الخميس، أكتوبر 01، 2015

الحراك الخليجي ونقطة البداية في عملية تحرير القرار العربي


الحراك الخليجي ونقطة البداية في عملية تحرير القرار العربي

أجمعت كل المواقف، الصديقة منها وغير الصديقة، أن هناك فراغاً كبيراً في المؤسسات القومية، رسمية ونظامية وشعبية، تقدمية وتقليدية، الأمر الذي ملأت الفراغ الكبير فيه دول وحركات خارجية، شرقية وغربية، وتكاثرت فيه مشاريع التفتيت والتقسيم، وازدادت أطماع الذي يحلمون بالسيطرة على مقدرات الأمة العربية وخيراتها. واحتل كل طامع خارجي مقعداً على طاولة ملء الفراغ بالقرار السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، فكان الغائب الوحيد هو المقرر العربي على شتى المستويات.
من مسامات ذلك الفراغ تسلَّل كل أنواع التدخل، استفادت منه الولايات المتحدة الأميركية والعدو الصهيوني والنظام الإيراني بشكل رئيسي، وقوى إقليمية أخرى بشكل جزئي، بحيث تحولت مؤسسات جامعة الدول العربية وعلى رأسها مجلسها إلى مؤسسات تابعة وناطقة باسم القوى التي تلهث لاحتلال موطئ قدم على الأرض العربية.
كان الاحتلال الأميركي للعراق، في العام 2003، يشكل الخطوة الأخيرة في استكمال إسقاط القرار السيادي العربي، وفي احتلاله سقطت الورقة الأخيرة فعمَّ الفراغ واستفحل، بحيث شمل الفراغ شتى الحقول والميادين السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.
في ظل ذلك الليل الدامس، خُيِّل للكثيرين أن العصر الأميركي قد شمل العالم، وأصبح واقع الأمر يؤشر على أنه لا مردَّ بعد الآن ولا رادع يمكنه مواجهة عملية الاستيلاء الأميركي، ليس على القرار السيادي للدول فحسب، بل وإنه لا مرد له لغوائله عن الوطن العربي أيضاً. ولهذا ارتفعت رايات الاستسلام الدولي والعربي لمشيئة الإرادة الأميركية. ولكن باستثناء من كان يرى النتائج، التي يمكن أن تترتَّب على انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية، بعين استراتيجية.
خاب فأل من أصابه الغرور، وفأل من أصابه اليأس، فإذا بالمقاومة الوطنية العراقية تنجز أهم انتصار في التاريخ العالمي عندما أرغمت قوات الاحتلال الأميركي على الانسحاب من العراق. ومن بعد تلك اللحظة أخذت نقاط الضوء في آخر النفق تتسع وتكبر، خاصة أن كبرى الدول في العالم كانت أعجز من ترفع إصبع الاعتراض في وجه الإمبراطور الأميركي.
ليست النتائج التي حققتها المقاومة العراقية كانت من النتائج المنظورة والمحسوسة عند الكثيرين، بل لم تكن ظاهرة إلا في خلفية المسرح الذي تلعب عليه المقاومة العراقية، وذلك بسبب التعتيم الإعلامي الكبير على أدائها. ولكن على الرغم من أن النتائج كانت أكثر من ثقيلة على دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية إلاَّ أنها لم تعترف بها، وكانت تعمل على تجهيلها حفاظاً على معنويات شعبها من جهة، ولكي لا تصبح مكسر عصا أمام الدول الأخرى التي توازيها قوة، أو تلك التي تحتل مرتبة أدنى في سلَّم تصنيف درجاتها على مقاييس القوة.
وإذا كان تجهيل الوقائع هو من ديدن وواجبات الإعلام الأميركي المعادي، إلاَّ أن واقع الحال الذي تسرَّب خارج تلك الوسائل، أخذ يكشف عن مظاهر الضعف الذي أخذ ينخر في أسس وقواعد بناء الإمبراطورية الكبرى. وكان من أهم تلك المظاهر هو أنه بخروج العمود الفقري للقوات الأميركية من العراق، جاءت حركة الانتعاش في مجرى الدور الإيراني ليفضح مواطن الضعف في بنية القوة الأميركية، وهي القوة التي حسب الكثيرون أنها لن تُقهر، فقد سلَّمت قيادة العملية السياسية والميدانية في العراق للنظام الإيراني. ونقطة الضعف هنا، هو أن الإدارة الأميركية التي كانت تعتبر النظام الإيراني أحد مرتكزاتها الإقليمية في احتلال العراق، كانت تخطط أنها لن تسمح له بأن يلعب أكثر من دور التابع الذي يمكنه الاستفادة جزئياً من احتلال العراق، وبالمقدار الذي تسمح له به. وإذا بها تتخلى له عن العراق كله ليلعب دور الآمر، بحيث بدت فيه أميركا في العراق وكأنها التابع وليس السيد الآمر الناهي.
 وبمثل تلك النتيجة كان النظام الإيراني هو أكثر من استفاد من الهزيمة الأميركية، وباستيلائه على العراق كبرت أحلامه وتضخَّمت، فكانت تلك الفرصة السانحة له للبدء في تنفيذ ما يعتبره مشروعاً إلهياً في تأسيس دولة ولاية الفقيه الأممية الأبعاد. وببسط سطانه على ما اعتبره (العتبات الشيعية المقدَّسة)، كشرط ضروري وأساسي لتنفيذ مشروعه المذهبي، توهَّم أن الأبواب العربية التي كانت مُوصَدَة في وجهه ستنفتح أمامه بيسر وسهولة، فيمَّم وجهه باتجاه ساحات أخرى، غير الساحات الثلاث اللبنانية والسورية والعراقية، فكانت دول الخليج العربي تمثل الساحة التالية.
وباستثناء تمهيده للعبث بأمن البحرين، كان شرق السعودية واليمن هما الوجهة الجديدة. وباختراقه الساحة اليمنية بواسطة الحوثيين، اعتبر نفسه أنه أكمل الطوق حول دول الخليج العربي. وبانتقاله من خطوة إلى خطوة جديدة، من دون رادع يقف في وجهه مستنداً إلى دعم أميركي، كان يزرع المزيد من المخاوف عند دول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
وإذا كانت دول الخليج قد سهَّلت وساعدت الولايات المتحدة الأميركية في احتلال العراق فإنما لأنها استندت إلى حمايتها، لكن هذه الحماية قد سقطت بعد العام 2011 عندما خرجت أميركا مهزومة وسلَّمت إدارة احتلال العراق للنظام الإيراني، فمن كانت تعتمد دول الخليج على حمايته أصبح بحاجة إلى حماية إيرانية. فشعرت تلك الدول أنها أصبحت وكأن النظام الإيراني قد أحاط بها من أمامها ومن ورائها، فكان الواقع الذي زرع الخوف، وفرض السؤال التالي: العدو من أمامكم، والعدو من ورائكم، فأين المفر؟
لقد كان فراغ القرار السيادي العربي يشمل دول الخليج، وكان الاستسلام لمشيئة أميركا هو السائد. فتأكَّد لديها أنها أصبحت فريسة سهلة، وجودها مهدد بمشروع الاستيلاء الإيراني، وكذلك أصبحت مقدساتها المذهبية مهدد بمقدسات مذهبية أخرى، فتواجهت بواقع الخطر الذي يهدد وجودها من جهة، ومقدساتها الدينية من جهة أخرى. وأما النتيجة فكانت واضحة في صحوة جديدة لم يعرفها تاريخها عندما أخذت تواجه الواقع الصعب في أن تكون أو لا تكون. وتلك هي أسباب بدء الحراك الخليجي، وكانت المواجهة مع أميركا من أهم مظاهر ذلك الحراك. وأخذت وتيرة الحراك تتصاعد بشكل يتوازى مع تعميق العلاقات الأميركية الإيرانية. ولم تنفع كل الوعود الأميركية في تهدئة المخاوف الخليجية، لأنها كانت مبنية على أسس مرحلية ولا علاقة لها بإيجاد حلول جذرية تدرأ خطر التوسع الإيراني على حساب الأمن القومي العربي. وكانت التهديدات الإيرانية أكثر من واضحة في الإفصاح عن حقيقة مشروعها في تصدير ما تزعم أنه ثورة إسلامية، وهذا لا يمس الأمن القومي الخليجي فحسب، بل إنه يتهدد الكيان القومي العربي أيضاً.
لأول مرة يمر تاريخ العلاقات الأميركية الخليجية بمأزق يصر فيه النظام الخليجي الرسمي على مواقفه، ويرفع معه سقف الضغط على أميركا، ويقف في موقع الند للند معها. وتلك بدايات جدية، وأثبتت جديتها تصاعدياً على الرغم من المخاوف التي كانت تساور البعض من مرحلية ذلك الحراك، تلك المخاوف التي كانت تستند إلى تجارب طويلة مع النظام الرسمي الخليجي.
وإلى جانب المخاوف من التجارب السابقة، فقد كان الخوف يساور الكثيرين من القوميين العرب في أن تقع دول الخليج فريسة حلول مرحلية لن تقتلع مصادر الخوف الرئيسية فحسب، بل ستنقلب سلباً على الأمن الخليجي أيضاً، إذ كان من المتوقع أن تلحس الإدارة الأميركية وعودها عندما تستأنس في نفسها قوة في المراحل القادمة.
وإذا كان اللقاء الأول بين وفد خليجي مع الرئيس الأميركي، في أيار الماضي، لم يأت بمواقف كانت تشتهيها إدارة أوباما، وهي لم تكن توحي أيضاً بجدية، حتى جاء ما يدعم جديتها توجه وفد سعودي عالي المستوى إلى موسكو، والذي فيه تم توقيع اتفاقيات سياسية وعسكرية. وكذلك توجه سعودي آخر باتجاه فرنسا.
وكما أثبتت الوقائع والنتائج، حتى الآن، لم تكن تلك اللقاءات ذات أهداف مرحلية تحمل إنذاراً خليجياً لأميركا، بل كانت ذات أهداف استراتيجية تعتبر أن الاتكاء على طرف دولي واحد من الأخطاء التي تُضعف القرار السيادي الخليجي، واستراتيجية القرار كانت في اللجوء إلى مصادر متعددة تُعتبركبدائل يمكن الاستناد إليها في أي مرحلة تنكث فيها دولة كبرى بوعودها وتلحس توقيعها.
ولأن ذلك الحراك، حتى بعد اللقاء السعودي الروسي، لم يحمل أي مؤشر على تكتيكية التخطيط، بل يؤكد سلامة التخطيط الاستراتيجي في مقاومة دول الخليج العربي للمد الإيراني ومواجهته، ولكنه يبقى ناقصاً ومبتوراً إذا لم يأخذ بعين الاعتبار أن ذلك المد لم يكن ميسوراً قبل التسلل الإيراني إلى العراق، ولن يُكتب النجاح لمواجهته إذا لم يتم إرغام النظام الإيراني على الخروج منه، وإعادة إقفال البوابة الشرقية ودعم قيام نظام وطني  فيه يحمي تلك البوابة.
ولأننا دائماً نقرأ النتائج مما يجري تنفيذه، فقد جاءت الدعوة القطرية، في شهر أيلول المنصرم، عندما دُعيت لأول مرة فصائل المعارضة العراقية ومنها وفد لحزب البعث العربي الاشتراكي للقاء موسَّع يضم سفراء دول الخليج العربي، وبقبول أميركي وأوروبي، وكان من المخطط له أن يحضر سفير الولايات المتحدة الأميركية الذي تغيَّب عن اللقاء، نحسب منه أن الغياب الأميركي كان محسوباً لأن هكذا لقاءات لا تنسجم مع استراتيجية أميركا في البقاء في العراق بدعم إيراني مكشوف.
من قراءتنا لهذا اللقاء نستدل على أنه جاء نتيجة للضغط الذي شكَّله الحراك الخليجي على الولايات المتحدة الأميركية. ومنه نستدلَّ إلى حد كبير على سلامة الاتجاهات الخليجية، ومدى جديتها في معالجة القضية العراقية بما يضمن تغيير استراتيجية عملية الاحتلال السياسية، ومن أهمها إلغاء سياسة الاجتثاث والإقصاء للمكونات السياسية العراقية التي ترفض رفضاً قاطعاً أي وجود أجنبي في العراقي، ومن أهمه في هذه المرحلة الوجود الإيراني.
متتبعين الخط البياني لتصاعد الحراك الخليجي فيما له علاقة بمواجهة المد الإيراني، منذ بداية العام 2012، مروراً بفتور العلاقات الخليجية الأميركية بشكل تصاعدي، ومواجهة التطمينات الأميركية بالرفض، وصولاً إلى أول خطوة عملية نعتبرها جدية والتي تتمثل بمؤتمر الدوحة. ولكي لا نبالغ في حجم النتائج التي يمكن أن يفرزها الحراك الخليجي، فإننا ننتظر الخطوة التالية المفترض أن تعقبها خطوات أخرى  في المرحلة المقبلة التي نتمنى أن لا تكون طويلة وتترك للإدارة الأميركية فرصة تلتقط فيها أنفاسها وترتد فيها على كل ما فرضه الحراك الخليجي عليها.
وفي خلاصة القول، نستدل من نتائج الحراك حتى الآن أن هناك ثباتاً في الموقف الخليجي من الدور الإيراني الخطير، وإذا استمر الحراك بالتصاعد على هذا المستوى فإننا نلتقط رسالة واضحة تؤكد بدء ولادة مرحلة جديدة يملأ فيها العرب الفراغ السيادي، ويتوجونه بقرار عربي مستقل يكون حريصاً على حماية الأمن القومي العربي بأيد عربية.
 

ليست هناك تعليقات: