تكوين ‏منهج عفلق المعرفي.

‏ثالثاً: تحديد ملامح المنهج المعرفي عند ميشيل عفلق.

1- البعد الإيماني عند مؤسس البعث من خلال كتاباته الأدبية.

2- علاقة بعد المنهج الإيماني عند عفلق بالإسلام:

أ- الإسلام حركة ثورية عربية ذات خصائص عربية وذات عمق إنساني.  

‏ب- الإسلام عام وخالد، لكنه ليس شاملاً وليس جامداً.

ج-  تأثيرات قوة الإسلام الروحية في العرب، في المرحلة الراهنة، وزخمها.

3-  حدود العلاقة بين العروبة والإسلام في فكر مؤسس البعث.

‏رابعاً: المقاربة بين منهج عفلق الإيماني وقضايا الأمة العربية الراهنة.  

‏خامساً: خاتمة البحث

‏***

كثيراً ما التبست، في أذهان الكثيرين، مسألة إعلان أعظم مؤسس البعث بعد وفاته. ‏وسرت التفسيرات والتأويلات شتى السبل.  ‏والكل يريد ان يعرف الأهداف ‏من وراء ذلك الإعلان.

‏وبوضوح أكثر أحبط الإعلان أمال العلمانيين، ‏ولم يأخذ الإسلاميون الموضوع  على محمل الجد، وجنحوا بتفسيراتهم إلى نعى الفكر القومي،  ‏الذي كأنه أعلن إفلاسه بعد إعلان إسلام مؤسس البعث.  ‏وشعر المسيحيون بالأسى، وعادت إلى ‏أذهانهم صورة ارتباط هوية العرب بالإسلام، وكأن العروبة للمسلمين وحدهم،  ‏وعادت صورة الماضي العثماني إلى أذهانهم عندما كان العرف السائد لا يميز ‏آنذاك بين العربي والمسلم.

دفعنا ذلك اللبس إلى ان نتتبع الإشكالية في هذه الندوة لكي نقدم حافزاً أمام ‏الباحثين ليولوا هذه المسألة الاهتمام الكافي ويبذلوا من اجلها الجهود التي تزيل كل لبس لحق بالبعد الإيماني عند المرحوم احمد ميشيل عفلق مؤسس حزب ‏البعث العربي الاشتراكي.

أولاً: مقدمات نظرية حول العلاقة بين المنهجين المعرفين الإيماني والعقلي.

1- تعريف المفهوم الإيماني ومساحة التمايز بينه وبين العقل.

‏الإيمان هو (التصديق بالقلب.. والعقل) ومن معانيه (تسليم النفس بالشيء تسليماً راسخاً لا تقل قوته من الناحية الذاتية عن قوة اليقين. ‏والفرق بينه وبين اليقين، ان اليقين مستند إلى أسباب موضوعة، في حين ان الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية)([1]) .

‏أما الإيمان في الشرح فهو (الخضوع والقبول للشريعة، ولما أتى به النبي)([2]).

2- العلاقة بين الإيمان والعقل

‏يرجع مصطلح العقل: (إلى وقار الإنسان وهيبته)، وهى هيبة محمودة للإنسان في كلامه وسلوكه. ‏ويراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية. ‏وهو قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها ونقصها.

أما الفلاسفة فيرون ان العقل (جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها). وهو قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا والأقيسة. والفرق بينه وبين الحس ان العقل يستطيع ان يجرد الصورة عن المادة، وتدرك المعاني الكلية كالعلة والمعلول، والغاية والوسيلة... ‏وهو (قوة الإصابة في الحكم)، أي تمييز الحق من الباطل ..‏وهو لا يلقي، على الإطلاق، شيئاً على انه حق، ما لم يتبين ببداهة العقل انه كذلك.  ‏وهو مجموع المبادئ القبلية المنظمة للمعرفة كمبدأ عد‏م التناقض ... ‏وهو قوة طبيعية للنفس متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية، وهذه المعرفة مختلفة عن المعرفة الدينية المستندة إلى الوحي والإيمان([3]). فالعقلي هو المنطقي والنظري. والحياة العقلية في علم النفس مقابلة للحياة الانفعالية أو الوجدانية. ‏والقيم العقلية مقابلة للقيم الأخلاقية أو الفنية([4]).

3- علاقة الإيمان الروحي بالمنهج المعرفي

‏ليست إشكالية الاشتباك بين مناهج المعرفة جديدة، بل هي مسألة قديمة قدم ‏تاريخ بدء العمل فيها فيعود إلى العصور التي بدأ فيها العقل الإنساني يلعب دوره في مواجهة الوجه الميتافيزيقي للمعرفة، أي منذ أخذ العقل النقدي يأخذ دوره في  نقد الفكر الديني. فعرف أولى محاولاته الجدية على أيدي المفكرين المسلمين والعرب، وانتقل حتى بلغ ذروته في مرحلة بناء العقل الفلسفي الأوربي، الذي بدأ يشق طريقه لينتقل من عصر الإيمان ويتخذ طريقه نحو النضج منذ العصر ‏الوسيط في القرن الخامس عشر الميلادي، ‏وبه انشغل الفكر الفلسفي بمرحلة التوفيق بين العقل والنقل، بين منهج الإيمان ومنهج الفكر العلمي. ‏وانعتق الفكر الأ‏وروبي في عصر النهضة من قيود مقولات الفكر القديم،  ‏إلى ان وصل في عصر التنوير إلى مرحلة بناء أنسقة فلسفية متكاملة، واستخدام المناهج العلمية في البحث([5]).

‏ولان الا‏يمان كان يعني، تقليدياً، ‏انه مختص بالدين، أي بالمسائل الميتافيزيقية، والعقل كان يعني، أيضاً، الفكر الفلسفي، سنستعرض بإيجاز ما هو المقصود بهذين المصطلحين:

‏كان النساك المسيحيون يرون ان تسويغ العقيدة بحجج العقل، ان هو إلا إسراف غير مفيد لوقت ثمين، فمن الأفضل ان يبحث،  ‏عند تأمل الكتاب المقدس، عن غذاء أخلاقي معنوي يغذي الروح([6]).  ‏وحول هذه المسألة يقول القديس أغسطين: (لست أسعى للفهم لكي اعتقد، بل ان اعتقد لكي أفهم)([7]).

‏ولما اشتد الضغط الفلسفي على نقد الكنيسة والفكر الديني، ‏وجد بعض اللاهوتيين أنفسهم يخوضون غمار الدفاع  عن الإيمان الديني بأسلحة العقل نفسه.  ‏وكان من أهم أولئك المدافعين توماس الاكويني، ‏الذي كأنه يقلد طريقة الأشعري والغزالي في الرد على الفلسفة تحت شعار الرد على الفلاسفة بأسلحتهم([8]).  ‏فيكون الاكويني قد رفع العقل فوق الإرادة والفهم فوق الحب([9])؛ ولهذا السبب عده مرسوم للبابا يوحنا الحادي والعشرين خارجاً على الدين([10]).

‏كان الفكر الإسلامي، بعد ان انتقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية، ومع انتشار موجة إعطاء العقل حقه في البرهان في مسائل المعتقدات الإسلامية، خاض النقليون الإسلاميون صراعات ضد موجة التفلسف الجديدة، ذلك الصراع الذي قاد الغزالي إلى الدفاع عن الإيمان الديني باستخدام أسلحة الفلاسفة. ‏وعمل على أساس ان يضع قواعد للبعد الإيماني في مواجهة العقل فتوصل إلى نتائج دفعته إلى الدفاع عن الحدس الصوفي كطريق إيماني بديل للعقل.

‏لم تتوقف صراعات تحديد مناهج المعرفة، بين العقل الفلسفي والإيمان الديني، عند حدود عصر معين، ‏بل تواصلت إلى القرن العشرين الميلادي، وتوصل بعض فلاسفة الغرب إلى وضع قواعد جديدة في الحدس لكي يبرهنوا من خلالها على ارجحية البعد الإيماني في صياغة مناهج معرفية تسهم في إنتاج معارف جديدة للبشرية وان تكون موثقة النتائج أكثر من جمود البرهان العقلي والمنطقي فكان برغسون، الفيلسوف الفرنسي، من أهم من مثَّل ذلك التيار.

‏عمل برغسون على وضع أسس للحدس يدافع بواسطتها عن منهج المعرفة الإ‏يمانية كبديل للمعرفة البرهانية القائمة على العقل. وهنا رأى برغسون ضالته ‏المنهجية في البطل والبطولة. ‏فعد البطل مثالاً للمتميزين منهم، أولئك الذين يصلون إلى أهدافهم في المعرفة الإنسانية من خلال مبادئ الأخلاق المؤسسة على الوعي؛ فيرى ان كل أخلاق بطولية لا يمكن ان تنال كفايتها بواسطة العقل، لأنه وحساباته غالباً ما يوقعان الأخلاق في المنفعة المباشرة أو غير المباشرة. اما أخلاق البطولة فلا يمكن ان تصدر إلا عن حالة روحية تعيش جواً انفعالياً يعيشه الفرد المتميز، ويسري في نفوس الناس سريان النار في الهشيم.

‏لا يمكن -كما نحسب- لمنهج معرفي واحد ان يحتكر حقيقة الوصول إلى المعرفة عن طريقه وحده. ‏لان هذا الادعاء يقود إلى تحويل الإنسان إلى كتلة واضحة سهلة الفهم غير معقدة. ‏بينما المخلوق البشري هو عبارة عن موجود مركب لم تستطع كل المناهج المعرفية السابقة ان تحدده تحديداً دقيقاً. ‏وقد وقعت المناهج المعرفية، سواء كانت ذات أبعاد إيمانية أم إبعاد برهانية عقلية، في التعسف عندما ادعت ان منهجاً معرفياً واحداً يستطيع ان يضع للكائن البشري تفسيراً من خلال تناوله من جانب واحد: سواء كان الجانب مادياً أم روحياً.

‏من ضحايا تلك الادعاءات وقعت الماركسية، كإحدى أهم الفلسفات المادية، فريسة من فرائسها عندما أقامت هيكلها المعرفي على أساس جانب وحيد هو الجانب المادي. ووقعت الادعاءات الدينية فريسة أخرى عندها حسبت ان الجانب الإيماني الروحي هو الهيكل المعرفي وحيد الجانب الذي يستطيع ان يفسر كينونة الإنسان.

‏لابد من ان نعترف للمنهجين: المادي والروحي، بدوريهما المتكاملين في تكوين مناهج معرفية تساعد الإنسان، ذلك الكائن المركب، على اكتساب المعارف ‏الضرورية التي تساعده على تخطيط وسائل الوصول إلى سعادته في جانبيها: المادي والروحي.

 

ثانياً: واقع البيئة الفكرية والسياسية في الوطن العربي

وتأثيراتها في تكوين منهج عفلق المعرفي

بما لا يقبل الشك، للفكر علاقة وثيقة مع البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يولد فيها. ويكتسب أسسه من خلال نقد ما هو قائم أولاً، ومن خلال وضع أسس معرفية جديدة تجهد من أجل وضع حلول لتغيير الواقع المعاش ثانياً.

‏عاش عفلق في بيئة سياسية واجتماعية وفكرية عامرة بالمشاكل من شتى الأنواع من جهة، وفي بينة فكرية تسودها اتجاهات فكرية متناقضة ومتباعدة ومتصارعة من جهة أخرى.

أما البيئة الاجتماعية فكانت وليدة عصور تركية طويلة من التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ومن الإلحاق السياسي بنظام عثماني لم تكن له علاقة ‏بمعاني الإنسانية ولم يكن يهتم بمصلحة الرعايا التابعين له. ‏ولما انهار بنيانه كان ورثته من الاستعماريين الغربيين الذين كانوا يفتشون عن أسواق لمنتجاتهم. فلم يكن تغيير الأنظمة السياسية يهتم بمصالح المواطنين، بل كان يسير من استغلال إلى استغلال، ومن سيئ إلى أسوأ.

‏في تلك المرحلة لم تكن طبقات الشعب، سواء منها النخبوية أم الشعبية تمتلك مشروعاً نهضوياًَ، أو جزءاً من مشروع لكي تواجه بواسطته متغيرات المرحلة الجديدة فانقسمت النخب العربية إلى تيارات فكرية وسياسية ثلاث، وهي: التيار الإسلامي الذي كان يعمل من اجل إعادة الخلافة الإسلامية على قاعدة (لا يصلح الخلف إلا بما صلح به السلف). ‏وتيار ماركسي منبهر بالفلسفة الماركسية، خاصة في ما له علاقة بالاشتراكية القائمة على صراع الطبقات، وعززت عوامل الانبهار إفرازات الماركسية السياسية في روسيا بعد ان استولى الحزب الشيوعي على السلطة فيها. ‏وكانت التيارات القومية العربية تجهد من اجل وضع نظريات تعتبر ضرورية في أن تكون للعرب نظرية قومية ترشدهم إلى معالجة ما هم مصابون به من علل وأمراض، لكن تلك التيارات كانت تحاول ان تقلد نظريات أوروبا في القومية.

‏واجه عفلق، في مراحل وعيه المبكرة، سلفيتين: دينية إسلامية تعمل لإعادة التاريخ إلى الوراء، وسلفية ماركسية تعمل من اجل نقل مناهج معرفية وسياسية وضعها فلاسفة غربيون تلائم أمراض الغرب. وواجه نظريات في القومية العربية تعيش في أبراجها النظرية النخبوية، وحسب أن تلك النظيرات لن تستطيع ان تحفر في أسس التغيير ما لم تتحول إلى نظريات تشترك في تطبيقها قاعد‏ة واسعة من البنى البشرية العربية التحتية.

‏لقد أسهمت البيئة الفكرية والسياسية في بناء منهج عفلق المعرفي، وعمقته، من خلال قيامه بنقد المنهجين الفكريين: الإسلامي السلفي والماركسي المادي. وان كانت لم تصدر عنه أية دراسات متكاملة عن هذين المؤثرين، اللذين أسهما في انحيازه إلى منهجه المعرفي الذي تميز به، إلا ان الباحث المتابع يجد نقده لآرائهما موزعة هنا وهناك في كتاباته وخطبه وأحاديثه في مختلف مراحل حياته.

‏فقد أخذ على الماركسية جمودها النظري، ومنهجها الغريب عن البيئة العربية، وعلميتها التي استندت إلى وقائع غربية متميزة عن الواقع العربي، وجفافها الذي لا يتوافق مع حرارة الروح والإيمان، واخذ على الإسلاميين أنهم جمدوا تعاليم الإسلام ولم يطوروها وحولوا الطاقة الثورية التي للإسلام إلى طقوس وتعاليم لها علاقة بالغيب والسطحية، فأخذوا من الإسلام الطقس والعبادة ‏السطحية وأهملوا الجانب الروحي الثوري فيه. ‏وأخذ على النظريات القومية السابقة لنظريته أنها أسرت القومية في أبراج النخبة ولم تجهد نفسها لتحويلها إلى نظرية تظهر مصلحة الجماهير المسحوقة في العمل لأجلها.

ولأنه لا يمكن لأية نظرية ان تكون عملية وصالحة إذا لم تقترن بطاقة روحية فاعلة نزرع الحوافز عند الجماهير الواسعة للعمل من اجلها، أولاً، وترتبط بمصلحة اكبر قاعدة شعبية ثانياً.

‏ولأن الإسلام كان مثالاً تاريخياً بارزاً في التاريخ العربي، وكان يتميز بطاقة روحية كبيرة أصاب نجاحاً كبيراً في عملية التغير في البنى الفكرية والحضارية العربية، ولان الإسلام يعد ثقافة أوسع القطاعات الشعبية العربية، أصبح يمتلك شرطين أساسيين في قيادة الصراع ضد عوامل التخلف وقوى الاستغلال وهما: طاقة الاسلام الروحية ونجاحه الثوري في التاريخ من جهة، وهو ثقافة أساسية للجماهير التي يعتمد عليها في رفد الثورة الجديدة المعاصرة من جهة أخرى.

هذه الأسباب مجتمعة أسهمت في بناء المنهج المعرفي الإيماني عند عفلق.  وقد اشتركت عوامل عدة في بناء المنهج المعرفي عند عفلق:

‏-الأول: منهجه في الرؤية الفلسفية الإنسانية القائم على القاعدة الإيمانية.

-الثاني: نقده المنهج الإيماني الساذج والسطحي عند الإسلاميين.

- الثالث: نقده المنهج المادي عند الماركسيين.

‏-الرابع: حاجته في التغيير إلى عوامل لابد من ان تتوفر في الثورة التي يدعو إليها، وهي قوة روحية تمتلك حرارة الإيمان وعمق التجربة وخصوصيتها، فكان الإسلام هو تلك القوة الروحية التي أثبتت جدارتها وخصوصيتها في التاريخ العربي.

 

ثالثاً: تحديد ملامح المنهج المعرفي عند ميشيل عفلق

إن اكتشاف المنهج المعرفي عند أية شخصية لها دور بارز على صعيد الإسهام في إغناء المعرفة الإنسانية مسألة ضرورية، لان دراستها ومعرفة أصولها وتأثيراتها ذات فائدة كبرى على صعيد تطوير مناهجنا المعرفية، وتأتي أهميتها، بشكل خاص، إذا كان منهج معرفي ما قد أسهم بشكل ايجابي في تطوير وتغيير الأوضاع الفاسدة التي يعانيها المجتمع البشري، بشكل عام، أو التي يعانيها شعب ما من الشعوب بشكل خاص.

‏ولان لمؤسس البعث تأثير عميق في دورة الحياة العربية المعاصرة فكان لا بد من ان نبحث عن أصول منهجه المعرفي الذي من خلال استخدامه اثر تأثيراً عميقاً في مجرى حياة الحزب الذي أسسه بشكل خاص، وفي مجرى حياة الأمة العربية بشكل عام. ولعلنا من خلال تأصيلنا لمنهجه المعرفي نستطيع ان نجد ‏تفسيرات واضحة للإشكالية التي أثارها إعلان انتمائه روحياً إلى الدين الإسلامي.

‏بداية، عدنا إلى كتابات مؤسس البعث الأولى لعلنا، من خلالها، نصل إلى ‏ما يساعدنا على التأصيل. ‏لكننا نرى أيضاً ان ما كان بالإمكان ان يسهم في عملية البحث هو العودة إلى البدايات الشخصية في حياته الخاصة، وكذلك العودة إلى معرفة  البيئة الفكرية والسياسية التي لا شك في أنها أدت دوراً تأسيسياً في بناء ‏منهجه المعرفي. ‏ولأننا نلمح مسحة واضحة من الروح والوجدانية في كل زوايا ‏أثاره وكتاباته،  ‏كان لابد لنا من ان نتتبع تلك المسحات الواضحة من خلال نماذج من كتاباته في مراحل زمنية متفاوتة.

1- البعد الإيماني عند مؤسس البعث من خلال كتاباته الأدبية:

‏لان مؤسس البعث بدأ حياته في كتابات عدها بعضهم بالكتابات الأدبية كان لابد من ان نعود إليها لكي نتتبع ماله علاقة في تحديد منهجه المعرفي.  ‏ولو عدنا إلى ما نشره في مراحل مبكرة من حياته لوجدنا ما يلي:

نشعر في كتابات مؤسس البعث الأولى بموقفه السلبي من العقل والعقلاء والمنطق والمناطقة وإذا ما حاولنا أن نتلمس أسباب هذا الموقف لوجدنا ان مصطلحاته (العقل) و(العقلاء)، (الحكمة) و(الحكماء) مرتبطة بالمعاني التالية: الضعف، كما يستخدمه العقلاء، أصبح (عقلا)؟ والجبانة أصبحت (حكمة)،  ومن مواصفات (العقل) ان (تزن كل حركة تهم بها حتى تقتلها في صدرك.  ‏وبذلك فقد (العقلاء) في مصطلح مؤسس البعث (حرارة الدم، وتعطلت فيهم حوافز الحياة)([11]). ‏تلك النتائج كانت ظلالاً لأفعال وممارسات تصدر عن (عقلاء) ذلك العصر و(حكمائه). ‏تلك الظلال ظهرت في مقالات عفلق على شكل ان الجدل والإقناع هما (حيلة العاجزين)، واختيارهم (الهدوء على النضال)([12]).  

‏لم يقف عفلق موقف الناقد للنخبة في المرحلة التي يكتب عنها، بل تصور ان البديل (لعقلائها) و(حكمائها) موجود في المثال الأعلى، الذي هو (البطل الذي لا يحب الحياة فحسب بل يحترمها،  ‏ولا يشتم القدر بل يحاربه، ولا يخاف الفشل بل يرى فيه سر بطولته.. مرتلا نشيد الظفر)([13]).

‏أستند المنهج الفكري لمؤسس البعث، في كتاباته الأولى، إلى الإيمان بقضية الأمة العربية، وأحس بحدسه ان تلك القضية عادلة، ولم ينتظر أن يترجم حديه إلى يقين  ‏عقلي، بل وجد في انتظار الوصول إليه مضيعة للوقت.  ‏فكان يكفيه انه آمن بتلك القضية وبعدالتها من دون أي برهان عقلي أو منطقي، لأنه لا يجوز للمتألم ان يبرهن علي ألمه بأي برهان عقلي أو  منطقي لان الأ‏لم هو برهان أكثر من كاف. ‏زرعت معرفته الإيمانية لقضية أمته في نفسه حباً لتلك القضية، ‏ولم ‏يجد حلاً إلا في ان تكون حرارة الإيمان بها عالية لتصل إلى درجة الغليان القصوى، ولهذا وقف من (عقلاء) المرحلة و(حكمائها) موقفاً سلبياً لأنهم حاولوا ان يبرهنوا على وجود الألم، بينما المتألم ليس بحاجة إلى الإتيان ببرهان ليبرهن من خلاله عن ألمه.

قد يكون فهمه لقضيته، من خلال منهجه المعرفي صائباً ودليل صوابيته أنه استقطب كثيراً من الأنصار والمؤيدين، وهذا مؤشر على نوعية البيئة الفكرية التي كان عنصر الشباب يحياها في الثلاثينات من القرن العشرين.

‏لم تكن الأجيال الشابة تفتقد الإحساس بعدالة قضيتها، وإنما كانت تنتظر من يقودها إلى العمل من اجلها. ‏والعمل من اجل قضية يحتاج إلى وقود روحي يؤجج حرارة الإيمان بها. ولما كان عفلق قد اطلع على تجارب الأوربيين في مراحل تحررهم، واكتنز رصيداً ثقافياً كبيراً من كتابات فلاسفتهم وثورييهم، فتأثر  بها وعمل على مقاربتها من خصوصيات الواقع العربي، فنشأت لديه وسائل منهجية معرفية اختبرها من خلال كتاباته الأدبية في الثلاثينات من القرن العشرين، ولما أصاب تأثيرها نجاحاً بين الشباب، خاصة وانه كان من الذين مارسوا مهنة التعليم في الصفوف الثانوية، خطا عفلق خطواته الأولى في صياغة معالم ثورة عربية جديدة.

لهذا نجده في مقالة (ثروة الحياة) يفتش عن السبب الذي يحول بين الشباب السوري والثورة فيجده كامناً في عجز الحركات والنخب السياسية والفكرية عن الإفصاح عن فكرها بوضوح وبطريقة سهلة على إفهام الشباب، فأين نراه يجد ضالته؟

‏وجد أنه من حق الذين لم يهتدوا إلى الطريق الثوري أن يعرفوا فضائل المشروع الثوري الجديد. ولا تقف مضامين ذلك المشروع عند فوائده المادية إذا ما أصاب النجاح، ولكنه يراه في تنمية الحياة في نفوس الشباب أولاً وقبل أي شيء آخر. فالاشتراكية، مثلاً، كأهم مبادئ العدالة الاقتصادية بين البشر لا يمكن أن تعني  تساوي الناس في توزيع الطعام فحسب، فهي، أيضاً كما يراها مؤسس البعث ليست واسطة (لإشباع الجياع).. (ولا يهمه) الجائع لمجرد كونه جائعاً، بل للممكنات الموجودة فيه، التي يحول الجوع  دون ظهورها ... وينصرف إلى القيام بوظيفته الإنسانية).  ‏وإذا سئل عفلق عن تعريفه للاشتراكية فهو لا يراها في نظريات ماركس الجافة، ولكنها (دين الحياة وظفر الحياة على الموت)([14]).

يعطي عفلق للروح أهمية كبرى في الوصول إلى المعرفة وللعمق والغني الروحي اثر (غير قليل في تجنب التفكير السياسي والاجتماعي خطر السطحية وخطر الابتعاد عن طبيعة النفس الإنسانية وحقيقة متطلباتها). وان الفاقدين ‏للتراث الروحي يصبحون (عرضة للشطط والخطأ الفظيع في الاتجاهات، لان تفكيرهم يكون مجرداً، ‏رياضياً، وتنطلي عليهم سفسطات المنطق الصوري ‏الجامد).

‏خلقت مطالعات عفلق، عن أصول الفلسفة القومية، في نفسه خميرة أدبية ‏فلسفية، فجاءته الفكرة، من جراء ذلك (على مستوى إنساني لأعلى مستوى قومي خاص) ومن فهمه للإنسانية اكتشف الحقيقة القومية بشكل عام، وبالتالي حقيقة القومية العربية بشكل خاص. ‏وتمثل الحقيقة القومية مكانة مشروعة بين الحقائق الإنسانية الخالدة، التي لا يمكن ان تتعارض مع الاتجاه الإنساني([15]).

 ‏انطلق عفلق بداية من رؤية فلسفية تستند إلى أساس إنساني عام، بحيث أحب ‏الإنسان بعيداً عن جنسه ولونه ودينه. وكانت رؤيته الفلسفية تستند إلى عمق روحي يتميز بالعمق والغنى وهما يجنبان التفكير السياسي والاجتماعي السطحية. ‏فمن شروط منهج المعرفة عنده ان لا تكون جامدة كجمود البرهان ‏المنطقي أو الرياضي.

‏وكأن وصف عفلق للبرهان المنطقي بالجمود جاء لكي يعزز من دور الروح ‏في اكتساب المعرفة أولاً. لكن هذا لا يعنى ان تكون أهداف البرهان المنطقي ‏والعقلي محبة في التجريد فقط لكن وصفهما بالسفسطة ليس حكماً دقيقاً. لان من أهداف الوصول إلى اكتشاف المعارف الإنسانية الجديدة. وإذا كنا ننقد عفلق حول إعطائه وجهاً واحداً لمناهج المعرفة، فان ذلك لا يجعلنا ننكر دور العمق الفلسفي الإيماني في تنمية المعارف الإنسانية، لأن منهج المعرفة الإيمانية وجه من وجوه عديدة تعمل على تنمية المعارف الإنسانية. فهناك قضايا ذات علاقة بالنفس الإنسانية لا يمكن الوصول  إليها من خلال معادلات برهانية ورياضية، كما ان هناك قضايا ذات علاقة بالمعادلات العقلية والرياضة لا يمكن الوصول إليها من خلال  مناهج المعرفة الإيمانية. ‏ولكي لا تقع في التعسف علينا ان لا نسجن المعرفة في منهج واحد كما فعلت الماركسية عندما أسرت المعرفة بين أسوار المادية فقط. وعلينا أن لا نأسر المعرفة بين أسوار منهج المعرفة الإيمانية لوحده.

2- علاقة بعد المنهج الإيماني عند عفلق بالإسلام.

بدءاً من العام 1943م، حدد عفلق منهجه المعرفي الإيماني مع الإسلام وسنقوم بدراسة تلك العلاقة من خلال نصين أساسيين من نصوصه:

- النص الأول: (في ذكرى الرسول العربي) وهو عنوان الخطاب الذي ألقاه، في العام 1943م، على مدرج جامعة دمشق.

- النص الثاني: ويتمثل بوصيته التي كتبها في العام 1979م. ولأنه توفي بعد ‏كتابتها بتسعة عشر عاماً - ولم يعدل أي حرف من حروفها فإننا نعدها النص الأخير الذي نستند دليلاً في محاولة دراسة البعد الإيماني في فكره.

‏ففي النص الأول، أي في خطابه (في ذكرى الرسول العربي) يحدد مؤسس البعث ثوابت لرؤية الواقع العربي في المرحلة التي كان يناضل فيها، وهي:

‏أ- يشكو العرب من شخصية مجزأة بين القول والعمل من جهة، والتناقض بين الماضي المجيد والحاضر المعيب من جهة أخرى. ومن اجل إزالة التناقض على العرب ان يعيدوا الشخصية العربية إلى وحدتها من خلال اتحاد (الصلاة مع العقل النير) مع الساعد المفتول. ولأن العرب ينتسبون إلى أمة مجيدة عليهم ان يصلوا بين التاريخ الحديث والتاريخ المجيد.

‏وهنا نرى من اللازم ان نعرف كيف يحدد مؤسس البعث اتحاد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول من جهة،  وكيف يعرف التاريخ المجيد من جهة أخرى.

‏يقول مؤسس البعث (ظللنا زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق، لأنه كاذب، خلاف بين الفكر والعمل، وبين اللسان والقلب)([16]). ولأنه يمر في نص الخطاب تعبيران، يبدو من ظاهريهما انهما متناقضان وهما: (التاريخ المجيد) مع (الزمن العربي الخانق)؛ مما يدفعنا إلى معرفة من أين ابتدأ التاريخ المجيد وأين انتهى؟ ومتى ابتدأ (الزمن الخانق) وأين انتهى؟

يحدد عفلق التاريخ المجيد، وكما يعبر عنه تماماً في الخطاب نفسه، هو الماضي الذي يسبق زمن التراجع الطويل. وهذا الماضي المجيد هو (حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم)([17]). وتحديداً، مرحلة (البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة)([18]). كانت تلك المرحلة غنية جداً،  ولأنها كذلك، فهي ممكنة التجدد (في روحها، لا في شكلها وحروفها)([19]). أما ماذا ‏يقصد عفلق بروح التجربة؟ وماذا يقصد بحروفها وشكلها؟

أما حول روح التجربة، فنستنتج من النص انها تتمثل بما يلي:

- إنسانية تفيض على الأمم الأخرى فكراً وعملاً، فتصبح شاملة.

- أخلاقية تربط روح التجربة العملية بالتجربة الأخلاقية النظرية.

- عملية تكون من القوة بحيث تثمر الفتوح والحضارة.

- عربية بأرضها، ولغتها، برسولها، وإتباعها، ونهجها العقلي، وفضائلها، وعيوبها.

- قومية إنسانية، لكنها ليست شاملة ولا جامدة.

‏ونتساءل: كيف أفاد العرب من روح التجربة؟ ونجد أجوبة عفلق ماثلة في ما يلي:

قبل ان يفتح العرب الأرض ويحكموا الأمم، فتحوا أنفسهم ،وحكموا ذاتهم. ولأنهم فهموا حقيقة الإسلام، كتجربة روحية دافعة للتطور والتغيير، وحقيقة الإسلام هي في منع سيطرة المادة على الروح، والمظهر على الجوهر أولاً؛ وثانياً هي ملحمة يحققها  المسلم، بما يقوم به من (تبشير)،  وبما يواجهه من (اضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل)، إلى أن يصل إلى خواتيم (الظفر النهائي للحق والإيمان)([20]).

‏أما حول ما يعنيه من (حروف التجربة وشكله) فنستطيع ان نصل إلى الاستنتاجات التالية:

‏أ-الإسلام حركة ثورية عربية ذات خصائص عربية وذات عمق إنساني:

- أن لا تتم دراسة تجربة الرسول من خلال قراءة السيرة بسطحية، بل من خلال شعور عميق، الشعور الذي يضع البطولة في موقعها الصحيح، هو في تمثلها واكتسابها وتطبيقها. والمهمة ليست عسيرة أو مستحيلة في عصرنا الراهن، لأنها نجحت في تاريخ العرب، وكان رائدها محمد العربي([21]).

‏يعطى مؤسس البعث لتجربة الإسلام بقيادة الرسول عمقاً عربياً: فالأرض التي ولد عليها ارض عربية، والمزايا هي مزايا عربية، وبالتالي لنضج العرب كشرط لازم لقبول الرسالة وتبليغها. ‏وأراد الله أن يصل العرب إلى النجاح في التبشير بالرسالة ونشرها بجهدهم، أي ان يكون إيمانهم منبعثاً من نفوسهم. ‏(فالإسلام، إذا كان حركة عربية؛ وكان معناه: تجدد العروبة وتكاملها).  ‏كانت لغته عربية، وفهمه للأشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت عربية، والعيوب التي حاربها كانت عيوباً عربية. ‏فكان المسلم في ذلك الحين، عربياً لكنه كان (العربي الجديد والمتطور والمتكامل).  فكان الإسلام (يمثل وثبة العروبة إلى الوحدة و‏القوة والرقي)، ورسالته إنما كانت (خلق إنسانية عربية)([22]).

ولأن يقظة العرب القومية ارتبطت برسالة دينية، ولأن تلك الرسالة ذات آفاق  إنسانية، فلن يتحول العرب إلى قومية متعصبة. ولن يستطيعوا أداء واجبهم الإنساني إلا إذا كانوا أمة قوية([23]).

ب- الإسلام عام وخالد، لكنه ليس شاملاً وليس جامداً:

‏يرى مؤسس البعث أن (الإسلام عام وخالد، ولكن عموميته لا تعني انه يتسع، ‏في وقت واحد، لشتى المعاني والاتجاهات).  ‏ولا يعني خلوده أنه جامد لا يطرأ عليه تغيير، فهو (نسبي لزمان ومكان معينين). فلا يمكن للإسلام أن يكون (جراباً يسع كل شيء، ومعملاً ينتج شتى المركبات والأدوية)، بل من الممكن، ‏عندما نمنع أي تغيير فيه ان نفقده مميزاته الحية، ونتركه لكي يكون فريسة ‏لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر([24]).

ج- تأثيرات قوة الإسلام الروحية على العرب، في المرحلة الراهنة، وزخمها؟

‏يرى عفلق كيفية جديدة للإفادة من زخم الإسلام في الصراع الذي تخوضه الأمة العربية في المرحلة الراهنة، على الشكل التالي:

- توجيه (كل الجهود إلى تقوية العرب ... وان تحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية)([25]). ‏لان الغرب عندها اخذ يخاف من الإسلام، فلأنه بعث بمظهر جديد، هو القومية العربية، ولهذا السبب نراه يوجه كل أسلحته ضدها.  ‏يفعل ذلك في الوقت الذي يصادق فيه الشكل (العتيق للإسلام) الذي يقتصر علي (العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة) فعلى القوميين ان يبعثوا في الإسلام (معني خاصاً) إذا أرادوا ان يبقي للأمة العربية سبباً وجيهاً للبقاء([26]).

-  لذلك السبب يعلق عفلق كل الاهتمام (على الشعور القومي العميق الواعي، كونه أصلاً) ولان آلام العروبة، اليوم، عادت إلى أرض العرب، (فما أحراها بأن تبعث فينا، ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها)([27]).

‏- ولان القومية العربية هي الأصل، يرى عفلق، كردة فعل ضد النظريات المستوردة من الخارج (المدفوعة بالحقد على العروبة) أن العرب بحاجة إلى المؤمنين بالله، لأن العرب، اليوم هم بحاجة إلى الإيمان به. لكنه إيمان ليس مشروطاً بالعبادات التقليدية كالصلاة والصوم. فيكون الإيمان بالله بغير تقليد، فهو (الإيمان بالحق، وبضرورة ظفر الحق، وبضرورة السعي كيما يظفر الحق)([28]).

وبالعودة إلى النص الأخير، وصية مؤسس البعث التي كتبها قبل وفاته، نرى أنه قد أكد معظم ثوابته الإيمانية على الشكل التالي:

1- دعوة الماركسيين إلى إعادة النظر من مواقف الفكر الماركسي التقليدي من القومية.

2- جلاء الوجه الايجابي المبدع من قضية الدين. فالدين عند مؤسس البعث تراث عظيم للأمة العربية. ويدعو إلى تفهم الإسلام الحقيقي، وإعطاء الثورة العربية وجهها الإنساني.

3- ‏يعلن أن انتماءه إلى الإسلام كان عاطفياً من دون أي معنى ديني غيبي. ويرى ان الإسلام هو دعوة للعروبة والنضال.

4- يعلل إيمانه بالله، منذ كلمته في ذكرى الرسول العربي، في العام 1943م. ويستند تعليله إلى أن المناضل الصادق لا يمكن ان يستغني عن الإيمان به.

 

3- حدود العلاقة بين العروبة والإسلام في فكر مؤسس البعث:

‏ما بين مرحلتي النصين، أي منذ العام 1943م حتى العام 1979م نظرياً، والعام 1988م، عملياً، لم نجد أن مؤسس البعث قد أضاف إلى ثوابته شيئاً من التطوير أو الإضافات.

‏كانت تلك العبارات المفصولة عن مجمل كتابات مؤسس البعث، وعن مجمل ‏تراث الحزب، تغري بتفسيرات تكون أحياناً متناقضة ومتباينة ونحن نحذر كل من يريد ان يقوم بتفسير تلك العبارات، بعيداً عن البنيان الفكري العام لمنهج فكر المؤسس وفكر الحزب، من انه سيقع في خطأ منهجي يؤدي به للوصول إلى نتائج لابد من ان تكون خاطئة. ‏ونحن نرى ان تلك العبارات جاءت لتعبر عن الشحنة الوجدانية الكبيرة التي كانت تميز منهجه المعرفي، وإذا أخضعناه لمبضع البرهان العقلي أو المنطقي فسوف نجد فيها ثغرات من أهمها انها تغري قراءها وتقودهم إلى متاهات التفسيرات والتأويلات المتناقضة.

‏ولكي لا يقع القارئ بمطبات تأويل بعض أقوال مؤسس الحزب وتفسيرها عليه ان يربطها بمصدرين متلازمين ومتكاملين: أحاديثه ومقالاته وخطبه من جانب، ونصوص مؤتمرات الحزب وتعاميمه وتحليلاته من جانب أخر. ‏وان كان المصدر الأول هو ما يمثل وجهة نظره المباشرة، فالمصدر الثاني هو من المصادر التي ‏تمثل الأساس الذي أسهم في صياغته.

‏فمنعا للخلط وتزويج مالا يمكن تزويجه مع موقف مؤسس البعث من العلاقة ‏بين العروبة والإسلام لابد من ان نلفت النظر إلى الثوابت التالية:

1- يمثل الدين الجانب الروحي في تكوين الإنسان: فهو تعبير صادق عن إنسانيته([29])؛ والإنسان (فرد حر وجد لغاية سامية في هذه الحياة..  ‏لا يكفيه ولا يغنيه ان يأكل ويشبع)([30]). ‏لكن هذا الجانب لا يعنى ان تكون أخطاء واجتهادات رجال الدين وشطحاتهم المذهبية المتعصبة هو ما يمثل موقف عفلق من الدين، لأنه يعطي للمعنى الروحي الثوري مكانة مهمة في حياة البشر. فأخطاء رجال الدين، ومعنى الدين الخاص جعلا عفلق لا يقر ردات الفعل ضد حالات الجمود التي فرضها رجال الدين على الدين، ورفض لأن يقابل العربي التشويه بردة فعل تتجه نحو الإلحاد([31]).

2- كان عفلق يخوض صراعاً بين المادة والروح بأكثر منه صراعاً بين الإسلام والدعوات المادية والإلحادية. ومن جهة أخرى كان يخوض صراعاً نفسياً مريراً نتيجة ما كان يراه من تخلف تعانيه الأمة العربية في العصر الحديث.  ‏وعندما تكامل اقتناعه بالتفاعل التاريخي والروحي بين العروبة والإسلام أختار الإسلام كطريق روحي حدد من خلاله منهجه المعرفي في الدين.  فلم يكن اختياره الإسلام كمفاضلة بين دين سماوي ودين سماوي أخر، أو بين نظام سياسي علماني ونظام سياسي إسلامي، ولا على أساس ان هذا الخيار الديني له علاقة ‏بالنجاة في الآخرة، فمفاضلته كانت ذات علاقة وثيقة بالحركة الروحية التي أدت دوراً ثورياً ونضالياً في تكوين الأمة العربية([32]).

3- اقتنع عفلق بأن الحافز الروحي الذي زرعه الإسلام في نفوس العرب شكل ثورة نقلت عرب شبه الجزيرة العربية من حال إلى حال: من حال التمزق الفكري والسياسي إلى حال الوحدة الفكرية والسياسية، السبب الذي زرع في نفوسهم حوافز قوية في سبيل التوسع وابتكار الحضارة.

‏على الرغم من التغييرات العميقة التي فجرتها الدعوة الإسلامية في حياة عرب شبه الجزيرة العربية، لم يقتنع عفلق ببناء دولة سياسية على أسس دينية إسلامية، ولم يقتنع بأن مثل تلك الدولة هي الحل المنقذ الذي يوحد أبناء الأمة العربية. ولهذا السبب أوضح بما لا لبس فيه ان على العرب ان يتمثلوا من الإسلام تجربته الثورية النضالية، ‏فإذا كان البعث قد أدخل الدين إلى الحياة القومية، إلا انه لم يجعل من مهمته مهمة دينية([33]).

4- ‏اقر حزب البعث حق كل عربي بحرية الاعتقاد، وان تكون حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة، ولا يمكن لأية سلطة ان تنتقصها)([34]). ‏وإذا ‏كان من الصحيح ان الدولة الإسلامية تضمن حرية الاعتقاد لجميع رعاياها لكنها لا تضمن مبدأ المساواة في الحقوق السياسية بينهم. ‏اما حزب البعث فقد ضمن المساواة المطلقة أمام القانون، ‏وألزم نفسه بالسعي: (إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون، والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم)([35]).

‏تقتضي هذه المسألة ان نفهم موقع الإسلام في البعد الإيماني عند عفلق. وهنا نتساءل:

‏هل كانت علاقة عفلق الإيمانية مع الإسلام مقدمات أم نتائج؟ وبشكل أوضح: هل انطلق من موازن بين الأديان فأختار الإسلام ديناً له، وبالتالي ديناً لقوميته العربية؟ أي هل آمن بالدين وراح يفتش عن دين يقتنع به فينتمي إليه؟ أم أنه أحب قوميته العربية، ففتش عن أكثر الأديان التي أدت لقوميته خدمات أكثر؟ وهل كان عفلق يرى الإسلام ما يراه رجل الدين المسلم؟

نحسب أن حب عفلق للإسلام كان نتيجة ولم يكن مقدمة فلماذا أحب عفلق الإسلام؟

أحب عفلق الإنسانية ومنها أعلن حبه للقومية العربية لأنها جزء منها، وأعلن حبه للإسلام لأنه جزء من القومية العربية([36]). لقد خدم الإسلام القومية العربية بأنه كان من أهم أركان تكوينها([37])، لذلك أحب عفلق في الإسلام أسسه الثورية، وليس هناك من ينكر ان ثورة الإسلام، في وقتها، كانت العامل الأساس الذي أحدث متغيرات بالغة الأهمية في حياة العرب،  ‏فبفضله حصل متغيران استراتيجيان في حياة عرب شبه الجزيرة العربية، ‏وهما: توحيد الرؤية المعرفية الثقافية، ‏تلك الرؤية التي أسست لوحدة سياسية واجتماعية في حياة القبائل العربية.

‏هل يمثل الإسلام، اليوم، ثورة العرب كما كان يمثلها في أثناء حياة الرسول؟

-تخاف أوربا، اليوم، الإسلام لأنه ارتبط بالقومية العربية.  ‏وتصادق (الشكل ‏العتيق للإسلام) وتعاضده.

- اما (الشكل العتيق) فهو الذي يقتصر على (العادة السطحية والمعاني العامة الباهتة).

- أما المعنى الجديد، الذي على القوميين المدافعين عن الإسلام ان يعتنقوه، ‏فهو ان (يبعثوا فيه معنى خاصاً) فما هو المعنى الخاص؟

لا تكفي الإصلاحات لكي تبعث الأمة. فالإصلاحات فرع ونتيجة أما الأصل والسبب فهو (نفسي قبل كل شيء) والعامل النفسي في الإسلام كان مرتبطاً مع الإيمان (بإله واحد)، والإيمان بإله واحد (هو الأصل) و(كل ما يأمر به هذا الاله فهو حق وعدل)، أما التشريع فكان متضمناً في الأصل([38])، وهنا يعلل عفلق إيمانه بالله الواحد أولاً وقبل كل شيء، إما التشريع الإسلامي فهو تابع للأصل، و هي من الفروع فالإيمان بالله ثابت، اما التشريعات فهي من المتغيرات.

‏توحي عبارته (كل ما يأمر به هذا الإله فهو حق وعادل) وكأنها اعتراف بقواعد الفقه الإسلامي فكيف ميز عفلق منهجه الفكري عن مناهج الإسلاميين؟

‏يقول عفلق إن (كل ما يأمر به هذا الإله فهو حق وعادل)، هو أصل، وهذا ما يؤمن به الإسلاميون أيضاً، ويقول عفلق في الخطاب ذاته ان الشعور القومي العميق هو أصل، أيضاً، وهنا يكون عفلق كمن يساوي بين الأمر الإلهي وبين الشعور القومي، لكن الإسلاميين يرون ان في الشعور القومي ما يناقض أممية الإسلام. فكيف نستطيع أن نوفق بين المتناقضين عند عفلق؟

‏يرى عفلق ان سبق الإيمان على التشريع هو أصل روحي أعطى للتشريع زخماً من جهة، وأعطى للمسلمين زخماً روحياً زرع فيهم روح الثورة من جهة أخرى، فجاء إيمانهم بالله أصلاً وسبباً وكان التشريع فرعاً ونتيجة. ويرى عفلق، أيضاً أن إيمانه بالشعور القومي، كأصل روحي وكسبب دافع، عليه ان يكون سابقاً للإصلاحات-التشريعات كفرع ونتيجة. وفى هذا الشعور القومي ما ‏يجب ان يعطي زخماً للإصلاحات من جهة وان يزرع روح الثورة في العرب من جهة أخرى.

‏ماذا نفهم من المقارنة بين أصلي - الإيمان بالله والإيمان بالشعور القومي،  ‏التي عمل عفلق على استخدامها لكي يحدد بعده الإيماني من ورائها؟

‏لقد استند مؤسس البعث إلى البعد الإيماني الديني في إحداث ثورة في المجتمع العربي، والذي وجد النموذج المثالي في الإسلام لأكثر من سبب،  ‏لكي يبرهن على دور الإيمان الأساسي في ثورة العرب القادمة. فوجد أن البعد الإيماني يجب أن يكون، في عصر العرب الراهن، متمثلاً  في الشعور ‏القومي. ولذا نراه يقول ويردد في شتى مقالاته وأحاديثه وخطبه عدة من الجمل-التي أصبحت مصطلحات ‏في القاموس البعثي - كمثل (الحب أيها الشباب قبل كل شيء، الحب أولاً، والتعريف يأتي بعده).  ‏ان القومية هي (حب قبل كل شيء) وهي (إيمان قبل كل شيء)...

‏ولكي يميز بين (إسلام الإسلاميين) وبين (إسلام القوميين الخاص) يدعوهم إلى ان يبعثوا في الإسلام (معنى خاصاً) فماذا يعني عفلق بالمعنى الخاص للإسلام؟

‏ومن أهم تلك المعاني الخاصة ان يكون إسلاماً قومياً باعثاً للحوافز الثورية والنضالية أمام العرب. وإذا ما حصل تناقض بين المصلحة القومية، كرابط وحيد بين العرب على شتى أديانهم، وبين مصلحة الإسلام، ‏كرابط ديني بين المسلمين، عفلق للمصلحة القومية أولوية مطلقة.

‏ولهذا السبب جاء في كثير من النصوص، سواء عند عفلق أم في نصوص الحزب، ما يدل على ان التمييز بين البعدين: الإيماني الديني، والإيماني القومي مسألة واضحة لا لبس فيها على الإطلاق.

‏فالبعد الإيماني القومي رابط أساسي بين العرب على شتى أديانهم ومعتقداتهم الروحية، أما البعد الإيماني الديني فهو انتماء خاص وشخصي يعترف به مؤسس الحزب ويحترمه من جهة، وتعترف به مقررات الحزب ونصوصه وتحترمه من جهة أخرى.

على الرغم من اعتراف مؤسس الحزب بأن للإسلام تأثير أساسي في تكوين القومية العربية فإنه يبقى فرعاً وتبقى القومية أصلاً. وإذا كان الإسلام ذا أولوية في البعد الإيماني عند مؤسس البعث، فلانه كان ثورة عربية أدت للقومية العربية خدمات جلى، أما إذا عمل الإسلاميون ما يعارض مصلحة الأمة العربية، فلن تبقى المواقف هي ذاتها. وإذا مورست أخطاء ضد القومية العربية باسم الإسلام فلا يتعادل الموقف من أولئك مع الموقف ممن يقدمون الخدمات للقومية العربية من أديان أخرى غير الإسلام. فمصلحة الأمة العربية هي الثابت، وكل ما عداها من المتغيرات.

 

رابعاً: المقاربة بين منهج عفلق الإيماني وقضايا الأمة العربية الراهنة.

‏في دولة البعث، في بغداد،  ‏مكان اختبار أنموذجي لمنهج مؤسس البعث ‏المعرفي والفكري ببعده الإيماني. يقوم العراق،  في هذا الظرف بالذات، بقيادته التاريخية وشعبه العربي بتطبيق البعد الإيماني بقوميتهم، من دون أية تفرقة دينية أو مذهبية؛ ففيه يمارس العراقيون إيمانهم الديني بحرية ومن دون تعصب، حتى ولو تعددت الأبعاد الإيمانية الدينية، ولكنهم في المقابل يتوحدون تحت خيمة البعد الإيماني بقوميتهم وبعروبتهم،  ‏ويخوضون معارك النضال تحت خيمة قومية واحدة. ‏ففي معارك النضال القطري يتخذ العراق معاني الإيمان القومي نبراساً وهادياً، ومملوءاً بالحب والحرارة بحيث لا تقاس معارك التصدي للعدوان الخارجي بمنطق الربح والخسارة،  ‏ومنطق التوازن بالقوى، لان البعد الإيماني ‏لديهم له دور مؤثر في تصديهم لكل أنواع المؤامرات.

‏وبحرارة الحب لقوميتهم يخوضون معارك النضال في كل قطر عربي، سواء بالشعور أم المساندة أم المشاركة، وهذا ما يفسر مبادرات العراق بقيادة الرئيس القائد صدام حسين.

‏وفي الدائرة القومية تخاض على ساحات قطرية أخرى معارك النضال المملوءة ‏بالإيمان بقضاياهم القطرية، ‏ومن الأمثلة الراهنة نذكر ما حصل في لبنان، ‏وما يحصل اليوم في فلسطين.

‏وإذا كنا نعتز بنتائج النضالات التي يفرضها اللبنانيون والفلسطينيون ضد ‏العدو الصهيوني وأربابه الأميركيين، هو مثال واضح على حرارة الإيمان بالقضايا القطرية، وما تلاقيه تلك القضايا من تأييد شعبي قومي عارم هو دليل على ان الإيمان بقضايا العرب مسألة أساسية في الصراع مع أي عدوان خارجي يستهدف تلك القضايا.

‏أو ليست حرارة إيمان الشعب الفلسطيني بقضيته هي التي ألغت كل حسابات التوازن بالقوى، وهو السبب الذي جعل الفلسطيني يقاوم الدبابة والطائرة بالحجر؟ أو ليس إرباك العدو باستخدام الحجر إلا دليل إيمان وحب للقضية الفلسطينية؟ أو ليست مراهنة الشعب العربي على الحجر الفلسطيني تستند إلى حب لقوميتهم وإيمان بها؟

لكن ما يخشى منه، في هذه المرحلة بالذات، هو أن يقود الإيمان ببعده الديني أو المذهبي إلى ضياع البوصلة التي توحد الرؤى. وما نراه من رايات عديدة تتقدم صفوف الجماعات المناضلة إلا دليل خطر على وحدة الصفوف. فمن خلال فهمنا الموضوعي للبعد الإيماني في فكر مؤسس البعث نرى انه من الواجب ان تنصهر مجموعة الأبعاد الإيمانية الدينية والمذهبية في البعد الإيماني القومي، ‏الذي هو الوحيد الذي يؤسس وحدة مناضلة بين شتى التعديات الدينية والمذهبية.

لقد تجاوز العراق، بوعي قيادته وشعبه، تعددية الرايات الإيمانية بمفاهيمها الدينية والمذهبية فرفع راية الإيمان بالقومية والوطنية. بحيث تتحد كل السواعد بغض النظر عن انتماءاتها الإيمانية الدينية في وحدة مقاتلة مناضلة تفوت على كل الأعداء فرصة التلاعب بعواطف المتمذهبين.

‏وهنا لابد من ان نسجل خشيتنا من ان يتحول الإيمان بإبعاده الدينية أو المذهبية، خاصة إذا تحولت إلى مواقع التعصب والانغلاق، إلى حالة من التفسخ والتفتيت إذا لم تكن هناك إرادات وقيادات واعية تمنع أرباب التجمعات الدينية أو المذهبية من الانحدار ‏باتجاه تغليب الأهداف الدينية أو المذهبية على الأهداف القومية أو الوطنية.

‏إن دعوة عفلق إلى وحدة الجماعات على الصعيد الفكري أو وحدة الأقطار على الصعيد السياسي على قاعدة البعد الإيماني لا يخرج على الإطلاق عن البعد الإيماني القومي. اما كل ما له علاقة بالبعد الإيماني الديني أو المذهبي فهو ذو علاقة بالاختيار الشخصي، أي بحرية الاعتقاد الروحي الغيبي القائم على علاقة روحية بعيدة عن روح التعصب التي تنكر على الآخرين حريتهم بالاعتقاد على قاعدة أهل الكفر وأهل الإيمان. وهذا الجانب موضوع أخر، وفى سياق أخر.

 

خامساً: خاتمة البحث

‏هناك من الإساءة إلى تفسير بعض أقوال عفلق الشيء الكثير إذا ما حاول الباحث ان يقتطع بعض أقواله عن مجمل منهجه الفكري. ونقصد تلك الأقوال التي تحمل شحنات عاطفية ووجدانية كمثل (العروبة جسد، وروحها الإسلام) و(القومية حب قبل كل شيء) فهي إذا ما فصلت عن سياقها الفكري العام فإنما ترتبط فقط، مع منهج عفلق المعرفي أي طريقته في إنتاج المعرفة وإيصالها وهنا لا بد من أن نحمل تلك العبارات إذا ما اقتطعت من سياقها الفكري مسؤولية تضليل كل من يريد أن يدخلها في باب التأويل.

قد يكون اللبس الذي ترسخ في أذهان من أراد أن يتعرف على أصول البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث عن طيب نية أو سوئها صادر عن الابتعاد عن معرفة الأصول الفكرية التي استند إليها وعدها من الثوابت التي لم يلغها تأويل من هنا أو تفسير من هناك. وقد يعود سبب هذا اللبس إلى مسألة أخرى ترتبط بالخلط بين منهج مؤسس البعث المعرفي أي طريقة إلى إنتاج المعرفة وتوصيلها وبين منهجه الفكري بثوابته الإنسانية والقومية العربية، فراح بعضهم يربط علاقة العروبة مع الإسلام ربطاً تعسفياً إلى الدرجة التي لم تظهر عند أولئك مسألة التمايز بين (الإسلام) كمحتوى روحي متغير و(العروبة) كمحتوى اجتماعي سياسي ثابت.

 



([1]) صليبا، جميل: المعجم الفلسفي (الجزء الأول): دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1982م: د.ط: ص 186-187.                
([2]) م.ن: ص 186-187.
([3]) صليبا، جميل: المعجم الفلسفي (الجزء الثاني): م.س: ص 84-89.
([4]) م.ن: ص 90.
([5]) زيارة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الأول): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986 م:ط1: ص 660.             
([6]) حاطوم، نور الدين: تاريخ العصر الوسيط في أوربا (ج1): دار الفكر: دمشق: 1982م : د.ط: ص 907.
([7]) ديورانت: قصة الحضارة (م 17): م.س: ص 61.
([8]) م.ن: ص 117.
([9]) م.ن: ص 145.
([10]) م.ن: ص 146.
([11]) عفلق، ميشيل: (نحو حياة مفجعة) (59-61): نقلاً عن، د. ذوقان قرقوط: ميشيل عفلق (الكتابات الأولى). المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1993م: ط1: ص 59.
([12])  م.ن: ص 60. 
([13]) م.ن: ص 61.
([14]) عفلق، ميشيل: (ثروة الحياة) (62-63) نقلاً عن د. ذوقان قرقوط: م. س: م.س: ص 63.          
([15]) عفلق، ميشيل: (القائد المؤسس يتحدث للشاعر السياب) (30-35): في سبيل البعث (الكتابات السياسية الكاملة (ج5): دار الحرية للطباعة: بغداد: 1988م: ص 32-33.
([16]) عفلق، ميشيل: (في ذكرى الرسول العربي) (188-197): نقلاً عن د. ذوقان قرقوط: م.س ص 189.
([17]) م.ن: ص 189.
([18]) م.ن: ص 190.
([19]) م.ن: ص 189.
([20]) م.ن: ص 190.               
([21]) م.ن: ص 191.
([22]) م.ن: ص 192.
([23]) م.ن: ص 193.
([24]) م.ن: ص 193.
([25]) م.ن: ص 193.
([26]) م.ن: ص 194.
([27]) م.ن: ص 196.
([28]) م.ن: ص 197.
([29]) قول لميشيل عفلق، نقلاً عن محمد عمارة: التيار القومي الإسلامي: ص 56.    
([30]) قول لميشيل عفلق، نقلاً عن، م.ن: ص 62.     
([31]) قول لميشيل عفلق، نقلاً عن، م.ن: ص 58.     
([32]) راجع بحثنا (محمد عمارة: مفكر إسلامي يشد لحاف التيار القومي نحو كامل الإسلام): نحو طاولة حوار بين التيارين القومي والإسلامي: دار الطليعة: بيروت: آذار / مارس 2002م: ط2: ص 65.
([33]) عفلق، ميشيل: في سبيل البعث (الكتابات السياسية الكاملة) (ج5): دار الحرية للطباعة: بغداد 1988م: ص 276.      
([34]) م.ن: المبدأ الثاني من دستور الحزب (الفقرة 1): ص25.
([35]) م.ن: راجع نص المادة 17 من الدستور: ص 27.            
([36]) يقول عفلق: (بدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام).
([37]) يقول عفلق: (لقد وجدت العروبة قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا).
([38]) عفلق، ميشيل: (في ذكرى الرسول العربي) (188-197): نقلاً عن د. قرقوط: م.س: ص 196.

ليست هناك تعليقات: